مقدمة
يتمثل الاستعمار الاستيطاني بالاستيلاء على الأرض واستغلال سكانها الأصليين واقتلاعهم من ديارهم بأساليب شتى، منها: الإبادة والتهجير؛ ليحل محلهم سكان آخرون يطلق عليهم «المستوطنون»، وتنبثق الطبيعة العنصرية للاستعمار الاستيطاني من إيمان المستوطنين بتفوقهم الحضاري واحتقارهم السكان الأصليين (الاستعلاء الحضاري الغربي وتفوّق الرجل الأبيض).
تنتهك أنظمة الاستعمار الاستيطاني بحكم نشأتها الاستعمارية، وطبيعتها العنصرية، وممارساتها الوحشية، أحكام ومبادئ القانون الدولي وأهم العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية، وتخالف قرارات منظمة الأمم المتحدة ولا تلتزم بتنفيذها. وعليه، فهذه النظم الاستيطانية هي نظم إرهابية وعنصرية تجاه السكان الأصليين. فارتكاب المجازر حدث طبيعي في سلوكهم وممارساتهم وقد عرف الكثير من الدول هذا النوع من الاستعمار، ومنها الجزائر وفلسطين.
فالجزائر منذ احتلالها عام 1830 وحتى عام 1962، لم تتوان قوات الاحتلال الفرنسي في ارتكاب أبشع الجرائم في حق الشعب الجزائري؛ جرائم لا تقل بشاعة عن تلك المرتكبة حاليًّا في فلسطين، وهو ما دفعنا إلى المقارنة بينهما.
تقوم هذه الورقة بدراسة دراسة طبيعة الاستعمار الاستيطاني وشكله والآليات المستعملة في الاستحواذ على الجغرافية وتزييف التاريخ وتغيير الديمغرافية. تنبثق أهمية الدراسة من أوجه التشابه بين المستعمرين وكيف يمكن أن يفيد الشعب الفلسطيني من تجربة الجزائر الذي استطاعت أن تنتصر على فرنسا في وقت لم يكن أي أحد يتوقع أنه سيأتي اليوم الذي تهزم فيه فرنسا وهي التي عمرت في الجزائر أكثر من 130 سنة.
تهدف الدراسة إلى: (1) تسليط الضوء على طبيعة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر والصهيوني في فلسطين؛ (2) شرحٌ وتفسيرٌ ومقارنةٌ للعملية الاستيطانية ومظاهرها وآلياتها في كلا البلدين؛ (3) حصر ما يمكن من المجازر والإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعبان الجزائري والفلسطيني؛ (4) ويبقى أهم هدف هو الدروس المستفادة من الحالة الجزائرية من جهة فلسطين التي تعيش مظاهر الإبادة والتقتيل الجماعي الممنهج وسائر صنوف الاستيطان.
السؤال الرئيسي لهذه الورقة هو: ما القواسم المشتركة بين الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر والصهيوني في فلسطين؟ وما الدروس التي تفيد الفلسطينيين من الحالة الجزائرية؟
تفترض الورقة أن: (1) أسلوب الاستعمار الاستيطاني عنصريُّ قائم على التطهير العرقي والتهجير القسري والإبادة الجماعية؛ (2) مقاومة الاستعمار الاستيطاني تتطلب الصبر والوقت والتضحية وإنكار الذات؛ (3) الإيمان بالقضية والتشبث بالأرض عاملان أساسيان للانتصار على الاستعمار الاستيطاني.
تعتمد الورقة: المنهج البيئي المقارن دعامة منهجية علمية لتحقيق أهداف هذه الدراسة، إضافة إلى المنهج التاريخي أو الاستردادي، وبعض المقاربات والمداخل المنهجية.
أولًا: الخلفية التاريخية للاستعمار الاستيطاني وتجلياته
الاستعمار مقيت بجميع أشكاله وصفاته، ويزداد مقتًا إذا كان استيطانيًّا، وللأسف فقد عرفت بلدان كثيرة هذا النوع من الاستعمار المتمثل بالاستيلاء على الأرض أو الرقعة الجغرافية واستغلال سكانها الأصليين واقتلاعهم من ديارهم وأرضهم بأساليب شتى، منها الإبادة والتهجير، ليحل محلهم سكان آخرون يطلق عليهم «المستوطنون». وقد عرفت أمريكا عند اكتشافها هذا النوع من الاستيطان، وكذلك أستراليا من طرف الدول الأوروبية، حيث حصل المستوطنون على الأرض وأبادوا أو عزلوا سكانها الأصليين. وتنبثق الطبيعة العنصرية للاستعمار الاستيطاني من إيمان المستوطنين الجدد أو الدخلاء بتفوقهم الحضاري واحتقارهم السكان الأصليين (الاستعلاء الحضاري الغربي وتفوق الرجل الأوروبي الأبيض، الذي هو في الحقيقة وهْمٌ يجعل الناس جبناء) هذا الدخيل أو الغريب كما يسميه جمال الدين الأفغاني يسطر برنامجًا بعدما ما يقوم بزيارة استكشافية تسمى مجازًا علمية للبلد محل أطماع المستعمر، حيث يسجل ما يكتشفه عن الجغرافيا والديمغرافيا والموارد الطبيعية والمناخ وغيرها… ثم يحمله من بلاده في محفظته ثم ينقله في ذاكرته وحافظته مكتوب فيه (هذا البرنامج) أرض خصبة، معادن كثيرة، مشاريع كثيرة، هواء معتدل، شمس ساطعة… ولكن شعب خامل جاهل متعصب، نحن أولى بالتمتع بكل هذا.
يعمل الكيان الاستيطاني على تشجيع الهجرة، هجرة البيض، وازدواجية الجنسية. ويترافق تشجيع الهجرة مع عملية تهجير (ترحيل) السكان الأصليين وحصر ملكية الأرض للمستوطنين، فملكية الأرض تنتقل من السكان الأصليين إلى المستوطنين.
فأنظمة الاستعمار الاستيطاني بحكم نشأتها الاستعمارية وطبيعتها العنصرية وممارساتها الوحشية، تنتهك أحكام القانون الدولي ومبادئه، وهي نظم إرهابية وعنصرية تجاه السكان الأصليين. وتتجلى عنصرية المستوطنين وإغراقهم في التمييز العنصري والإبادة باستخفافهم بحقوق السكان الأصليين وحياتهم وكرامتهم. فارتكاب المجازر حدث طبيعي في سلوكهم وممارساتهم، وقد عرف الكثير من البلدان هذا النوع من الاستعمار، منها الجزائر وجنوب أفريقيا وليبيا وفيتنام وحاليًّا فلسطين. كما أن حركات التحرر أو المقاومة التي تواجه هذا الاستعمار الاستيطاني عادة ما توصف بأبشع الأوصاف والنعوت، فمن المنظمات الإرهابية إلى الخارجين عن القانون إلى المتمردين والعصاة وغيرها.
فالمقاومة الفلسطينية حاليًّا، متمثلة بحركة حماس، توصف من طرف الكيان الصهيوني الاستيطاني وأتباعه بأنها منظمة إرهابية، والحقيقة التي يتجاهلها هؤلاء الغزاة أن حماس هي مجموعة من المجاهدين يكافحون من أجل تحرير بلدهم وحماية أرضهم وشعبهم من جور الاستعمار. وعليه، فحماس حركة تحررية ليست الأولى التي عرفها التاريخ ولن تكون بالتأكيد الأخيرة، لأن الإنسان بطبيعته وفطرته يتوق دائمًا إلى العيش في كنف الحرية. من هنا فإن لم تكن حماس، ستكون حركة أخرى تكافح من أجل الحرية، إنها حتمية طبيعية سجلها التاريخ ولا ينكرها إلا الاستعمار الاستيطاني.
لكن وصف منظمات التحرر بالإرهاب إنما هو بداية لشرعنة الانتهاكات والاعتداءات على أعضائها ومناصريها والمتعاطفين معها، فيستعمل المستعمر مختلف أنواع القتل والتعذيب والتهجير والأسلحة المحرمة دولـيًّــا، وصولًا إلى الإبادة الجماعية والتصفية العرقية، كما حصل للهنود الحمر في القارة الأمريكية، ويحصل حاليًّا في فلسطين.
فعندما وُصفت حماس بالمنظمة الإرهابية، أباح ذلك للمستعمر الصهيوني الاستيطاني القيام بكل أنواع القتل والتعذيب والتجويع، وقد سبقت العملية بتهيئة الرأي العام العالمي بواسطة وسائل الإعلام التي يملكها ويسيطر عليها الصهاينة لتقبُّل مشاهد ومجازر لم يتعودها العالم، والدليل على ذلك ما نشاهده يوميًّا من مجازر، ومنذ أكثر من سنة يتفرج العالم ولا أحد يحرك ساكنًا، مع غياب تام طبعًا لكل المنظمات الدولية أو الإقليمية أو المتخصصة التي تدّعي أنها وجدت من أجل تحقيق السلم والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان. والمفارقة أن وزير الدفاع الصهيوني يقول «نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك». وهذه دعوة إلى ارتكاب جرائم حرب، ولكن التاريخ أخبرنا بأن مثل هذه الأوصاف التي تلتها الجرائم سبق أن ارتكبها الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الإيطالي في ليبيا، والاحتلال الأمريكي في فيتنام، كما تعامل عمومًا المحتل الأوروبي مع حركات التحرر وشعوبها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مثل العبيد والحيوانات، وهو ما أتاح لهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويمكن تقديم بعض النماذج التي عرفتها بعض البلدان حول هذه الممارسات لنؤكد أن فلسطين، وحماس بالتحديد، ليست حالة استثنائية أو وحيدة في العالم.
1 – الحالة الليبية
يكفي في الحالة الليبية ذكر البطل عمر المختار الذي حارب الاحتلال الإيطالي طوال عشرين سنة، وعندما أُسر واقتيد إلى المحاكمة، وُجهت إليه تهم التمرد والعصيان والخيانة، ثم أُعدم شنقًا أمام عشرات الألوف من السكان المحليين. لكن المتمرد تحوَّل بعد استشهاده إلى رمز للمقاومة والتحرُّر داخليًّا وخارجيًّا، وحتى في نظر المستعمر نفسه، حيث وضع القنصل العام لإيطاليا كارلو باتوري الورد على ضريح عمر المختار في بنغازي يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر 2021، وخلال إلقاء كلمته بالمناسبة قال القنصل العام: «أعرب خلال السنوات الماضية الكثير من القادة المهمين في بلادي عن أسفهم نيابة عن الشعب الإيطالي، وعن المؤسسات الرسمية الإيطالية، للمعاناة الكبيرة التي سببت للشعب الليبي نتيجة الاستعمار، وبصفتي مسؤولًا في الدولة الإيطالية، التي أتشرف بالانتماء إليها، أجدد أنا أيضًا وبصدق في هذا اليوم التعبير عن هذا الأسف». وكان قد تفنن المستعمر الإيطالي في قتل المدنيين وتهجير البدو، واستخدام الأسلحة الكيميائية والقصف الجوي العشوائي للقرى أول مرة في التاريخ، وهو السيناريو نفسه الذي تكرره إسرائيل في غزة ولكن بصورة مبتكرة.
2 – الحالة الجزائرية
وَصفُ الفلسطينيين بـ«الإرهابيين» ليس حكرًا عليهم كما ذكرنا آنفًا، بل سبقه المستعمر الفرنسي الذي كان يصف الجزائريين إبان ثورة التحرير بالإرهابيين وقطّاع الطرق والخارجين عن القانون والمتمردين وغيرها، فهل من يدافع عن الحق والأرض وعن وطنه إرهابي؟
أما جرائم المستعمر الفرنسي في الجزائر فهي لا تعدّ ولا تحصى، فمن القتل العشوائي والتصفية والإبادة الجماعية، إلى التهجير القسري، داخليًّا وخارجيًّا، ووضع السكان في محتشدات تحت الحراسة، إلى استعمال الأسلحة الممنوعة دوليًّا، إلى التجارب النووية في صحراء الجزائر التي لا تزال آثارها إلى اليوم، ولكن الشعب الجزائري بصموده وإرادته أمام المحتل تمكن من تحقيق هدفه التحرري حتى سقطت أكذوبة الاحتلال بأن الجزائر مقاطعة فرنسية ومعها تبخرت أحلامه الاستيطانية.
3 – الحالة الفيتنامية
التفوق العسكري والدعم والمساندة الدولية بكل أوجهها للمستعمر الاستيطاني لا يمكن أن تتغلب على إرادة الشعوب التي تكافح من أجل التحرر حتى لو اتُهمت بـ«الإرهاب»، فالحالة الفيتنامية تؤكد خيبة المحتل الاستيطاني مرة أخرى، ففي عام 1955 تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام وألّفت حكومة موالية لها في الجنوب لكي تقف في وجه ما زعمت أنه «زحف شيوعي»، لكن سرعان ما تم توحيد البلاد من شمالها إلى جنوبها والتصدي لهذا العدوان، حيث خاض الشعب الفيتنامي حرب عصابات تحررية، اتهمها الغرب بـ«الإرهاب»، لكنه استطاع أخيرًا تحرير وطنه. ومنه نقول إن التاريخ أثبت لنا أن حركات التحرر الوطني في هذه التجارب أنه ليس هناك شعب خسر حربًا لتحرير نفسه من الاستعمار، وهو ما يجدد فينا الأمل تجاه فلسطين.
ثانيًا: مظاهر الاستعمار الاستيطاني الفرنسي
في الجزائر ونتائجه
شهدت السنوات السبعون التي أعقبت إنزال القوات الفرنسية في الجزائر عام 1830 مجازر كبيرة وتهجيرًا قسريًّا لمئات الألوف من السكان من مناطقهم الأصلية، وكان هدف الغزو هو استبدال شعب بآخر.
كان الاحتلال الفرنسي للجزائر استيطانيًا بالدرجة الأولى، لأن فرنسا ومن ورائها أوروبا سارعت منذ بداية الاحتلال إلى حشد وتشجيع كل من لم يجد مكانًا له في أوروبا للهجرة إلى العالم الجديد الجزائر، تمامًا مثلما كان الأمر في أمريكا، ووفرت لهؤلاء المنبوذين في بلادهم الأصلية كل ظروف العيش والاستقرار في العمل والكسب في بلد يزخر بالخيرات والموارد الطبيعية وغيرها، وقد وضع الاحتلال مخططًا استيطانيًّا على مراحل سنفصله لاحقًا.
بالعودة إلى بداية الاحتلال، وبعد سقوط مدينة الجزائر عام 1830، لم تتوان قوات الاحتلال الفرنسي في ارتكاب أبشع الجرائم في حق الشعب الجزائري؛ بشاعة هذه الجرائم لا تقل عن تلك المرتكبة حاليًّا في فلسطين، منتهكة بفعلها ذلك كل ما نصت عليه القوانين الدولية وأعراف الحرب كحماية المدنيين وعدم الإفراط في استعمال القوة. وبالرغم من تعهد فرنسا بأنها لا تلحق بالجزائريين وممتلكاتهم وتجارتهم وشرفهم ومساجدهم أي أذى، تعهدت فرنسا كذلك من خلال القائد دي بورمون بأنها ستترك الحرية للجزائريين في دينهم، وقد صدق الكثير من مثقفي مدينة الجزائر وأعيانهم وعود الفرنسيين الذين زعموا في بياناتهم أن حضورهم إلى الجزائر بحملتهم العسكرية هو لاستعادة شرف فرنسا وتأديب الداي حسين الذي صفع القنصل الفرنسي لتأخره في تسديد ديون فرنسا[1](*) وتخليص الشعب الجزائري من جور الأتراك وظلمهم، كما ظن هؤلاء الأعيان أن الأمة الفرنسية، الأمة المتحضرة والشريفة… التي تتغنى بشعاراتها المعروفة في الحرية والمساواة والأخوّة… لا يمكنها أن تحتل أمة أخرى أو تخلّ بتعهداتها… لكن سرعان ما اتضح لسكان مدينة الجزائر وما جاورها حقيقة الغزو، مما جعلهم يواجهون الجيش الفرنسي ببسالة وشجاعة من خلال المقاومة التي كانت في البداية رسمية من جانب جيش الداي ثم تلتها ثورات شعبية مسلحة شملت تقريبا كل مناطق الوطن، ولعل أبرزها: مقاومة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري بداية من سنة 1832 إلى 1847، ومقاومة أحمد باي في الجزائر وقسنطينة (1830 – 1836) وفي منطقتي الأوراس والجنوب القسنطيني (1837 – 1849)، ومقاومة أنصار بومعزة 1845، ومقاومة الزعاطشة 1849، ومقاومة بوبغلة وفاطمة نسومر (1851 – 1857)، ومقاومة أولاد سيدي الشيخ (1864 – 1881)، ومقاومة المقراني والشيخ الحداد (1871 – 1872)، ومقاومة الشيخ بوعمامة (1881 – 1904).
وقد انتهت كل هذه المقاومات بالفشل، على الرغم من بعض الانتصارات التي حققتها هنا وهناك. يعود سبب الفشل في رأينا إلى سببين رئيسيين على الأقل وهما:
أ – كانت هذه المقاومات جهوية أو محلية تفتقد عنصرَي التنظيم والاتحاد، الأمر الذي جعلها تفشل في النهاية.
ب – عدم التكافؤ في العدة والعتاد بين عناصر المقاومة وأفراد الجيش الفرنسي.
في إثر هذا الفشل، تحول النضال إلى استعمال وسيلة أخرى وهي النضال السياسي المطلبي، وهذا بداية من سنة 1900، حيث تميزت هذه المرحلة بإنشاء وتأسيس عدة تكتلات سياسية كانت مطالبها تدور حول المساواة بين الجزائريين والفرنسيين وإلغاء قانون الأهالي والإجراءات التعسفية، والدعوة إلى القومية الإسلامية ونشر وإصلاح وسائل التعليم باللغة العربية وحرية الهجرة وغيرها، من خلال هذه التكتلات بدأ الوعي السياسي والوطني ينمو عند الجزائريين ليتبنوا فيما بعد وسيلة نضالية أخرى تُعرف بالحركة الوطنية وتميزت بالصراحة في طرحها من خلال الأحزاب السياسية التي أنشئت في هذه المرحلة وهـي «المطالبة بالاستقلال». عُرفت هذه المرحلة (1926 – 1954) بمرحلة المواجهة السياسية المنظمة، إذ تألفت من عدة أحزاب سياسية منها نجم شمال أفريقيا 1926، وفدرالية المنتخبين الجزائريين 1927، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين 1931، والحزب الشيوعي الجزائري 1935، وحزب الشعب الجزائري 1937 (PPA) وهو استمرار لنجم شمال أفريقيا، وأحباب البيان والحرية 1944، والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري 1946، وحركة انتصار الحريات الديمقراطية 1946، وهي استمرار لحزب الشعب الجزائري والمنحنى الذي عرفته حتى اندلاع الثورة التحريرية في أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954 التي تم بفضلها استعادة استقلال الجزائر ونهاية الحلم الفرنسي والأوروبي بأن الجزائر مقاطعة فرنسية، كما فشل فيها مشروعها الاستيطاني الفرنكو أوروبي كذلك.
أما الاستيطان في الجزائر فكان مشروعًا أوروبيًا أكثر منه مشروعًا فرنسيًا حيث قام على شعار ليكن الاحتلال فرنسيًّا، لكن الاستيطان يجب أن يكون أوروبيًا، وهو ما يؤكد توافد المهاجرين الأوروبيين إلى الجزائر على مراحل منذ بداية الاحتلال، حيث عمل الاستعمار الفرنسي على إيجاد شعب أوروبي في الجزائر من خلال تشجيعه حركة الاستيطان بعد مصادرة الأراضي وإخضاع السكان الأصليين لمجموعة من القوانين الاستثنائية والخاصة، مثل قانون الأهالي الذي تم بموجبه تجريد الشعب الجزائري من مقوماته الشخصية وممتلكاته وطمس هويته، لأن الجزائر أصبحت قطعة فرنسية بحسب المحتل، وتجريده من كل الحقوق التي يتمتع بها المواطن الفرنسي لأن القوانين التي صدرت في حقه لا تسمح له بحق المواطنة إلا إذا تخلى عن أحواله الشخصية كعربي مسلم. وقد شجعت سياسة الاستيطان متشرّدي أوروبا وصعاليكها على التوجه إلى الجزائر والتمتع بحق المواطنة الفرنسية، وأدمجت معهم ثلة من اليهود المتجنسين وفقًا لقرار كريميو 1870.
مر الاستيطان في الجزائر بمرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى، مرحلة الاحتلال الضيق (1830 – 1835) لأن الاستيطان انحصر تقريبًا في المناطق الشمالية التي سيطرت عليها، ولكن تخوف فرنسا من تنامي مقاومة الأمير عبد القادر وإجبارها على الاعتراف بحدود نفوذه جعلها تعيد النظر في سياستها الاستيطانية من خلال المباشرة في الاحتلال الشامل الذي ساعد على انتشار حركة الاستيطان في بقية المناطق الأخرى، إلى جانب الدعم المادي والمعنوي الذي لقيه المستوطنون الأوروبيون من طرف سلطات الاحتلال الفرنسي التي راحت تسن القوانين لمصلحة الحركة الاستيطانية، وهذا ما شجعهم على جعل الجزائر مستوطنة فرنسية لكنها مستقلة عن فرنسا، وبخاصة أنه كان من بين المستوطنين الشخصيات السياسية المعارضة للأنظمة الملكية المتعاقبة على حكم فرنسا.
بدأ الاستيطان العسكري بنهب 1000 هكتار تابعة لحوش حسن باشا في نواحي الحراش في الجزائر وأعطيت إلى مجموعة من جنود الحاكم العام كلوزيل لتسييرها، وقد أطلق عليها اسم المزرعة النموذجية الأفريقية. كان الحاكم العام كلوزيل من دعاة الاستيطان الأوائل وكان يفكر في أن يجعل من الجزائر، سان دومينغ جديدة (وهي أقدم مستعمرة أوروبية في الأمريكتين بعد اكتشافهما من طرف كريستوفر كولومبوس في القرن الخامس عشر) وأن يحول رؤوس الأموال الأوروبية المتجهة إلى القارة الأمريكية نحو الجزائر. لهذا أصدر قرار 21 أيلول/سبتمبر 1830 الذي يبيح مصادرة أملاك الوقف وأملاك البايليك، قصد توزيعها على الوافدين الأوروبيين. وفي 9 آب/أغسطس1835 خاطب الأوروبيين الذين وصلوا إلى مدينة الجزائر قائلًا: «يجب أن تعلموا أيضًا أن هذه القوة العسكرية التي هي تحت إمرتي ما هي إلا وسيلة ثانوية، ذلك أنه لا يمكن أن نغرس العروق هنا إلا بواسطة الهجرة الأوروبية فقط». وفي سنة 1832 وصلت إلى ميناء الجزائر سفينة تحمل على متنها 400 مهاجر ألماني وسويسري وُزعت عليها قطع من الأراضي بلغت مساحتها الإجمالية 320 هكتارًا. وبدأ الاستيطان يترسخ ويتوسع بعد صدور قرار 22 تموز/يوليو الذي أعلن المناطق التي سيطرت عليها القوات الفرنسية أملاكًا فرنسية.
المرحلة الثانية، مع بداية عام 1835 الذي عرف توسع الاحتلال شهد فيه الاستيطان كذلك أوج ازدهاره مع بداية ظهور قوة المستوطنين في فرض وجودهم على الساحة السياسية في الجزائر، وفي باريس، فهذا المارشال كلوزيل يخاطب المعمرين بمناسبة تعيينه واليًا عامًا سنة 1835 بالقول: «لكم أن تؤسسوا من المزارع ما تشاؤون، ولكم أن تستولوا عليها في المناطق التي نحتلها وكونوا على يقين بأننا سنحميكم بكل ما نملك من قوة وبالصبر والمثابرة سوف يعيش هنا شعب جديد، وسوف يكبر ويزيد بأسرع مما كبر وزاد الشعب الذي عبر المحيط الأطلسي واستقر في أمريكا من بضعة قرون».
قررت الحكومة الفرنسية، في إثر الأزمة الاقتصادية التي عرفتها فرنسا سنة 1840، احتلال الجزائر بأكملها وتوطين فائض السكان الفرنسيين فيها، وقد تزامن ذلك مع مجيء الجنرال بيجو حيث شهد الاستيطان فعلًا تطورًا كبيرًا، ففي خطبته سنة 1840 أمام النواب قال: «يجب أن يقيم المستوطنون في كل مكان توجد فيه المياه الصالحة والأراضي الخصبة، من دون الاستفسار عن أصحابها» وكان أهم شيء نجح فيه الجنرال بيجو هو استخدام الجيش في بناء المستوطنات وفي استصلاح الأراضي وغرس الأشجار في انتظار وصول المستوطنين. وقد اشتدت الهجرة الأوروبية نحو الجزائر في عهده، ففي سنة 1843 وحدها وصل إلى الموانئ الجزائرية 14 ألفًا و137 مهاجرًا، منهم أكثر من 12.006 من الفرنسيين والبقية من الألمان والأيرلنديين والسويسريين. بلغ عدد المستوطنات سنة 1844 فقط 28 مستوطنة في المتيجة والساحل. وفي سنة 1845 وصل إلى الجزائر نحو 46 ألف مهاجر، الأمر الذي كان وراء توسع الاستيطان نحو الغرب والشرق، وذلك من خلال الدعم المادي والمعنوي لحركة الاستيطان، فكل القادة العسكريين والمدنيين الذين تداولوا على السلطة والحكم في الجزائر شجعوا الأوروبيين على التوجه إلى الجزائر وتعميرها حيث وفرت لهم كل الشروط الضرورية للاستيطان على حساب السكان الأصليين وأصحاب الأرض، وهذا ما يسمح لهم بالتفوق عدديًا على أصحاب الأرض (تغيير البنية الديمغرافية)، مع ضمان الحماية العسكرية لهم. على سبيل الذكر لا الحصر وصل عدد المستوطنين خلال السنوات الأربعين الأولى من الاحتلال (1870) نحو 700 ألف مستوطن أكثر من نصف العدد من أصل أوروبي، وفي ما بين أعوام 1830 و1930، استولت الإدارة الاستعمارية على 14 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، تم التنازل عن جزء منها مجانًا للمهاجرين الأوروبيين، الذين ارتفع عددهم إلى 881 ألفًا سنة1931 .
هذا ما يؤكد فعلًا أن الاحتلال فرنسي والاستيطان أوروبي، وهذه العملية هي لمسعى واحد وهو تحقيق الأهداف الرئيسية للاستيطان التي تتمثل بإحلال الأوروبيين محل الجزائريين، وإخضاع الأغلبية الجزائرية للأقلية الأوروبية، والقضاء على أي مقاومة مسلحة يقوم بها الأهالي، مع تكريس لغتهم وعاداتهم ودينهم… وقد تواصلت عملية الاستيطان من دون انقطاع حتى بداية ثورة التحرير سنة 1954، حيث تم التركيز على الدعم العسكري للقضاء على الثورة ولكن هيهات.
تعد عملية احتلال الجزائر في نظر الفكر الاستعماري فاتحة جديدة للهيمنة الغربية على شعب مسلم كانت له علاقات سلمية قوية مع فرنسا. كانت العلاقات قديمة إلى حد كبير تسمح بإقامة صداقة وتعاون دائمين ظهرا في صورة امتيازات وقروض ومعاهدات سلام بين البلدين… ومع هذا فإن احتلال الجزائر تمت مباركته من معظم الدول المسيحية. إنها حرب صليبية أخرى بالنسبة إليهم. ألم يقل دي بورمون لجنوده بعدما استولى على مدينة الجزائر: «لقد جددتم عهد الصليبيين». كما كتب الرحالة الفرنسي المشهور بوجولا مخاطبًا الماريشال بيجو وهو أحد مقربيه «إن الحرب التي تخوضونها في أفريقيا هي حلقة من حلقات الحروب الصليبية»، كما كتب له كاتبه الخاص لويس فييو عام 1841 «أزفت آخر أيام الإسلام … إن الهلال الذي هوجم في كل موضع ينكسر ويتلاشى. إن الإله يبعده ويرسله في الوقت المعلوم على الصحراء التي ظهر فيها ليهلك فيها».
في هذا الإطار، أدى الرهبان الذين رافقوا الحملة الفرنسية دورًا كبيرًا في نشر الديانة المسيحية على الساحة الجزائرية وتعبئة جنود الاحتلال وشحنهم بالروح الصليبية. ويعَدّ الراهب لافيجري[2](*) الذي وصل إلى الجزائر عام 1867 أكثر النشطين المفوضين من طرف الإدارة الاستعمارية للتنصير، حيث شرع في بناء الأديرة والكنائس وتحويل بعض المساجد إلى كنائس والهدف من ذلك طبعًا هو القضاء على الدين الإسلامي وتنصير أكبر قدر ممكن من الجزائريين وإعادة مجد الكنيسة الأفريقية الرومانية… حيث أعد لها لافيجري برنامجًا خاصًا دعمه بمؤلفات خاصة بتعليم المسيحية وتدريس نصوص من الإنجيل وتاريخ الديانة المسيحية وغيرها.
في المقابل لم تكن عملية الاستيطان بمعزل عن سائر الأعمال الإجرامية والإبادة الجماعية التي اقترفها المحتل الفرنسي، إذ نفذت السلطات الاستعمارية الفرنسية المدنية والعسكرية مخططًا إجراميًّا لإبادة الجزائريين، وعمدت إلى استخدام كل الإجراءات المتاحة والمتوافرة لديها، ولم تستثن أحدًا من المدنيين العزَّل من أطفال ونساء وشيوخ. وارتكبت في إثرها مئات المجازر الجماعية، وحالات التقتيل الفردي والعشوائي، مستندة في ذلك إلى ما سمي «القوانين الخاصة» التي تتعارض مع القوانين الدولية. تعدّ هذه الانتهاكات التي ارتكبتها فرنسا في حق الجزائريين وممتلكاتهم جرائم دولية وتدخل ضمن الأفعال المسماة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة التي لا يمكن أن تسقط بالتقادم، طبقًا لاتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكوليها، اتفاقية منع وقمع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 واتفاقية عدم سقوط الجرائم ضد الإنسانية لسنة 1968، فهل هناك إمكان لمساءلة فرنسا عن هذه الجرائم، وهل هناك إمكان لاعترافها بمسؤولياتها عن الأضرار التي ألحقتها بالجزائر وبمواطنيها ومن ثمة مطالبتها بالتعويض؟
يمكن ذكر بعض الانتهاكات والإبادة الجماعية التي اقترفتها فرنسا منذ بداية الاحتلال الاستيطاني، ففي 23 تموز/يوليو 1830، أي بعد أقل من عشرين يومًا من الغزو، وقعت معركة حقيقية بين القوات الفرنسية وأفراد المقاومة المسلحة الجزائرية، وقد أقدمت عناصر الاحتلال على ارتكاب أبشع المجازر منها على الخصوص مجزرة البليدة والعوفية على يدي السفاحين كلوزيل ورو فيقو، في تلك الأثناء يفسر الجنرال الفرنسي بيجو عدم احترام الجيش الفرنسي القواعد الإنسانية في تعامله مع الجزائريين حتى لا يؤخر عملية احتلال الجزائر، وهذا سفاح يسمى سانت أرنو الذي افتخر في رسالته بأنه قام بمحو عدة قرى من الوجود وأقام في طريقه جبالًا من جثث القتلى والمؤسف له أن هؤلاء الوحوش لا تزال أسماؤهم تذكر تقريبًا كل يوم على ألسنة الجزائريين لأنهم ببساطة يحملون أسماء مدن وأسواق وشوارع وغيرها.
كتب السفاح مونتانياك لأحد أصدقائه: «هكذا يا صديقي العزيز، يجب أن نحارب العرب، نقتل الرجال ونمسك بالنساء والأطفال ونبعث بهم إلى جزر الماركيز…»، ويقول في رسالة أخرى: «إنه مستعد لإبادة كل ما يعبر طريقه دون تمييز… وبعد سنتين لن يبقى أي عربي قادر على رفع أنفه أمامنا…».
وفي 8 آب/أغسطس 1845 كانت هناك إبادة جماعية لنحو 500 شخص حرقًا من طرف سانت أرنو في مغارة قرب بني مناصرـ بشرشال، وكانت مدينة الجزائر تضم وحدها 176 مسجدًا قبل الاحتلال الفرنسي لينخفض هذا العدد إلى خمسة مساجد فقط عام 1899. ومن أهم المساجد الذي عبث بها المحتل نذكر جامع القصبة تحول إلى كنيسة الصليب المقدس، وجامع علي بتشين تحول إلى كنيسة سيدة النصر، وجامع كتشاوة تحول إلى كنيسة بعد أن أباد الجيش الفرنسي نحو 4000 مصلي اعتصموا به.
أما مجازر 8 أيار/مايو 1945، فيعود السبب الرئيسي لهذه الأحداث هو موقف المعمرين الرافض للمطالب الوطنية وما يعكسه من تخوف وعداء وحقد على الجزائريين، إضافة إلى أسباب أخرى كالتنافر والكراهية بين العنصرين الجزائري والأوروبي، وسقوط هيبة فرنسا من أعين الجزائريين نتيجة انهزامها أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فكانت تظاهرات من تنظيم حزب الشعب الجزائري، التي اتهمت فرنسا المتسببين في هذه الأحداث بالفاشيين. أما فتيل الأحداث أو لنقل المجازر فهو نزع الرايات من أيدي المتظاهرين وذلك بقرار من رئيس الدائرة (سطيف) فتحولت التظاهرات إلى مجازر وبخاصة في سطيف وقالمة وخراطة، حيث تحولت الساحات إلى تقتيل جماعي واعتقالات وغيرها، راح ضحيتها أكثر من 45 ألف شهيد، إضافة إلى الألوف من الموقوفين، فمنهم من حُكم عليهم بالإعدام ومنهم من حُكم عليهم بالأشغال الشاقة مدى الحياة، ومنهم من بقي في انتظار المحاكمة، وكانت هذه المحاكمات من طرف محاكم خاصة أنشئت خصيصًا للنظر في الموقوفين جراء الأحداث.
إضافة إلى الكثير من المجازر وعمليات التقتيل الجماعي التي اقترفها المحتل مثل مجازر الفرنسيين الذين ألقوا بآلاف المدنيين في نهر شعبة الآخرة في خراطة، والأسلاك المكهربة، خطي شال وموريس، اللذان خلفا الكثير من الضحايا، وأماكن التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية، ومواقع التعذيب في مختلف السجون كسجن بربروس، وعمليات الإعدام بالمقصلة.
ذكر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في تشرين الأول/أكتوبر 2021 أن «5 ملايين و630 ألف جزائري قتلوا بين 1830 و1962»، أي أن أغلبية الشهداء سقطوا خلال السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي، بينما استُشهد نحو مليون ونصف المليون جزائري خلال الثورة التحريرية 1954 – 1962.
لم يكن الهدف الرئيسي من التطرق إلى الاستعمار الفرنسي في الجزائر سرد الجوانب السياسية والتاريخية لعملية الاستيطان. بعبارة أخرى، لم نقصد كتابة التاريخ لأن ذلك موضوع آخر، بينما الهدف من وراء هذا المقال هو الوقوف على الاستراتيجية التي استعملها المحتل، وكيف نفذها، وما الأهداف المنتظرة من ذلك، وهذا حتى يسهل علينا مقارنة الاستيطان الفرنسي للجزائر مع ما يقوم به حاليًّا الصهاينة في فلسطين، وهي في رأيي الخاص تتقاطع وتتشابه في الكثير من النقاط، لذا استوجب علينا التذكير بالماضي لفهم الحاضر وكيفية التعامل معه وتفاديه في المستقبل.
ثالثًا: مظاهر الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بين التهجير القسري والإبادة الجماعية
الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين هو على شاكلة الاحتلال الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، فإذا كان الاحتلال في الجزائر فرنسيًّا والاستيطان أوروبيًّا، فإن الاحتلال في فلسطين صهيوني والاستيطان يهودي.
بعد انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين بضغط من هيئة الأمم المتحدة سنة 1948، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني مباشرة قيام دولة إسرائيل ليتم الاعتراف بها بسرعة من طرف الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وبعد ثلاثة أيام يُعترف بها كذلك من طرف الاتحاد السوفياتي سابقًا. وقد امتنعت القيادة الصهيونية عن تحديد حدود الدولة في الإعلان عن تأسيسها واكتفت بتعريفها كــ«دولة يهودية في إيرتس يسرائيل»، أي في فلسطين. أسفر هذا الإعلان عن بدء الحرب بين إسرائيل والبلدان العربية المجاورة. علمًا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت سنة 1947 قد وافقت على قرار تقسيم فلسطين جغرافيًّا كما يأتي: دولة يهودية (56 بالمئة من مساحة فلسطين الكلية)، ودولة عربية فلسطين (43 بالمئة من المساحة) وتدويل منطقة القدس (1 بالمئة من المساحة).
ومنذ ذلك الوقت سعى اليهود لإقامة وطن لهم في فلسطين بمساعدة دول غربية – لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين العرب، وإقامة دولة إسرائيل، كما أكده عضو الكنيست الإسرائيلي السابق يشعياهو بن فورت بقوله «لا دولة يهودية من دون إخلاء العرب من فلسطين ومصادرة أراضيهم وتسييجها»، حيث انتهج الاستيطان اليهودي فلسفة لا تختلف عن فلسفة الاستيطان الفرنسي في الجزائر أساسها الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، بعد طرد سكانها الأصليين بحجج ودعاوى دينية وتاريخية مزعومة، والترويج لمقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، كما دعا المبشرون الأمريكيون اليهودَ إلى العودة إلى أرض صهيون (فلسطين)، وكان أولهم راعي الكنيسة الإنجيلية القس جون ماكدونالد سنة 1914. وتعَدّ مرحلة الانتداب البريطاني المرحلة الذهبية للاستيطان، حيث دخلت بريطانيا فلسطين وهي ملتزمة بوعد بلفور، وبذلك أصبح الاستيطان اليهودي يتم تحت رقابة دولة عظمى عملت على مساندته ودعمه.
تميزت السياسة الاستيطانية خلال حقبة الانتداب بتوزيع المستوطنات الزراعية توزيعًا استراتيجيًّا على حدود البلدان العربية المتاخمة لفلسطين، وهي الأردن ولبنان وسورية ومصر، وتوسعت أملاك اليهود في فلسطين إلى حدٍّ كبير، حيث أقيمت 79 مستوطنة على مساحة تجاوزت مليوني دونم في المدة 1939 – 1948.
تتزامن عادةً عملية الاستيطان باقتراف المحتل شتى أنواع المجازر والإبادة الجماعية، فتذكر وثائق تاريخية ومراكز دراسات أن عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في المدة ما بين 1937 و1948، تجاوزت 75 مجزرة، خلفت أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطيني، فضلًا عن إصابة الآلاف، كما تشير الدراسات التاريخية إلى أن ذروة تلك المجازر كانت خلال المدة الممتدة بين عامَي 1947 و1948، وهي الفترة المعروفة بالنكبة، علمًا أن مصطلح «النكبة» الذي يستعمله الشعب الفلسطيني يعبر عن عملية تهجيرهم من أراضيهم على أيدي «عصابات صهيونية مسلحة» عام 1948، وهو العام نفسه الذي أُعلن فيه قيام دولة إسرائيل على معظم أراضي فلسطين. ويمكن ذكر، لا حصر، أبرز مجازر الاحتلال الصهيوني، وهي مجزرة «السرايا العربية»؛ ومجزرة «دير ياسين»؛ ومجزرة قرية «ناصر الدين»؛ ومجزرة حيفا؛ ومجزرة «بيت دراس»؛ ومجزرة «الرملة»؛ ومجزرة «الدوايمة»… وغيرها. تعَد هذه المجازر وسيلة استعملها المحتل خلال حرب 1948 لإجبار سكانها على الرحيل. ولم يتوقف الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في مجازره منذ القرن الماضي إلى اليوم، ومجازر غزة الحالية خير دليل على ذلك.
أمام هذه المجازر، تم اللجوء إلى الهيئات والمنظمات الدولية، لعل وعسى تنصف القضية الفلسطينية وتحمي الشعب الفلسطيني من هذه الانتهاكات والمجازر، وفعلًا فقد دخلت القضية أروقة الأمم المتحدة نتيجة قرار تقسيم فلسطين، ومنذ نكبة 1948 توالت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وكذا منظمة اليونسكو ومحكمة العدل الدولية وغيرها، ولكن كل هذه القرارات ظلت في معظمها حبرًا على ورق، بسبب عدم التزام إسرائيل بها من جهة، ولأن هذه القرارات نفسها غير ملزمة، ولسنا ندري لماذا جاءت هذه المنظمات إذا كانت قراراتها غير ملزمة، أم أن إلزامية قرارتها تطبق على البلدان العربية فقط؟
رابعًا: تقاطعات الاحتلال الفرنسي في الجزائر مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين
دعائم ووسائل الاستعمار الاستيطاني كثيرة ومتنوعة، منها المادية والمالية وأخطرها على الإطلاق هو الجانب الفكري، فهذا الاستعمار للأسف يجد المساندة والتأييد من طرف الفلاسفة والمفكرين الذين كنا نعتقد أنهم يناضلون فكريًّا من أجل العدالة وحقوق الإنسان وكرامته بعيدين كل البعد من كل أنواع التمييز والعنصرية، ولكن الواقع شيء آخر … فالاستعمار الاستيطاني لا يتألف جيشه من الجنود فقط، بل يضم كذلك الفلاسفة والمفكرين والمنظّرين وحتى رجال الدين.
فإذا كان تضامن كبار المفكرين الأوروبيين المنتمين الى مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية وعلى رأسهم الفيلسوف يورغن هابرماس يعبّرون عن تضامنهم مع الصهاينة في حربهم ضد غزة، فإن كارل ماركس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وعندما أصيب بوعكة صحية اقترح عليه الفرنسيون العلاج في الجزائر وفعلًا تم إرساله الى صحراء الجزائر وتمت معالجته هناك، ولما عاد إلى فرنسا سألته الصحافة الفرنسية عن العمل الذي تقوم به فرنسا في الجزائر: فقال لهم إن فرنسا بصدد القيام بعمل جبار في الجزائر؛ إنها بصدد إخراج شعب من الجهل والتخلف إلى التمدن والتحضر والتقدم… وهكذا نرى تأييد الفلاسفة والمفكرين للاستيطان الغربي مهما كان، لأنهم منهم والكلاب لا تأكل بعضها كما يقال.
لذا، ما يحدث اليوم في العالم، يذكرنا بارتباط الأخلاق الأوروبية الحديثة بالاستعمار، ويعكس نظام الفكر هذا النمط التاريخي للفظائع الاستعمارية، وبخاصة في جنوب العالم، بما في ذلك الإبادة الجماعية الحاصلة في فلسطين اليوم. تعد هذه الفكرة راسخة في الفكر الاستعماري، التي تم على أساسها تجريم الشعوب المستعمرة وحرمانها حق المقاومة الوجودية، فالغزاة الإسبان مثلا يرون أن «الوفيات والمصائب» التي أوقعوها بالشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية هي «خطأ تلك الشعوب» لوقوفهم في طريق الغزاة، كما أشار الفيلسوف جورج هيغل إلى أن الأفارقة مذنبون بسبب «ازدرائهم الفطري للإنسانية» وهو ما جعلهم عرضة «للسقوط بالآلاف في الحرب مع الأوروبيين». ها هي إسرائيل اليوم تدين الفلسطينيين لأنهم «أجبروا» المستوطنين الصهاينة على قتلهم…
من الناحية الدينية، حصل الاحتلال الاستيطاني على مساندة وتأييد رجال الدين كذلك من باب الدفاع عن النفس من جهة، ومن جهة أخرى نشر الدين أو القيام بعملية التبشير والتنصير وغيرها، فالاحتلال الفرنسي في الجزائر رافقه رجال الدين ومن بينهم لافيجري في محاولة منه لنشر المسيحية في الجزائر ومنها الى عموم أفريقيا. وقد أقامت فرنسا احتفالًا كبيرًا بالذكرى المئوية للاحتلال (1830 – 1930)، ورافق هذا الاحتفال افتخار بالقضاء على الشخصية الجزائرية ومقوماتها العربية الإسلامية، وهو ما أدى إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للمحافظة على الدين الإسلامي ومحاربة الخرافات والبدع وإحياء اللغة العربية وآدابها وتمجيد التاريخ الإسلامي وآثاره. الأمر نفسه عرفته فلسطين عندما دعا المبشرون الأمريكيون اليهودَ إلى العودة إلى أرض صهيون (فلسطين)، وكان أولهم راعي الكنيسة الإنجيلية القس جون ماكدونالد سنة 1914.
كما يمكننا التذكير بالنقاط الأخرى التي كانت محل تشابه وتقاطع بين الاحتلالين الفرنسي والصهيوني في ما يأتي:
– تتمثل طبيعة الاستعمار الاستيطاني في كلا البلدين كما ذكرنا آنفًا في الاستيلاء على الأرض والمكان، ومحاولة تغيير التركيبة الديمغرافية، واستعمال وسائل القهر والتجويع والقتل والتهجير والإبادة الجماعية، وعدم الرضوخ للقانون الدولي الإنساني وعدم الالتزام بقرارات الهيئات والمنظمات الدولية، ومساندة دولية عنصرية واسعة ومؤيدة للاحتلال والعدوان والإبادة الجماعية.
– التهجير ومحاولة تغيير البنية الديمغرافية للسكان الأصليين من خلال التهجير القسري وجلب سكان المستعمر أشرار الدول الأوروبية وأشرار اليهود، ومصادرة أراضي السكان الأصليين ومنحها للوافدين الجدد الدخلاء، مع طمس الهوية الوطنية، اللغة والدين والقيم والثقافة، ومحاولة غرس أخرى مكانها من خلال تغيير مناهج التعليم وفق استراتيجية المستعمر، والإبادة الجماعية والتطهير العرقي باستعمال السلاح المحرم دوليًا والتجارب النووية والحرق، ونعت المستعمر أبطال المقاومة والتحرُّر بكل الأوصاف والنعوت: الخارجون عن القانون، المتمردون، العصاة، الإرهاب، وهي سمة المحتل في كل التجارب العالمية.
خاتمة
لا شك أن المحتل الصهيوني الاستيطاني قد حوَّل فلسطين من دولة على وشك أن تصبح قائمة بذاتها تضاهي جيرانها، إلى تجمعات سكنية ضيقة متناثرة، شعبها معزول ومتفرق وضعيف (سياسة فرّقْ تسُدْ)، لتأتي حرب غزة بنية التصفية العرقية بصفة واضحة وممنهجة، وأمام أعين العالم، ويعتقد المحتل الصهيوني أنه بفعلته هاته سيقضي على الشعب الفلسطيني بوسيلة أو بأخرى، لكن نذكّر هذا المحتل بأن الاستعمار تلميذ غبي، فقد سأل الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الجنرال الفيتنامي جياب عن أحوالهم مع الأمريكان بعد خسارتهم في الحرب، فأجاب جياب «سيدي الرئيس إن الاستعمار تلميذ غبي لا يفهم الدرس». إشارة إلى فرنسا التي خسرت الحرب في الهند الصينية (معركة ديان بيان فو) لتعيد الكرّة في الجزائر وتخرج مذلولة مهزومة، وهكذا سيكون الأمر مع الصهاينة في فلسطين.
في الأخير يمكن إعطاء بعض الاقتراحات ربما تفيد الفلسطينيين في محاربتهم المستعمر منها:
1 – مقاومة المستعمر ومحاربته بكل الوسائل، بالسلاح والقلم، وجرّه الى التفاوض وهو صاغر ونقل المقاومة إلى حدود وجوده الجغرافي وإلى الدول المساندة له، مع البحث عن المساندة الرسمية والشعبية للقضية.
2 – تدريس تاريخ الجزائر وبخاصة حقبة الاحتلال الفرنسي 1830/1962، للشعب الفلسطيني منذ المراحل الأولى من الدراسة حتى المرحلة الجامعة لأنه يساهم إلى حد كبير في تكوين الرأي العام الفلسطيني وفي التنشئة الاجتماعية والسياسية بما يمكّنه من التغلب على العدو.
3 – تعميم المقاومة لتشمل كل مناطق فلسطين، مع التركيز على حرب العصابات صغيرة العدد (فوج من ثلاثة وكل فرد من الفوج يؤلف فوجًا آخر من ثلاثة أفراد بحيث كل فرد من هذه الأفراد لا يعرف إلا فردين فقط، تفاديًا لاكتشاف التنظيم في حالة وقوع فرد في يد المحتل)، وهي طريقة كانت مستعملة في الجزائر وتسمى كذلك «حرب المدن». ويمكن كذلك استعمال طريقة الحقيبة (القفة بالتعبير الجزائري) المفخخة وتفجيرها في الأماكن التي يوجد فيها الصهاينة لبث الرعب فيهم وجرّهم إلى مغادرة البلد.
4 – في الأخير، هزمت الجزائر فرنسا وجعلتها تعود الى بلدها صاغرة، وفلسطين ستهزم الصهاينة وسينتشرون عبر أنحاء العالم ويعيشون أذلاء يضعون على أجسامهم شارات لإعلام السكان الأصليين بأنهم يهود صهاينة وذلك لاتّقاء شرهم، فهم لا يؤتمنون كما أخبرنا المولى عز وجل في كتابه الحكيم.
كتب ذات صلة:
أفريقيا والعرب والاستعمار: دراسات في فكر علي مزروعي
الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936- 1939
الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي : المخطط الاستعماري للقرن الجديد
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 558 في آب/أغسطس 2025.
نور الدين حاروش: كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر3.
[1](*) في رسالة وجهها الداي حسين من منفاه في إيطاليا إلى ملك فرنسا حول الغزو، يقول فيها: «إن بذرة غريبة على أرض إفريقيا لا يمكنها أن تنبت سوى شجر الدفلة» [الدفلة شجرة جميلة الأزهار لكنها شديدة السُّمّية].
[2](*) استطاع لافيجري ما بين 1876 و1878 تأسيس 49 كنيسة و25 خور نية وكان من أبرزها كنيسة سان جوزيف بباد الوادي وكنيسة سان شارل بأغا… كما أسس، وهذا بدعم من الإدارة الاستعمارية والمعمرين 68 كنيسة سنة 1888 ليرتفع العدد الإجمالي إلى 121 كنيسة عام 1892، ولم يقتصر بناء الكنائس في القرى الاستعمارية، بل تعدى الأمر إلى بناء كنائس في القرى العربية وهذا من أجل تنصير الشباب العربي، وهذا انطلاقًا من فكرة تعميم النشاط التبشيري.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.