«قدر العرب، في الحقيقة، هو ما يصنعه العرب»

(محمد عابد الجابري)

 

مسـارات مفكـر

  • 27 كانون الأول/ديسمبر 1935، مولد محمد عابد الجابري في مدينة فجيج شرق المغرب، وفيها أتم دراسته الابتدائية.

 

  • حزيران/يونيو 1975، الحصول على شهادة البكالوريا مرشحاً حراً، والاتصال الأول بالمناضل اليساري المغربي المهدي بن بركة.

 

  • حزيران/يونيو 1958، قضاء السنة الجامعية الأولى في دمشق، والحصول على شهادة «الثقافة العامة» منها.

 

  • تشرين الأول/أكتوبر 1958، متابعة الدراسة في قسم الفلسفة (كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط)، والحصول منها على الإجازة في حزيران/يونيو 1961.

 

  • 16 تموز/يوليو 1963، اعتُقل مع باقي رفاقه في حزب الاتحاد الاشتراكي، وأُبقي شهرين في المعتقل.

 

  • آذار/مارس 1964، المساهمة في إصدار مجلة أقلام ، التي أدت دوراً ثقافياً مهمّاً في المغرب طوال عشرين سنة من العطاء المتواصل.

 

  • آذار/مارس 1965، اعتُقل مرة أخرى مع مجموعة من رجال التعليم، ثم أُطلق سراحه.

 

  • تشرين الثاني/نوفمبر 1966، إصدار أشهر كتاب مدرسي في الفلسفة في المغرب، وهو دروس في الفلسفة ، بمعية أ. أحمد السطاتي وأ.’مصطفى العمري. وكان للكتاب دور ريادي في بث الوعي الفلسفي لدى أجيال من التلاميذ في المغرب.

 

  • 1970، الحصول على أول دكتوراه دولة في الفلسفة في المغرب، وقد دار موضوعها على ابن خلدون، وكانت لجنة المناقشة مكوّنة من باحثين ومستشرقيْن فرنسييْن هما هنري لاووست وروجي أرنلديز، ومن باحثين عرب هم نجيب بلدي وأمجد الطرابلسي وإبراهيم بوطالب.

 

  • تشرين الأول/أكتوبر 1971، عُيّن أستاذاً للتعليم العالي، بعد أن كان أستاذاً مساعداً عام 1967.

 

  • 1971، صدور أول كتاب للجابري، وكان عبارة عن أطروحته لنيل دكتوراه الدولة: العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي .

 

  • 1973، صدور ثاني كتاب للجابري: أضواء على مشكل التعليم بالمغرب .

 

  • خريف 1974، انتُخب عضواً في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي.

 

  • 1976، إصدار كتاب مدخل إلى فلسفة العلوم في جزأين، وهو الكتاب الذي نهض بالدراسات الإيبيستيمولوجية في المغرب.

 

  • 1977، صدر له كتاب من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية ، الذي خرج من مقدمته مشروع الجابري لقراءة جديدة للتراث.

 

  • 1980، صدر له كتاب نحن والتراث ، الذي يُعتبر في المشرق البداية الحقيقية لمشروع قراءة التراث عند الجابري (نُقل إلى الإسبانية).

 

  • 5 نيسان/أبريل 1981، تقديم الجابري استقالته من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. وكانت الثالثة والنهائية بعد استقالته في 8 تشرين الأول/أكتوبر 1978، واستقالته في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1980 اللتين كانتا قد رُفضتا. وفي إثر هذه الاستقالة، سوف ينصرف الجابري بالكلية ـ اللّهم إلا في ما ندر (الحفاظ على علاقات ودية مع قيادة الحزب، ومواصلة الكتابة في جريدته) ـ إلى العمل الفكري والأكاديمي.

 

  • 1982، صدور كتاب الخطاب العربي المعاصر .

 

  • 1984، صدور الجزء الأول من مشروعه لنقد العقل العربي: تكوين العقل العربي (نُقل إلى التركية كلياً، وإلى الفارسية جزئياً).

 

  • 1986، صدور الجزء الثاني من مشروعه لنقد العقل العربي: بنية العقل العربي (نُقل إلى التركية كلياً، وإلى الفارسية جزئياً).

 

  • 1988، صدر له كتاب إشكاليات الفكر العربي المعاصر (نُقل جزئياً إلى الإنكليزية).

 

  • حزيران/يونيو 1988، الحصول من منظمة اليونسكو على جائزة بغداد للثقافة.

 

  • 1990، صدور الجزء الثالث من مشروعه لنقد العقل العربي: العقل السياسي العربي ، وإجراء الحوار الشهير مع المفكر العربي حسن حنفي على صفحات مجلة اليوم السابع .

 

  • 1991، صدور كتاب التراث والحداثة: دراسات ومناقشات .

 

  • صدور توليفة لمشروعه باللسان الفرنسي تحت عنوان: مدخل إلى نقد العقل العربي (نُقل إلى الإيطالية والإنكليزية والبرتغالية والإسبانية واليابانية والإندونيسية).

 

  • 1994، صدور كتاب المسألة الثقافية .

 

  • 1995، صدور كتابَي المثقفون في الحضارة العربية و مسألة الهوية .

 

  • 1996، صدور كتابَي الدين والدولة وتطبيق الشريعة و المشروع النهضوي العربي .

 

  • أيلول/سبتمبر 1997، إصدار مجلة فكر ونقد (بمعية محمد إبراهيم بوعلو وعبد السلام بنعبد العالي)، وفي السنة نفسها ـ وهي من أخصب سنوات الجابري عطاءً ـ صدور كتب: الديمقراطية وحقوق الإنسان ؛ قضايا في الفكر المعاصر ؛ التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية (نشرته الإسكوا التابعة للأمم المتحدة، ونُقل إلى الإنكليزية)؛ وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ؛ جزء من سيرته الذاتية : حفريات في الذاكرة: من بعيد .

 

  • 1997 ـ 1998، الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة ( فصل المقال ؛ الكشف عن مناهج الأدلة ؛ تهافت التهافت ؛ الكليات في الطب ؛ الضروري في السياسة )، فضلاً عن إصدار كتاب ابن رشد: سيرة وفكر .

 

  • أيار/مايو 1999، الحصول على الجائزة المغاربية للثقافة (تونس).

 

  • 2001، صدور الجزء الرابع من مشروع الجابري لنقد العقل العربي: العقل الأخلاقي العربي .

 

  • تشرين الأول/أكتوبر 2002، الإحالة إلى التقاعد بعد إمضاء خمس وأربعين سنة، تقلّب فيها في مختلف أسلاك التعليم، من معلم إلى أستاذ محاضر.

 

  • الأول من آذار/مارس 2002، الشروع في إصدار سلسلة مواقف، وفيها تجميع لمقالات الجابري وحواراته، وقد بلغت 79 كتيّباً.

 

  • 2005، الحصول على جائزتين: جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي (تشرين الثاني/نوفمبر)، وجائزة الروّاد لمؤسسة الفكر العربي (كانون الأول/ديسمبر).

 

  • 2006، الحصول على ميدالية اليونسكو في مناسبة اليوم العالمي للفلسفة (تشرين الثاني/نوفمبر).

 

  • أيلول/سبتمبر 2005، صدور كتاب في نقد الحاجة إلى الإصلاح .

 

  • أيلول/سبتمبر 2006، صدور كتاب مدخل إلى القرآن الكريم .

 

  • تشرين الأول/أكتوبر 2008، الحصول على جائزة ابن رشد للفكر الحر، وإصدار كتاب فهم القرآن الحكيم .

 

  • 3 أيار/مايو 2010، وفاة المفكر محمد عابد الجابري.

 

 أولاً: «مشروع الجابري» أم «مشاريع الجابري»؟

كان الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور (1913 ـ 2005) قد كتب في ردّه على أحد دارسي فكره من الباحثين الإنكليز، الذين راموا تقديم صورة مجملة عن مساره، فقال: «إن هذه المحاولة بالذات لهي ما يستدعي منّي، على الحصر، امتناناً ودّياً [اتجاه الباحث]، وذلك بسبب من أني عاجز بعجز ذاتي عن تحقيق مثل هذه النظرة الإجمالية [عن عملي]، وذلك لعاملين اثنين متضافرين: أولاً، لأنني مدفوع على الدوام إلى السعي إلى الأمام بفعل مشكلة جديدة تفرض نفسها عليّ، ولأنني، ثانياً، عندما يحدث لي أن أُلقي نظرة إجمالية واسترجاعية على عملي، فإن;ما يدهشني ليس هو الطابع التراكمي لهذا العمل بقدر ما هو أنحاء الانفصالات التي نتجت من متاوهي . وإنني لأميل إلى اعتبار كل عمل من أعمالي كما لو كان جملة مكتفية بذاتها نشأت عن تحدٍّ أملاها، وإلى اعتبار العمل التالي كما لو تَوَلَّدَ هو عن المسائل غير المحلولة التي تخلّقت وتبقّت عن العمل السابق». كذلك هو حال كبار المفكرين على الدوام. وما كان المفكر العربي محمد عابد الجابري بدعاً منهم. كان يتصور «مشروعه الفكري» بوسمه ـ وفق عبارة لطالما وردت على لسانه ـ «مشروعاً» طويلاً كنت أعيش بداياته، ولكن بدون أن تتبين لي نهاية له»، ولمّا سأله أ. محمد وقيدي في الندوة التي عقدتها مجلة الوحدة ، بعد صدور كتابه بنية العقل العربي ، ونشرت في العدد 26 ـ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1986، عن المرحلة التي كان وصل إليها مشروعه آنذاك، أجاب: «يمكن أن أصدر حكماً بأنني لا أعرف أين وصلت، ولا إلى أين سأصل». ولطالما ذكّر هو في حواراته ومذكراته بأمرين: الأول تعددية «مشروعه»، بله «مشاريعه»، و الثاني صدفية بعض التعالقات التي كانت مصيرية فيها.

من جهة أولى، عادة ما جارى الجابري ـ على تحفّظ ـ قرّاءه في الحديث عن «مشروعه الفكري»، بل كثيراً ما تحدث هو عن «مشاريع»، مفضلاً الحديث عمّا سمّاه ذات مرة «تاريخ مشاريعي الفكرية». ومن جهة أخرى، رفض مرات كثيرة الحديث عن ضرب من «التخطيط المسبق» الذي وجّه أعماله، وذلك تلقاء اعترافه بالطابع الصدفي الذي حكم بعض ما صار ثابتاً من ثوابت فكره؛ فما عُرف بأنه مشروعه ـ نقد العقل العربي ـ ما كان مشروعاً عند البدء: «لم تكن لديّ في البداية ـ عندما أخذت في العمل من أجل كتابة تكوين العقل العربي ـ لم تكن لدي فكرة عامة عن المشروع: كيف سيتطور ولا إلى أين سينتهي». والحال أن: «الطريق كان على مراحل. وبطبيعة الحال يأتي نقد العقل العربي في النهاية كمشروع متكامل. لكنه في البداية لم يكن مشروعاً مخططاً له. كان في بدايته عبارة عن دراسات قطاعية أنجزتها لمناسبات معيّنة (ندوات)، ثم جمعتها في كتاب «نحن والتراث» …كان ذلك هو منطلقي في نقد العقل العربي، لكن كيف ننقد العقل العربي؟ من أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟ ذلك ما أنتجته الممارسة». بدأ الجابري بفكرة تأليف كتاب واحد ووحيد في نقد العقل العربي، غير أنه حين شرع فيه، تبيّن له أن عليه أن يقسمه إلى جزأين: جزء خاص بتكوين هذا العقل، وجزء دائر على بنيته، فكان كتاب التكوين (الجزء الأول) وكتاب البنية (الجزء الثاني). ولمّا أنهى الكتابين، تبيّن له أن ثمة جانباً عملياً لهذا العقل لم يتناوله ـ الجانب السياسي ـ فكان كتاب العقل السياسي العربي (الجزء الثالث). ولمّا كانت السياسة لا تنفصل عن الأخلاق، ما كان منه إلا أن ينتهي به المطاف إلى تأليف في العقل الأخلاقي العربي (الجزء الرابع). أكثر من هذا، تبيّن له أن مدار الفكر العربي الكلاسيكي، برمّته، على النص المقدس، فما كان منه إلا أن يباشر هذا النص بالدرس، وكان أن أورث المشروع الأول ـ نقد العقل العربي ـ مشروعاً فرعياً ـ هو فهم القرآن. على أن الجابري كان ينوي تدشين مشروع آخر ـ هو نقد العقل الأوروبي ـ فإذا بقيام الثورة الإيرانية والصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية يصرفه عن ذلك، ويحدو به إلى النظر في موضوع فهم القرآن.

لهذا كله، كان الجابري يرى أن «من الصعب أن يؤرخ لفكره ولتطور فكره». ومع ذلك، فلطالما هو أرّخ لفكره، وذلك في حواراته وإفضاءاته.

والحال أنه يمكن أن نصنّف مجمل مؤلفات محمد عابد الجابري ـ التي درج المهتمون بفكره على تسميتها «المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري»، ولم يعترض على التسمية، وإن قال عنها: «ما أطلق عليه «المشروع الفكري» لمؤلف هذه الكتب أو: «ما سيطلق عليه في ما بعد «المشروع الفكري» لكاتب هذه السطور»، وإن فضّل هو الحديث عنها بصيغة الجمع: «مشاريعي» ـ بحسب طريقتين في التصنيف، كلتاهما ارتضاها المرحوم لنفسه، بل أوحى بها:

الأولى ، تقسيم هذه الكتابات ـ بنيوياً ـ من حيث «مجالات اهتمامها»ـ أو ما سمّاه الجابري نفسه «فضاءات» ـ وذلك إلى أربعة فضاءات:

ـ فضاء قراءة التراث (نقد العقل العربي)، ويمكن أن ندخل فيه كتباً شأن مصنَّفي العصبية والدولة (1971)، و نحن والتراث (1980)، وثلاثيته النقدية (المقدمة إلى المشروع: تكوين العقل العربي (1984)، و بنية العقل العربي (1986)، و العقل السياسي العربي (1990)، و العقل الأخلاقي العربي (2001)، هذا فضلاً عن كتابيه الأخيرين: مدخل إلى القرآن الكريم (2006)، و فهم القرآن الحكيم (2008).

ـ فضاء مناقشة قضايا الفكر العربي المعاصر (نقد الخطاب العربي). ويمكن أن ندرج فيه مؤلَّف الخطاب العربي المعاصر (1982)؛ إشكاليات الفكر العربي المعاصر (1988)؛ المشروع النهضوي العربي (1996)؛ وجهة نظر: نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر (1997).

ـ فضاء المستجدات في الفكر العالمي، أو التعامل مع الفكر الأوروبي نقداً واقتباساً وتبيئة (قضايا الساعة من قبيل «الديمقراطية» و«العولمة» و«حقوق الإنسان» و«الهوية» و«صراع الحضارات»). وقد صدرت له فيه كتب: المسألة الثقافية (1994)؛ مسألة الهوية (1995)؛ الديمقراطية وحقوق الإنسان (1997).

ـ فضاء الشأن المغربي الخاص، وقد أصدر فيه كتباً شأن: أضواء على مشكل التعليم بالمغرب (1973)؛ من أجل رؤية جديدة لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية (1977)؛ المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية…الحداثة والتنمية (1988).

الثانية ، تصنيف كتب الجابري، طريقة تصنيف هذه الأعمال ـ كرونولوجياً ـ بحسب «تطور فكره»، الذي وجد أن المنعطف الأهم فيه هي البحوث التي نشأ منها كتاب نحن والتراث (1975 ـ 1980).

ثانياً: توظيف الإيبيستيمولوجيا في قراءة التراث

بعد حديثه عن مرحلة أولى من مراحل فكره، كما جسّدتها مقالاته الأولى في بعض الجرائد المغربية إلى حدود منتصف السبعينيات من القرن الماضي، صار يتحدث عن «المرحلة الثانية» من مسار حياته الفكرية، التي يجد أنها تميزت بـ’«الانصراف شبه الكلي إلى قضايا الفكر والثقافة»، و«الانقطاع إلى صخرة الثقافة». والحق أن هذا أمر يستدعي ملاحظتين: الأولى هي أن لهذه المرحلة «بداية» بل «بدايات»، و الثانية أن «الانصراف شبه الكلي» لا يعني «الانصراف الكلي»، و«الانقطاع إلى صخرة الثقافة» لا يعني «الانقطاع بالكلية» عن «صخرة السياسة». وإذا صح أن ثنائية الشأن السياسي/الشأن الثقافي هي العلامة الفارقة التي تميز المرحلة الأولى، وهي مرحلة الاهتمام بالسياسة وبالأيديولوجيا، من المرحلة الثانية، التي صارت مرحلة الاهتمام بالفكر والثقافة، فإن هذا لا يعني أبداً أن الرجل هجر السياسة والأيديولوجيا هجراً؛ ففي ما يخص الأيديولوجيا، يعتبر الجابري أنها لازمة من لوازم كل بحث في العلوم الإنسانية: «أنا لا أعتقد أنه من الممكن البحث في الإنسانيات عموماً دون حضور هاجس أيديولوجي صريح أو ضمني»، وما كان البحث في التراث بدعاً من هذا: «إننا لا نستطيع أن ننظر إلى موضوعات التراث «نظرة محايدة» لا مبالية، فالهاجس الأيديولوجي حاضر فينا دوماً عندما نكون إزاء موضوع من موضوعات التراث». وهكذا، «[فـ] إننا لا يمكن أن نقوم ببحث علمي مجرد في التراث بدون أن يكون هناك دافع أيديولوجي». على أن «هذا الدافع … يجب أن نعيه وأن نتصرف على ضوئه بوعي، ذلك خير لنا ألف مرة من أن نغفله، فنتحدث حديثاً أيديولوجياً ونحن نعتقد أننا براء من الأيديولوجيا». وفي ما يخص السياسة، يعتقد أن «السياسة أمر لا غنى عنه، وأننا حتى إن نحن لم نهتم بالسياسة اهتمت هي بنا».

ويعود هذا المنعطف، رسمياً، إلى عام 1980: «إن سنة 1980 لها دلالة خاصة في مساري الثقافي، قد تفسر مسألة «البداية»: فهي السنة التي صدر لي فيها كتاب «نحن والتراث» الذي كان له الدور الحاسم في التعريف بي، في المشرق خاصة لكونه طبع في بيروت»، لكن لا دلالة لهذه السنة هنا إلا تقريبية. هي سنته المشرقية، أما سنة تحوله المغربية فيعود بها إلى أقدم من ذلك، إلى إعداد مداخلته لندوة بغداد الدولية عن الفارابي عام 1975 والتي اعتبرها: «أول نص كتبته كان له ما بعده في حياتي الثقافية على مستوى البحث العلمي والعمل الأكاديمي، بل يمكن اعتباره «البشير الأول» بما سيطلق عليه فيما بعد «المشروع الفكري» لكاتب هذه السطور»، ويضيف: «إن أهميتها بالنسبة لمساري الفكري كانت ـ وما زالت ـ كامنة في أنه شكلت بالنسبة لي نقلة نوعية على صعيد المنهج والرؤية في مجال التعامل مع التراث (…). كانت بالفعل دراسة تدشينية لما سيأتي بعدها من الدراسات التي تشكلت من تراكمها تلك «البداية» الكاملة التي تشخصت في كتابي «نحن والتراث».

وهي دراسة دشّنت بداية التحرر من «الطريقة التي كرّسها المستشرقون في دراسة الفلسفة العربية الإسلامية»، أراد هو في هذه الدراسة، ليس فقط أن يتكلم ««لغة» غير اللغة التي يتكلم بها هؤلاء الشيوخ الكبار»، وإنما أيضاً: «مهاجمة الأفكار التي كرّسوها حول الفارابي حتى صارت من نوع «الأفكار المسبقة» التي تحكمت في فهم هذا الفيلسوف في العصر الحديث». كان منهج هؤلاء منهجاً فيلولوجياً يقتضي النظر إلى فلسفة الفارابي بوصفها جماع فلسفتين (فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو) إن لم نقل ثلاثة (بإضافة الأفلاطونية المحدثة)، وردّ كل مكوّن إلى أصله… أما ما كان يهم الجابري، فقد كان أشياء أخرى؛ منها «المضمون الأيديولوجي للمدينة الفاضلة عند الفارابي»، من حيث إنها كانت تسعى إلى: «تشييد دولة الحرية والإخاء والمساواة، دولة العدل والعقل»، بما يجعل من الفارابي عديلاً لروسو! حيث ورد في مختتم الدراسة: «لقد تطلعت البرجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر إلى تشييد دولة الحرية والإخاء والمساواة، دولة العدل والعقل. وكان روسو بعقده الاجتماعي المعبّر عن تلك التطلعات، فلماذا لا نرى في الفارابي روسو العرب في القرون الوسطى؟».

وقد تصادف أن مهام التدريس ألجأت الجابري إلى تدريس فلسفة الفارابي للطلبة في كلية الآداب في الرباط منذ 1972 ـ 1973 على طريقة المستشرقين، لكنه وهو يفعل كان يتابع باهتمام زائد: «تلك الحركة الفكرية التجديدية، على صعيد المنهج والرؤية، التي ازدهرت في فرنسا منذ أواخر الستينيات في أعقاب ظهور مؤلفات ألتوسير حول ماركس، وخاصة كتابه قراءة ماركس (وإليه يرجع الفضل في نشر مفهوم «القراءة»)، ومؤلفات فوكو وبالخصوص منها «الكلمات والأشياء»…وكان كثير من طلبتنا في الكلية يتتبعون تلك الحياة الفكرية الجديدة التي انبعثت في فرنسا من خلال مؤلفات ألتوسير وفوكو، بعد أن بدأ نجم سارتر ووجوديته في الأفول».

ثالثاً: سؤال كيفية قراءة التراث

يفضي إلينا الجابري: «أذكر هذا [الحراك الثقافي الجديد الذي عاشه الجابري مدرساً للفارابي ومنفتحاً على ألتوسير وفوكو..] لأنه في ذلك الوقت بالضبط، وفي ذلك الجو الفكري الصاخب، طُرح عليّ سؤال أيقظني من سباتي، وكنت أشبه بالنائم الذي أخذ حاجته من النوم ودخل في مرحلة ذلك النوم الخفيف الذي يحس النائم من خلاله أن وقت الاستيقاظ قد حان، ولكنه يتكاسل وينتظر صوت المنبّه! كان السؤال المنبّه من طالب ألقاه عليّ بعد خروجنا من مدرج الكلية بعد انتهاء دروسي عن فلسفة الفارابي، فتحلّق بي مجموعة من الطلبة كالعادة، يسألون ويناقشون، وفجأة سألني أحدهم سؤالاً جعلني أشعر به كشخص نزل من السماء وأخذ مكانه وسط الطلاب المتحلّقين بي! لم يكن قد تكلم من قبل ولذلك لم يثر انتباهي. وعندما تكلم واجهني بهذا السؤال: «أستاذ: كيف نقرأ التراث؟». لم أجب لأني فهمت الأبعاد التي صدر عنها هذا السؤال، ولم يكن من الممكن تقديم الجواب بكلمة أو كلمات ولا حتى بخطبة … فقد فهمت أنه أراد أن يقول: «كيف نقرأ تراثنا العربي الإسلامي كما فعل فوكو في قراءته للتراث الفكري الفرنسي، وكيف نقرأ الفارابي بالطريقة نفسها التي قرأ بها ألتوسير ماركس؟». من هنا شعرت أن سؤال هذا الطالب ليس من الأسئلة التي تُطرح من أجل جواب فوري بل من أجل القيام بمهمة!». أكثر من هذا، «شعرت أن الطريقة التي كنت أدرّس بها الفارابي وغيره من فلاسفتنا القدامى لم تعد مرتفعة إلى مستوى تطلعات طلابنا، وأنه صار حتما عليَّ أن أُعدّ نفسي لكي أستطيع الارتفاع بدروسي إلى هذا المستوى».

والحال أنه تصادف أن الجابري كان يدرس الإيبيستيمولوجيا ـ فلسفة العلم ـ وقتذاك، بمبادرة شخصية [منذ أوائل السبعينيات] بالموازاة مع الفلسفة الإسلامية. وبما أن الفيلسوفين الفرنسيين المجددين فوكو وألتوسير كانا ينتميان ـ في تصوره ـ إلى هذا المبحث الفلسفي، فقد اعتبرها صدفة سعيدة: «من هنا جاء الجواب الضمني الذي أخذ يعتمل في نفسي كردٍّ على سؤال الطالب المشار إليه: «كيف نقرأ التراث يا’أستاذ؟» في صورة إحساسي بضرورة الانتقال من الطرح الأيديولوجي الدوغمائي الذي يستورد المنهج الماركسي مطبقاً (…) إلى البحث الإبستمولوجي». فإذن، كانت المادة متوافرة [التمرس على فلسفة الفارابي]، وأساسيات المنهج موجودة [التمرس على المنهج الإيبيستيمولوجي]، وما عاد ثمة إلا أمر «تطبيق المنهج على المادة».

تعكس بعض فقرات مقدمة كتابه من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية (نيسان/أبريل 1977) ما سيتصدر المدخل العام لكتاب نحن والتراث ، وفيه تعبير عن الحاجة إلى ما كان يسميه «قراءة جديدة لتراثنا»، ذلك أن التراث: «عولج ويعالج بمناهج مختلفة، وبالتالي انطلاقاً من رؤى معيّنة صريحة أو ضمنية، ولكننا رغم تعدّد المناهج والرؤى ما زلنا نحس بالحاجة تتزايد لقراءة تراثنا قراءة جديدة». وهو ينبذ هنا مناهج أربعة لطالما انتقدها في ما بعد: «المنهج السلفي» الذي عدّه «منهجاً انتقائياً يسعى إلى تأكيد الذات أكثر من سعيه إلى أي شيء آخر»، و«المنهج الاستشراقي» الذي تؤطره: «رؤى تمليها نزعة «التمركز حول أوروبا»، والمحاولات التي «تتبنى الرؤية الماركسية، لا لتسترشد بها كمنهج بل تأخذ الماركسية في غالب الأحيان كمقولات وقوالب جاهزة جامدة»، ثم «الدعوات إلى تطبيق «البنيوية» والاستعانة بعلم اللسانيات المعاصر والأنثروبولوجيا البنيوية»، وهي دعوات «لا يمكن أن تؤدي إلا إلى طرق مسدودة، إلا إلى تكريس الانحطاط والجمود بدعوى إخضاع المتغيرات إلى الثوابت التي تحكمها»، وذلك لأن البنيوية: «باهتمامها بالكل أكثر من الأجزاء، وبنظرتها إلى الأجزاء في إطار الكل الذي تنتمي إليه ضرورية لاكتساب رؤية أشمل وأعمق، لا تكفي وحدها، بل لا بد من المزاوجة بينها وبين النظرة التاريخية، النظرة التي تتتبّع الصيرورة وتعمل جاهدة على ربطها بالواقع لاكتشاف العوامل الفاعلة فيها الموجهة لها». وما يخلص إليه هو ما صار يعرف به على أنه منهجه في قراءة التراث قراءة جديدة: «هذه المزاوجة بين المنهج البنيوي والمنهج التاريخي والطرح الأيديولوجي ـ الواعي ـ هي الأساس المنهجي للرؤية التي نحاول اعتمادها في معالجة بعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية التي عرضناها في هذه المقالات …».

تتصادى هذه الأرسومة المنهجية والمدخل الذي صَدَّرَ به كتاب نحن والتراث ـ وقد صدر عام 1980 ـ إلا أن بينهما كانت محطة نيسان/أبريل 1978 وبحث الندوة التي نظمتها كلية الآداب في الرباط عن ابن رشد «المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس: مشروع قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد»: «كان بحق علامة فارقة في مساري الفكري، خاصة على مستوى البحث في التراث»، ثم كانت المحاولة التي قدمت بندوة ابن خلدون التي عقدتها الكلية نفسها في شباط/فبراير 1979: «ما تبقى من الخلدونية: مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون»، فمداخلة ندوة «الفكر العربي والثقافة اليونانية» في كلية الآداب في الرباط: «ابن سينا وفلسفته المشرقية: حفريات في جذور الفلسفة العربية الإسلامية في المشرق» [لاحظ هنا الأثرين: أثر ألتوسير ـ مفهوم «القراءة» و«القراءة الجديدة» ـ الذي تكرر في عناوين المداخلات، ومفهوم «الحفريات» الذي يشي بأثر فوكو].

وبالجملة، «تأتي هذه الدراسات والأبحاث لتشكّل… سلسلة متصلة الحلقات على مدى خمس سنوات بدايات متجددة ومتكاملة حققت تراكماً، كمّاً وكيفاً، أنتج تلك البداية التأسيسية التي أرساها كتاب «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»».

والحال أن مشروع الجابري، منظوراً إليه في جملته، كان مشروعاً بينياً توسطياً، بين:

1 ـ «الدعوة التي تنادي بقبول التراث جملة وتفصيلاً»، وذلك لأنها: «دعوة لا تاريخية غير منتجة»، «وكل ما يمكن أن تفعل هو أن تجعل ماضينا منافساً لحاضرنا باستمرار، الشيء الذي قد يصنع منا كائنات تراثية لا كائنات لها تراث»: نملك التراث أم يملكنا، نحيا في التراث أم يحيا فينا، نحتوي التراث أم يحتوينا: تلك هي المسألة عند الجابري.

2 ـ «أولئك الذين يقفون من التراث موقف الرفض الكامل»: من شبلي الشميّل إلى عبد الله العروي، مروراً بسلامة موسى وغيره، والذي عنده أن هؤلاء: «هم مستلَبون، لأنهم عندما يرفضون تراثهم العربي الإسلامي يقبلون قبولاً غير واع تراثاً آخر يتخذون منه منظومتهم المعرفية»، وعنده أن الارتباط بالتراث الإنساني العالمي مطلوب، لكننا نحيا في عالم من الصراع الأيديولوجي مخدوم بمفهوم «الخصوصية» و«الهوية»، بل: «إن تطوير العقل العربي أو الفكر العربي أو تجديده أو تكسير بنية الفكر القديم يجب أن يتم من خلال ممارسة هذا الفكر القديم نفسه، من خلال العيش معه، من خلال نقده من الداخل، من خلال التعامل معه، وليس من خلال رفضه رفضاً مطلقاً». أكثر من هذا، لا يريد الجابري الاكتفاء بمجرد دراسة التراث دراسة أكاديمية موضوعية ومحايدة، وكأنه تراث الغير، وكأنه ما بقي يفعل فينا (تحقيقه، شرحه…)، وإنما يريد هو ما يسمّيه أحيانا «استعادته»، وأحياناً أخرى «تملكه»: «إننا لسنا محايدين، نعم يجب أن نفصل التراث عنا لندرسه دراسة علمية، ولكن لا لنقف عند حدود الدراسة، بل لكي نعيده إلينا… إننا لا نمارس نقداً حيادياً بل نمارس نوعاً من النقد الذاتي، بمعنى أننا ندرس التراث من أجل أن نوظفه في إعادة بناء ذاتنا الوطنية القومية وليس فقط من أجل أن نفهم موضوعاً من الموضوعات». ولهذا، فإنه: «في نظري إنه من الضروري أن ندخل في حوار نقدي مع أسلافنا، وذلك من أجل فهمهم فهماً أعمق وربطهم بنا بشكل من الأشكال، كلما كان ذلك ممكناً. وبعبارة أخرى، إنني أعتقد أن علينا، في المرحلة الراهنة، أن نجعل مقروءنا التراثي معاصراً لنفسه، بمعنى أن لا نحمله ما لا يستطيع، أن نفهمه على ضوء محيطه التاريخي ومجاله المعرفي وحقله الأيديولوجي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى علينا أيضاً أن نجعل مقروءنا التراثي هذا معاصراً لنا على صعيد الفهم والمعقولية. وهذا لا يتأتّى إلا بالدخول معه في حوار نقدي يطلعنا على جوانب الخصوبة وجوانب الضحالة في موروثنا الفكري».

ومن دواعي العودة إلى التراث وبواعثه عند الجابري:

1 ـ «لقد قامت النهضة العربية الحديثة، أو ما يسمى بهذا الاسم على أساس توفيقي: بعث الماضي أو ما يُعتبر فيه مشرقاً، والأخذ من الحضارة الحديثة ما ينسجم مع هذا الوجه المشرق من تراثنا. الانطلاقة كانت إذن انتقائية توفيقية، فكأننا أردنا أن نؤسس الاستمرارية بواسطة شيء خارج هذه الاستمرارية، أي ما يقتبس من الغرب. هذه النظرة بطبيعة الحال نظرة لا نقدية، لا تاريخية. ذلك أن المفروض في كل بداية جديدة حقيقية هو الانطلاق من نقد القديم. وعندما نقول نقد القديم فإن هذا يعني أساساً نقد العقل، لأن الموروث الثقافي ليس هو ذلك الذي تضمه المخطوطات والكتب، بل الموروث الثقافي هو دائماً ما يبقى في فكر الإنسان بعد أن ينسى كل شيء».

يلاحظ هنا أن تصور الجابري للتراث هو غير التصور المنسوب إليه: التراث = المؤلفات التراثية، ومن ثمة عدم وجاهة النقد الذي وجّه إليه بوصفه اهتم بالتراث من حيث هو «ثقافة عالمة»، ولم يهتم به من حيث هو «ثقافة شعبية»، ذلك بأن منذ أن عثر الجابري على تعريف الفرنسي هيريو الذي يقول بأن الثقافة هي ما يبقى في ذهننا بعد أن ننسى كل شيء، وهو مغرى بهذا التعريف، بل أعمله حتى في فهم معنى «التراث»: التراث هو ما يفكر فينا حتى من غير أن نعي ذلك.

بناء عليه، فإن: «البداية الحقيقية التي تستحق هذا الاسم يجب أن تكون بداية نقدية. النهضة الأوروبية الحديثة بدأت بداية نقدية جديدة مع غاليلو وديكارت، واستمر النقد ونقد النقد ملازمان [ملازمين] لتلك النهضة، يغذيها وينميها ويحملها على مراجعة نفسها باستمرار. أما النهضة العربية الحديثة فلم تعش، وما زالت لا تعيش، لحظة النقد، نقد العقل. وإذن، فالسؤال: لماذا الابستمولوجيا؟ يجد جوابه في شعورنا بالحاجة إلى تأسيس انطلاقة فكرية عربية جديدة على أساس من النقد المنهجي للفكر وأدواته، حتى إذا رجعنا إلى التراث رجعنا إليه بعقول جديدة لا بعقول تراثية، فنتمكن من احتوائه بدل من أن يحتوينا كما هو الحال الآن».

2 ـ «من خصائص «العربي المعاصر» أنه مندمج في الماضي، منخرط في صراعاته، يعيشه لا كشيء مضى بل كواقع حاضر. بعبارة أخرى، إن العربي المعاصر يعيش في وعيه زمنه الثقافي ممتداً كامتداد الصحراء، فلا تتابع: لا سابق ولا لاحق، وإنما حضور على نفس البساط؛ فليس الماضي منافساً للحاضر فحسب، بل هو يحل محله. أكثر من هذا، صورة المستقبل الآتي تشيد على غرار «المستقبل الماضي». لهذا، عادة ما حين يفكر العربي في المستقبل يبحث عنه، بالأولى والأحرى والأجدر، في ماض ممجّد. ولهذه الحيثيات، «لا يمكن للعرب كأمة لها تاريخها وتراثها، أن يتحرروا من هذا التراث ويرموه في البحر، هذا غير ممكن نهائياً، ولذلك فالمطلوب منا هو استيعاب هذا التراث استيعاباً عقلانياً، وهذا الاستيعاب العقلاني يعني أول ما يعني ليس فقط نشر النصوص وتحقيقها وتوفيرها ـ هذه مرحلة تقنية تتعلق بتحضير المادة لا أتحدث عنها ـ وإنما يعني أن التعامل مع هذه النصوص التراثية، التاريخية، يجب أن يتم بشكل عقلاني». ومن ثمة إلحاح الجابري، في كل ما كتب، على أن التجديد لا يمكن أن يحدث إلا من داخل التراث نفسه، وذلك باستملاكه استملاكاً نقدياً.

تلزم عن هذا التصور نتائج عدة، منها:

ـ الدعوة إلى «تحرير الذات من التراث قصد السيطرة عليه»: يريد أن نملك التراث، لا أن يملكنا كما هو واقع الحال، نطمح إلى أن نعي به، لا إلى أن يعي ذاته من خلالنا. ذلك أن واقع حالنا يشي بأننا لا نفكر في التراث، وإنما التراث يفكر فينا، وأننا لا نتكلم في التراث، وإنما التراث يتكلم فينا.

ـ «تنظيم التراث في وعينا هو إعادة ترتيبه في سياقه التاريخي، إدخاله في التاريخ حتى ندخل نحن أنفسنا من خلاله في التاريخ. وإننا ما لم نؤسس ماضينا تأسيساً عقلانياً، فلن نستطيع أن نؤسس حاضراً ولا مستقبلاً بصورة معقولة»

ورغم أنه عادة ما ينتقد التذرع بتراث الغير، فإنه، من حيث يعي أو لا يعي، يعود دائماً ليقارن بتجربة عادة ما كان يتخذها حذوة وإن لم يصرح بذلك تمام التصريح: «تاريخ أوروبا الفكري هو تاريخ الاستيعاب النقدي لتراثها الروماني ـ اليوناني. أما نحن فلا! فعندما نعود إلى التراث، ندافع عنه ونتعامل معه كصندوق عجائب، منه نستمد الأصيل، منه نستمد القوة، ليكن ذلك! لكن نريد أن نكون ذواتاً مستقلة. هذا ما أقصده عندما أقول إن تعاملنا مع التراث يجب أن يمر في آن واحد بلحظتين متلازمتين: لحظة الفصل ولحظة الوصل: أن نفصل عنا هذا التراث ونضعه في مكانه التاريخي وننتقده ونرتبه في نظام الحياة التي عاشها، ولكن أيضاً نعيده كشيء لنا».

ولذلك، فإن مشكلة الجابري مع التراث ليس مشكلة معرفية، بالأولى، وإن أسهم في تحقيق وإعادة نشر نصوص التراث. إنما مشكلته مع التراث مشكلة منهجية: «لم أكن أريد أن أضيف شيئاً جديداً إلى الفهم العربي المعاصر للتراث، بل كنت وما زلت أطمح إلى أبعد من هذا، وهو تغيير هذا الفهم، أو على الأقل بثّ الوعي على ضرورة تغييره، لماذا؟ لأن الفهم العربي المعاصر للتراث هو إما يقع داخل التراث نفسه فهو فهم تراثي للتراث، وإما يقع خارج التراث، أي مرتبط بإطار مرجعي بعيد عن هذا التراث، وبالتالي فهو ينظر إليه نظرة إثنوغرافية، كما يفعل الباحث في حياة الشعوب البدائية. أريد إذن أن أقترح قراءة جديدة للتراث تجعل هذا التراث معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في ذات الوقت».

وما معنى أن يصير التراث «معاصراً لنفسه»؟ «معاصراً لنفسه»، بمعنى وضعه في إطاره التاريخي الاجتماعي الاقتصادي المعرفي الأيديولوجي».

وما معنى أن يصير «معاصراً لنا»؟ «معاصراً لنا»، بمعنى النظر إليه نظرة تاريخية تعتمد على إضفاء المعقولية على الشيء المقروء، وبالتالي البحث فيه عمّا يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية، وهي المهمة الملحة المطروحة في الظرف الراهن».

فقد تحقق بهذا أن الموقف من التراث يتمثّل في ضرورة إجراء ما يسميه «حواراً نقدياً» مع التراث، الذي يرادف معنى إجراء «حوار عقلاني» معه؛ فهو موقف بين من يرفض محاورة التراث بالكلية، أو ينتقده النقد المؤدي إلى رفضه بالجملة، ومن يقبل عليه بالكلية، بحيث لا يكون هناك نقد للتراث وإنما تبنّ عقدي له.

وليس يتم هذا الحوار، عنده، من غير شجاعة على إجراء النقد. لكن أيضاً بدون مراعاة بعض آداب الحوار، ومنها: «أما أن نقوم هكذا بهتك حرماتنا، فلا يمكن. لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور ونتطور معها، حتى لا نقفز على التاريخ». وذلك في نقد منه لمحاولة المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي إجراء نقد على التراث بوصفه لاهوتاً: «لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يتحمل ما يمكن أن نعبّر عنه بنقد لاهوتي»، ذلك أن: «لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية المهيمنة، ولا درجة النضوج الثقافي لدى المثقفين أنفسهم، يسمح بهذا النوع من الممارسة الفولتيرية للنقد اللاهوتي، ولا السياسة تسمح…».

هذا مع تقدم العلم إن إعادة بناء الذات العربية عملية لا يمكن أن تتم عن التراث بمعزل. وحتى عندما يتحدث الجابري عن «هيمنة التراث على العقل في العالم العربي»، فهو لا يفعل ذلك لكي يبعد هذه الهيمنة، وإنما يضيف: «وعندما أقول التراث أعني التراث كما انحدر إلينا تاريخياً، أي في شكله المعتم، في شكله المتراجع. هذا التراث الذي لم نقم بعد بإعادة تأسيسه، إعادة قراءته، وإعادة نقده حتى نستطيع أن نؤسسه من جديد، ونؤسس عليه نهضتنا الفكرية».

لهذا أنت واجده في كل كتاب تراثي حققه أو أشرف على تحقيقه يضع في عنوانه الفرعي «دليل قراءة» هو الذي ينم عن رغبته في تحقيق هذه القراءة الجديدة التي لطالما وعد بها. هذه أمثلة:

ـ «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة أو نقد علم الكلام ضداً على الترسيم الأيديولوجي للعقيدة، ودفاعاً عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والفعل». واضح هنا أن محددات القراءة لكتاب ابن رشد ثلاثة، واحدة سلبية، «نقد علم الكلام ضداً على الترسيم الأيديولوجي للعقيدة»، واثنتان إيجابيتان: «دفاعاً عن العلم» وعن «حرية الاختيار في الفكر والفعل». هل كان ابن رشد على وعي بمفهوم «الترسيم الأيديولوجي للعقيدة»؟ هل كان فعلاً يؤمن بالعلم، وأي علم؟ هل كان يؤمن بالحرية بالمعنى الذي صارت تعنيه في الأدبيات السياسية الحديثة؟ هذه مجرد أسئلة يطرحها من يريد أن يسترشد في قراءته للتراث بالحس التاريخي.

ـ «تهافت التهافت انتصاراً للروح العلمية وتأسيساً لأخلاقيات الحوار». هلاّ كان تصور ابن رشد الأرسطي للعلم انتصاراً بالفعل للروح العلمية؟ وهل كان بالفعل تأسيساً لأخلاقيات الحوار؟

على أن قراءة التراث لا يمكن أن تكون قراءة بلا ضوابط. فمن ضوابط قراءة التراث عنده:

ـ القراءة «المحايدة» و«الموضوعية» و«الأكاديمية» للتراث لا تكفي: «إننا لسنا محايدين؛ نعم يجب أن نفصل التراث عنا لندرسه دراسة علمية، ولكن لا لنقف عد حدود الدراسة، بل لكي نعيده إلينا».

ـ النقد «الحيادي» للتراث لا يكفي: «إننا لا نمارس نقداً حيادياً بل نمارس نوعاً من النقد الذاتي، بمعنى أننا ندرس التراث من أجل أن نوظفه في إعادة بناء ذاتنا الوطنية القومية، وليس فقط من أجل أن نفهم موضوعاً من الموضوعات». ـ لا يستنكف الجابري عن الأخذ من فكر الغير، فهو يقرّ بأنه اقتبس مفهوم «القطيعة الإبستمولوجية» من باشلار وبيّأه بيئة الدراسات التراثية، وهو يقرّ أيضاً بأنه استعار «عبارة «الاستقلال التاريخي للذات» من غرامشي حيث ناديت في خاتمة كتابي «الخطاب العربي المعاصر» بضرورة الاستقلال التاريخي للذات العربية». ويحدد الجابري هذا المفهوم على جهة السلب وعلى جهة الإيجاب؛ فعلى جهة السلب: «إن الاستقلال التاريخي لا يعني رفض التفتح، لا يعني التقوقع داخل التاريخ القومي والثقافة القومية، وبصفة عامة الاستقلال التاريخي ليس معناه الاستقلال عن «الآخر» والاستسلام للماضي، للتراث…». وعلى جهة الإيجاب: «لقد ربطت هذا «الاستقلال التاريخي» بالتحرر من الآخر؛ أي الفكر الأوروبي ومن التراث معاً، التحرر منهما بمعنى امتلاكهما بعد فحص نقدي. وإذن، فإن: «الاستقلال التاريخي للذات» لا يتناقض مع تفتحنا على الفكر العالمي ولا مع التراث، بل الاستقلال التاريخي يعني التعامل معهما تعاملاً نقدياً، تكون الذات خلاله مالكة لزمام أمرها، غير مندمجة في موضوعها، بل تعمل على دمجه فيها، على احتوائه وامتلاكه بقدر حاجتها وحسب نوع هذه الحاجة».

رابعاً: في نقد الخطاب العربي المعاصر

يعتبر الجابري أن الفكر العربي الحديث والمعاصر مرّ بمرحلتين هما:

مرحلة تأكيد الذات ، وهي مرحلة ردة الفعل على الهجمة الاستعمارية التي بدأت في القرن التاسع عشر، وكانت من القوة والعنف بحيث ألجأت مفكري العرب إلى اللواذ بالماضي باعتباره الحصن الحصين للدفاع عن الذات وتأكيدها وبعث الثقة فيها. لهذه الحيثية، اتجه عرب النهضة إلى تمجيد التراث والتنويه بالذات بغاية مواجهة ذاك التحدي. يقول عن هذه المرحلة: «هذه المرحلة هي الآن بصدد الانتهاء وقد طالت أكثر من اللازم».

مرحلة إعادة بناء الذات ، وهو يعتبر أن مشاريعه الفكرية تنخرط في هذه اللحظة بالذات: «عندما ندرس التراث … فإننا إنما نفعل ذلك لكي نبني ذاتنا، لكي نطور وعينا، لكي نكوّن لأنفسنا نظرة عن العالم، لكي نفهم». وهي مرحلة تنتقل بالعرب من موقف «التمجيد» إلى موقف «الحوار النقدي». ويعتبر الجابري مشروعه الفكري داخلاً في هذا الإطار باعتباره: «إعادة تأسيس الذات على أسس جديدة تجد مرتكزاتها في بعض نقاط الماضي». ويردّ على من قد يتهمه بالتوفيقية الجديدة، فيقول: «مثلاً سيكون الموقف تأسيسياً جديداً إذا قلنا لنؤسس عقلانية جديدة للتراث مع طموح إلى إعادة بناء الذات؛ فالموقف إذن ليس انتقائياً بل هو إعادة تأسيس».

وعنده أن الفكر العربي المعاصر وعي غير مطابق لواقعه: فإما هو مطابق لواقع مضى [الماضي]، وإما مطابق لواقع غير واقعه [الغرب]. هذا ما فتئ الجابري يردده على مدى ما يفوق ربع قرن كلما تناول الحديث عن الفكر العربي المعاصر من كتابه الخطاب العربي المعاصر (1982) إلى آخر حواراته. يقول في هذا الصدد: «[الفكر العربي المعاصر] إما نتاج وضعية مضت وإما نتاج وضعية لم نعشها بعد! بعبارة أخرى، الفكر العربي هو أيديولوجيا بمعنى أنه منقول إلى العرب المعاصرين إما من ماضيهم أو من ماضي وحاضر غيرهم. ليست هناك إذن مطابقة بين الفكر والواقع في العالم العربي، وهذا ما يجعل الفرد العربي يعيش نوعاً من الانفصام، فذاته هي دوماً خارج ذاته. البعض منا يجد ذاته متحققة في التراث العربي الإسلامي، فيتخذ منه أيديولوجيا الحاضر والمستقبل، والبعض الآخر منا يجد ذاته متحققة في فكر الغير، فيتخذ منه أيديولوجيا لحاضره ومستقبله».

ويستعرض الجابري جميع الخطابات العربية المعاصرة، فلا يجد فيها إلا الأيديولوجيا بمعنى الفكر غير المطابق لواقعه. وما كان الجابري ضد الأيديولوجيا بالمرة، وإنما هو ضد معنى للأيديولوجيا خاص [الوعي غير المطابق للواقع]، أما الأيديولوجيا بمعنى «الوعي المطابق للواقع»، فهو يتبنّاها أشد ما يكون التبنّي، واسمها عنده «العقلانية»: «كيف نريد من الفكر العربي الحديث والمعاصر أن يكون فكراً عقلانياً، ذلك لأن العقلانية هي أساساً تعبّر أو تعكس مطابقة الفكر للواقع مطابقة علمية تقوم على الترابط السببي، أو تطمح إلى تحقيق هذا النوع من المطابقة. فالفكر الذي لا يطابق واقعه؛ أي لا يفهمه فهماً سببياً، لا يمكن أن يكون عقلانياً».

ويقيم الجابري ضرباً من المماهاة بين «العقلانية» و«العلم» و«السببية»: «إن التخلّف الذي نعاني منه فكرياً هو التخلّف المرتبط باللاعقلانية، بالنظرة السحرية إلى العالم والأشياء، بالنظرة اللاسببية». ثم إنه لا يكاد يفصل بين «العقلانية» وما يسميه «الروح النقدية»: «الدراسات الإبستمولوجية تمكّن المرء، وتمكّننا نحن خاصة، من الروح النقدية، من هذا الذي ندعوه بالعقلانية…».

خامساً: مشروع نقد العقل العربي:

من نقد العقل النظري إلى نقد العقل العملي

في البدء كان عصر التدوين، عند بداية العصر العباسي، حيث أقبل العرب، بحسب عنوان كتاب شهير للخطيب البغدادي، على «تقييد العلم» ـ ذاك العلم الذي سرعان ما تقيدوا به بعد أن قيدوه، أو قل سرعان ما صار يفكر فيهم [العقل المكوِّن] بعد أن فكروا فيه [العقل المكوَّن]. هو ذا العقل النظري العربي قد نشأ. وليس يعني هذا أنه ما كان للعرب من عقل قبل التدوين، إذ مذ كان العربي كان عقله معه، وإنما الوعي بالعقل وتدوينه هما ما شكّلا الفارق.

والمحلل لثوابت هذا العقل يكتشف أنه إنما حكمته دوماً، وما تزال تحكمه، سلطات ثلاث: سلطة اللفظ، وسلطة الأصل، وسلطة التجويز؛ فهو أبداً عقل مشغول باستقصاء الألفاظ والصور والاستعارات والكنايات والمجازات، بعيداً عن الاستعقال والاستدلال، حتى قال الجاحظ حاكياً عن لسان العرب: «نحن أمراء البيان». والعقل العربي مؤصِّل على الدوام لكل ما يطرأ عليه، بحيث تراه يؤصل لما يكون’ـ يعتبره إما نسخة وإما مسخة ـ لما كان. والعقل العربي مؤمن بالجواز والإمكان لا بالضرورة والسبب، حتى لأنك تجد من بعض أهل الصوفية من ذهب إلى حد القول: إن خروجك في طلب الرزق صباحاً تشكيك منك في أن الله قادر على أن يرزقك. والحال أن: «هذه السلطات الثلاث موروثة، تتكرر في ثقافتنا وفكرنا، يرثها الصغير عن الكبير. وكل من ينتمي إلى ثقافتنا يتأثر بها. فمن الناحية العملية، يمكن القول إن العقل العربي محكوم بهذه السلطات الثلاث».

وقد ميّز في هذا العقل بين ثلاثة «نظم معرفية» هي: «النظام البياني» و«النظام العرفاني» و«النظام البرهاني»، ولكل واحد أصوله وآلياته. أصل الأول استضمار نصوص التراث الجاهلي والنص القرآني، وأما مبادئه، فهي الانفصال والتجويز والقياس (قياس الغائب على الشاهد أو الاستدلال بالأثر والعلامة والأمارة…). وأصل الثاني العرفان الغنوصي. وأما الثالث فأصله «برهان» أرسطو.

على أن هذا العقل ـ بشقيه النظري (المعرفي) والعملي (السياسي والأخلاقي) ـ ما انتهى في زماننا هذا وإنما ما يزال يفعل فعله، ومن ثمة جاز تشريحه ونقده: «إن العقل العربي الذي نتحدث عنه، أعني الذي حللته في كتابي ما زال قائماً فينا، ما زالت مكوناته حاضرة في فكرنا وثقافتنا».

هذا في ما تعلق بالعقل النظري، أما العقل العملي، فيتفرع عند الجابري، على عادة القدماء، إلى عقل سياسي وآخر أخلاقي:

إذا كان الجابري قد قسم نظم المعرفة في الثقافة العربية ـ من الناحية النظرية ـ إلى ثلاثة: النظام البياني، والنظام العرفاني، والنظام البرهاني، فإنه لمّا وجد أن العقل السياسي عقل عملي، بالأولى والأحرى، وليس عقلاً نظرياً، ألجأه ذلك إلى البحث لا في «النظم» وإنما في «المحددات» التي كانت تحدد هذا العقل، فكان أن وجدها ثلاثاً، عليها مدار النظر والممارسة السياسيين: «القبيلة» و«الغنيمة» و«العقيدة». وقد دعا الجابري إلى تحويل «القبيلة» في مجتمعنا إلى لا قبيلة، أي إلى تنظيم سياسي واجتماعي. كما دعا إلى تحويل «الغنيمة» إلى اقتصاد «ضريبة»، وتحويل «العقيدة» المذهبية إلى مجرد رأي. ذلك كله رغبة منه في تحقيق «الحداثة السياسية» من حيث هي تقوم على مبدأي «الديمقراطية» و«العقلانية».

وفي ما يتعلق بأمر «العقل الأخلاقي»، وجد الجابري أن ليس في الإمكان أن نطبق على هذا العقل ـ العملي بدوره ـ لا ثلاثية العقل النظري ـ البيان والعرفان والبرهان ـ ولا حتى ثلاثية العقل السياسي ـ القبيلة والغنيمة والعقيدة، وذلك لأمرين: مخافة التكرار، واختلاف الموضوع. ولهذا استعرض الجابري القيم الأخلاقية التي جاءت في كتابات العرب الأخلاقية، على قلّتها، مستعملاً في ذلك المنهج البنيوي الذي لطالما اتّبعه، وهو المنهج الذي يقوم على استعمال مفهوم «النظام»، ومن ثمة يحيل إلى فكرة «البنية» أو «الثابت والمتغيرات»، فوجد أن المنظومة الأخلاقية العربية بدأت تتبلور في آخر العصر الأموي لدى كتّاب الخلفاء، حتى تلخصت في قيم «الطاعة» و«السعادة» و«الفناء». وقد ردّ هذه القيم إلى أصولها: أصل «الطاعة» موجود في الأخلاق الفارسية، وأصل «السعادة» مردود إلى الأخلاق اليونانية، وأصل «الفناء» مُسْتَقَى من الهرمسية. تاريخياً، ظهرت الأخلاق، أول ما ظهرت، أخلاقاً فارسية مدارها على مفهوم «الطاعة»، ثم ما فتئت أخلاق السعادة أن برزت مع ترجمة الموروث الإغريقي. وكان التصوف حاملاً لقيمة الفناء الغنوصية. وكان لا بد من إحياء الموروث العربي الخالص ـ كردّة فعل على التأليف الأخلاقي الذي غَلَّبَ القيم المتقدم ذكرها ـ من حيث دل هذا الموروث على حقل قيم مداره على قيمة «المروءة». وقد صارت هذه القيمة متوافقة مع قيمة القيم في الموروث الأخلاقي الإسلامي: قيمة «العمل الصالح».

سادساً: في فهم القرآن

الجرأة على تفسير القرآن، بله تأويله، أمر فاش بين مسلمي اليوم، عرباً وغير عرب، حتى صار بعض الباحثين إلى الحديث عما سمّاه «التفسير المتوحش للقرآن»؛ إذ الحال الذي صرنا إليه اليوم أنه: «بسهولة يتم تكفير الناس، وبسهولة يتم تفسير النصوص … بسهولة يستشهد شخص بآية ما». وقد حدا هذا الشعور بالجابري إلى الرغبة في أن يوضح أن التعامل مع القرآن بتلك «السهولة الغريبة» أمر عجب، وأنه لا بد أن يعلم هؤلاء المستسهلون أن التعامل مع القرآن له شرائطه الخاصة، وأن فهمه يتطلب عدة ثقافية خاصة، ذلك بأن من ضوابط الفهم والتفسير التي انتهت إليها «تأويليات النص ذي السلطان»’ـ والقرآن نص ذو سلطان، بل هو النص ذو السلطان الأكبر والمطلق عند المسلمين ـ أن:

ـ القرآن كتاب تاريخي، ولذلك، لا بد، للتعامل معه، كما يقول الجابري، من فكر تاريخي متتبع لتطور الثقافة العربية، لا سيما منها الجانب الكلامي والفقهي.

ـ القرآن كتاب نزل منجماً في مدة 23 سنة. وخلال تلك السنوات المديدة، كان ينزل مرة آية أو آيات ومرة سورة، وكانت له أسباب نزول وحيثيات هي عبارة عن وقائع اجتماعية. ولهذا، فإن الطريق إلى معرفة القرآن هي: «التعامل معه على أساس ترتيب النزول لسوره»، من أول آية نزلت إلى آخر آية، وذلك عكس ما درج عليه المفسرون من التفسير بحسب ترتيب المصحف، فيبدأون، بعد الفاتحة، بسورة البقرة التي هي، على التحقيق، تتويج التنزيل، حتى قال المستشرق الفرنسي: «نحن نقرأ القرآن مقلوباً». وتلك هي ما يسمّيها الجابري: «القراءة التاريخية» التي يبتغي من خلالها إقامة تطابق بين نزول القرآن والسيرة النبوية، وذلك على اعتبار أن نزول القرآن وحياة الرسول متساوقان. وإذ هو فعل، فإنه جابه الكثير ممّا سماه «الأفكار المتلقاة» ـ وليس «المسلمات الإيمانية» ـ بالتشكيك: شأن فكرة «أمّية النبي».