في مثل هذا الشهر (نيسان/ أبريل) من عام 1946، خرج آخر جندي ومدني فرنسي من سورية، فنالت استقلالها السياسي وظهرت على الساحة الدولية والإقليمية كدولة «جمهورية – برلمانية» مستقلة عضو في هيئة الأمم المتحدة (التي اسهمت في مشاورات تأسيسها) وكعضو مؤسس في جامعة الدول العربية. ومنذ ذلك التاريخ تتعرض سورية لشتى أنواع الأزمات والمؤامرات والمناورات التي تستهدف كيانها كدولة ووجودها كدور ووطن ومجتمع، وصولاً إلى شن حرب لا هوادة فيها ابتداءً من منتصف آذار/ مارس 2011، بدأت كحركة احتجاج على سوء الأحوال المعيشية وارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات العامة، في الوقت الذي كانت تتهيأ مجموعات متعددة لإحداث الشغب وشن هجمات إرهابية على السكان الآمنين وعلى رجال الأمن والمؤسسات العامة.
وتصاعدت العمليات الإرهابية حتى وصلت إلى تخريب البنى التحتية وقطع الطرق حاملة شعارات معادية للدولة والشعب تحت عناوين شعبوية ودينية وطائفية، يراد منها إشعال نار الفتنة والتحريض الطائفي بدعم خارجي بالسلاح والمال والإعلام والمعدات والإرهابيين من أكثر من مئة بلد. لكن برز على نحو واضح الدعم الأمريكي – الغربي، والدور التركي، والدعم المالي واللوجستي من دول عربية خليجية، في الوقت الذي أمكن، بتوجيه أمريكي – غربي، تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية وفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.
وقد وقفت إلى جانب سورية دول وأطراف صديقة متعددة، وبخاصة روسيا وإيران وحزب الله؛ فإلى جانب إمدادات الطاقة والمواد الغذائية تدخلت روسيا عسكرياً؛ وأرسلت إيران المستشارين العسكريين ودعمت فصائل مسلحة. وفي المقلب الآخر كان هناك تدخل عسكري مباشر من الولايات المتحدة وما سمّته التحالف الدولي، بواسطة الطيران وإقامة قواعد عسكرية ثابتة وبخاصة في شمال شرق البلاد وفي غرب الفرات والبادية (التنف). وقامت الولايات المتحدة، بحجة مكافحة الإرهاب، بدعم الحركة الانفصالية في الجزيرة السورية التي قام بها بعض «الكرد»، وأضافت إليها مناطق غرب الفرات ومحافظة الرقة، والهدف الأساسي من ذلك هو تنفيذ المشروع الأمريكي القديم – الجديد، أي الشرق الأوسط الجديد. ومع الوجود العسكري التركي في الشمال الغربي من سورية استطاعت بعض الفصائل الإرهابية أن تجد موقعاً لها، وأن تحقق جبهة النصرة (وبقايا القاعدة) بعض أوهامها في إيجاد إمارة خاصة بها في تلك المنطقة بعدما عزلتها عن باقي الأرض السورية. هذا في حين لا تزال شراذم من الفصائل تطمح بدعم إسرائيلي – أمريكي إلى التواجد في الجنوب السوري.
هكذا نجد أن الحرب على سورية لم تنتهِ وإن استطاعت الحكومة السورية أن تعيد سيطرتها على أجزاء مهمة من البلاد، إلا أن وجود الجيوش الأجنبية ودعمها بعض الفصائل الإرهابية وتعطيل أي حل سياسي، كل هذا يوحي بأن الحرب على سورية لم تنتهِ، وأن محاولات بعض البلدان العربية إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية وإلغاء قرار تجميد عضويتها فيها تتعثّر أمام إصرار الولايات المتحدة على سياستها العدوانية تجاه سورية، ومنع عودتها إلى حالتها الطبيعية واستمرار تمزيقها وتقسيمها، والإمعان في فرض العقوبات الاقتصادية على شعبها.
لكن الآمال تتجدد مع التغيير الحاصل على الصعيدين الدولي والعربي في إمكان إحداث خرق في القرار الأمريكي مع اتساع رقعة التفاؤل العربي وتوجُّه تركيا نحو الحوار مع سورية بمساعدة روسية – إيرانية.
والسؤال الآن لماذا حصل هذا في سورية؟ ولماذا قامت الحرب الإرهابية بها؟ وكيف وإلى أين؟ ولماذا تريد الولايات المتحدة تدمير سورية وشعبها؟
للإجابة عن ذلك لا بد لنا من التماس نقطة البداية في العلاقات السورية – الأمريكية. وليس معنى هذا أن التاريخ يبدأ من هذه النقطة إنما نختارها كمنطلق نبدأ منه لفهم ما حدث لسورية وشعبها ودور الولايات المتحدة في ذلك.
نقطة البداية كانت مع بدء الاحتكاك بالسياسة الأمريكية على نحو مباشر. وهذه البداية الافتراضية اخترناها لأنها تفسر الكثير من المواقف والأحداث التالية للحرب العالمية الأولى وتداعياتها في المنطقة العربية، فقد كانت أيضاً بداية التأثير المباشر للاستراتيجية الأمريكية المتحكمة والمهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية حين حلت محل الاستراتيجية الأوروبية (وبالتحديد الفرنسية والبريطانية). ويمكن القول إن نقطة البداية هذه كانت بداية تشكُّل سياسة سورية مستقلة وبدأت بالاحتكاك بالسياسة الأمريكية الذي تحوّل إلى صدام مباشر سببه العداء الأمريكي للشعب السوري وسياساته وتوجهاته. ففي حين كانت السياسة السورية منذ بدء تشكيلها تعبِّر عن الالتزام بالمشروع العربي النهضوي، كانت السياسة الأمريكية تقوم على الهيمنة على المنطقة بدعم المشروع الصهيوني. وكان أول تماس مباشر للسياسة السورية مع السياسة الأمريكية حين عقد مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى (1919) لرسم معالم ما بعد الحرب من وجهة نظر الجانب المنتصر. فقد كان الرئيس الأمريكي حينذاك مؤيداً لحق تقرير المصير وفق المبادئ التي أعلنها عام 1918. لذا هو وقف إلى جانب اقتراح الأمير فيصل في ذلك الوقت، الذي عبَّر عن وجهة نظر السوريين في المؤتمر، حيث عارض فكرة انتداب فرنسا على سورية مقدمًا اقتراحاً لتأليف لجنة دولية لاستطلاع رأي السوريين في ما يريدونه، وقد رفضت فرنسا وإنكلترا هذا الاقتراح في حين وافقت الولايات المتحدة وسمَّت مندوبَين اثنين عنها هما هنري كينغ وتشارلز كراين. وقد عاد الأمير فيصل إلى سورية لتهيئة الأجواء لعمل لجنة التحقيق. وتمت الدعوة إلى انتخابات عامة شملت كامل سورية بما فيها لبنان وفلسطين، وعقد المؤتمر السوري العام في الإثر أولى جلساته في دمشق بتاريخ 17/7/1919. وكان هذا المؤتمر بمنزلة مجلس نيابي تأسيسي وفيه تم صوغ مذكرة لتقدم إلى لجنة كينغ-كراين، وهي تبلور رغبات ومطالب السوريين برفض سياسة التجزئة الاستعمارية للمنطقة والمشروع الصهيوني العنصري في فلسطين.
واتضح للجنة أن الشعور المعادي للصهيونية لا يقتصر على فلسطين وحدها بل يشمل سكان سورية بعامة «وتمنت اللجنة الأمريكية على مؤتمر الصلح أن لا يتجاهل شدة الشعور المناوئ للصهيونية أو يستخف به». وقد سُلِّم تقرير اللجنة إلى البيت الأبيض بتاريخ 27/9/1919. إلا أنه لم يُنشر إلا بعد مضي ما يزيد على ثلاثة أعوام، فقد كانت الحركة الصهيونية ترغب في كسب الوقت، إلا أن الاتفاق العسكري البريطاني كان قد وقِّع في 15/19/1919 لاقتسام مناطق النفوذ التي نصت عليها اتفاقية سايكس – بيكو. وكان المخطط الصهيوني ينفَّذ بدقة بحماية بريطانيا وسائر الحلفاء ورعايتهم وبدعم من الولايات المتحدة ومباركتها. ولإنجاح ذلك المخطط تم اعتماد بريطانيا كدولة منتدبة على فلسطين من أجل تسهيل عملية الهجرة وإقامة المستعمرات وتهيئة الأجواء لإقامة «دولة إسرائيل».
هكذا وضعت الولايات نفسها إلى جانب أوروبا الاستعمارية وفي مواجهة المشروع العربي النهضوي بدعمها للمشروع الصهيوني والسياسة الاستعمارية الأوروبية، لتصبح شريكة أساسية في ما آلت إليه حالة الأمة العربية.
وبعد نيل سورية استقلالها السياسي استمرت على نهج المؤتمر السوري العام في رفض المشروع الصهيوني ووقفت بحزم ضد المشروعات والأحلاف الاستعمارية، في حين استمرت الولايات المتحدة في موقفها المعادي لسورية وشعبها.
وكان أول انقلاب عسكري ينفّذ في سورية عام 1949 بتدبير من الاستخبارات الأمريكية. وتوالت الانقلابات وحالة الاضطراب وعدم الاستقرار في سورية إلى أن استقر الأمر للتيار القومي التقدمي، ديمقراطياً، ليصل إلى أكثرية نيابية ويلتقي مع مصر عبد الناصر ليحققا معاً أول وحدة عربية في العصر الحديث (الجمهورية العربية المتحدة)، الأمر الذي مثّل تهديداً مباشراً للمشروع الصهيوني ومن خلفه الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية وأوروبا المنافقة، وبدأت المؤامرات من جديد مستهدفة الوحدة أولاً، فكان الانفصال، ومستهدفة ثانياً الجيش السوري والجيش المصري فكان عدوان عام 1967، ومستهدفة ثالثاً التضامن العربي والحؤول دون أي لقاء أو تعاون أو تجمُّع عربي، فكان الدعم للكيانات الرجعية لتكريس التجزئة والانعزال وزرع الفتن بين الشعوب العربية والقضاء على آمالها في الوحدة والتحرُّر وقطع الطريق أمام قيام أنظمة عربية بتوجهات وحدوية ديمقراطية تقدمية.
وقد وقفت سورية بحزم مع القضية الفلسطينية التي عدّتها القضية المركزية، ودعمت بقوة المقاومة، وبالتالي أخذ التآمر الأمريكي – الصهيوني – الأوروبي أساليب جديدة تستهدف الداخل السوري، وسعت الولايات المتحدة إلى إضعاف الدولة السورية والعمل على إفشالها وتخريب مؤسساتها ومجتمعاتها ومنع محاولات بناء جيش واقتصاد وطنيين قويين، وصولاً إلى إظهار الدولة السورية كدولة فاشلة وفاسدة لا تستحق الحياة، فيسهل بالتالي التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية وبالتالي تبرير ودعم وجود الإرهاب وفصائله التي استجلبت الإرهابيين إلى سورية من مختلف بلدان العالم.
وقد عمدت الولايات المتحدة (ومن معها) إلى عزل سورية سياسياً على الصعيد الدولي، كما دفعت الدول العربية إلى تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية وبالتالي عزلها عربياً، كما لجأت إلى فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب. وكانت هذه العقوبات قد بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي لكنها مع بداية العمليات الإرهابية أصبحت أكثر قسوة، وبلغت حد الخنق الاقتصادي، بعد إصدار ما يدعى «قانون قيصر» الذي لا يكتفي بفرض العقوبات على سورية وإنما تمتد هذه العقوبات على من يجرؤ على التعامل مع سورية من أفراد وشركات ومؤسسات ودول. وكانت الولايات المتحدة تدعي أن هذه العقوبات تستهدف «النظام» في حين أنها لا تصيب سوى الشعب السوري، الذي زادت من معاناته في حياته المعيشية اليومية وأصابت منه بوجه خاص الأطفال والفئات الأكثر فقراً.
والآن، وقد أمكن للولايات المتحدة (ومن معها) إنهاك الدولة السورية وتشريد نصف سكانها (بين لاجئ ونازح) داخل البلاد وخارجها، ومع معاناة هذا الشعب كما هي حال بقية شعوب العالم من الآثار الاقتصادية والاجتماعية لما خلفته جائحة كورونا والحرب الأوكرانية والتهديد الحاصل للأمن والاستقرار الذي أوجدته الاستراتيجية الأمريكية ونتائج ذلك كله على الأمن الغذائي وأمن الطاقة وإمدادات المواد وعلى الاقتصادات وبخاصة في البلدان المتوسطة والفقيرة…
الآن، إلى جانب ذلك كله، تعاني سورية الآثار المدمرة للزلزال ولتغيُّر المناخ والجفاف والعدوان الإسرائيلي المستمر.
الآن، على سورية وشعبها الاستمرار في مواجهة الأزمات والصمود في وجه المؤامرات فهذه المواجهة والصمود هما السبيل الوحيد لكسب رهان المستقبل والظفر بالحياة. والكشف عن الوجه «القبيح» للولايات المتحدة والغرب و«إسرائيل».
في المقابل يجب أن تُبذل الجهود دوليًا وإقليميًا على العمل على إنهاء حالة الحصار الجائر المفروضة على سورية وعلى اقتصادها وشعبها؛ وحريٌّ بالدول العربية الساعية إلى إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، أن تلغي قرار تجميد عضويتها في الجامعة، وتلغي العقوبات المفروضة عليها، وتنظر جديًا في أمر تعويض سورية عن الخسائر والتدمير الذي لحق ببنيتها التحتية ومؤسساتها الخدمية والإنتاجية وبيوتها السكنية، وأن تعمل بجد على إنهاء حالة الحصار الجائر المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية ومن يسير في ركابها.
المصادر:
نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 530 لشهر نيسان/أبريل 2023.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.