المؤلف: آصف بيات
ترجمة فكتور سحّاب
مراجعة: ياسمين قعيق
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
سنة النشر: 2022
عدد الصفحات: 350
اتّسم الحراك الشعبي الثوري الذي طغى على مشهدية الشرق الأوسط منذ أواخر العام 2009 بمزيجٍ معقّدٍ ومتضادٍّ من «الثورة» و«الإصلاح»، فلم تشهد الساحات السياسية التي غصّت بالحراكات الشعبية والتي افتقرت إلى وجود «قيادة» و«رؤية فكرية»، أي تحوّل جذري أو أي انقلاب سريع في الدول، كما أنّها لم تشهد أي تغيير بُنيوي متدرّج ضمن النُظم القائمة. بل اتخذت موجات الحراك الشعبي منحى وسطًا، إذ اختير الدفع من أجل تحقيق إصلاحات، في مؤسسات الدولة القائمة، ومن خلالها، بدلًا من خيار الاستيلاء على السلطة لإنشاء نطام اجتماعي جديد. وهو منحى عُدّ بمنزلة «ثورات إصلاحية»، لم يسبق أن شهد تاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية مثيلًا له. ومع ذلك، انصرف الكثيرون باهتمامٍ كبير إلى محاولات تفسير كيف أنّ النُظم الاستبدادية تتمكّن من البقاء، أكثر من اهتمامهم باستكشاف قوى التغيير الداخلية؛ في حين أشاع سقوط الطُغاة السريع في بعض الدول، أنّ «الثورات» انتهت وحقّقت أهدافها.
لا شكّ في أنّ انفجار الانتفاضات/الثورات العربية المُفاجئ والشرس، أخذ الطبقات الحاكمة كما أجهزة الاستخبارات العربية والأجنبية، على حين غرّة. ففي زمن «وهن» الأيديولوجيات و«طغيان» السياسات النيوليبرالية، نُزعت الشرعية عن فكرة «الثورة» لمصلحة «الإذعان».
يحملنا كتاب ثورة بلا ثوّار: كي نفهم الربيع العربي على متن رحلة بحثية ممتعة في النظرية الاجتماعية، تمزج تفاصيل حبكتها المُحكمة بين أمل ويأس وحيرة. الرحلة، عميقة التحليل وذات صلة بعلم السياسة ومسارات تغيير الأنظمة، تُعين في فهم أحداث سياسية فهمًا أفضل، ولا سيما أنّ مسار الرحلة يُمثّل الفاصل الأهم في تاريخ الوطن العربي المعاصر.
يتألّف الكتاب الموقع من الباحث الإيراني- الأمريكي آصف بيات، من أحد عشر فصلًا، ويمتدّ على 350 صفحة إلى جانب المقدمة ولائحة المراجع والفهرس. تبحث الدراسة في الثورات التي هي بلا «أفكار ثورية»، وتناقش عميقًا عناصر تكيّفها بشروط زمننا النيوليبرالي، مسلّطةً الضوء على الربيع العربي، استنادًا إلى إيحاءات الثورات السابقة التي نشبت في القرن العشرين، ولا سيما التجربة الإيرانية في عام 1979، فتتبّع العناصر التي تميّزها وما يرافقها من ذيول.
افتتان الباحث بيات الباكر بالثورات العربية وخيبة أمله فيها، حين نظر إليها من خلال منظار الثورة التي شهدها، واختبرها ودرسها، قبل نحو خمسة وثلاثين عامًا، مثّل الحافز على وضع الكتاب. ولما كان قد أقام في كل من إيران ومصر، قبيل ثورتيهما، فإنّه صُدم بمنحى الاختلاف بين تينك التجربتين.
ثورة بلا ثوّار، كتابٌ ما هو رواية للربيع العربي، ولا هو تناول للأحداث الجارية. بل غرضه المركزي محاولة فهم الأحداث السياسية الاستثنائية، وعلى الأخص في تونس ومصر، من أجل فهم ديناميّاتها، وتحليل عمليات الحشد لها، وتفحّص تناقضاتها، والإضاءة على وعودها، من وجهة نظر شاملة وتاريخية ومقارنة. صحيحٌ أنّ الأطروحة تركّز على مكامن الضعف وعوامل الفشل في الثورات العربية، غير أنّ خلاصاتها تدفع نحو بلورة ركائز فكرية تُسهم في تحقيق الأمل المنشود نحو التغيير.
فالربيع العربي، وفق ما يلفت بيات، إنّما نشأ في مناخ نيوليبرالي ما بعد اشتراكي وما بعد إسلامي، حين رُكنت أفكار الثورة وعدالة التوزيع والحقوق الاجتماعية بعيدًا، لتحلّ محلها شعارات عن المجتمع المدني والديمقراطية وسياسات الهوية. يناقش الفصل الأول من الكتاب هذه العناوين، ويبحث في نتائجها، ومآلات ما انتهت إليه الثورات العربية. ليُبيّن الفصل الثاني كيف كانت ثورات سبعينيات القرن العشرين، خلافًا للربيع العربي، تتحرّك بموجب مكوّن فكري كانت الأفكار الاشتراكية فيه عنصرًا أساسيًا. وهنا يأتي التركيز على ثورة عام 1979 الإيرانية، حيث كان للثورة استراتيجيات ومناهج راديكالية دعمتها الأفكار الثورية. أمّا الفصل الثالث، فيتناول هذه المناهج بتفحّص حركات الشورى الواسعة الانتشار، من أجل تعميم الديمقراطية الشعبية والحكم الذاتي في الأحياء والمعاهد والمزارع وأماكن العمل. ومع تشرذم النقابات العمالية وانتهاء الاشتراكية عمليًا، أخذت الأفكار الراديكالية تفقد قوتها. ويتفحّص الفصل الرابع، كبح الراديكالية في الإسلام السياسي ويبيّن كيف تطورت المعارضة الإسلامية من نزوعها القوي المناهض للإمبريالية، لمصلحة العدالة الاجتماعية، إلى اعتناق السياسات الإصلاحية والاقتصاد النيوليبرالي. ويلفت الباحث إلى أنّه حين آذنت انتفاضات الربيع العربي بالحدوث، كان معظم الإسلاميين ونظرائهم العلمانيين قد تكيّفوا بالمناخ النيوليبرالي. وعلى الرغم من انحسار المشاريع، فإنّ السخط الشعبي، نما حين حوّلت النيوليبرالية الاقتصاد العربي، فمثّلت ظروفًا حضرية في المدن متعاظمة النزوع نحو التمرّد.
يناقش الفصلان الخامس والسادس كيف أصبحت كبرى المدن العربية مواطن للسخط الشعبي، وكيف عبّر الغضب عن ذلك في الميادين العربية، ويستكشف هذان الفصلان ما الذي تُنبئنا به الانتفاضات في المدن، عن جذورها وديناميّاتها. ويتحرّى الفصل السابع كيف أمكن للطبقات المهمّشة والمستبعدة في ظل نظام سياسي سلطوي واقتصاد نيوليبرالي، أن تنخرط في أشكال متكتّمة من النضال اليومي، من أجل تحسين فرص عيشها.
واجه الربيع العربي في تونس واليمن ومصر، حوائل جدّية في التحوّل إلى ثورات بأكمل معنى. وما نتج في النهاية، في الوطن العربي، مثلما يرى الباحث بيات في الفصل الثامن، لم يكن ثورات بمعنى مماثل لثورات سبعينيات القرن العشرين، بل كان مزيجًا من الحراكات الثورية والمسارات الإصلاحية. ليبيّن الفصل التاسع، أن الأعمال الاستثنائية، من مطالب الفقراء والنساء وشبيبة الطبقة الفقيرة والأقليات الاجتماعية الساعية إلى المساواة، والإشراك في الحياة العامة وانتزاع الاعتراف، قد طبعت بالطابع الراديكالي هذه الثورات غير الراديكالية. لقد أدّت صراعات الطبقات الدنيا هذه، كما يرى في الفصل العاشر، إلى جعل عملية الانتقال موضع خلافات حادّة جزئيًا، وزادت التناقض في زمن ما بعد الثورات. هذا في حين عزّز عدم الإعداد لمواجهة الثورة المضادة الشعور بالإستياء حيال تجربة الثورة وفكرتها. ويناقش الفصل الحادي عشر والأخير مسألة اليأس الذي خيّم على كثير من النشطاء في زمن ما بعد الثورات، ليخلص الفصل إلى استكشاف مجال للأمل في ضوء إيمان الباحث آصف بيات بـ«الثورة الممتدّة». وفي ما يأتي، سيتمّ التركيز على عناوين محدّدة من الكتاب تُعين في فهم بعض أحداث الربيع العربي.
أولًا: «ثورات الزمن الخاطىء».. زمن «وهن» الأيديولوجيات
في زمن شهد «وهن» الأيديولوجيات الأساسية المعارضة (القومية المعادية للاستعمار والماركسية – اللينينية والنزعة الإسلامية)، نشبت الثورات العربية. وهو وهنٌ، وفق تعبير آصف بيات، نزع الشرعية عن فكرة الثورة في ذاتها ومكوّناتها الراديكالية، حتى كفّ الناشطون والطبقة السياسية عمومًا، عن أن تراودهم فكرة التغيير من باب الثورة. وفي مكان فكرة «الثورة»، حلّ النموذج النيوليبرالي. فبدلًا من التفكير في مُثُل المساواة والملكية العادلة ودولة الرفاه والإشراف الشعبي، برز، كما تبيَّن الدراسة، تعاظم في مفاهيم الفرد والحرية والمجتمع المدني، والسوق الحرة والإصلاح القانوني. مفاهيم، ترعاها «وكالات جبّارة» مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتعتمد سياسات دولة لا ترحم، حيث نشأت فوارق مذهلة في الثروة وحظوظ العيش.
تم ذلك، في الوقت الذي واصلت «التوجهات الفوضوية الجديدة» التي برزت في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفق ما توضحه الدراسة، لتنضم إلى الاحتجاج على العولمة وعلى الحروب التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ازدراء الدولة والثورة لكونهما مضرّين بالتحوّل الديمقراطي، وكذلك ازدراء التنظيم لكونه نذير البنية والسلطة. وإذا كان ثمّة ما هو «جليل» في هذه الأفكار النقدية، بحسب الباحث، فهو سياسات الهوية، بدلًا من السياسة الطبقية.
تخلص الدراسة، في معرض مقاربة مفهوم الثورات وكيفية تشكّلها ومناقشة مساراتها وملاحظة مآلاتها، إلى نتيجة مفادها أنّ ثورات القرن العشرين اختلفت عن ثورات القرن الحادي والعشرين اختلافًا واضحًا – ليس في نمطَي تحشيدهما وتنظيمهما فقط، بل في معناهما ورؤيتهما الواسعتين. فسرعة الثورات الأخيرة وانتشارها وزخمها، لا مثيل لها، إلّا أنّ افتقارها إلى الأيديولوجيا وميوعة تنسيقها وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكرية لديها، أمور لم يسبق لها مثيل تقريبًا، بحسب الدراسة. لكن الأشدّ إدهاشًا، في نظر الباحث بيات، هو افتقار الثورات الأخيرة إلى أي نوع من النزعة الجذرية التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثُل الديمقراطية العميقة والمساواة والعدالة الاجتماعية بهتت، في مقابل الاهتمام بعموميات حقوق الإنسان والمحاسبة السياسية والإصلاح القانوني، أكثر مما كان يحفزها اهتمام صادق يرتكز على رؤية استراتيجية، أو برامج ملموسة.
1 – ثورات سبعينيات القرن
العشرين.. ثورات مقاومة
الاستعمار
تلحظ الدراسة أنّ ثورات سبعينيات القرن العشرين، نشبت في إثر سلسلة من الثورات المقاومة للاستعمار (جنوب أفريقيا – أنغولا والموزامبيق، وغينيا بيساو)، وبعدما ثار البرتغاليون ليفكّكوا دكتاتوريتهم الاستعمارية في عام 1974. في الموازاة، مثّلت الثورة الإيرانية في عام 1979، فاتحة فصل جديد في السياسة العالمية، التي قامت تقريبًا بينما كان السندينيّون يطيحون الدكتاتور أنستاسيو سوموزا، في نيكارغوا، وبينما كانت حركة الجوهرة الجديدة في غرانادا التي قادها اليساري موريس بيشوب، تنهي حكم إريك غيري الأمريكي الميل. وقبيل ذلك كانت انتفاضة اشتراكية تؤسس في اليمن في السبعينيات الجمهورية الشعبية الديمقراطية، بينما كانت جبهة تحرير ماركسية – لينينية تسعى إلى قلب الحكم في مشيخة عُمان المجاورة.
جميع الثورات المذكورة، تزعمها قادة يمتلكون شعبية واسعة، واتّسمت بتنظيم وبقيادة كاريزمية. وتلفت الدراسة إلى أنّ هذه الثورات اعتمدت نبضًا جذريًا قويًا، عبّر عن نفسه بمشاعر معادية للإمبريالية، ومناهضة للرأسمالية، ومنادية بالعدالة الاجتماعية. فكانت تلك الثورات تقطع الصلة بنمط علاقات القوة العالمية، حيث تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ. وبسبب نشوبها في وسط الحرب الباردة، واجهت هذه الثورات عداوة عميقة لدى القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة. ففرضت على إيران – على سبيل المثال لا الحصر- عقوبات اقتصادية، استمرّت لعقود.
2 – ثورات القرن الحادي
والعشرين.. ثورات الزمن
النيوليبرالي
اندلعت موجة جديدة من الثورات السياسية في الشرق الاوسط وجواره بعد مرور ثلاثة عقود على ثورات القرن العشرين. عقود ثلاثة شهد فيها الشرق الأوسط حقبة مضطربة من الحروب والعولمة وإعادة الهيكلة الاقتصادية والتبدّل الاجتماعي والإحياء الديني والتجدّد التكنولوجي. ومع ذلك، شاءت «الحكمة» التقليدية، وفق الباحث بيات، أن تصمد النظم الاستبدادية فصانت الاستقرار.
بدأت موجة الثورات التي يشهدها القرن الحادي والعشرين مع الثورة الخضراء في عام 2009 في إيران، وبلغت الذروة في الربيع العربي عام 2011، وسرعان ما تبعت ذلك موجة عالمية من حركات «احتلوا» (أسوة بحركة احتلوا وول ستريت التي انطلقت في نيويورك احتجاجًا على اللامساواة الاقتصادية، في أيلول/سبتمبر 2011)، لتشتعل نيرانها في عقر دار الغرب الرأسمالي، وتنتشر في نحو سبعين بلدًا، داعية إلى فصل المال عن السياسة.
وتلحظ الدراسة، في السياق، أسبابًا مشتركة بين الثورات العربية وحركات «احتلوا» تتعلق بسياسات نيوليبرالية، وعدم مساواة وحكومات غير متجاوبة، حيث إنّ كلتيها استفادت من استخدام تكنولوجيا اتصال جديدة ، للتحشيد. لكن ظروفها السياسية المختلفة – ديمقراطيات انتخابية من جانب، في مقابل حكم استبدادي في الجانب الآخر – اقتضت مسارات سياسية متباينة. ففي الديمقراطية الانتخابية، حيث تعمل السياسات النيوليبرالية، كما في الولايات المتحدة وإسبانيا والبرازيل وتركيا اتخذ الاحتجاج شكل حركات «احتلوا»، أما في البلاد التي اقترن فيها الاقتصاد النيوليبرالي بالحكم الاستبدادي، النتيجة كانت حدوث ثورات، وفق ما توضحه الدراسة.
ثانيًا: الثوراتُ العربية.. «ثوراتٌ إصلاحيةٌ»
يطرح الباحث آصف بيات جملة من التساؤلات المشروعة ويناقش إشكالياتها بعمق وروية، تتمحور حول ما إذا كان ما جرى في الوطن العربي في عام 2011 ومسار تطوره يعد احتجاجات.. انتفاضات.. تمرّد/ ثورات.. أم حركات إصلاح؟
بدا واضحًا أنّ المسارات التي اتخذتها الثورات العربية، في معرض مقارنة الدراسة لمسارات التحويل والتغيير للنُظم السياسية، لم تشبه أيًّا من المسارات المعروفة تاريخيًا (إصلاح، تمرّد/ ثورة، أو انفجار للنظام من الداخل). فبينما أطيح النظام الليبي في حرب أهلية عنيفة، نشبت في سورية حرب دموية بالوكالة. لكن الانتفاضات في مصر واليمن وتونس لا يمكن لأي منها أن توصف بالثورة، أو بالإصلاح، بل سارت في مسار خاص، وفق الدراسة، تميّز بمزيج من الحركات الثورية والتغيير الإصلاحي والثورة الاصلاحية، وتشكّلت بديناميات زمننا ما بعد الاشتراكي والنيوليبرالي.
ويُبيّن الباحث بيات أنّ ما جرى ما هو ثورات بمعنى تجارب القرن العشرين (التحوّل السريع والجذري في الدولة، بدافع من حركات شعبية)، ولا هو مجرد إصلاح (تغيير متدّرج من ضمن الترتيبات البنيوية القائمة)، بل هو مزيج معقّد ومتضادّ من كليهما. ويخلص إلى أنّ الأمر يشبه «ثورات إصلاحية»، أي حركات ثورية اختارت أن تدفع من أجل تحقيق إصلاحات، في مؤسسات الدولة القائمة، ومن خلالها، بدلًا من أن تستولي على السلطة لإنشاء نطام اجتماعي جديد.
أمّا في ما يتعلّق بخصائص هذه «الثورات الإصلاحية»، فهي، وفق ما توضحه الدراسة، لم يكن لديها مُدخلات فكرية حتى تُعبّر عن رؤية ثورية بالطريقة التي تشبه ما فعلته الثورات النظيرة في القرن العشرين. وقد بدا من أضرموا الانتفاضات عاجزين عن تصوّر أنماط من الحكم والمؤسسات، تختلف عن تلك التي كانوا يتمرّدون عليها. في الوقت الذي فصل معظم الثوريين مفهوميًا ميدان الاقتصاد عن ميدان السياسة، وعن مفاصل النظام السياسي التي يرغب في تفكيكها.
بمعنى ما، يوضح الباحث بيات، أنّ ما جرى في الوطن العربي، هو حركات ثورية، من حيث الحركة والتعبئة الجماهيرية، لكنها كانت إصلاحية في استراتيجيتها وفي رؤيتها للتغيير، وما نضج في النتيجة، كان أشبه بثورة في مجال التحشيد، لكنه أشبه بإصلاح في مجال التغيير، على حدّ تعبيره.
في الموازاة، تلحظ الدراسة أنّ العنصر الفريد الأول المُلاحظ في الثورات العربية، هو سرعتها، في ما مثّل التوق إلى «كل جديد»، جوهرها. أمّا الخلل الأساسي في الثورات، فتمثّل بما وصفه الباحث بـ«التناقض المؤلم» بين الرغبة الثورية في الجديد، والنتيجة الإصلاحية (المسار الإصلاحي) التي يمكن أن تقود إلى احتواء القديم.
وصفٌ يُحيلنا إلى مقاربة مهّمة جدًا أجراها الباحث علي القادري، في السياق عينه، حيث إنّ الانتفاضات العربية اندلعت، وفق القادري، في لحظة تاريخية خاطئة. فـ«كانت الانتفاضات تجسيدًا للنفي العفوي من دون بدائل وتنظيمات، ومن دون وسائل إنتاج أيديولوجي ملحقة بتنظيمات اجتماعية، حيث أدّى إلى غياب بديل للنماذج (التعاونية/المساواتية) للتغيير الاجتماعي إلى إعادة خط البداية التاريخية للنقطة الأولى لمصلحة الإمبريالية وهيمنتها»[2].
ثالثًا: المفعول النيوليبرالي للثورات العربية
يؤكّد كثير من المراقبين أنّ إعادة الهيكلة النيوليبرالية هي في أصل أسباب الضيق الشعبي الذي انفجر في النهاية بالانتفاضات العربية. فقد حوّلت سياسة إعادة الهيكلة النيوليبرالية المدن العربية الكبرى، إلى ما يُسمّيه بيات «المدن المقلوب داخلها خارجها»، حيث اضطر عدد كبير من أبناء الطبقات الدنيا، بسبب الحاجة، إلى السعي في خارج المنازل والمكاتب وأماكن العمل، إلى رزق كفافهم، وإلى الأماكن العامة لأداء الطقوس الاجتماعية والثقافية مثل المآتم والأعراس. وبذلك انقلب الحيّز العام في المدن إلى مستقر دائم للنزاع، بين المرؤوسين من سكانها (الفقراء والشبان والمنبوذين اجتماعيًا والمهمّشين سياسيًا)، وبين السلطات. ومع عدم إعادة النظر الجذرية بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وجد الفقراء أنفسهم يسيرون بحذر نحو متابعة «نضالهم الجماعي».
في الحيثية التاريخية، تشير الدراسة إلى أنّه خلال السبعينيات، أي قبل اعتماد السياسة الليبرالية، كان يحكم معظم بلدان الشرق الأوسط إمّا نظام قومي شعبي (مثل سورية ومصر والعراق وليبيا والسودان وتركيا)، وإمّا نظام ريع ميّال إلى الغرب (إيران ودول الخليج العربية). غالباً ما اعتمدت هذه الدول، ذات النظم الاستبدادية، التي تموّلها مداخيل النفط أو عائداته، استراتيجيات تنمية تقودها الدولة. وكانت دول اقتصاد الريع قادرة على توفير خدمات اجتماعية لكثير من المواطنين ، في حين قدّمت دول الحكومات الشعبوية خدمات كبيرة في التعليم والصحة والعمالة والإسكان وما شابه.
عند هذا الحدّ، يبرز «العقد الاجتماعي» إلى الواجهة. ففي النظم المذكورة التي نشأت بعد التحرُّر من الاستعمار، كان «العقد الاجتماعي» يرمي إلى الحصول على دعم للحكومات في صفوف الفلاحين والعمال والطبقات الوسطى، بينما كانت هذه الدول تناضل في وقت واحد، ضدّ القوى الاستعمارية، وضد الطبقات القديمة الحاكمة في الداخل. وكانت الدولة هي القوة المتحركة على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، نيابة عن الشعب. إلا أنّ هذا «العقد» ترنّح عندما أخذت البلدان العربية تمضي مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ابتداءً من الثمانينيات، في اعتماد اقتصاد ليبرالي وتصحيح بنيوي. ومع انهيار العقد الاجتماعي القديم، وجدت الفوارق الجديدة تعبيرًا قويًا، مع وجود أقليّة معولمة فاحشة الثراء، مقابل أكثرية من الناس المهمّشين.
في تسعينيات القرن الماضي، أي بعد عقد من عمل شبكات الأمان الاجتماعي والمنظمات الأهلية للرعاية والانخراط الإسلامي في مدّ يدّ العون الاجتماعي إلى المحتاجين، تلفت الدراسة النظر إلى أنّ حركة الاحتجاج اتّخذت دينامية مختلفة وأشكالًا أخرى في خلال السنوات التي سبقت الثورات. وقد تضافرت مظاهر الاحتجاج على غلاء المعيشة وحال الخدمات الاجتماعية، مع تحركات العمال، والمطالبة بالديمقراطية، ومع عوامل السياسة الإقليمية، لتمثّل بيئة متكاملة من سياسات الشارع الشعبية. وانتشرت في العقدين الماضيين في الشرق الأوسط، عناصر مهمة من النيوليبرالية لدى النخب العربية والجماعات المهنية والطبقة السياسية، فأثّرت في تفكيرهم حيال التغيير، وصورة المجتمع.
أمّا في ما يتعلّق بالمعايير النيوليبرالية، فهي تنظر إلى المؤسسات الاجتماعية كلها تقريبًا على أنها مشروع «بيزنس»، حيث يتنافس الأفراد بشراسة من أجل المصلحة الشخصية. وتلفت الدراسة إلى أنّ النموذج النيوليبرالي ينبذ، ببساطة، أي حديث عن إعادة النظر بعلاقات الملكية، وتوزيع الثروة والفرص العادلة، أو دولة الرفاه التي ينظر إليها على أنّها أصبحت تراثًا باليًا من زمن الاشتراكية، وأنها مناقضة لحرية الفرد، في حين يُجسّد هذا النموذج مثل الحرية، ويحتوي على الاقتصاد العمومي، والرعائي.. ويستغلّ تجاريًا سلوك الناشطين وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمساواة الجندرية والإنماء المستدام وتقليص الفقر، ويستنزف مقاصدهها الجذرية. وحتى فكرة «الثورة» معروضة للبيع.
رابعًا: الثورات العربية.. ثورات هشّة في مواجهة قوى الردّة
رأى كثيرون أن الربيع العربي هو ثورات حقيقية تم اختطافها والتلاعب بها أو تمّ كبحها بالثورة المضادّة (انقلاب محافظين، دولة عميقة، وتدخّل خارجي). لكنّ المسألة في رأي الباحث، ليست في ما إذا كانت الثورة المضادة مسؤولة عن كبح الثورات العربية أو اختطافها، حيث إنّ الثورات جميعها بلا استثناء تحمل في طياتها بذور مؤمرات ثورة مضادّة وتنتظر فرصتها لتضرب ضربتها. لكن المحاولات المضادة للثورة كثيرًا ما تفشل، قبل أي شيء، بحسب بيات، لأنها تفتقر إلى ما يكفي من تأييد شعبي، والمسألة الأساسية تتعلق في ما إذا كانت الثورات ثورية إلى الحدّ الكافي، لتواجه مخاطر الارتداد والانتكاس.
في السياق، يُشدّد بيات، على أن وضع الشرق الأوسط الجغرافي – السياسي الاستثنائي – المتجسّد بوجود النفط وإسرائيل - جعل المنطقة على مدى عقود معرّضة لمؤمرات دولية. بينما يُلفت الباحث علي القادري، في موضع بحثي آخر، إلى أنّه «في منطقة استراتيجية كالوطن العربي تستهدفها الهيمنة الإمبريالية، فإنّ تحالف الطبقة الحاكمة العربية، مع رأس المال بقيادة أمريكا، يدعم إعادة إنتاج الحرب». ويوضح القادري أنّ «هيمنة رأس المال بقيادة أمريكا، والدور الذي تؤدّيه إسرائيل في إعادة تشكيل البُنية الاجتماعية للدول العربية، يؤدّي إلى إثارة الصراعات وعدم الأمن، التي تتيح للدولار وضعه الآمن نسبيًا.. وتتشابك الهيمنة الأمريكية والهيمنة على النفط الضامنة للدولار، ومع إعادة هيكلة الدول العربية كتوابع و/أو زعزعة استقرارها وتفكيكها بما يضمن التوازن بين الهيمنة والاستغلال التجاري، أي بالحرب التي تنتزع إرادة الشعوب لتستعبدها»[3].
لا شكّ في أنّ الوضع الجيوسياسي الاستثنائي، قد أدّى دورًا في إفساد الثورات بعد وقوعها. غير أنّ الاكتفاء بتصوير الثورات العربية على أنها تلاعب أجنبي، هو أمر، بحسب بيات، يتجاهل الرغبات والمطالب الحقيقية لدى المواطنين العاديين التوّاقين إلى تغيير عميق ذي مغزى.
ورغم أهمية الدور الذي تؤدّيه العوامل الخارجية في إنجاح الثورات الشعبية الداخلية من عدمه، فضلًا عن محاولة تحريكها أو الإفادة منها، فإنّ وصف ما شهدته البلدان العربية من حراك ثوري وحصره فقط في إطار «مؤامرة» خارجية تستهدف استقرار المنطقة، أمر يفتقر إلى الدقّة، إذ إنّ الأمر يُضمر تبرئة للأنظمة التي أُطيحت من أن تكون ارتكبت أخطاء أدّت في النهاية إلى انفجار الغضب الشعبي المتراكم، وإطاحتها. فضلًا عن أنّ سجل الدول الغربية لا يشير إلى أنّها تدخّلت لدعم ثورات ديمقراطية في أي مكان، بقدر ما يشير إلى أنها تدخّلت تاريخيًا لفرض أنظمة استبدادية موالية لها. ومع ذلك، فإنّ هذا لا ينفي حقيقة أن تأثير القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، مهم في توجيه مسار هذه الثورات والانتفاضات الشعبية وإحداثها والتأثير في نتائجها[4].
وفي حال تمّ تجاوز العوامل الجيوسياسية في المنطقة، فإنّ العوامل التي جعلت الثورات العربية أكثر هشاشة في وجه ارتداد الثورة المضادة، فهي تتعلّق بخصائص «الثورات الإصلاحية» في تونس ومصر واليمن، بحسب الباحث بيات، التي مثّلت ديناميات التحوّل التي اختلفت بشدّة عن النماذج السائدة تاريخيًا. فديناميات الانتقال في هذه الدول الثلاث، توسّطت في موقع ما بين حالتين، حيث أجبرت تعبئات ثورية قوية الطغاة على التنحّي، لكنها فشلت في الاستيلاء على السلطة الحكومية، وبذلك تركت مصالح النظام القديم ومؤسساته، على حالها تقريبًا، وفق ما توضحه الدراسة.
وفي سياق قراءات أخرى تبحث في ما حقّقته أحداث الوطن العربي، تبرز قراءة الباحث علي القادري، حيث يُشدّد على أنّ الانتفاضات السياسية الأخيرة لم تفعل سوى تغيير وجوه الطبقة الحاكمة، ولم تُحقّق سوى أقل القليل في مجال إعادة هيكلة الطبقة، ولم تصل الطبقة العاملة ولا طبقة رجال الأعمال الصناعيين إلى السلطة. فلم تكن ثورة برجوازية صناعية ولا ثورة طبقة عاملة، بل مجرد انتفاضات عفوية تمّ ضبط إيقاعها مع توترات الرأسمالية الإمبريالية من خلال التدجين الديني للطبقة العاملة، وفق تعبير القادري وقراءته القيّمة حول الانتفاضات العربية[5].
خامسًا: التناقضات سمات الثورات الإصلاحية
عانت البلدان العربية كلها بعد الثورة، بدرجات مختلفة، تناقضات ناجمة من «التعطيل الخلّاق»، بحسب الدراسة، حيث ظهرت النقمة الشعبية في شأن الفشل في إحراز عيش أفضل، بالتوازي مع اضطراب سبّبه التقاتل بين الفصائل والصراع بين الجماعات، أدّت إلى فوضى يومية، إضافة إلى عدد من القادة الثوريين الذين انقلبوا بلا سبب إلى «محافظين في اليوم التالي من الثورة».. هذه التناقضات العادية والشائعة، بحسب بيات، إضافة إلى تخريب الثورة المضادة، وهرب رؤوس الأموال، ورحيل الإداريين والبيروقراطيين، ترتّبت عليها أكلاف مقلقة للاقتصاد والمجتمع. فاجتماع حال الاختلال والفوضى اليومية مع الضغط الاقتصادي، ولّد شعورًا كبيرًا بالاستياء المؤلم والمبكر تجاه فكرة الثورة نفسها، ليتعزّز، وفق الدراسة، موقف المحافظين الممتعضين والمكلومين المعادين للثورة، وهو ما ينشر مزاجًا عامًا ميّالًا إلى النظام والاستقرار، وتوّاقًا إلى قائد حازم.
في الموازاة، تُلفت الدراسة إلى أنّ هذه التناقضات لا تميّز الربيع العربي وحده، بل تميّز تقريبًا الثورات كلها. غير أنّ للربيع العربي دينامياته الخاصة التي خلّفت ندوبًا دائمة على مسيرة الانتقال فيه، تجعله مختلفًا عن المسارات الثورية وغير الثورية على السواء. فالانتفاضات، وفق ما توضحه الدراسة، كانت ثورية إصلاحية، وحركات ثورية قويّة شُنّت في الشوارع وانتهت بالعمل من أجل الإصلاح في مؤسسات الدولة القائمة ومن خلالها، ولم ينجح الثوّار في تحويل السلطة الحكومية. ولأنّ الثورات الإصلاحية تفشل في إحداث تغيير ملموس في مسؤولي النظام القديم ومؤسساته، يبقى خطر الردّة ماثلًا دومًا، بحسب بيات، وحيث يحصل الصراع من أجل الهيمنة، يُتاح المجال لبروز الدخلاء والخسارة أمامهم.
وفي السياق، تشرح الدراسة أنّ الثورة بوصفها تمرّدًا، تختلف عن ما بعد الثورة - اليوم الذي يلي تنحّي الطغاة. فبينما يكون الشارع هو الأهم في معظم لحظات الثورة/التمرّد، فإن الذي يسود بعد الثورة هو المجتمع السياسي والدولة. وتُبيّن أنّه عندما يكون الحدث الاستثنائي/التمرّد، هو من صنع الثوّار، فإنّ الأزمان اللاحقة للثورة تشهد ظهور الدخلاء – أولئك الذين لم يشاركوا، والمعتدلون المتفرّجون على الأحداث، أو الانتهازيون ممن يتولوّن السلطة مباشرة بعد إخلاء الطغاة مناصبهم. من هنا، يُشدّد الباحث بيات على أنّ الثورة لا تنتصر لأن أكثرية الشعب تقاتل الأنظمة، بل لأنّ قلّة ضئيلة، مدهشة، استثنائية وفريدة، تمتلك فن التمرّد، وتتمسّك بمقاومتها.
خاتمة
قصة نزاعات وأفول وخيبة أمل. بهذه «الثلاثية»، يختصر الباحث آصف بيات، قصة «الانتقال» في الربيع العربي. معنى ذلك، أنّ قصة ما حصل من أحداث التعبئة والتضامن والتضحية تلك، والتحوّل في الوعي والقطع المعرفي مع الماضي، وتخيّل إمكانات جديدة، هي كلها نتاج أن يُبقي فصل التحوّل مفتوحًا، ويجعل سرديته مركّبة، وفق ما تخلص إليه الدراسة.
خلاصة، تشاطرها أخرى مفادها، أنّ عملية التغيير في سياق موجة هذه الثورات/الانتفاضات، ما تزال في حالة تفاعل وسيولة، ولم تصل إلى منتهاها حتى بعد مرور عقد كامل على اندلاعها. وبحسب الدراسة المُحكمة تأثير الثورات العربية في النظام الإقليمي العربي 2011-2019، لطالما أنّ الكثير من صراعات وأزمات المنطقة لا تزال قائمة، فمن غير الواضح ما ستفرزه في النهاية من تغيرات في بُنية وتركيبة الدول التي تعانيها. وقد يستغرق الأمر سنوات وربما عقود حتى تتضح الصورة كاملة[6]. حال هذه الثورات كحال الثورات الكبرى (الأمريكية والفرنسية والبلشفية) التي شهدها العالم على مدى القرون الماضية، التي احتاجت، بدورها، إلى مراحل زمنية طويلة حتى استقرّت وبدأت تُفرز تأثيرها.
في السياق، تُظهر الدراسة ثورة بلا ثوّار، لحظات ما بعد الثورات العربية التي بدت مدمّرة وباعثة على اليأس، حيث إنّ الأمل والحماسة الباكرين، سرعان ما انقلبا إلى يأس واستياء، حين كشّفت الثورات عن معايبها المؤلمة، وشنّت الثورة المضادّة حملة تخريبها. ويتبيّن أنّ ظروف ما بعد الثورة في فرنسا أو إنكلترا أو روسيا أو نيكارغوا أو إيران، لم تكن مختلفة جدًا، إن لم تكن أسوأ.
من هنا، يرى الباحث أنّه «لا شيء مثل الثورة يحتاج إلى الأمل، وفي الوقت نفسه يوحي بالأمل، ويخيّب الأمل». غير أنه يحدوه الأمل بأنّ الثورات العربية قد أنهت نمط الرئاسة مدى الحياة المشؤوم، لافتًا إلى أنّ الوعي الجديد الذي أطلقته هذه الثورات، والتغيير الاجتماعي الخفي الذي أحدثته، من شأنه أن يشوّش على بوصلة النُظُم الاستبدادية.
يؤمن آصف بيات، بأنّ عوامل التغيير «الكاملة» لا تقتصر فقط على العاملين السياسي والاقتصادي، بل تشمل كذلك عوامل التغيّر الاجتماعي والثقافي و«الإنساني»، التي تنطوي على أعمق ما في بُنى العلاقات والمشاعر. لذا، يرى أنّه ينبغي النظر إلى الانتفاضات العربية على أنها ثورات طويلة قد تُثمر في عشر سنين أو عشرين سنة، بتأسيس أساليب جديدة لفعل الأشياء، وطريقة مختلفة في التفكير بالسلطة وحقوق المواطن.
عند هذا الحدّ، تحضر مقاربة مهمة للباحث علي القادري تغوص في تشريح علاقة التحالف بين الطبقة الحاكمة العربية والإمبريالية بقيادة أمريكا التي تفرض التخلّف على الوطن العربي وتُعيق مسار التنمية فيه بل وتمنعها. يُشدّد القادري على أنّ الانتفاضة المقبلة، لا تنتظر أن تصبح الظروف الاجتماعية البائسة أشدّ بؤسًا بالنسبة إلى أولئك البؤساء جدًا بالفعل، بل تنتظر فقط أن تضعف قبضة الطبقة الحاكمة برعاية الإمبريالية على الدولة، فلا يكفي في مرحلة كهذه قلب المفاهيم السائدة، بل يجب قلب مناهج التفكير الشعبية نفسها، على حدّ تعبيره[7].
يبقى من المؤّكد، بحسب الدراسة ثورة بلا ثوّار، أنّ المسيرة من «القديم» الاستبدادي، إلى «الجديد» المحرِّر، لن تحدث من دون صراع مرير والتزام شعبي مثابر، في المجالين العام والخاص، في التفكير وفي الممارسة، فرديًا وجماعيًا. وفي ذلك، يُشدّد الباحث آصف بيات على أنّ الثورة تستلزم إعادة تفكير جوهرية في السلطة، وإعادة تصوّر جذرية لنظامنا الاجتماعي، والسعي إلى مجتمع تقوده مُثُل المشاركة والرعاية وروح المساواة والديمقراطية الجامعة، لافتًا إلى أنّ الثورة الطويلة قد تبدأ حين تنتهي الثورات القصيرة. خلاصةٌ، تتوافق مع رؤية الثورية، روزا لوكسمبورغ، قبل سنوات طويلة، حين قالت: «إنّ الثورة هي النمط الوحيد من الحرب الذي لا يمكن الانتصار فيه إلاّ بسلسلة من الهزائم».
تفضلوا بالضغط على الرابط للحصول على الكتاب ورقياً أو الكترونياً:
المصادر:
نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 545 في تموز/يوليو 2024.
[1]ياسمين قعيق: باحثة سياسية.
[2] علي القادري، التنمية العربية الممنوعة: ديناميات التراكم بحروب الهيمنة، ترجمة مجدي عبد الهادي؛ مراجعة غسان رملاوي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2020)، ص 4.
[3] المصدر نفسه، ص 189.
[4] للمزيد، انظر: فتوح أبو دهب هيكل، تأثير الثورات العربية في النظام الإقليمي العربي، 2011-2019 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021).
[5] القادري، المصدر نفسه، ص 213.
[6] للمزيد، انظر: هيكل، المصدر نفسه.
[7] القادري، المصدر نفسه، ص 247-248.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.