مقدمة

يتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه الباحثين والطلبة الجامعيين، ولا سيما في مرحلة الدراسات العليا، في تحديد إشكالية البحث (وصف دقيق للمشكلة أو الفجوة المعرفية ومنهجية البحث) والسؤال البحثي[1] (صوغ محدد لتوجيه عملية البحث). ويظهر هذا التحدي في كثرة الأسئلة لدى طلاب الدراسات العليا، وحيرتهم حول موضوعات تصلح للبحث العلمي في تخصصاتهم واستهلاك وقت طويل في الوصول إلى صوغ الإشكاليات وأسئلتهم البحثية. إن السؤال الجيد سيوجّه الباحث نحو النظرية والأدبيات والداتا والمنهج الواجب استخدامها، فإذا كان الباحث يجهل ما يريد معرفته فلن يعرف كيف يمكنه الوصول إليه.

تصف زينة أوريلي ذلك بالقول:

“البحث العلمي رحلةٌ لاتخاذ القرارات. عليكَ الانخراط باستمرار في عملية اتخاذ قراراتٍ منطقية ومتسقة ومترابطة. وما معيار اتخاذ القرارات المنطقية والمتسقة والمترابطة؟ هو أن تقربّك الخيارات التي تتخذها خطوةً نحو القدرة على الإجابة عن سؤال بحثك بمصداقية. لذا، فبدون صياغةٍ واضحةٍ لسؤالك، ستسير في طريقٍ أعمى”.

وتحدد أشلي روبين بدورها أربع استراتيجيات للوصول إلى السؤال البحثي:

1- البدء بالإطار النظري ثم اختيار الموضوع: تبدأ هذه التقنية بمفهوم أو إطار نظري أو نقاش أكاديمي معين، ثم يتم اختيار موضوع محدد لتطبيق هذا الإطار عليه. قد يكون الإطار النظري مفهومًا (كالنوع الاجتماعي، أو الوكالة)، أو نظريةً (البنائية الاجتماعية، النظرية النسوية)[2]، أو نقاشًا (الطبيعة مقابل التنشئة)، أو أدبياتٍ علميةً (أدبيات السجون، العقاب، القانون والمجتمع). ثم يحدد الباحث “حالة مثالية” يمكن أن تُستخدم لاختبار أو استكشاف هذا المفهوم النظري. مثال: باحث مهتم بكيفية استجابة المنظمات للقانون، وبعد مراجعة أدبيات القانون وعلم الاجتماع، يلاحظ تناقضات بين ما تطرحه الأدبيات، فيقرر أن يدرس استجابة الشركات لقانون الحقوق المدنية الأمريكي.

في ما يخص الأطر النظرية والمفاهيمية، أشير إلى نقطة جوهرية مرتبطة بضرورة الاهتمام بالنظريات غير الغربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية. فالنظريات السائدة في هذه العلوم هذا ذات مركزية غربية، وهي بالضرورة ليست محايدة بل تعكس منظومة مصالح ومنطلقات قيمية وثقافية. فهذه النظريات بمقدار ما تحاول تفسير الواقع فهي تصنعه أيضًا. ولذلك مع الاهتمام بالنظريات الغربية، فلا بد من مقاربتها بنظرة نقدية من ناحية والتنقيب عن مقاربات نظرية عالمية ظهرت في سياقات غير غربية من ناحية ثانية.

2- البدء بالموضوع ثم البحث عن التأطير النظري: يبدأ الباحث بموضوع يثير اهتمامه شخصيًا، ثم يبحث عن نظرية أو إطار يساعد على تفسيره. قد يكون الموضوع ظاهرةً (مقاومة السجناء)، أو مكانًا، أو فترة زمنية، أو مجموعة سكانية. بعد اختيار الموضوع، يجب “تلبيسه” بملابس نظرية مناسبة. مثلًا: إذا أراد الباحث دراسة مقاومة السجناء، يلاحظ أن مفهوم “الوكالة” يتكرر في الأدبيات، ويعلم أن هناك نقاشًا بين “الوكالة والبنية”، فيبني سؤاله البحثي حول هذا التوتر في سياق المقاومة. في هذه الاستراتيجية يمكن البدء بجمع البيانات قبل تحديد الإطار النظري.

هنا لا بد من الإشارة إلى أنه من أجل اختيار الموضوع ينبغي أن يكون الباحث مسؤولًا بأن يقترب من تناول المشكلات والتحديات المفتاحية ذات التأثير المباشر في مجتمعه وبلاده، ولا سيما إن كان من مواطني الدول النامية/ الجنوب العالمي. إن الباحث موضوعيٌّ لكنه ليس محايدًا، بل منحاز إلى قيم العدالة والحرية والمساواة ومواجهة الظلم والتمييز، ولذلك هو معني بأن يتيح في أبحاثه لظهور صوت الفئات والمجتمعات المهمشة والمظلومة وتصوراتها ومصالحها. وهذه مسؤولية ضرورية ينبغي على الباحثين في البلدان العربية تحديدًا الاهتمام بها لكثرة ما تعاني مجتمعاتها وأفرادها ودولها من تبعات الهيمنة الاستعمارية والاحتلال والاستبداد والتفاوت الاجتماعي والطبقي.

3- دمج الموضوع والنظرية منذ البداية: هنا يُختار مفهوم شائع أو مركزي في الحقل الأكاديمي ليكون هو نفسه الموضوع والإطار النظري في آنٍ واحد. هذه التقنية لا تفصل بين “ما الذي أدرسه؟” و”كيف أدرسه؟”، بل تأتي الفكرة دفعة واحدة. أمثلة على هذه المفاهيم: “اللامساواة”، و”السيطرة الاجتماعية”، و”المشاركة الانتخابية”. لا يُدرس المفهوم بصورة مطلقة، بل في سياق محدد. على سبيل المثال: إذا أراد باحث فهم آليات “السيطرة الاجتماعية” في المترو، فهو لا يحتاج إلى اختراع نظرية جديدة، بل يستكشف كيف يظهر هذا المفهوم في سياق معين.

4- اللغز: البدء من لغز (Puzzle) يحير الباحث – سواء أكان نظريًا أم واقعيًا – والبحث عن تفسير له. ينبثق اللغز النظري من الأدبيات وليس من تجربة واقعية. قد يكون تناقضًا أو ملاحظة غير مفسرة تتكرر في الدراسات من دون تفسير مقنع. أما اللغز التجريبي فينبثق من تجربة واقعية (تاريخية، اجتماعية، إحصائية…). من الأمثلة على اللغز: لماذا تنفذ أمريكا عددًا كبيرًا من أحكام الإعدام؟ ما سبب أحداث شغب سجن أتيكا؟ لماذا انهارت مدرسة بيركلي لعلم الجريمة؟

هذا الدليل ليس مخصصاً لمنهجية البحث العلمي، بل للمرحلة التي تسبق تبلوُر الإشكالية. أما كيفية صوغ الإشكالية وشروطها ومراجعة الأدبيات وبناء الإطار المفاهيمي والنظري ونوع البحث وكيفية جمع البيانات وتحليلها، فهذه كلها محالة إلى منهجية البحث العلمي. يسعى هذا الدليل إلى الإجابة عن السؤال الذي يؤرّق الطلاب والباحثين حول الموضوع الذي يمكن البحث فيه. يعرض الدليل المصادر المحتملة التي يمكن للباحث استخراج إشكالية بحثية من مصدر واحد منها أو من خلال تشبيك مصدرين أو أكثر.

لقراءة الدليل كاملاً أو تحميله:

المصادر:

حسام مطر: أكاديمي وباحث متخصص في العلاقات الدولية، ومحاضر في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في موضوعات علم اجتماع النزاعات والحروب وعلم الاجتماع السياسي ومنهج تداخل التخصصات.


حسام مطر

أكاديمي وباحث متخصص في العلاقات الدولية، ومحاضر في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في موضوعات علم اجتماع النزاعات والحروب وعلم الاجتماع السياسي ومنهج تداخل التخصصات.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز