مقدمة:

«الحكم الذاتي» مفهوم قديم ومُعمّر، متسع الدلالات، ومتعدد الاستخدامات، وقاطع للمجالات والفضاءات، ينطلق من بوابة الفلسفة والأخلاق، ليلج رحاب حقول عديدة، منها الإدارة والقانون والسياسة، يُعالج جوانب منها بانفصال، وأخرى بامتزاج يسفر عن معادلات مركبّة، وفي أحيان معقّدة. أدى ذلك إلى وقوع تباينات في تعريف هذا المفهوم ومداه؛ في كيفية ونوعية انطباقه على الأفراد والمجموعات، وبين الدول المستعمِرة ومستعمراتها من جهة، وداخل الدولة المستقلة والسيادية، من جهة أخرى. وقادت هذه التباينات إلى تكثيف النقاش خلال العقود القليلة الماضية حول الموضوع، وبروز وجهات نظر متعددة شملت البعدين النظري والعملي، والصعيدين الأكاديمي والسياسي، حول أصل هذا المفهوم، وماهيته، وعلاقته بمفاهيم أخرى، ولا سيَّما بحق تقرير المصير والحقوق الجماعية للأقليات.

ارتبط مفهوم «الحكم الذاتي» منذ القدم بمجال الفلسفة والفكر السياسي، إذ عالج موضوع «الكيانية الفردية»، وبخاصة في ما يرتبط بعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة، وما جرى عليها من تحولات عبر الحقب التاريخية المتعاقبة. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح المفهوم أكثر ارتباطاً، من الناحية السياسية على الأقل، بعلاقة الدول المستعمِرة بالمستعمرات، وحقبة إنهاء الاستعمار. وبعد حصول معظم المستعمرات على استقلالها، أو التوصل إلى اتفاقات في شأن مستقبلها السياسي، انحسر الاهتمام بهذا المفهوم، ولكن ليعود بقوة بعد تفكك الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي‏[1].

أدى التفكك والانهيار الذي أصاب الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي إلى زوال «الستار الحديدي» ببُعديه، الجغرافي عن الدول المكوِّنة لهذه الكتلة، والعلائقي بين العديد من هذه الدول ومكوناتها الداخلية. انفتحت هذه الدول على العالم، وبسرعة بدأت تتأثر برياح العولمة المحمّلة بالحرية الفردية والليبرالية الفكرية والديمقراطية السياسية‏[2]. وبفعل ذلك تشققت الأيديولوجيا الماركسية الأممية التي كانت تخفي تحتها تباينات الأقليات الإثنية والثقافية والقومية، والتي بدأت تتململ في مطالباتها، فتعرّضت هذه الدول لضغوط ومساعٍ انفصالية‏[3]. لهذا السبب، ومن هذا الباب، عاد الاهتمام بـ «الحكم الذاتي»، ولكن من منطلق أنه يُشكّل آلية ناجعة محتملة للحفاظ على المزاوجة بين استمرارية وحدة الدولة، ومعالجة تطلعات الأقليات فيها بصورة إيجابية‏[4].

تحاول هذه الدراسة سبر غور مفهوم «الحكم الذاتي» من خلال إلقاء الضوء على منبعه الفلسفي – الفكري، وتتبّع مسيرة تغيّر نطاق تعريفه وتطبيقاته. ويقودنا الارتباط الوثيق لهذا المفهوم بحقوق الأقلية الجماعية وحق تقرير المصير إلى معالجة التشابك بين هذه المفاهيم، وفقاً لرأي القانون الدولي بذلك من جهة، ولاعتبارات السيادة للدولة بوصفها الوحدة الأساسية المكوّنة للنظام الدولي القائم، من جهة ثانية. يتم أيضاً تحليل علاقة «الحكم الذاتي» بالدولة، وتناول متطلبات إقامته، وأصنافه المختلفة، واستعراض الإيجابيات والسلبيات الناجمة عنه.

أولاً: الحكم الذاتي الفردي

منذ القدم، انشغل الفلاسفة في البحث في هدف الحياة؛ في الغاية العليا التي تحكم الوجود الإنساني وتحقق الحياة الفُضلى للفرد. اعتقد الكثير منهم أن السعادة هي هذه الغاية، التي لا تتحقق إلا بضمان الحرية‏[5]. ولكن كيف، وإلى أي مدى، يمكن تحقيق حرية الفرد وهو لم يُعد يعيش وحيداً، بل مع مجموعة متكاثرة من البشر، ضمن المجتمع، وداخل الدولة؟ لقد فرضت عليه هذه العلاقات المتشابكة التي تزداد تعقيداً ضرورة قبول تنظيم شؤون حياتية وفقاً لمتطلبات العيش المشترك مع الآخرين، وتحت وطأة قيود المجتمع وسلطة الدولة، الأمر الذي لا بدّ من أنه قيّد من حريته، وحرمه بالتالي إمكان بلوغ الهدف من وجوده، وهو تحقيق سعادته.

إيجاد المقاربة بين حالة الحرية الفردية الطبيعية الضرورية لتحقيق السعادة كغاية عليا للحياة، أولاً؛ وضرورة تنظيم هذه الحياة بما يشتمل عليه ذلك من قيود على هذه الحرية الفردية، ثانياً؛ أصبح الشغل الشاغل للفلاسفة والمفكرين عبر العصور. وقد كرّس أحدهم، وهو جون ستيوارت ميل (1806 – 1873)، جهده وعصارة فكره للبحث في هذه المسألة.

كان ميل من روّاد الفكر الليبرالي الذي يقوم بالأساس على قناعة عميقة باستقلالية وفردانية الفرد؛ بأولوية كينونته على غيرها من الكيانات، كالمجتمع والدولة. استقلالية الفرد هي أن يكون المرء سيد نفسه، ويحكم ذاته بذاته، توجهه اعتبارات ورغبات وظروف وخصائص خاصة به، ولا يتم فرضها عليه من خارج الذات. فالفرد وحدة قائمة بذاتها ولذاتها، هو سيد نفسه ومالكها، وله كامل السيادة على ذاته. أما الفردانية فهي حق الفرد الطبيعي المكفول بأن يكون مختلفاً عن الآخرين‏[6]، فهذا هو أساس كينونته الخاصة وحريته. ويُحافظ على هذه الفردانية بتوطيد قيمة التسامح التي تتمثل بقبول الآخر المختلف والرأي الآخر، من دون تعرّض الفرد للتحكم الخارجي أو الإكراه‏[7]. الأفراد في الفكر الليبرالي، إذاً، مهمّون، ومتساوون، ويستطيعون كوكلاء التفاعل مع الغير من خلال قدرتهم على الإرسال والاستقبال‏[8]. وبالتالي، لديهم ميزة التلقائية والقدرة على الاختيار، فالفرد يصنع حياته ويتحكم بمصيره، له الحق أن ينحت مفهومه الخاص عن «الجيد»، وأن يناقشه بعقلانية، ويتصرف بعد ذلك وفقاً لأهدافه‏[9].

اعتقد ميل أن التطور الإنساني مبنيّ على الأصالة والإبداع الفردي، لذلك وضع «… شرطين ضروريين للتطور الإنساني، لأنهما ضروريان لجعل الناس لا يشبهون بعضهم بعضاً، وهما على وجه التحديد: الحرية وتنوع المواقف»‏[10]. بالنسبة إلى الحرية فقد ربطها بإتاحة المجال للفرد لتحقيق مصلحته، معتبراً أن «الحرية الوحيدة التي تستحق الاسم هي تلك القائلة بسعينا وراء مصلحتنا بطريقتنا الخاصة، طالما كنا لا نحاول أن نحرم الآخرين حقوقهم، أو نُعرقل جهودهم في الحصول عليها»‏[11]. أما الحدّ على حرية الفرد، التي لم تعد مطلقة بسبب تداعيات الحياة المشتركة مع الآخرين، فقد وضعه ميل عند الدرجة التي «… يجب أن لا يجعل (الفرد) نفسه مصدراً لإزعاج الآخرين»‏[12].

أما بالنسبة إلى تنوع المواقف فتبرز ليبرالية ميل من خلال تشديده على الحق الفردي في الاختلاف، وعدم الانصياع إلى نمط محدد، ما يعني منح الفرد كامل الحرية في تحديد خياراته: «ليس هناك سبب يجعل الوجود الإنساني برمته يُبنى وفقاً لنمط واحد بعينه أو وفقاً لعدد صغير من الأنماط. إذا ما امتلك الشخص أي مقدار معقول من الخبرة والقدرة العقلية، فإن نمطه في تصميم وجوده هو الأفضل، ليس لأنه هو الأفضل بحد ذاته، بل لأنه نمطه هو. البشر ليسوا كالأغنام؛ حتى الأغنام ليست متشابهة إلى حدّ لا يمكن التمييز بينها»‏[13].

ولتأكيد موقفه من الحرية الفردية والحق في الاختلاف، يُجمل ميل رأيه بصورة جليّة وحادة، وذلك بالإصرار «لو أن كل البشرية ما عدا شخصاً واحداً فقط، كانوا برأي واحد، وكان ذلك الشخص برأي مغاير، فإن البشرية كلها لن تكون مبررة في إسكات ذلك الشخص، أكثر من تبريره هو، لو أنه امتلك السلطة وأقدم على إسكات البشرية»‏[14].

كان ميل قلقاً من إمكان سطوة المجتمع وعسف الدولة على الفرد، وقدرتها على اضطهاده، سويّة أو كل منهما على حدة. فلكل منهما القدرة على تجريد الفرد من حريته، وإجباره على الانصياع بالإكراه لسلطوية نمط مفروض عليه. ومن اللافت للنظر أن قلق ميل انصبّ على الخشية والتحسّب من تدخّل المجتمع في حياة الفرد أكثر منه من تدخّل الدولة. ويبدو أنه وجد الحل السهل لدرء تدخل الدولة، وذلك من خلال: أولاً، اعتبار الديمقراطية التمثيلية الأسلوب الأفضل للحكم، وهذا يعني وضع الضوابط للحدّ من قدرة النظام السياسي على التسلط على الأفراد، وعلى المجتمع ككل. وثانياً، من خلال مطالبته بأن تكون الدولة حيادية في تعاملها مع أفراد ومكوّنات المجتمع، من دون محاباة أو تفضيل لأي من المُثل الأخلاقية المتنازعة من قبل مواطنيها، أو للمفاهيم المتضادة بينهم في ما يتعلق بتعريف الحياة الفضلى.

أما المجتمع ففي إمكانه أن «يمارس طغياناً اجتماعياً أشد قسوة من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي»، لذلك ليس كافياً «… حماية الفرد من طغيان الحاكم، وإنما ينبغي حمايته أيضاً من طغيان الرأي العام والشعور السائد، وحمايته من ميل المجتمع إلى أن يفرض إرادته على الأفراد…»‏[15]. هذا ما أطلق عليه ميل، بعد ألكسي دي توكـﭬيل، تعبير «طغيان الأغلبية»‏[16]. لقد أقلقت الأغلبية ميل لكونها أغلبية يمكنها، من خلال الرأي العام والنمط السائد، أن تطغى وتحجب الفرد، كما الأقلية. لذلك أراد من الدولة أن تكون حيادية، وأن يكون نظامها ديمقراطياً تمثيلياً.

لكي يحمي «الكينونة الفردية» من احتمال «طغيان الأغلبية»، فرّق ميل بين نوعين من أفعال الفرد: 1 – نوع من الأفعال التي يتعدى أثرها الفرد ليصل إلى التأثير في الآخرين؛ 2 – ونوع آخر من الأفعال التي لا يتعدى أثرها الفرد، وبالتالي لا تؤثر في الآخرين. أعطى ميل للمجتمع الحق في تنظيم النوع الأول، ومنع عليه التدخل في الثاني، لأن ذلك سيكون هو «طغيان الأغلبية»: «إن الجانب الوحيد من سلوك الفرد الذي يكون مسؤولاً عنه أمام المجتمع هو ذلك الجانب الذي يمسّ الآخرين. أما الجانب الذي يمسّ صاحب السلوك نفسه، أعني استقلاله وما يتعلق بشخصه، فهو حر وله فيه حق مطلق لا تحدّه حدود، فللفرد سيطرة كاملة على نفسه وعلى بدنه وعقله»‏[17].

ثانياً: البعد السياسي لـ «الحكم الذاتي»

من هذا المدخل الذي أصّل منه جون ستيوارت ميل لحق الفرد في امتلاك «السيادة الذاتية» مقابل «طغيان الأغلبية»، ومع أنه ركزّ في ذلك على علاقة الفرد بالمجتمع، وجد مفهوم «الحكم الذاتي» المنفذ ليبدأ في التبلور في بعده السياسي. فقد انشغل المفكرون السياسيون بعد ذلك ليس فقط في البحث عن كيفية صون وتحصين الحقوق السياسية للفرد داخل الدولة، وإنما أيضاً في مدّ هذا الحق ليشمل صون الحقوق السياسية للأقلية من «طغيان الأغلبية» في الدولة، حتى تلك ذات النظام السياسي الديمقراطي.

نشأت الدولة الأوروبية الحديثة، التي بدأت تتبلور بعد معاهدة وستفاليا عام 1648، على أساس «أمة واحدة – دولة واحدة». فبعد الدولة – الإمبراطورية متعددة الأعراق والقوميات، والحروب الدينية المديدة، والصراع المرير بين سلطة الكنيسة والملوك، بدأت الدولة ذات الإقليم والرعايا المحدَّدَين بالسيادة في البزوغ. ولكي تنعم هذه الدولة بالاستقرار بعد تاريخ طويل وحافل بالصراعات، استقر الفكر القومي على مبدأين: الأول، أنّ تَشارُك الأفراد في نفس الخلفية العرقية والتاريخية والنسيج الثقافي، بأبعاده اللغوية والدينية والتضامنية (بما يشمله ذلك من عادات وتقاليد مشتركة ومشاعر ترابطية)، ما يعني تشكيلهم لقومية/أمة واحدة، هو السبيل لتحقيق أمثل توافق وانسجام بينهم. فالتشارك بنفس الخصائص التكوينية يجعل من الأمة الإطار الأفضل لتحقيق إرادة الفرد الحرّة، لأنها تمثّل أقرب انعكاس لمجموع إرادات الأفراد المتماثلة. والثاني، ويأتي مستنداً إلى الأول، يؤكد أن من حق كل مجموعة قومية، متمثلة بالأمة، أن تُعبّر عن ذاتها وتصون كينونتها في وحدة خاصة بها، هي دولتها، وهو ما يحافظ على الخصوصية السياسية لكل أمة، ويحدّ من الصراع بين الأمم. وبالتالي، يتحقق الاستقرار الدائم والسلم الشامل بين الدول‏[18]. وعلى هذا الأساس، أصبحت الدولة الأوروبية الحديثة تُعرّف بـ «الدولة القومية».

لاحقاً، جاء ارتباط نظام الحكم الديمقراطي – الليبرالي بـ «الدولة القومية» منسجماً ويسيراً. فتجانس الأفراد سهّل، نظرياً على الأقل، من تحقق المساواة بينهم، فلا فوارق تقسّمهم إلى أغلبية وأقلية في ظل حكم القانون على الجميع بلا تمييز. وبالتالي، ومن الناحية المثالية، لا مُكنة لظهور «طغيان الأغلبية» في «الدولة القومية». وتساوي الأفراد يجعل، من الناحية القانونية، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، أمام الدولة. لذلك، تصبح مسألة حيادية الدولة في هذه الحالة أمراً ليس مرغوباً فيه فقط، بل مفروغاً منه أيضاً. فليس للدولة حينئذ مصلحة في التمييز بين أفراد متجانسين أصـلاً.

ولكن واقع تشكُّل الدولة الحديثة لم يأتِ مطابقاً للتصوّر المثالي بشأنها، إذ لم تنطبق هذه المعادلة المريحة على كيفية تشكُّل العديد من الدول. فالدول «القومية» التي نشأت وتدحرجت في أوروبا لم تتشكل وفق نمط النموذج النقي المرغوب، وإنما أتت لتضم داخل أقاليمها جماعات من أصول ومركّبات مختلفة وليست متجانسة، منها مَن كان سائداً من الناحية العددية فشكّل أغلبية، ومنها من كان متنحّياً فأصبح أقلية. هذا الانقسام، أو الانقسامات، داخل المكوّن البشري للدولة هو ما زرع بذور التشظي وأوجد منابت للصراع داخلها. ولم يكن الوضع أفضل في الدول الناشئة حديثاً في أرجاء العالم الأخرى بعد انتهاء حقبة الاستعمار. فمعظم المستعمرات أُقيم ليس على أساس تجانس سكانها، وإنما وفق رغبة وقدرة المستعمرين. وبالتالي جاءت الدول بعد الاستقلال ضمن حدود رُسم معظمها بصورة اعتباطية وعشوائية لتضم أطيافاً مختلفة من المجموعات البشرية. وبالطبع، فإن التنقل والهجرة البشرية المستمرّيْن ساهما أيضاً، وعلى مرّ الزمن، في اختلاط الأجناس، وإلغاء إمكان تطابق «الأمة» الكامل مع الدولة.

من ناحية فعلية، قوّض وجود جماعات مختلفة داخل «الدولة القومية» المبدأ الليبرالي المثالي الداعي إلى المساواة في الحقوق بين الأفراد، وبالتالي بين الجماعات، فيها. فوزن قوة الفرد المنتمي إلى الأغلبية مختلف عنه لمن هو عضو في الأقلية. ما يعنيه هذا الاختلاف أن حقوق الفرد من الأغلبية ليست مصانة أكثر فقط، ولكنها سائدة أيضاً، على تلك الحقوق للفرد المنتمي إلى الأقلية. وبالتالي، تتعرض الأقلية، وأفرادها، في وضع مثل ذلك، إلى إجحاف نمطي ومنهجي من قبل الأغلبية، حتى وإن لم تقصد ذلك‏[19]. والسبب وراء هذا الإجحاف أن معتقد حياة الأغلبية ونمطها يُصبح هو المعتمد في الحياة العامة للمجموع العام، ولا مفرّ للأقلية سوى الامتثال لهذا الاعتماد والانصهار في البوتقة الجامعة، التي ليست سوى نمط الأغلبية السائد‏[20]. فتعريف الأمة من خلال التشارك في مواصفات عرقية، أو ثقافية، أو قومية، لا بدّ من أن يستثني، على الأقل، مجموعة من السكان في المنطقة المعنيّة، وهو ما يحولّهم مباشرة إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وبحقوق ثانوية‏[21].

كان الاعتقاد الليبرالي يرتكز على أن إقامة نظام سياسي ديمقراطي على أساس تمثيلي، وجعل الدولة حيادية في علاقتها برعاياها، يمثّلان الضمانة للمساواة وعدم المحاباة بين الأفراد، والجماعات، داخل الدولة. ولكن تبيّن أن هذا الاعتقاد كان مثالياً أكثر منه واقعياً. فالنظام الديمقراطي التمثيلي في دولة متعددة المجموعات العرقية أو الثقافية أو القومية، لا بدّ من الناحية الفعلية من أن يُنتج تمثيـلاً يعكس الحجم والقوة المتفاوتة لهذه المجموعات. ما ينجم عن ذلك أنه بطريقة ديمقراطية يمكن للأغلبية أن تهيمن وتفرض ما ترغب فيه على الأقلية، وأن تقوم بتوزيع المصادر المحدودة المتوافرة للدولة وفق مشيئتها، دون أن يكون في مقدور الأقلية سبيل لمواجهة ذلك سوى أن تتحول هي إلى أغلبية. وهذا هو مغزى المبدأ الديمقراطي القاضي بتداول السلطة بشكل دوري وسلمي، من خلال إجراء الانتخابات، فهي الآلية التي تنتج إمكان تحوّل الأقلية السياسية إلى أكثرية. ولكن الانتخابات لا تفيد إن كان منبع وجود الأقلية هو الأساس العرقي أو الثقافي أو القومي، من جهة، وكانت الأقلية بحجم لا يؤهلها أبداً لأن تتحول في المستقبل إلى أغلبية، من جهة ثانية‏[22]. في هذه الحالة لا يعود لمشاركة الأقلية في مجرى الحياة السياسية أي جدوى أو أهمية، طالما بقي القرار دائماً مُلكاً للأغلبية. عندئذٍ، تفقد الدولة الليبرالية حياديتها لكون نظامها الديمقراطي يصبح بالضرورة منحازاً إلى الأغلبية، وإقصائياً واستبدادياً بالأقلية، وذلك لأن الحُكم على أساس تمثيلي لا يعني ببساطة، وفقط، حُكم الأغلبية‏[23].

يؤدي الإجحاف بحقوق الأقلية، وتهميش مشاركتها السياسية، وتحييد دورها في عملية اتخاذ القرار، داخل الدولة التي من المفترض أن تُمثلها وترعى مصالحها، من خلال تطبيق المساواة في حقوق جميع الأفراد، والعدالة في توزيع المصادر على الجميع، إلى إثارة الصراع داخل الدولة. يبدأ هذا الصراع بتذمرّ الأقلية، ويمرّ بإطلاق العنان لنعرتها الحمائية، ليصل إلى إمكان فتح بوابة السعي للانفصال عن الدولة وتحقيق الاستقلال. في هذه الحالة تبدأ هوية الدولة بالتفكك، وتُصاب شرعيتها بأضرار قد تُصبح بالغة، لتصل إلى درجة قد يصعُب معها استمرار تماسكها والمحافظة على وحدتها.

لتدارك هذه الاحتمالات التي لم تكن متوقعة أو مقصودة أو مرغوباً فيها، ومن أجل الحفاظ على مغزى وهدف النظام الديمقراطي الليبرالي، بدأت دعوات تستلهم نوعاً جديداً من الديمقراطية يقوم على مبدأ الليبرالية التعددية الذي يعترف بحقوق المجموعات، وليس بحقوق الأفراد فقط‏[24]. كما تصاعدت مطالبات بأن تصبح الدولة تدخلّية، عوضاً من حياديتها النظرية المفعمة بالانحياز الفعلي. ويكون هدف التدخل منصبّاً على اتخاذ ما يلزم من إجراءات تعديلية وتفضيلية لصالح الأقلية وأفرادها، بمنحها سيطرة أوسع في المجال الخاص المتعلق بتقرير شؤونها الداخلية، وممارسة مشاركة ذات مغزى في العملية السياسية، وذلك كي تعيد الاعتبار لمبدأ المساواة ليس فقط بين جميع الأفراد، بل والجماعات، داخل الدولة، وتدرأ «طغيان الأغلبية» عن الأقلية‏[25]. هذا هو الأساس الفكري الذي بُني عليه مفهوم «الحكم الذاتي».

ثالثاً: حقوق الأقلية؛ الحكم الذاتي؛ وحق تقرير المصير

بعد تفسّخ الكتلة الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي بدأت المجموعة الدولية، وبالتحديد أوروبا، تولي اهتماماً لمسألة الأقليات وحقوقها الجماعية. فأقليات عديدة في دول وسط وشرق أوروبا بدأت بالمطالبة والحراك لتحقيق الانفصال والاستقلال عن الدول الموجودة فيها. وقد أثار الصراع داخل يوغسلافيا وتفسخها حفيظة الدول الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، والنظام الدولي بوجه عام. فهذا النظام يقوم على أساس الدول، وتبادل الاعتراف بها وتنظيم العلاقات بينها. وبما أنها الوحدات الأساسية التي تُشكّل هذا النظام، فإن الدول تتكاتف لتدافع عن بقائها، وتوظف المنظومة الدولية للحفاظ على وحدة وسيادة بعضها بعضاً، وخصوصاً إن كان الخطر المحيق بواحدة منها يمكن، وفق نظرية الدومينو، أن ينتشر ويصل إلى البقية. لذلك من غير المتوقع أن تشاهد الدول، دون ردّ فعل، اختفاء بعضها عن الخارطة السياسية، وبزوغ دول جديدة مكانها، متعددة وصغيرة. فهذا الأمر إذا استمر ولم يكبح يمكن أن يصل إلى عقر دارها، ويؤجج صراعات كامنة داخلها، ويؤدي إلى تفككها، ما يثير موجة عارمة من الصراعات، ويزعزع الاستقرار الدولي القائم.

ولكن المعضلة التي باتت تواجهها الدولة تمثّلت بالكيفية التي يمكن فيها الحفاظ على وحدة وسيادة الدولة دون إكراه وعنف، من جهة، والتجاوب مع تطلعات أقلية داخلها تعتقد بأن هذه الدولة تجحف بها وتنتقص من حقوقها، ما يجعلها تطالب بالانفصال عنها، من جهة أخرى. وفي السعي لإيجاد حل، أو تسوية، لهذه المعضلة برزت مجموعة من التساؤلات المهمة التي أصبحت مثار نقاش عند الدول، وبين الخبراء، ووصلت إلى مستوى البحث عن أجوبة في ثنايا القانون الدولي: هل حقوق الأقلية قائمة على تمتع أفرادها بحقوق الإنسان ومنحهم حقوقهم الفردية كغيرهم من أفراد الأغلبية، أم أن للأقلية كمجموعة حقوقاً جماعية‏[26]؟ هل تتمتع الأقلية داخل الدولة بحق تقرير المصير الذي يعطيها الحق في الانفصال والاستقلال عنها، أم أن هذا الحق يقتصر على تمتعها بالحكم الذاتي؟ وهل الحكم الذاتي حق موجب للأقلية، أم هو ترتيب داخلي يتم بالتوافق والتراضي بين الأقلية والدولة‏[27]؟

لم يُسعف التوجه إلى القانون الدولي في إيجاد أجوبة قاطعة عن الأسئلة السابقة، إذ لا يوجد في هذا القانون تعريف واضح ومحدد للحقوق الجماعية للأقلية، أو للحكم الذاتي وأحقية الأقلية به، أو عَدّ الأقلية شعباً له الحق في تقرير المصير. ما يوجد في القانون الدولي هو تطور في مسيرة قرارات تتعلق بهذه المسائل، ولكن دون حسم، ما يترك الباب مفتوحاً للاستنباط والتأويلات‏[28].

بعد الحرب العالمية الأولى ارتبط حق تقرير المصير، كمبدأ وليس كحق قانوني قطعي، بالرئيس الأمريكي ودرو ويلسون، الذي في سعيه لتعزيز السلم الدولي، حاول من خلال هذا المبدأ تحديد معالم التعامل مع المستقبل السياسي للأقاليم التي انسلخت عن الإمبراطوريتين المنهارتين، النمسوية – المجرية والعثمانية‏[29]. لم يكن حينئذٍ في البال اشتمال هذا المبدأ على معالجة مستقبل المستعمرات ما وراء البحار، أو منح الأقليات داخل الدول الحق بالانفصال عنها. فقد كان النظام الدولي حتى ذلك الحين أوروبيّ الأساس وشماليّ النفحة، ولم يكن لجنوب العالم اعتبار بعد، كونه تشكّل من مستعمرات تابعة‏[30]. ومع أن عصبة الأمم أقرّت تطبيق نظام الانتداب على أقاليم كانت تابعة للدولة العثمانية، ومنحت جزر أولاند الحكم الذاتي تحت السيادة الفنلندية، إلا أن ميثاقها لم يتضمن أية إشارة إلى حق تقرير المصير.

وردت أول إشارة لتقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، ولكن ليست بالقوة أو الوضوح التي تجعل منه قاعدة من قواعد القانون الدولي. كانت هذه الإشارة مرتبطة بالشعوب «… بأن يكون لكل منها تقرير مصيرها»‏[31]، ودون أي ذكر لحقوق الأقليات، بل تم التركيز على «… تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً … بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء»‏[32]. وتضمّن الميثاق إشارة عن الحكم الذاتي، إذ دعا الدول الأعضاء المسؤولة، أو التي ستصبح مسؤولة، عن إدارة أقاليم لم تتمتع بالحكم الذاتي سابقاً‏[33] أن «… ينمّون الحكم الذاتي، ويُقدّرون الأماني السياسية لهذه الشعوب قدرها، ويعاونونها على إنماء نظمها السياسية الحرّة نمواً مطرداً، وفقاً للظروف الخاصة لكل إقليم وشعوبه، ومراحل تقدمه المختلفة»‏[34]. كما اشتمل الميثاق أيضاً على إنشاء نظام وصاية، تحت إشراف مجلس خاص، يكون هدفه «العمل على ترقية أهالي الأقاليم المشمولة بالوصاية… واطّراد تقدمها نحو الحكم الذاتي أو الاستقلال حسبما يلائم الظروف الخاصة لكل إقليم وشعوبه، ويتفق مع رغبات هذه الشعوب التي تُعرب عنها بملء حريتها وطبقاً لما قد يُنصّ عليه في شروط كل اتفاق من اتفاقات الوصاية»‏[35]. ومع أن الدول المستعمِرة اختلفت في حينه مع الدول حديثة الاستقلال حول تفسير ماهية الحكم الذاتي المقصود، وعلى مستلزمات انطباقه، إلا أن التسارع في الدخول في حقبة إنهاء الاستعمار جعل من الحكم الذاتي المنظِّم للعلاقة بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها منظومة قديمة لم تعد تصلح لمقتضيات عصر ما بعد الاستعمار. ومن نتائج ذلك توقُف مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة عن الاجتماع دورياً منذ السبعينيات من القرن الماضي، وتعليقه لأعماله منذ عام 1994.

مع أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 لم يتضمن أية إشارة حول مبدأ تقرير المصير، بل ركزّ تماماً على الحقوق الفردية للأشخاص، إلا أن «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة» الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة (القرار الرقم (1514)) عام 1960 جاء صريحاً وواضحاً في تأكيد تقرير الشعوب لمصيرها، وتحويل هذا المبدأ إلى حق عام. في هذا الإعلان أكدّت الجمعية العمومية «… ضرورة وضع حدّ بسرعة من دون قيد أو شرط للاستعمار بجميع صوره وأشكاله»، وقررّت أن «لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها؛ ولها بمقتضى هذا الحق أن تُحدّد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي»‏[36]. وقد فتح هذا القرار الباب أمام الجمعية لإصدار عدد من القرارات المتلاحقة، ومنها ما أكدّ «… شرعية نضال الشعوب لتقرير المصير والتحرر من الاستعمار والسيطرة والتسلط والاستعباد الأجنبي» (القرار 2787 لعام 1971).

من الجدير بالانتباه أنه منذ إطلاق الجمعية العمومية إعلانها لإنهاء الاستعمار، أصبح حق تقرير المصير للشعوب ملتصقاً بإنهاء الاستعمار، ويُعبّر عن حق انفصال المستعمرات عن الدولة المستعمِرة، أي حق الشعوب المستعمَرة بالاستقلال. وقد لقيت الدول في هذا التخصيص في التعريف منفذاً مناسباً لحماية وحدتها وسيادتها، فمانعت منذ ذلك الحين انطباق الحق على كل الشعوب، وبما يسمح لمكوّن من الدولة بالمطالبة بحق الانفصال عنها‏[37]. لقد حصرت الدول حق تقرير المصير للشعوب، بما أصبح متعارفاً عليه بأنه حق تقرير المصير الخارجي، المتمثّل بحق المستعمرات في الاستقلال، وحق الدول في التصرف بشؤونها الداخلية دون تدخلات خارجية‏[38].

 

حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي لم يعالج القانون الدولي مسألة حقوق الأقلية، بل بقي محصوراً في خانتين: حقوق الإنسان والحقوق الأساسية للأفراد، وحق تقرير المصير للشعوب الذي قُيّد بمجال إنهاء الاستعمار. ولكن في عام 1966 صدر عن الجمعية العمومية «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، الذي يمكن أن يُشكّل المدخل لحقوق الأقلية في القانون الدولي، مع أنه لم يعالج هذه الحقوق كحقوق جماعية للأقلية، وإنما كحقوق فردية للأشخاص المنتمين إلى هذه الأقلية، ولم يتطرق إلى الجانب السياسي من هذه الحقوق، بل حصرها في الجانب المدني فقط. ولكن مع ذلك، فتح هذا العهد الباب، ولو موارباً، أمام معالجة مسألة الأقليات. ففي المادة 27 يؤكد العهد أنه «لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية أن يُحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره، أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم»‏[39].

ولكن بالرغم مما جاء في العهد المشار إليه من بداية اهتمام وتحوّل في نظرة المجتمع الدولي والقانون الدولي لمسألة الأقلية داخل الدولة، إلا أن وضع الأقليات الفعلي لم يشهد تغيراً جذرياً حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. فخلال تلك الفترة بقيت الدول على موقفها الرافض لمنح الأقلية حق الانفصال عن الدولة، على أساس أن الأقليات لا تُشكّل شعوباً، أو جزءاً من شعوب، وبالتالي لا ينطبق عليها الحق في تقرير المصير‏[40]. ومع أن دولاً قليلة العدد حاولت خلال تلك الفترة معالجة المشاكل التي تواجهها مع أقليات داخلها بمنحها حكماً ذاتياً يعطيها صلاحيات في إدارة شؤونها الداخلية، إلا أن الرأي السائد عند مجموعة الدول بقي متخوفاً من أن يُمهّد الحكم الذاتي إلى الانفصال‏[41]. لذلك بقيت مسألة الأقليات منضبطة وتحت السيطرة في معظم الدول، وتُدار من خلال محاولة تسويق دمج وإشراك أفرادها في مجرى الحياة العامة في الدولة، وعلى قاعدة تحقيق المساواة بين جميع مواطني الدولة. ومن خلال استمرار تركيز الدول على الطابع التمثيلي لنظمها السياسية وحكوماتها، انتشر الادعاء بعدم مشروعية طلب الأقليات بضرورة منحها «وضعاً خاصاً» من قبل دولها، أكان ذلك بقبول مساعيها للانفصال، أو مطالبها بحكم ذاتي‏[42].

ولكن تفجّر الصراعات داخل الدول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبخاصة في أوروبا، أدى إلى تصاعد الاهتمام بمسألة الأقليات وكيفية معالجة مطالبها. ومع أن القلق الدولي، وبين الدول، من إمكان تطبيق حق تقرير المصير على الأقليات، استمر كالسابق، بل وتعاظم، إلا أنه في حالات قليلة مستعصية، كإريتريا وكوسوفو وجنوب السودان، تم إنهاء الصراع بالانفصال تجاوباً مع مقتضيات الوقائع الصعبة. ولكن مع الأغلبية العظمى من الحالات، تم ضخّ الحياة في نموذج الحكم الذاتي كـ «حل وسط» لتلبية تطلعات الأقلية، يُخلصّها من «طغيان الأغلبية»، ويحافظ في ذات الوقت على وحدة الدولة. ومن قوة دعوات وحركات الانفصال التي شهدتها تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، تغيّرت النظرة إلى الحكم الذاتي. فقد تحوّلت من اعتباره بداية طريق الانفصال، إلى كونه وسيلة يمكنها أن تمنع الانفصال‏[43].

مع أن التوجه العام على الصعيد العالمي أصبح أكثر تقبـلاً لنموذج الحكم الذاتي لحل مسألة الأقليات داخل الدول، إلا أن الموضوع استمر شائكاً، يلفّه الغموض، وعليه الكثير من الجدل. والسبب الأساس في ذلك أن القانون الدولي لم يُقدّم أجوبة شافية عن الأسئلة المذكورة سابقاً. فهو لم يُقدّم تعريفاً واضحاً للأقلية كي يتم تحديد أي نوع منها الذي ينطبق عليه الحكم الذاتي: هل هي القومية الإثنية، أم الثقافية، أم القومية‏[44]؟ وما الذي يجعل الأقلية قومية، وهل كل أقلية قومية تشكل شعباً، أو جزءاً من شعب، له الحق في تقرير المصير‏[45]؟ ولم يُصرّح هذا القانون بأن إقامة حكم ذاتي يُعتبر تطبيقاً لحق تقرير المصير. بل هو لم يُقدّم أصـلاً تعريفاً واضحاً ومحدداً لمفهوم الحكم الذاتي، ومدى شمولية صلاحياته، وكيفية تطبيقه‏[46]. ولم يفرض هذا القانون على الدولة، وهي وفقه تُعد وحدة سياسية ذات سيادة، وجوب منح حكم ذاتي لإقليم داخلها‏[47].

في محاولتهم إيجاد أجوبة عن هذه الأسئلة، أشار فقهاء القانون الدولي وعلماء السياسة إلى أن وثيقة كوبنهاغن الصادرة عن مؤتمر البعد الإنساني الذي قامت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بتنظيمه عام 1990، وهي وثيقة غير ملزمة ولكنها مع ذلك معتبرة، تضمّنت صراحة أن الحكم الذاتي يمكن أن يُشكّل أحد الوسائل لتحقيق حقوق الأقلية‏[48]. ومع أن الجدل لا يزال مستمراً بين هؤلاء الخبراء حول مدى قوة النصّ وإلزاميته، إلا أنهم يتفقون على أنه ربط لأول مرّة بين الحقوق الجماعية للأقلية والحكم الذاتي. كما تتم الإشارة كذلك إلى الإعلان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1992 «بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية»، الذي يجد بعض الخبراء فيه صلة بين الحقوق الجماعية للأقليات والحكم الذاتي. فالمادة الأولى من هذا الإعلان تنص أن «على الدول أن تقوم كل في إقليمها، بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية واللغوية، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية». وتؤكد المادة الثانية أن «يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات الحق في المشاركة الفعّالة… في القرارات الخاصة بالأقلية التي ينتمون إليها أو بالمناطق التي يعيشون بها…»، «… والحق في إنشاء الرابطات الخاصة بهم والحفاظ على استمرارها»‏[49].

أدى إيحاء القانون الدولي بوجود علاقة مرنة بين الحقوق الجماعية للأقليات والحكم الذاتي وحق تقرير المصير إلى نمو اتجاه فقهي حاول تمتين الربط بين هذه المفاهيم. فهناك من يعتقد أن الحكم الذاتي يمكن أن يكون تطبيقاً لحق تقرير المصير، ولكن ليس على نحوٍ مطلق، وإنما بصورة محددة. فبما أن وحدة الدولة وسيادتها على إقليمها تقف حائـلاً أمام حق تقرير المصير الخارجي لأقلية داخل الدولة، وذلك بالانفصال والاستقلال عنها، فإن للأقلية المطالبة بممارسة الحكم الذاتي الذي يُمثّل ما أصبح يُعرف بحق تقرير المصير الداخلي، ويعني حق جميع من في الدولة بأن يكونوا جزءاً من عملية إدارتها وحكمها، بمساواة ودون انتقاص لأحد أو لفئة لأي سبب من الأسباب‏[50]. وهذا ما يضمن للأقلية المشاركة في القرارات المهمة على صعيد الدولة العام، وفي السيطرة على القرارات المتعلقة بكينونتها الخاصة، ووجودها، وازدهارها. لذلك يمكن اعتبار الحكم الذاتي «ملكة أدوات حماية الأقليات»‏[51] الذي يُشكّل الموازي لـ «حقوق المجموعة» بالنسبة إلى الأغلبية، ما يضمن احترام مبدأ المساواة بين جميع مواطني الدولة‏[52].

رابعاً: الحكم الذاتي: تصنيفات وتفصيلات

يقوم الحكم الذاتي على مبدأ حرية واستقلالية التحكم والتصرف بالذات، وهو بذلك أقرب ما يكون إلى «الرخصة التي تعطي القدرة على الفعل الحرّ، ولكن مع وجود بعض الكوابح»، ما يعطي «الدول، والعائلات، والروابط، أو الأفراد، الحق في إقرار واتّباع قوانينهم الخاصة»‏[53]. وفي الدولة، يمكن أن يُشكّل الحكم الذاتي إطاراً قانونياً فعّالاً، ووسيلة مفيدة، لإدارة وتسوية الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين الأقلية (أو الأقليات) والأغلبية، وذلك بمنح كلا الطرفين حق السيطرة على مجاله، من دون اللجوء إلى الفصل الداخلي، وإنما إلى تنظيم اقتسام السلطة في ما بينهما، ولكن ضمن إطار العيش المشترك للمجموع العام، والحفاظ على وحدة الدولة. لذلك، يُعَد الحكم الذاتي صيغة توفيقية تقوم على أساس قبول الطرفين؛ الدولة التي تُعبّر عن الأغلبية، والأقلية (أو الأقليات)، بتقديم تنازلات متبادلة، لا يحصل بموجبها أي منهما على كل ما يريد، بل على جزء مهمّ مما يريد. فالدولة تحصل من الأقلية على الضمانة باستمرار وحدتها، والأقلية تحصل من الدولة على احترام التنوع بين مواطنيها، وتؤطره قانونياً‏[54].

ينطبق نموذج الحكم الذاتي ويُنفَّذ داخل الدول الموحدّة ذات الحكم المركزي، وهو ينقسم إلى نوعين أساسيين: إقليمي (Territorial)، وغير إقليمي (Non-territorial). ما يُفرّق بين الاثنين هو مكان أفراد الأقلية التي ستُمنح الحكم الذاتي. فإن كان الأفراد مبعثرين داخل الدولة، يُعطى الحكم الذاتي غير الإقليمي لأفراد الأقلية بغضّ النظر عن مكان إقامتهم داخل الدولة. ويُمنح هؤلاء من خلاله حق المحافظة على خصائصهم اللغوية والدينية والثقافية، وعلى عاداتهم وتقاليدهم، وعلى حق تطوير هذه الخصائص من خلال مؤسسات خاصة بهم تُنشأ لتحقيق هذه المقاصد، مثل المدارس والجمعيات ودور العبادة الخاصة، إضافة إلى البرامج الإذاعية والتلفزيونية المتخصصة. وعلى السلطة المركزية أن تعمل على توفير جميع الضمانات والخدمات لهم في أماكن وجودهم. وبسبب تُوزّع أفراد الأقلية داخل الدولة، وعدم تجمّعهم بكثافة في إقليم معين داخلها، فإن الحكم الذاتي غير الإقليمي لا يُشكّل تهديداً لوحدة الدولة‏[55]. ويُعدُّ «نظام الملّة» في الدولة العثمانية من أهم الأمثلة على مثل هذا النوع من الحكم الذاتي، الذي يمكن أن يُطلق عليه مُسمّى «الحكم الذاتي الشخصي»، ونتج منه حالياً العديد من التطبيقات المختلفة في العديد من البلدان العربية، مثل الأردن ولبنان وفلسطين. أما في أوروبا، فإن فنلندا تطبق هذا النوع من الحكم الذاتي على الأقلية من مواطنيها المتحدثين باللغة السويدية.

أما الحكم الذاتي الإقليمي، وهو الأكثر شيوعاً ووضوحاً وأهمية لما له من تبعاتٍ سياسية، فهو يُمنح لإقليم محدد يتجمع فيه أفراد الأقلية، ويؤلّفون فيه الأغلبية، من دون إجحاف مفترض بحقوق المواطنين الآخرين الموجودين فيه، أو حقوق أفراد هذه الأقلية الذين يعيشون خارجه. فجميع الأفراد يتمتعون بحقوق المواطنة المتساوية، بغضّ النظر عن مكان إقامتهم داخل الدولة. ويزيد الحكم الذاتي على ذلك بأن يجعل حقوق الأقلية متكافئة مع حقوق الأغلبية. ولكن مع ذلك فإن هذا النوع من الحكم الذاتي هو الذي يثير، في العادة، حفيظة وقلق السلطة المركزية، لأنه قد يؤدي بالأقلية إلى طلب الانفصال عن الدولة.

يختلف الحكم الذاتي الإقليمي جذرياً عن نموذج اللامركزية في الدولة الموحدّة. ففي حين أن نموذج اللامركزية يقوم على مجرد تفويض صلاحيات من المركز إلى جهات أدنى منه داخل هيكلية هرم السلطة في الدولة، ما يُمكّن المركز من استعادة هذه الصلاحيات متى شاء، فإن نموذج الحكم الذاتي يقوم على أساس نقل، وليس تفويض، سلطات ومسؤوليات وصلاحيات من السلطة المركزية العليا إلى مُكّون في إقليم محدّد (أو مكونّات في أقاليم) داخل الدولة، ليصبح في إمكان هذا المكوّن (المكوّنات) أن «… يُقرّر، باستقلالية عن تلك السلطة العليا، في شؤون محددّة مُنحت له من تلك السلطة العليا، من أجل تحقيق المصلحة العامة لمن هم تحت نطاق مسؤوليته»‏[56]. ما يعينه ذلك أن الحكم الذاتي، على عكس اللامركزية، هو اعترافٌ بقدْرٍ ما من الاستقلالية والسيادة الداخلية لأقلية ما في إقليم محدّد داخل نطاق الدولة. ولأنه كذلك فإن الترتيبات المتعلقة في شأنه يجب أن تتم بالتوافق والتراضي بين الطرفين، الناقل والمنقول له، وهما طرفان متكافئان، والعلاقة بينهما ليست بين تابع ومتبوع كما هي الحال في نظام اللامركزية.

الحكم الذاتي، باختصار، لا يُفرض عنوة أو يُنتزع بالقوة، وإنما يتم بالاتفاق، ويُرسم ذلك في الدستور، أو بتشريع خاص من الدولة، كونه يُعَدّ مسألة داخلية‏[57]. ولهذا السبب لا تستطيع السلطة المركزية استرجاع ما تم نقله في الحكم الذاتي إلا بقبول مسبق من الطرف المنقول له، ولا يحق تغيير بنود وشروط ما تم الاتفاق عليه إلا بالتشاور والتراضي بين الطرفين‏[58]. كما لا يحق للسلطة المركزية التدخل في سلطة الحكم الذاتي، إلا إذا كان الأمر يتعلق بالأمن القومي للدولة، أو إذا تخطّت سلطة الحكم الذاتي حدود الممنوح لها من سلطات ومسؤوليات وصلاحيات، كما فعلت حكومة إقليم كاتالونيا في إسبانيا التي نظّمت استفتاء من أجل الاستقلال، وهو أمر مخالف لدستور البلاد‏[59]. في المقابل، تبقى سلطة الحكم الذاتي جزءاً أصيـلاً من الدولة الموحدّة لا يحق لها الانفصال عنها، وتبقى معالجة الشؤون الخارجية والدفاع والسياسات المالية للدولة من مسؤوليات السلطة المركزية، إلا إذا قامت هذه السلطة بمنح سلطة الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي صلاحيات محددة في ذلك‏[60].

لا يوجد نموذج واحد، موحّد الخصائص ومتشابه في تقسيم السلطة، للحكم الذاتي الإقليمي، بل هو ذو تركيبة مرنة، يأخذ في الحسبان خصوصية كل حالة من الحالات التي يُطبّق فيها، ويستجيب لها بتطوير النمط الملائم لمعالجة تعقيدات الوضع الخاص لكل حالة من الحالات. لذلك يوجد حالياً العديد من أنماط الحكم الذاتي الإقليمي في نحو الثلاثين دولة في العالم، كل واحدةٍ منها تستجيب لظروف وحاجات ومطالب مختلفة‏[61]. ومن مراجعة تاريخية لحالات حكم ذاتي إقليمي يتضح أن هذا النموذج نتج في فترات وأقاليم مختلفة من جرّاء تحويل طريقة حكم إقليم مستعمَر من حكم مباشر إلى ذاتي، أو عند تشكّل دولة حديثة كان المطلوب منها القيام بهذه التسوية، أو تغيُّر النظام السياسي داخل الدولة، أو لإيجاد حلٍ لتوتر إقليمي بين دولتين أو أكثر سببها مصير أقلية قومية داخل واحدة منها، أو نتيجة عملية تفاوضية لإنهاء صراع داخل الدولة مع أقلية قومية‏[62].

مع أن هناك تصنيفات عديدة، جاءت تحت مسميّات مختلفة تضمنتها دراسات متنوعة لنماذج حكم ذاتي إقليمي في أنحاء العالم، إلا أنه يمكن اختزالها وتجميعها في ثلاثة رئيسية، أساس التفريق بينها هو عدد وعمق المجالات التي تُنقل فيها السلطات والمسؤوليات والصلاحيات من السلطة المركزية إلى سلطة الإقليم، وهي الحكم الذاتي الوظيفي، والإداري، والتشريعي.

يُعَد الحكم الذاتي الوظيفي أقل نماذج الحكم الذاتي الإقليمي اتساعاً وعمقاً في نقل المسؤوليات والصلاحيات من السلطة المركزية إلى سلطة الإقليم. ففي هذا النوع يقتصر النقل بالعادة على مجال واحد فقط، مثل التعليم أو الشؤون الدينية. أما بقية المجالات فتبقى تحت مسؤولية السلطة المركزية، ما يجعل من الحكم الذاتي الوظيفي أقرب ما يكون من الحكم الذاتي الشخصي، ولكن بتركيز منح الحق الخاص للأقلية داخل منطقة محددة، عوضاً من أن يُعطى الحق لأفراد الأقلية أينما كان مكان إقامتهم داخل الدولة. أما الحكم الذاتي الإداري فهو أوسع نطاقاً من الوظيفي، إذ يتم بموجبه منح سلطة الإقليم حكماً ذاتياً واسعاً يشمل الإشراف على العديد من المجالات، كالتعليم والشؤون الدينية والثقافية، ويعطيها صلاحية تنظيمية واسعة داخل الإقليم. ولكن هذا النوع لا يمنح لسلطة الحكم الذاتي في الإقليم صلاحيات تشريعية، بل تبقى هذه الصلاحية عند السلطة المركزية، تمارسها بشكل حصري، وتنطبق التشريعات الصادرة عنها على كل أجزاء الدولة على نحوٍ متماثل.

يُعَدّ الحكم الذاتي التشريعي أشمل وأعمق أنواع الحكم الذاتي الإقليمي وأكثرها أهمية. فسلطة الإقليم تتمتع بموجبه بمسؤوليات وصلاحيات واسعة في مختلف المجالات، ما يؤهلها لسنّ القوانين الخاصة بالإقليم، وفرض الضرائب المحليّة، وإنشاء قوة شرطة داخلية، ومحاكم خاصة. ويكون في هذا النوع من الحكم الذاتي سلطة إقليم تتكوّن من سلطة تنفيذية منفصلة عن السلطة المركزية للدولة، ليست منبثقة منها، أو تابعة، أو ممثلة لها، بل تكون مسؤولة أمام مجلس تمثيلي منتخب من داخل الإقليم، وليس أمام السلطة المركزية للدولة. ومع أن الشؤون الاقتصادية والمالية العامة تبقى من اختصاص الحكومة المركزية للدولة، بما في ذلك صك العملة، إلا أن الإقليم في هذا النوع من الحكم الذاتي يرتبط بالعادة مع الحكومة المركزية باتحاد جمركي. وبموافقة الحكومة المركزية، يمكن أن يكون لسلطة الإقليم علاقات خارجية خاصة تمارسها في نطاقات محددة، وبالتحديد في ما يتعلق بالشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وإذا كانت اللغة في الإقليم مختلفة عن تلك السائدة في الدولة، فإنها تصبح اللغة الرسمية للإقليم‏[63].

تكمن أهمية هذا النوع من الحكم الذاتي في كونه يقوم على أساس من الندّية، المُشرّعة قانونياً، بين الحكومة المركزية للدولة والإقليم المتمتع بالحكم الذاتي، ويتم بموجبها التشارك في السلطة بتقسيمها بين الطرفين، بحيث تستقلّ سلطة الإقليم عن الحكومة المركزية في ما تتمتع فيه من سيطرةٍ على الإقليم ومصادرة الطبيعة وموارده المادية‏[64]، وسلطاتٍ تقريرية بقضاياه الداخلية. ويمكن للحكم الذاتي التشريعي أن يكون على درجاتٍ متفاوتةٍ في ما يتعلق بمدى الاستقلالية الممنوحة لإقليم الحكم الذاتي، التي يمكن أن تصل في النموذج المسمّى «الحكومة الذاتية» إلى أقصى مدى من الاستقلالية الفعلية، ما عدا اتخاذ خطوة الإعلان الرسمي عن الاستقلال عن الدولة‏[65]. ويمكن عَدُّ الوصول إلى هذا النوع من الحكم الذاتي، مجازاً، بمنزلة تشكيل «دولة» داخل الدولة، ولكن مع احتفاظ الدولة الموحدة وسلطتها المركزية بالسيادة المطلقة على كامل التراب الوطني، وعلى الشعب بأكمله، بما في ذلك إقليم الحكم الذاتي وسكانه.

مع أن نموذج الحكم الذاتي الإقليمي ذات الصلاحية التشريعية في الدولة الموحدة يتشابه في بعض جوانبه مع نموذج الفدرالية في الدولة الاتحادية، إلا أنهما غير متماثلين، ويجب الانتباه إلى عدم الخلط بينهما، لوجود فوارق أساسية بين النموذجين. يتشابه النموذجان في أن الوحدات المكوّنة للدولة في كليهما لا تستطيع الانفصال عن الدولة، بل هي أجزاء ثابتة ومستمرة فيها. فالحق في الانفصال والاستقلال ليس ممنوحاً لها، بل على العكس فإن الدستور في كلا النموذجين يحافظ على الوحدة الإقليمية للدولة. كما يتشابهان بوجود تقسيم للسلطة على مستويين على الأقل، بين المستوى المركزي العام ومستوى الوحدة أو الوحدات الأدنى.

أما وجوه الاختلاف فتظهر عندما يتم الولوج من السطح إلى الثنايا الداخلية للنموذجين. فالفدرالية تعني، أولاً، تقسيم الدولة جميعها إلى وحدات، يُطلق عليها إما ولايات وإما جمهوريات وإما مقاطعات. أما في الحكم الذاتي فإن ذلك ليس أمراً واجباً، إذ من الممكن أن يُمنح جزء من الدولة، إقليم واحد أو أقاليم محددة، حكماً ذاتياً، بينما تبقى بقية أجزاء الدولة على حالها. ثانياً، الفدرالية فهي نظام حكم اتحادي يقوم على قاعدة التماثل في توزيع السلطة، بمعنى أن كل الوحدات المكوّنة للاتحاد ترتبط بنفس الارتباط، ولها ذات العلاقة القانونية، مع الحكومة الفدرالية. أما في الحكم الذاتي فإن العلاقة بين إقليم الحكم الذاتي والحكومة المركزية هي علاقة خاصة ناجمة عن اتفاق محدّد، وقد تتمايز عن علاقة إقليم حكم ذاتي آخر مع هذه الحكومة في نفس الدولة، أو عن العلاقة التي تربط باقي أقاليم الدولة مع الحكومة المركزية. فالحكم الذاتي نموذج وُجد ليعالج خصوصية حالة أو حالات، كلّ بالترتيب المناسب، بينما الفدرالية هي تعميم لنموذج واحد بين جميع مكونات الاتحاد. وثالثاً، تتمتع الوحدات في النظام الفدرالي ببقايا سيادتها الأصلية بعد تنازلها عن الجزء الأكبر منها للحكومة الفدرالية من أجل الانضمام إلى الاتحاد. لذلك فإن موافقة الهيئات التمثيلية الخاصة بهذه الوحدات تبقى مطلوبةً لتعديل الدستور الاتحادي. لكن هذا الأمر غير مطلوب في نموذج الحكم الذاتي. فالإقليم أو الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي ليس لها دور كبير في تعديل دستور الدولة، وبخاصة إذا لم يكن التعديل متعلقاً بترتيبات الحكم الذاتي الذي يستوجب منها الموافقة. هذا الأمر نابع من أن الإقليم الممنوح حكماً ذاتياً لم يتمتع بالأساس بسيادة أصلية، بل هو يُمنح جزءاً، قد يصغُر أو يتسع، من السيادة الداخلية الأصلية للحكومة المركزية. رابعاً، أما نتيجة ذلك فيمكن ملاحظتها من وجود مشاركة مقننّة لوحدات النظام الفدرالي على مستوى حكومة الاتحاد المركزية، يتم من خلال ضمان التمثيل المتساوي لها في السلطة التشريعية على ذلك المستوى. لهذا السبب فإن السلطة التشريعية الفدرالية تكون بالعادة مقسمة على مجلسين، أحدهما مخصص للتمثيل المتساوي للوحدات. بالمقابل، لا يوجد تمثيل رسمي لسلطة الحكم الذاتي للإقليم في الحكومة المركزية للدولة. وهذا نابع من قاعدة درء الازدواجية. فسلطة الإقليم لها ولاية عليه فقط، لذلك لا يجوز لها أن تتخذ القرارات المتعلقة به، وأن تشارك أيضاً في اتخاذ قرارات تتعلق بالآخرين على الصعيد الأعلى الخارج عن نطاق ولايتها. ولكن، مع ذلك، يمكن أن يكون لسكان الإقليم ممثلين لهم الحق في المشاركة بالانتخابات التشريعية العامة‏[66].

بالمجمل، يمكن الاستنتاج أن نموذج الحكم الذاتي نموذج خاص من الحكم، لا يوجد له قالب مُحدّد، ولا يمكن التعميم بشأنه. وهو يختلف عن نظام اللامركزية في الدولة الموحدة، وعن الفدرالية في الدولة الاتحادية، ويتم اللجوء إليه في حالات الخروج من النمطية لمعالجة حاجات محددة، لما يتسم به من إيجابيات. ولكن ذلك لا يعني أنه نموذج خالٍ من السلبيات، ليس له مخاطر، ومضمون النجاح. بل هو أقرب إلى المغامرة التي تحتاج عند التطبيق إلى الكثير من الحكمة، وللنجاح في الاستمرارية إلى الكثير من الرعاية.

خامساً: الحكم الذاتي في الميزان

يُمثّل الحكم الذاتي تحدّياً لجميع الفرقاء المشاركين فيه، تحضيراً وتطبيقاً، والذين هم بحاجة مستمرة إلى إقناعهم بفاعليته‏[67]، فهو، في أكثر الحالات، «يُمنح بتلكؤ ويُقبل بدون امتنان»‏[68]. فالمانح، أي الدولة، لا ترغب في العادة بالتنازل عن أي جزء، أو حتى مظهر، من أجزاء أو مظاهر سيادتها، الداخلية والخارجية على السواء. والحكم الذاتي الإقليمي يُمثّل تحدّياً لها، إذ المطلوب منها التخلي عن سلطات وصلاحيات، ونقلها إلى سلطة أخرى على إقليم داخلها. أما المنقول له، وهي أقلية تعتز بهويتها المختلفة عن هوية الأغلبية في الدول، فطموحها يفوق، في أغلب الأحيان ما يمنحها إيّاه الحكم الذاتي من سلطات وصلاحيات.

ما الذي يُجبر طرفين، إذاً، على القبول بتسوية غير مرغوب فيها لطرف، وغير قانونية للطرف الآخر؟ إن ما تنطوي عليه هذه التسوية من ميزات هو ما يجعلها مقبولة، حتى لو كان ذلك بقليل من الرغبة، وبدون الكثير من الحماسة.

أولاً، تضع تسوية الحكم الذاتي في العديد من الحالات نهاية لحالة من التوتر العالي، أو الصراع الدامي، داخل الدولة، الذي يمكن أن يكون مستمراً لفترة زمنية مديدة، دون إمكان التوصل إلى حلّ أو حسم، ما يوصل البلاد إلى حالة من الإرهاق. ومع أن الأطراف المتنازعة لا تحصل على كل ما تريد من الحكم الذاتي الإقليمي، إلا أنّه يمكن أن يُشكّل المخرج الملائم والتسوية المقبولة لإخراج البلاد من مأزقها، والتوجه بها إلى حالة جديدة من الاستقرار، ما يُشكّل «أفضلية نسبية» للحالة الجديدة على القديمة. وبما أن تسوية الحكم الذاتي تقوم على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» فإنها تُعزّز معادلة «تبادل القبول بالإجحاف» بين الفرقاء، ما يُقلّص شعور كل منهم بالغُبن الذي أحاق بهم، كونه جاء متبادلاً. وبالتالي يمكن لهذه التسوية أن تُشعر الأطراف بالرضى عمّا استطاع كل منهم أن يحققه من أهداف مرغوبة، وأن يجعل منها، تالياً، المدخل الملائم لحل طويل الأمد لحالة عدم الاستقرار التي كانت تعانيه البلاد.

ثانياً، تحافظ تسويات الحكم الذاتي على وحدة الدول وعدم تفتتها إلى دول أصغر، ما يعني منع تزايد عدد الدول الجديدة في العالم، التي قد تكون صغيرة الحجم وقليلة الموارد، ما يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار، وتصاعد في عدد وحجم الصراعات، على الصعيدين الإقليمي والدولي. وبما أن النظام الدولي ينحو نحو تحقيق الاستقرار، فإن إغلاق الباب على مصدر صراع محتمل يُعد أمراً إيجابياً. لذلك قام الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، بممارسة الكثير من الضغط، وبالمنحى الترغيبي أساساً، لإيقاف موجة تفتت الدول القائمة في وسط شرق أوروبا، التي لو استمرت لانتشرت وأنتجت خارطة سياسية جديدة مبعثرة للقارة بأكملها.

ثالثاً، تعطي تسويات الحكم الذاتي دفعة إيجابية للتشاركية السياسية، ما يُعزّز النظام الديمقراطي داخل الدول. فهذه التسويات تقوم على الاعتراف بحق الاختلاف، وبالتالي ترعى التعددية من خلال منح الأقليات حقوقها، وتمكينها من الحفاظ على هوياتها وتنمية ثقافاتها المتنوعة. ومن خلال هذا الاعتراف والانفتاح والتمكين، تزداد فرص تنامي النزعة التوافقية بين المجموعات داخل الدولة، ما يزيد اللُحمة بين مكوناتها البشرية. فمن خلال منح الأقليات مشاركة أوسع في عملية اتخاذ القرار، والسيطرة على الموارد المحدودة في أقاليمها الممنوحة حكماً ذاتياً، وتمكينها من معالجة قضاياها بأنفسها، تتعزز الثقة بينها وبين الأغلبية في دولها، وتنمو عملية المشاركة السياسية على صعيد الدولة العام، فتتوطد العملية الديمقراطية داخل البلاد. ولهذا بمجمله انعكاس إيجابي على تدعيم الحريات والحقوق الفردية والجماعية داخل الدول، ما يُحسّن من نوعية الحياة الإنسانية في العالم‏[69].

ولكن هذه الميزات، مع أهميتها، ليست مقنعة تماماً للمعارضين لجدوى نموذج الحكم الذاتي، وبخاصة الإقليمي، لما يعتقدون بأنه يحمل في طياته العديد من المخاطر. أولى هذه المخاطر وأكثرها أهمية يكمن في الاعتقاد المنتشر بأن منح الحكم الذاتي لأقلية في إقليم مُحدّد داخل الدولة يُشكّل الخطوة الأولى باتجاه انفصال هذه الأقلية واستقلال الإقليم عن الدولة. فهذا النموذج، بالنسبة إليهم، لا يُشكّل السبيل لتحقيق الاستقرار للدولة، ولا يؤدي إلى تعزيز التشاركية السياسية والحياة الديمقراطية، بل هو الوصفة لعدم الاستقرار من خلال تأطير وضع الحواجز بين مواطني الدولة، والتفريق في التعامل بينهم، عوضاً من التعاطي مع جميع مواطني الدولة بمساواة كاملة في الحقوق والواجبات. فمن خلل تأصيل التفرقة فإن الأقلية تستشعر قوتها، ولن يوقفها مجرد الحصول على حكم ذاتي، تحت ادعاء ممارسة حق تقرير المصير الداخلي، من استمرار سعيها لتحقيق حق تقرير المصير الخارجي المتمثل بالاستقلال وإقامة دولتها المستقلة والسيادية. ويزداد الوضع توتراً إن جاور إقليم الحكم الذاتي دولةً يتشابه مواطنوها في مواصفاتهم مع سكانه. عندئذٍ، تزداد النزعة الانفصالية في ذلك الإقليم لوجود إسناد خارجي، ويمكن في هذه الحالة أن ينفصل الإقليم من الدولة التي هو جزء منها، لينضم مباشرة إلى الدولة المجاورة ليتظلل بظلال القومية الواحدة. وما الصراع الدائر منذ سنوات بين روسيا من جهة، وجورجيا وأوكرانيا من جهة أخرى، حول السيادة على أقاليم بينهما إلا مثال على ذلك.

ثانياً، يؤدي تعامل الدولة الإيجابي مع مطالب أقلية قومية بمنحها حكماً ذاتياً على الإقليم الذي تُشكّل فيه أغلبية إلى إمكان إثارة النزعة عند أقليات أخرى في الدولة، والتي ستتشجع للمطالبة بحكم ذاتي لنفسها. وسيؤدي ذلك إلى تعميق عدم الاستقرار في الدولة. وفي حال دفع الإقليم الحاصل على الحكم الذاتي باتجاه الانفصال عن الدولة، فإن الدعوات الانفصالية ستعمّ عند الأقليات الأخرى، وستتفتت الدولة. وهذا ما حصل لدولة يوغسلافيا السابقة التي انتهى وجودها على الخارطة السياسية.

ثالثاً، يمكن أن يؤدي منح الحكم الذاتي لأقلية في الإقليم الذي تُشكّل فيه أغلبية السكان إلى خلق أقلية جديدة. تتشكل هذه الأقلية من مواطني الأغلبية الذين يعيشون في ذلك الإقليم، فيصبحون أقلية في بلدٍ هم فيه أصـلاً من الأغلبية. بالتالي، يمكن للأقلية التي أصبحت أغلبية أن تُجحف بحقوق الأقلية التي كانت أغلبية قبل أن يحصل الإقليم على حكم ذاتي. وإن كان حلّ هذه المعضلة يتشكّل بالدعوة إلى ضرورة ضمان تساوي حقوق الأقلية مع الأغلبية داخل الإقليم، فما الحاجة إلى منحه حكماً ذاتياً من الأساس، إذا كان يمكن المطالبة بضمان حقوق الأقلية والأغلبية في الدولة ككل.

أما رابع المخاطر التي يسوقها المعارضون لنموذج الحكم الذاتي فتتعلق بقضايا مالية وإجرائية مؤداها صعوبة تطبيقه. فلتطبيق الحكم الذاتي يجب إقامة العديد من المؤسسات الجديدة، داخل الإقليم وعند الحكومة المركزية، ما يؤدي إلى زيادة عدد المؤسسات وحدوث ازدواجية بينها. كما يجب تفصيل إجراءات التعامل التي تربط الإقليم بالحكومة المركزية، ما يتطلب الخوض في عملية تشريعية مديدة لوضع القوانين واللوائح اللازمة، ومن ثم إيجاد الوسائل الكفيلة بتنفيذها ومراقبتها. كل ذلك يتطلب الكثير من الجهد والوقت، وكذلك المال. فالتكاليف المالية المطلوبة لتنفيذ حكم ذاتي إقليمي هي بالعادة مرتفعة. وبالطبع فإن دافعي الضرائب من المواطنين جميعاً قد يتذمرون من ذلك. وقد يصل الأمر إلى الإطاحة، من خلال صناديق الاقتراع أو بوسائل أخرى، بالقيادات السياسية التي قامت بتبني مشروع إقامة الحكم الذاتي الإقليمي داخل الدولة‏[70].

على سبيل الختم

ثمة جدل قائم حول صلاحية وفاعلية نموذج الحكم الذاتي الإقليمي. يستشهد المؤيدون في دعواهم بحالات من النجاح الباهر في التطبيق، بينما يسوق المعارضون حالات أخرى من الفشل الذريع. ويمكن لتوافر عوامل مساعدة أن تُسهم في تقليص الهواجس تجاه هذا النموذج، وتُعزز إمكانات نجاحه في تقديم الحل الدائم والمستقر لحالات دول مضطربة بسبب الاختلافات القومية الداخلية.

تزداد احتمالية نجاح الحكم الذاتي بتوافر الرغبة والثقة عند طرفي، أو أطراف، المواجهة الداخلية. فكلما جاء الحكم الذاتي توافقياً نتيجة انتشار مناخ تصالحي ونيات حسنة، وليس بفرض رغبة طرف على آخر، كانت فرص النجاح في تطبيق هذا النموذج أكبر. ويتعزز هذا المناخ الإيجابي بوجود أكبر عدد من عوامل إسناد أهمها: أولاً، أن لا يكون هناك خلاف بين الأطراف على وحدة الدولة واستمرار تماسكها، بل تتمركز المطالب حول تقاسم السلطة داخلها. وثانياً، أن يكون النظام السياسي في الدولة ديمقراطياً، يقوم على سيادة القانون والالتزام بالحريات الأساسية واحترام حقوق الإنسان. وثالثاً، أن يكون اتفاق الحكم الذاتي واضحاً وتفصيلياً في موضوع تقسيم الصلاحيات بين الحكومة المركزية وسلطة الإقليم، لا يترك مجالاً للالتباس، ما قد يثير منازعات مستقبلية. ورابعاً، أن يتم الاتفاق منذ بداية تطبيق الحكم الذاتي على آليات حل النزاعات بين الطرفين، وإيجاد هيئة متفقّ عليها يوكل لها هذه المهمة، ما يترك المجال مفتوحاً للتفاوض المستقبلي، إن دعت الحاجة ذلك. وأخيراً، يتعزز نجاح الحكم الذاتي الإقليمي بوجود قبول من الدول المحيطة بالدولة التي يتم فيها هذا الترتيب، وخصوصاً في حال وجود دولة مجاورة تتشارك في البعد القومي مع سكان إقليم الحكم الذاتي‏[71].

كل العوامل السابقة مهمة لإسناد وتعزيز نجاح نموذج الحكم الذاتي. ولكن من المؤكد أن هذا النجاح لا يمكن أن يتحقق، أو يدوم، إلا باستمرار رضى الطرفين.

 

قد يهمكم أيضاً  معضلة الأكراد السوريين بين صيرورة الاندماج وأسطورة الانفصال

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الحكم_الذاتي #الحرية_الفردية #حقوق_الأقليات #حق_تقرير_المصير _التنوع_الثقافي #التنوع_الإثني #حقوق_الإنسان #دراسات