«تفصل الأتمتة الوسائل عن الأهداف،

وتجعل الحصول على ما نريده أسهل،

لكنها تبعدنا من عمل المعرفة»

كاليستوس جوما

مقدّمة

يُقال إن الثابت الوحيد عبر التاريخ البشريّ هو «التغيير». لكن لا بد لنا في العصر الحالي، في القرن الحادي والعشرين، من إجراء تعديل بسيط لهذا الثابت، لنقول: نعم الثابت الوحيد هو التغيير، لكن الفارق مع الماضي هو في السرعة الجنونيّة التي يحصل فيها هذا التغيير؛ فالتغيير يستلزم فكرًا مُبتكرًا ومُبدعًا، كما في تراكمات النجاح السابقة. ويستلزم أيضًا وسائل مناسبة لإحداثه. فهل يمكن القول إن التغيير، وسرعته، ووسائله، لها علاقة مباشرة بالظروف الموضوعيّة السائدة، من اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، لأيّ عصر؟ بالطبع نعم.

إذًا، لماذا يسعى الإنسان إلى تسريع التغيير؟ ولماذا يسعى إلى ضرب العقل البشريّ وضرب الوعي؟ وهل يعي الإنسان أنه يصنع مستقبلًا لا يعرفه، ولا يسيطر عليه؟ هل يتعلّق الأمر بالصراع والحروب، وفي سبل التفوّق على الآخر؟ وهل يتعلّق الأمر بالسلطة/القوّة (Power)، ومن يملك وسائل الهيمنة على الآخر؟ وإذا كان التسريع سيؤدّي حتمًا إلى تفوّق الآلة على الإنسان، فلماذا يبتكر الإنسان وحشًا قد ينقلب عليه لاحقًا؟  وهل هناك نمط معيّن للتغيير؟ وهل يؤدّي التغيير عادة إلى التمييز الطبقي على أساس من يعرف، مقابل من لا يعرف؟ ومن يملك وسائل القوة وصنع الثروة، مقابل من لا يملكها؟ وهل يؤدّي هذا التغيير إلى إنتاج الثروة، والقوّة بطرائق مختلفة؟ ألا تصعد الإمبراطوريّات وتسقط بحسب ديناميّة التفاعل بين ثنائيّ «القوّة والثروة»، كما قال المؤرّخ البريطاني بول كينيدي في كتابه الشهير صعود وسقوط القوى العظمى[2]، الذي يرى أن الإمبراطوريّة تسقط حين تصل إلى تمددها الأقصى (Overstretch). وفي المسار نحو التمدد الأقصى للإمبراطورية، تُصرف الثروة على القوّة كي تحميها، لتعود القوّة بعدها إلى تسهيل عمليّة إنتاج الثروة من جديد.

من جهة أخرى، هل باستطاعة العقل البشريّ السير قدمًا مع هذا التغيير السريع جدّا واستيعابه؟ وهل هو قادر على ذلك في ظلّ الكمّ الكبير من الداتا التي تنهال عليه؟

الصعوبة تكمن في أن هذا العقل اعتاد النمط التاليّ للوصول إلى الوعي: جمع المعلومة، تحليلها لإنتاج المعرفة منها (Knowledge)، ومن ثم الانتقال إلى تطبيق المعرفة على أرض الواقع. بكلام آخر، كي يصل الإنسان إلى وعي ما ينهال عليه من الداتا، عليه أولًا أن يُفسّرها لنفسه، يستوعبها، ومن ثمّ يقوم بتطبيقها على أرض الواقع، أو حتى نقلها إلى الآخر.

لكن التطبيق، أي استعمال المعرفة المُستخلصة، يُنتج بحدّ ذاته داتا جديدة، الأمر الذي يتطلّب تكرار العمليّة السابقة، أي دورة إنتاج المعرفة وتطبيقها، إلى ما لا نهاية. في هذا النمط القديم الذي اعتمده الإنسان وتربّى عليه، لم تكن السرعة حاجة ضروريّة ومطلوبة. لا بل كان الترويّ والصبر هما مقياس الحكمة. ألم يُقل: «في التروّي السلامة وفي العجلة الندامة»؟

يُطلق على هذه العمليّة – النمط، عمليّةُ تحديث (Update) المخزون المعرفيّ والوعي لدى الإنسان، وذلك على عكس الآلة التي نُحدّثها، إذ يمكن تحديث الآلاف من الآلات في الوقت نفسه، وبسرعة، وعبر برنامج (Software)، لتؤدّي هذه الآلات الوظيفة نفسها بالتمام. لكن التحديث عند شخص ما، يختلف تمامًا عن التحديث عند شخص آخر. فكلّ شخص يستوعب المعلومة، يهضمها، ويحدّث نفسه بطريقة مختلفة، فيكون التصرّف بعد التحديث من الشخصين تجاه المسألة نفسها مختلفًا تمامًا؟ ألا نمارس السياسة فقط لأننا نختلف؟

لماذا يستعمل الإنسان قمّة ذكائه، وأفضل ما توصّل إليه من تكنولوجيا حديثة، لرسم الاستراتيجيّات وصنع الأسلحة، فقط لفرض إرادته على الآخر وقتله إذا رفض الانصياع؟

سيتمّ التركيز في هذه الورقة على البُعد العسكريّ فقط، والثوابت في الفكر العسكري، كما على مبادئ الحرب في عصر الذكاء الاصطناعيّ. مع إلقاء الضوء على الحرب في أوكرانيا كونها النموذج الاوّل لهذا النوع من الحروب في القرن الحادي العشرين، التي يتم فيها استعمال ما تيسّر من الذكاء الاصطناعيّ؛ فهي المرآة العاكسة الوحيدة، والمتوافرة لقياس مدى دخول الذكاء الاصطناعي في الحرب الحديثة[3]. كما تتناول الورقة السلاح النوويّ ومدى خطورة إدخال الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. ولن يتمّ التركيز على البُعد التقنيّ للذكاء الاصطناعي في هذه الورقة، كونه ليس من اختصاص الكاتب، وكون دخول الذكاء الاصطناعي في حياة البشريّة، وفي المجال العسكريّ بخاصة، لا يزال في بداياته، وهو يتغيّر بسرعة فائقة، وعلى نحو لا يمكن تحليله. لذا سيكون التركيز على الثوابت، وإدخال الذكاء الاصطناعي فيها، المقاربة الفضلى حاليّا.

أولًا: الحروب المعاصرة والذكاء الاصطناعيّ

1 – مفهوم العقيدة العسكرية

«العقيدة العسكرية هي المذهب العسكري الذي تتخذه الدولة لبناء جيشها وتأسيس كل مجالاتها العسكرية، وهي مجموع المبادئ والقيم التي تحكم أداء الجيش وتروم صيانة المصالح العامة للدولة»[4]. باختصار، يمكن القول إن العقيدة العسكريّة هي أفضل مزيج ممكن لكلّ عناصر قوّة دولة ما (Elements of Power)[5]، للصراع مع العدو، أو قتاله في حال الحرب والانتصار عليه. فما هي الأبعاد الثلاثة للعقيدة العسكريّة؟

أ – التنظيم: بعد تحديد العدو والمخاطر الممكنة على أمن الدولة، تُنظّم القوى بطريقة مناسبة للقتال. وذلك عبر تحديد التنظيم الأساسيّ للجيش. فهل هو الكتيبة، أم اللواء؟

ب – التدريب: بعد التنظيم يأتي التدريب بهدف التحضير للمعركة المُتخيّلة مع العدو. في التدريب يُدرس المكان المُحتمل للحرب، وتُدرّب القوى بمختلف الأسلحة على القتال جنبًا إلى جنب (Combined Arms Army)، وضمنًا الحرب السيبرانيّة (Cyber Warfare). وإلا لماذا تُجرى المناورات، البحريّة منها والبريّة، وحتى الجويّة ضمنًا، في الوسيط السيبرانيّ؟ ولا بدّ هنا من تعديل التوصيف الوظيفيّ للوحدات الجديدة، التي تقاتل مُكمّلة، حتى الآن على الأقلّ، الوحدات العسكريّة التقليديّة. وهكذا يجب أن نبحث عمّا يُسمّى «العريف الاستراتيجيّ». والمقصود بهذه التسمية، أن رتبة أي جندي لا تعكس أبدًا المستوى العلميّ الذي هو عليه فعلًا. ففي حال إدخال الذكاء الاصطناعي إلى الحرب على نحوٍ مُكثف، فلا بد لمن يعمل فيه أن تكون لديه كفاءات ومعرفة متقدّمة بكل المجالات؛ فمن يعمل في الوسيط السيبراني يجب أن يعرف كيف تدور الحرب في الوسائط الأخرى (برّ وبحر وجوّ وفضاء)، فهو يمثّل جزءًا أساسيّا منها وحتى إشعار آخر.

ج – التسليح: يتم تُسلّح القوى وفق المُهمّة المُعدّة لها، وبناء على التوازن في القوى بين المتصارعين. فالفريق الأضعف في الحرب يذهب إلى التركيز على نقاط ضعف الفريق الأقوى، لتكون المقاربة لاتماثليّة (Asymmetric Warfare). وفي الحرب اللاتماثليّة، قد تكون الحرب السيبرانيّة العامل الذي قد يُعدّل موازين القوى بين المتحاربين (Equalizer).

لكن الأمر، كما يقول الفيلسوف السياسيّ الفرنسي جوليان فرويند في كتابه روح السياسة، يرتكز في مجمله على تحديد العدو والصديق[6]. وبعد هذا التحديد، توضع الأهداف القوميّة – استراتيجيّة الأمن القوميّ. كما توضع الاستراتيجيّات، وتُؤمّن وسائل نجاحها. وحاليًا، وفي هذا العصر، لم يعد ممكنًا تجاهل الأمن السيبرانيّ، وضمنا الذكاء الاصطناعيّ.

2 – خصائص الحروب المعاصرة

لا شيء جديد تحت الشمس. كلّ شيء يتكرّر لكن بظروف اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة مختلفة. حتى إن طبيعة الحرب تبقى كما هي، كما يقول المفكّر البروسي كارل فون كلاوزفيتز: «الحرب هي السياسة بوسائل أخرى»[7]. لكن خصائص الحرب تتبدّل حتمًا. وبحسب المفكّر الأمريكيّ الاستراتيجيّ كولن غراي (1943 – 2020) تندرج هذه الخصائص في ثلاثة أبعاد، هي الاجتماع والسياسة والاقتصاد[8]. وفي هذا السياق قد يمكن الحديث عن نظريّة الدائرة والسهم (انظر الشكل الرقم (1))[9].

الشكل الرقم (1)
نظرية الدائرة والسهم

المصدر: من إعداد الكاتب.

تقول الدائرة في هذه النظريّة إن كلّ شيء يتكرّر، ولا شيء جديداً في روحيّة الأشياء وكنهها. وإذا كانت السياسة والحرب فعلاً إنسانيّاً بامتياز، فالسبب يعود إلى ثبات الطبيعة البشريّة. أما السهم فهو الذي يأخذ الثابت في الطبيعة البشريّة ليضعه في المسار الزمنيّ ووفق الظروف المختلفة، سواء الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة.

لكن لنتأملّ هذه الطبيعة البشريّة، التي تعدّ ثابتة نسبيًّا، وقد تمّ نسخها إلى آلة، أو منصّة تمتلكّ كمّا كبيرًا من الداتا يفوق بأشواط ما يمكن أن يستوعبه العقل البشري، ويُستعمل فيها الذكاء الاصطناعيّ القادر على التحليل، واستنتاج المعرفة، ومن ثمّ استعمالها، والقدرة على التحديث باستمرار، وبسرعة جنونيّة… فهل يمكن الإنسان مجاراة هذه الآلة؟

3 – الحروب في العصر السيبراني

يُعرَّف الذكاء الاصطناعي بوصفه: «دراسة وتصميم أنظمة ذكية تستوعب بيئتها وتتخذ إجراءات تزيد من فرص نجاحها»؛ ويعرفه جون مكارثي، الذي وضع هذا المصطلح عام 1955، بأنه «علم وهندسة صنع آلات ذكيّة»[10]. كما يُعَرَّف هذا الذكاء بوصفه «قدرةَ حاسوب رقميّ على القيام بأعمال ذكيّة، هي مرتبطة أصلًا، ومن فعل مخلوقات ذكيّة»[11]، لأننا اعتدنا عبر التاريخ أن تُخاض الحروب عبر وسيط ما (Medium). والوسيط، هو صلة الوصل بين المتقاتلين. فماذا عن تبدّل الوسائط؟

يعدّ البرُّ الوسيطَ التاريخيَ الثابتَ لخوض الحروب، فتُخاض الحروب عليه، وبسببه. وكلّما كانت أرض الإمبراطوريّة شاسعة وواسعة، عكست قدرة هذه الإمبراطوريّة وجبروتها. كان البرّ محوريًا قبل الثورة الزراعيّة، وهو لا يزال ماثلًا أمامنا في القرن الـحادي والعشرين، حتى إن البرّ-الأرض، كان قد أنتج نظامًا سياسيّا تحت مُسمّى الاقطاع (Feudal System) يرتكز على من يملك الأرض، ومن يستغلّها، ومن يحارب من أجلها.

بعد الثورة الزراعيّة، أتت الثورة الصناعيّة في القرن التاسع عشر في أوروبا بوجه عام، وفي بريطانيا بوجه خاص[12]. أنتجت هذه الثورة الثروة من الإنتاج بدلًا من الأرض، بسبب تراكم فائض الإنتاج مع انتشار المكننة، بما فيها اكتشاف المحركات العاملة على البخار التي أحدثت تحولًا ثوريًا في صناعة السفن السريعة وحركة النقل البحري والسيطرة على الخطوط البحرية للتجارة العالمية؛ فأسست هذه التحولات للعصر الكولونيالي والتوسع الاستعماري الأوروبي في العالم بسبب حاجة الغرب إلى المواد الأوليّة وإلى الأسواق، فانتقل بذلك مركز ثقل العالم من الشرق إلى الغرب[13].

بعد الثورة الصناعيّة، وبحسب كتاب ألفن توفلر الموجة الثالثة، أتت الثورة التكنولوجيّة[14]، فأسّست هذه الثورة الأرضيّة للعصر الرقميّ الذي نعيشه حاليًّا، كما خلقت وسيطًا جديدًا إلى جانب البرّ والبحر، ألا وهو الوسيط السيبرانيّ (Cyber Space). بدأ الإنسان مع هذه الثورة يصنع ثروته من المعلومة، ومن داتا المعلومات، التي وصفتها مجلّة الإيكونوميست بأنها تمثّل «نفط القرن الـحادي والعشرين»[15]. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن كلّ ثورة من هذه الثورات المتعاقبة لم تلغِ الثورات التي سبقتها. لا بل على العكس، هي اتكأت عليها، وتخطّتها بإضافة مواصفات نوعيّة متقدّمة عليها. وإذا كنا نحن اليوم قد بلغنا العصر الرقميّ، فنحن لا نزال نزرع الأرض ونفلحها كما أيام الثورة الزراعيّة، لكن بوسائل ميكانيكيّة من الثورة الصناعيّة، لكنها ذكيّة تعتمد على مواصفات العصر الرقميّ الحاليّ.

استراتيجيًا، يعيش العالم اليوم العصر النوويّ الثاني بعد عمليّة التحديث الضخمة للترسانات النوويّة للقوى العظمى والكبرى، وذلك عبر إدخال التكنولوجيا الحديثة في عملية إدارة هذه الأسلحة واستعمالها أو صيانتها. في هذا الإطار، يقول كيفين باراغونا مؤسس شركة Deep AI، إن الذكاء الاصطناعيّ أصبح السلاح النووي لبرامج الحاسوب (Software)[16].

بات الوسيط السيبرانيّ يحتلّ قمّة الاهتمام في العالم، وبخاصة من القوى العظمى والكبرى؛ فهو الآن يدخل تدريجّا إلى كل ما أنتجته الثورتان الزراعيّة والصناعيّة، وبخاصة في بُعدَي الصراع والحروب.

إذًا أصبحنا اليوم نعايش عدّة وسائط (Mediums)، البرّ والبحر والجوّ الفضاء. وأخيرًا وليس آخرًا، الوسيط السيبراني، الذي أصبح على شاكلة الوسائط الأخرى التي سبقته، فهو وسيط صراع وتنافس أساسيّ بين القوى العظمى سواء كان في السيطرة على إنتاج وسائله، أو كان في استعماله في المجالات العسكريّة.

لذلك، وعند كل تحوّل أساسيّ، وبخاصة تكنولوجي، سواء كان وسيطًا جديدًا أو كان خرقًا تكنولوجيًا، تقوم الدول العظمى بإدخاله في التخطيط الحربي وعلى المستويات كافة، من التخطيط إلى التجهيز إلى عملية اتخاذ القرار. وهذا ما يُطلق عليه «الثورة في الشؤون العسكريّة»[17]  (Revolution in the Military Affairs). وصف أحد المدراء الصينيّين العاملين في قطاع التكنولوجيا أسلحة الذكاء الاصطناعيّ بأنها الثورة العسكريّة الثالثة، أي بعد الثورة التي أحدثها البارود الأسود، ثم بعده، ثورة السلاح النوويّ[18]. لهذا السبب، تعمد القوى المتصارعة إلى التعديل في العقيدة العسكريّة (Military Doctrine).

ثانيًا: تطبيق الذكاء الاصطناعيّ في الحروب

يقول الفيلسوف الفرنسيّ بول فيريليو إن من يسيطر على السرعة يسيطر على كلّ شيء. وهو من أنضج فكرة «منطق السرعة» (Dromology)[19]، إذ يرى أن السرعة هي أساس المجتمع التكنولوجيّ الحديث.

كان من الممكن الطلب إلى الـ ChatGPT كتابة هذه الورقة. لمَ لا؟ هل لأننا حتى الآن لا نثق بالذكاء الاصطناعيّ؟ أم أننا لا نزال في حالة النكران للتحوّلات التي أحدثتها الثورة التكنولوجيّة؟ ومتى سنصل إلى نقطة التحوّل حيث نحسب ونعتقد أنه يمكننا ترك زمام الأمور كلّها كي تُدار من الذكاء الاصطناعيّ؟ وهل يمكن ترك أمور الحرب بعهدة الذكاء الاصطناعيّ؟ أخيرًا وليس آخرًا، أليس من الضرورة أن نبحث عن «فن للحرب» جديد يتمشّى مع التحوّل الرقميّ؟

1 – الوقت وعملية اتخاذ القرار

كون السرعة هي أكثر ما يُميّز الثورة التكنولوجيّة، وبالتالي الذكاء الاصطناعيّ، فلا بد من التركيز على سرعة اتخاذ القرار، الذي يتبع بدوره نمطًا معيّنًا لم يتغيّر منذ الثورة الزراعيّة، وحتى الوصول إلى الثورة التكنولوجيّة في عصرنا الحاليّ. لكن كيف؟

أوّل من وضع دورة اتخّاذ القرار هو الكولونيل الأمريكيّ في سلاح الجوّ جون بويد، الذي هدف منها إلى مساعدة الطيارين الأمريكيّين على اتخاذ القرار بسرعة، على الأقلّ قبل العدو، خلال المعركة الجويّة. أطلق بويد على هذه الدورة اسم الـ OODA Loop، أي دورة: المراقبة – جمع المعلومات – القرار – التنفيذ. تُطبّق هذه النظريّة حاليًا في الكثير من المجالات، الاقتصاديّة منها وحتى الاجتماعيّة (انظر الشكل الرقم (2)). فماذا عنها؟

الشكل الرقم (2)
دورة اتخاذ القرار

المصدر: من إعداد المؤلف.

المهم في هذه الدائرة، هو عامل الوقت. فكّلما كنّا في داخل دائرة القرار الخاصة بالعدو كنّا أسرع منه في عملية اتخاذ القرار. وبالتالي في القدرة على تسلّم زمام المبادرة، والانتصار عليه قبل أن يستوعب ما يجريّ.

في هذه الدائرة، وفي العصر التكنولوجيّ حاليًّا، ترتكز عمليّة اتخاذ القرار وسرعتها على ما نملك من وسائل سريعة، ومُجهّزة بالذكاء الاصطناعيّ، الأمر الذي يأخذنا إلى ما قاله الكاتب والخبير في الذكاء الاصطناعي بول شار في كتابه أربعة مسارح للصراع (Four Battlegrounds)[20]. المقصود بالصراع هنا هو الصراع بين القوى العظمى في العالم، على من يسيطر ويهمين على وسائل الذكاء الاصطناعيّ. فمن ينتج الوسائل، يكون قادرًا على إدخالها في كلّ الأبعاد التي تقوم الحروب عليها، من التخطيط إلى التنفيذ إلى عمليّة اتخاذ القرار، ومن القدرة على إنتاج أسلحة ذكيّة ذاتيّة التصرّف والحركة، إلى درجة تجعلها أسرع وأفعل كثيرًا من الأسلحة المعادية، بحسب دائرة بويد. إن أفضل مثال على تطبيق دائرة بويد هو ما عهدناه في الحروب الأخيرة من تسميات، أهمّها «جهاز الاستشعار لإطلاق النار» (Sensor to Shooter).[21]. ألم يقل الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين «إن من يسيطر، ومن يحتل مركز الصدارة في الذكاء الاصطناعيّ، سوف يحكم العالم»[22]؟ فماذا عن كتاب بول شار؟

يرى شار في كتابه أربعة مسارح للصراع أن الصراع في القرن الـحادي والعشرين هو صراع للسيطرة على الذكاء الاصطناعي بين القوى العظمى، وهو يرتكز على أربعة مسارح: الداتا (Data)، القدرة الحاسوبيّة (Computing Power)، الموهبة (Talent) ومن ثمّ المؤسسات (Institutions).

تعد الداتا الوقود الأساسيّ للذكاء الاصطناعيّ. ومن يمتلك الحجم الأكبر منها، فهو المتقدّم على غيره من المنافسين. يمكن أن تكون الداتا من مصدر بشري، أو من المصدر الاصطناعيّ (Synthetic Data)[23]. لا يعمل الذكاء الاصطناعي من دون الداتا، لأن التطبيقات التي تستعمل الذكاء الاصطناعي تُدرّب على كميّة معيّنة من الداتا قبل وضعها في الخدمة. على سبيل المثال، دُرّب تطبيق الـ ChatGPT الأخير الذي هزّ العالم، وقبل وضعه في الخدمة، على كميّة داتا بحجم كبير قُدّرت بـ 570 غيغابايت[24]. هكذا أيضًا هي الأسلحة التي تستعمل الذكاء الاصطناعيّ. ففي منظومة تشغيل هذه الأسلحة، يوجد التطبيق الذكي، الذي يحوي البرنامج (Software-Algorithm) والشرائح الذكيّة التي تُشغل وتُسرّع عملية التنفيذ.

إذًا بيْنَ البرنامجِ، الذي يُحدّد طبيعة الوظيفة، وعمليّةِ التواصل مع الأجهزة الأخرى من أقمار اصطناعيّة وغيرها، وضمنًا المعلوماتِ الدقيقة عن الهدف المنوي تمديره، تَحسُب الشرائح الذكيّة المعطيات، بهدف التنفيذ. الأمر الذي يأخذنا وفق بول شار إلى مسرح الصراع الثاني بين القوى العظمى ألا وهو القدرة الحاسوبيّة (Computing Power). وكلّما كانت هذه الشرائح ذكيّة وسريعة ومتقدّمة في قدرتها على التحليل كانت دورة القرار – الزمن قصيرةً مقارنةً بدورة القرار لدى العدوّ، الأمر الذي يؤدّي إلى الإمساك بزمام المبادرة. ولإظهار الفوارق في السرعة الحاسوبيّة، تم حساب توقيت التنزيل للفيلم (ET) للمخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ على ثلاث سرعات من الأجيال المتوافرة حاليًا: 3G, 4G, 5G. على الـ 3G، استلزم التنزيل 12 ساعة، وعلى الـ 4G استغرق 10 دقائق، أما على الـ 5G، فلم يستغرق الأمر سوى 3 ثوانٍ. فلنتخيّل أن هذه الفوارق موجودة في حقل معركة ما، فمن سيكون الرابح؟ ومن يتمتّع بدورة القرار الأقصر[25]؟

على سبيل المثال، يحتوي الصاروخ جافلين (Javelin) المُضاد للدروع، الذي استُعمل في أوكرانيا في بدايات الحرب ضد المدرّعات الروسيّة، وكان العامل الأساسيّ في إفشال الهجوم الروسيّ، على ما يُقارب الـ200 شريحة ذكيّة[26].

أما فيما خصّ المسرحَين الأخيرَين، الموهبة والمؤسسات، بحسب كتاب بول شار، فهما أمران متعلّقان بالاستراتيجيات الكبرى للقوى العظمى في صراعها ضد بعضها البعض. تستقطب أمريكا الكثير من المواهب من ضمن مبدأ المجتمع المنفتح على الهجرة[27]. كما أن القطاع الخاص في أمريكا هو من يسيطر على قطاع التكنولوجيا. لذا تحتلّ الشركات الأمريكيّة المراكز الأولى في العالم استنادًا إلى القيمة السوقيّة[28].

وقبل ختام الحديث عن كتاب شار، أذكر كيف غيّر الذكاء الاصطناعي تكتيك حرب القوات الأمريكيّة في أفغانستان، ليوفّر عليها الوقت، كما تقليل عدد الضحايا، من جنود ومدنيّين على حدّ السواء. من المعروف أن المسيّرات الأمريكيّة كانت تراقب حقل المعركة في أفغانستان على نحو مستمرّ ويوميّ. وكانت تسجّل الفيديوهات لحقل المعركة، وبكثافة كبيرة. لكن كثرة المعلومات-الداتا، إلى حدٍّ يفوق القدرة على التحليل الفوريّ للاستغلال في حقل المعركة مباشرة، هو تمامًا كعدم توافر أيّة معلومة. هنا، تمّ إدخال الذكاء الاصطناعيّ في عملية تحليل الداتا المتوافرة من الفيديوهات، فأصبحت تُحوّل إلى معلومات تكتيكيّة مفيدة تُستغلّ فورًا على أرض المعركة[29].

إذًا، انتقل العالم من صراع وسباق تسلّح قديم، إلى صراع وسباق تسلّح لكن في العالم الرقميّ.

2 – مجالات استعمال الذكاء الاصطناعيّ حاليًّا

ينحصر استعمال الذكاء الاصطناعيّ اليوم في عدّة مجالات، استنادًا إلى نوع العمل الذي تقوم به، وحجم التعقيد. تبدأ هذه المجالات بآلات ردّ الفعل (Reactive Machines)، وتنتهي بالآلة التي تعي نفسها، وتتصرّف من دون ايّ تدخّل بشريّ. في الحالة الأولى، تتفاعل الآلة مع محيطها المباشر كرّد فعل فقط. مثال على ذلك، برامج لعبة الشطرنج (Deep Blue)[30]. أما في الحالة الثانية، فهو الوضع الذي لم يصل إليه الذكاء الاصطناعيّ بعد، والذي يقضّ مضاجع كل من هو مهتم بمصير البشرية[31]. لكن الوصول إلى الوعي الكامل للآلة فهو على قدم وساق بحسب بعض المفكّرين[32].

ثالثًا: الذكاء الاصطناعيّ في الحرب الأوكرانيّة

عكست الحرب الأوكرانيّة صورًا كثيرة تتشابه مع شكل الحروب الكبرى التي سبقتها. في الحرب العالميّة الأولى، شهدنا الحرب الدفاعيّة، وحرب المدفعيّة والخنادق. كما تميّزت تلك الحرب بعدد القتلى المرتفع لدى الأفرقاء، غالبًا بسب نيران المدفعيّة[33]. وهذا ما شاهدناه في كل من مدينتي بخموت وماريوبول في الحرب الأوكرانية[34]. كذلك عكست الحرب الأوكرانيّة الكثير من الصور التي شهدتها الحرب العالميّة الثانيّة؛ ففيها المناورة، والطائرة، وفيها الصواريخ البعيدة المدى، ودبّابة القتال الرئيسيّة. كما تتشابه استراتيجيّة القصف الاستراتيجيّ لكلّ البنى التحتيّة الأوكرانيّة، مع القصف الاستراتيجيّ في تلك الحرب.

وفّر الدعم الأمريكي والأوروبي غير المحدود لأوكرانيا في مواجهتها روسيا في الحرب الكثير من الإمكانيات العسكرية على مختلف الصعد العسكرية، البشرية منها والتسليحية والمعلوماتية بما فيها صور الأقمار الصناعية اليومية والداتا التي تعتمد عليها أسلحة الذكاء الاصطناعي. الأمر الذي أتاح لأوكرانيا تطبيق الثورة التكنولوجيّة والذكاء الاصطناعيّ في الحرب على النحو التالي:

1 – دخول القطاع الخاص، أو الشركات الخاصة إلى قلب اللعبة الجيوسياسيّة، فقط لأنها تملك التكنولوجيا الجديدة. تمثّل هذا الأمر عبر تزويد شركة «ستارلينك» أوكرانيا بوسائل اتصالات حديثة عبر الأقمار الاصطناعيّة، التي لا يمكن حتى الآن التشويش عليها. أمنّت هذه الوسائل القيادة والسيطرة للجيش الأوكراني بعد أن دمّرت روسيا كل البنى التحتيّة الأوكرانيّة للاتصالات[35]. وعليه قد تكون الحروب المستقبليّة حروبًا مشتركة بين القطاع العام والقطاع الخاص، نظرًا إلى تبوّؤ الشركات الخاصة مركز الصدارة في الأبحاث والابتكارات التي تتعلّق بالذكاء الاصطناعيّ. فضلًا عن ذلك، لم يعد خوض الحرب حكرًا على الجيوش النظاميّة، إذ أصبح الفاعلون غير الحكوميين (Non State Actors)، لاعبين مهمّين ومنافسين للجيش التقليديّ. تندرج ضمن هذا التصنيف شركة بلاكووتر الأمريكيّة ودورها في العراق، كما شركة فاغنر، وجيش رمضان قاديروف الشيشاني في أوكرانيا[36].

2 – أول مرّة في تاريخ حلف الناتو، يجتمع السلاح الغربيّ من عدّة مصادر بعضه مع البعض الآخر، ليُستخدَم في القتال على الجبهة نفسها مجتمِعًا، وذلك من ضمن الحرب المشتركة للأسلحة (Combined)، فجُمعت الدبابة الألمانيّة، إلى جانب المدرّعة الأمريكيّة، إلى جانب المدفع السويديّ، إلى جانب الدفاعات الجويّة النرويجيّة، إلى جانب المُسيّرة التركيّة، إلى جانب صواريخ الكروز وغيرها، كلّها بيد جيش واحد هو الجيش الأوكرانيّ، الذي خضع للتدريب مسبقًا على يد حلف الأطلسي. فلنتأمّل كم من دروس مُستقاة ستُؤخذ من هذه الحرب، هذا إذا عدَّينا أن المسرح الأوكراني هو مسرح التجارب الأهم لكلّ السلاح الغربيّ كما الروسيّ[37].

3 – يصف وزير الدفاع الأوكراني ألكسي روزنيكوف الحربَ الأوكرانيّة بحرب تكنولوجيا[38]. فقد تميّزت هذه الحرب بالاستعمال الكثيف للمُسيّرات، وبخاصة في رصد الأهداف، وتصحيح رمايات المدفعيّة، أو حتى في انقضاض الطائرة على الهدف، وضمنًا الاستعلام الميدانيّ التكتيكي عن العدو بوجه عام. على سبيل المثال لا الحصر، خلال معركة مدينة باخموت في شرق أوكرانيا. كان لدى الجيش الأوكراني ما يُقارب الـ 50 مُسيّرة في الجوّ يوميّا في الوقت نفسه. وقد أمّنت هذه المسيّرات ما يقارب الـ85 بالمئة من الأهداف الروسية للجيش الأوكرانيّ. فكان العمل الميداني يحصل على النحو التاليّ:

أ – ترصُد المُسيّرة هدفًا ما. يضعه مُشغّل المسيّرة على التطبيق العام (App) للأهداف، لتكون المعلومة في متناول كلّ الجهازيّة، وبخاصة مدفعيّة الميدان. بناءً على المعلومة، يتمّ قصف الهدف من جانب من هو القادر الأكثر فعاليّة والأقلّ تكلفة. قصّرت هذه الشبكة العنكبوتيّة عملية اتخاذ القرار من عشر دقائق إلى دقيقتين[39]. حتى إن المسيّرة قد لُقّبت في هذه العملية بأنها «أوبر» (Uber) المدفعيّة.

ب – سيُغيّر الذكاء الاصطناعيّ طبيعة العمل التجسسيّ والاستخباراتيّ، إذ كانت الاستخبارات تقوم على مستوى مرتفع من السريّة. لكن لم يعد هذا الأمر ينطبق على ما حصل في أوكرانيا؛ فقد نشرت وكالة الاستخبارات الأمريكيّة كلّ الصور الجويّة حول الاستعدادات الروسيّة للحرب. وبذلك، لم يعد عامل المفاجأة، وبخاصة الاستراتيجيّة، عاملًا حاسماً في الحرب[40]. حتى إن توافر المعلومة أو الداتا، والحصول عليها، لم يعد حِكرًا على الدولة ووكالات الاستخبارات؛ فقد تظهّر في عصر الذكاء الاصطناعيّ ما يُسمّى «مصادر المعلومات المفتوحة» (OSINT)[41]، وهي داتا متاحة للعامة، يمكن الحصول عليها ووضعها في تطبيق يستعمل الذكاء الاصطناعيّ، المُعدّ سلفًا لمهمّة معيّنة. بذلك يمكن الاستحصال على التحليل الخاص بهذه الداتا، وعلى المعرفة المتعلقة بالاستعمال المباشر لها وفي المجالات كافة. يمكن التذكير هنا باستعمال شركة كامبريدج أناليتيكا البريطانيّة، التي استعملت الداتا من المصادر العامة (Facebook)، بهدف التأثير في الانتخابات الأمريكيّة عام 2016. حتى إن هذه الشركة كانت قد اتّهمت بالتعاون مع شركة روسيّة نفطيّة (Lukoil)، للتأثير في نتائج الانتخابات الأمريكيّة آنذاك[42]. في الإطار نفسه، يمكن استخلاص ثلاثة دروس من الحرب الأوكرانيّة، اهمّها عامل «الشفافيّة» في الحرب (Transparency)[43]. لم يعد القائد في الحرب بحاجة إلى الخريطة، وإلى الجواسيس الذين يعملون في خلفيّة خطوط العدوّ لجمع المعلومات والاستخبارات التكتيكيّة بهدف التخطيط للمعركة؛ فقد حلّ مكان هؤلاء القمر الاصطناعيّ والمسيّرة والمستشعرات وغيرها من التكنولوجيا الحديثة؛ والخريطة أصبحت رقميّة؛ والمستشعر حلّ مكان المنظار المُقرِّب (Binocular). كلّ هذه الوسائل تستعمل الذكاء الاصطناعي لجمع الداتا وتنقيتها وتحليلها، ومن ثمّ وضعها على الشبكة العنكبوتيّة ليستفيد منها الجميع، ولينفّذها من هو في الوضع الأفضل. فهل تخطّى الزمن، والتكنولوجيا، مبدأ المفكرّ البروسيّ كارل فون كلاوزفيتز حول «ضبابيّة الحرب» (Fog of War)[44]؟

ج – لا تزال القيادة والسيطرة (C4ISR)[45] العامل الأساسيّ في الحروب، سواء كانت القيادة التقليديّة، أو القيادة الحاليّة، التي تعمل في وضع هجين، أي بين التقليديّ والاستعمال المحدود للذكاء الاصطناعيّ. لكن المستقبل يُبشّر بنموذج جديد من القيادة والسيطرة؛ القيادة التي تربط كلّ وسائل الحرب، من أسلحة وغيرها، كما مسارح الحرب من ضمن شبكة عنكبوتيّة، لتتّخذ القرارات على مختلف المستويات، التكتيكيّة والعملانيّة والاستراتيجيّة. حتى إن مركز القيادة لن يكون كما تعوّدنا سابقًا في غرفة عمليّات البنتاغون، أو الكرملين، أو في مكان ما في بيجينغ؛ فبحسب المفكّر الاستراتيجيّ الأمريكيّ ماكس بوت، قد يكون مركز القيادة في مكتب ما، في ناطحة سحاب. ولن يكون العاملون فيه بلباس عسكريّ، أو ضمن تراتبيّة عسكرية تقليديّة. حتى إن اختصاص العاملين في هذا المركز، وتوصيفهم الوظيفيّ سيكون من نوع آخر لم نَعْتَدْه[46] .

د – إذا كانت الحرب الأوكرانيّة شفّافة إلى درجة لم نعتدها، فإن الحروب المستقبليّة سوف ترتكز على الاستعلام والرصد المُسبق لتحركات العدو ونياته. وعليه، من الضروري أن يعطينا هذا الاستعلام المُسبق والدقيق عن العدو، القدرة على تأمين عنصر المفاجأة. ولتحقيق عنصر المفاجأة، لا بد لنا من أن نملك تكنولوجيا حديثة متقدّمة على العدو، الأمر الذي يعيدنا إلى أهميّة مدّة وزمن دورة اتخاذ القرار (OODA)، التي من المفروض أن تكون أقصر من دورة اتخاذ القرار لدى العدو، كي يبقى زمام المبادرة بيدنا. وبسبب ذلك، على القوى المقاتلة، وقبل سيطرة الذكاء الاصطناعي على كلّ الأمور، العمل على ابتكار طرائق جديدة للقتال تقوم على: الحركيّة والانتشار والتمويه والتخفّي، كما الخداع. لذلك توقّع رئيس الأركان المشتركة للجيش الأمريكيّ مارك ميلّي أنه خلال الـسنوات العشر أو الخمس عشرة المقبلة، سوف يكون ثلث الجيوش المتطوّرة «روبوتيًّا» (Robotic). فلنتخيّل، والكلام لميلّي، قوّة جويّة من دون طيّارين، ودبابات من دون طواقم[47]. لكن بانتظار الوصول إلى نقطة التحوّل الكبرى (Singularity)، نشهد اليوم في الحرب في أوكرانيا وضعًا هجينًا بين الجيلين القديم والجديد. وكأن تلك الحرب ستكون المرحلة الانتقاليّة بين ذاك القديم وهذا الجديد الذي لا نعرفه بعد.

هـ – يقول الجنرال الأمريكي ستانلي ماكريستال إنه توقّع مع فريق يعمل معه، حدوث الحرب في أوكرانيا، خلافًا للكثير من الخبراء الذين توقّعوا العكس. استعمل ماكريستال في هذا التوقّع الذكاءَ الاصطناعي لتحليل الداتا، التي تعود إلى عشر سنوات خلت[48]. ضمّ فريق ماكريستال علماء ومهندسين وخبراء في الأمن القوميّ وعاملين سابقين في الأمن القوميّ. وقد ركّز هؤلاء على صورة مختلفة عن الصورة التقليديّة التي اتّبعها الآخرون. استخدم الفريق الذكاءَ الاصطناعيّ مع داتا ضخمة من مصادر متنوّعة. كما تمّت متابعة حركة الصواريخ الروسيّة، وكذلك الحركة التجاريّة في أماكن انتشار القوات الروسيّة على الحدود مع أوكرانيا. وأخيرًا وليس آخرًا، بُنيت خرائط حراريّة (Heat Map) لتحرّك الوحدات الروسيّة. وقد ركّز الفريق أيضًا على سلوك العسكر الروسيّ الذي دلّ على أنهم ليسوا عائدين قريبًا إلى ثكناتهم. ولم يدرس الفريق ويحلّل خطب الرئيس بوتين.

لكن إذا صحّ توقّع الجنرال الأمريكيّ حول أوكرانيا، فهل سينجح هذا التوقُّع في مكان آخر؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا الأمر يعني أنه يمكن استباق وقوع الحرب والعمل على وقفها استباقيّا. فهل يمكن الذكاء الاصطناعي أن يعمل لخدمة السلم، كما يعمل في الحرب؟ هنا قد يُطرح السؤال التالي: «هل يمكن مسؤولًا ما، مولعًا بخوض الحروب، ومؤمنًا باستعمال القوّة، استغلال الذكاء الاصطناعيّ لشن حرب استباقيّة على عدو ما؟ ألم يُحضِّر وزير الخارجيّة الأمريكيّ السابق كولن باول ويُسوّق حرب أمريكا على العراق عام 2003؟ بالطبع فعل، لكنه استعمل الطرائق التقليديّة، وهي أبطأ من طرائق الذكاء الاصطناعيّ. فهل هناك من شيء جديد تحت الشمس؟[49] وإذا نجح الذكاء الاصطناعيّ في توقّع الحرب في أوكرانيا، بحسب الجنرال ماكريستال، فماذا لو كان العدو يملك الإمكانيات التكنولوجيّة نفسها؟ ألا يمكنه خداع عدوه في المقابل، عبر التمويه والتضليل؟ ألا يمكن العدو أن يتوقّع نجاح مغامرته أو فشلها؟

و – عند حدوث خرق كبير ومهم في التكنولوجيا، لا بدّ للجيوش من التأقلم؛ فماذا لو خلق هذا الخرق وسيطًا جديدًا (Medium)، يُحتّم رسم استراتيجيّات من نوع آخر، لم يعتدها القادة العسكريّون[50]؟ ألم يُقَل إن العسكر يخوضون دائمًا الحرب السابقة، لا الحرب القادمة[51]؟ الوسيط الجديد اليوم هو الفضاء السيبرانيّ، الذي يستعمله الذكاء الاصطناعيّ. والتاريخ مليء بالأمثلة عن الابتكارات والاختراعات التي حتّمت على القادة العسكريّين التأقلم. ساهم بناء السفن الحديثة العاملة على محرّك البخار إبان الثورة الصناعيّة، إلى حدّ كبير، في نشر الاستعمار. كما أدّى اختراع الطائرة إلى مبدأ القصف الاستراتيجيّ خلال الحرب العالمية الثانية. ألا تُشكّل الاستراتيجيّة نظريّة النصر؟ ألا تربط الاستراتيجيّة الأهداف بالوسائل لتحقيقها؟ ألم يُغيّر السلاح النوويّ كلّ الحسابات الاستراتيجيّة؟ وهل قلّل وجود هذا السلاح المُدمّر من الحروب بين القوى العظمى؟ في هذا الإطار، نظّر المفكّر الأمريكيّ كينيث والتز[52]، حين قال إنه كلّما كثُّر السلاح النوويّ كان أفضل. فهو يردع الكلّ في الوقت نفسه. لكن، ماذا لو تسلّم الذكاء الاصطناعيّ إدارة هذا السلاح وتخطيطه واستعماله؟ ومع ظهور الـ ChatGPT،[53]، فهل يمكن الطلب إليه رسم الاستراتيجيّات؟ وهل هو قادر على ذلك، وبخاصة أنه دُرّب على كميّة محدودة من الداتا؟ ولأنه يستقي معلوماته من الإنترنت، فهل كلّ الداتا المتوافرة على الشبكة هي صحيحة يمكن الركون إليها؟ وهل يحقّ للشركات المعنيّة به استعمال الداتا مجّانًا؟ إذًا لماذا يطالب ممثّلو هوليوود وكتّابها بتعويض مالي عن أعمالهم التي استُعمِلت كـ«داتا» لتدريب التطبيقات التي تستعمل الذكاء الاصطناعيّ[54]؟

ز – يبقى السؤال الأهمّ لا حول سرعة جمع الداتا وتحليلها، وإنما حول وسيلة نقل هذه المعلومة إلى المستفيد بالسرعة القصوى. هنا تظهّر نقطة الضعف في استعمال الذكاء الاصطناعيّ، أو الهشاشة إذا صحّ التعبير. لقد تحدّثنا في هذه الورقة عن أربعة وسائط، هي البرّ والبحر والجو والفضاء السيبرانيّ. يستعمل الذكاء الاصطناعيّ كل هذه الوسائط، وفي الوقت نفسه. لكن هشاشته تتمثّل بالبحر وأعماق المحيطات. كيف؟ تُنقل الداتا في العالم عبر الفضاء، أي عبر الأقمار الاصطناعيّة بنسبة 10 بالمئة[55]، لكنها تنقل عبر الكوابل البحريّة بنسبة 90 بالمئة، إذ يوجد في أعماق البحار كابلات إنترنت بطول 1.5 مليون كم. يُنقل عبرها داتا متعلّقة بالاقتصاد العالميّ، وبالاستخبارات، والتجسس، والعمليات العسكريّة. هذه الكابلات ليست مؤمّنة ومحروسة بصورة دائمة ومستمرّة. وهي عرضة للحوادث، سواء من جرّاء سفن الصيد، أو من جرّاء الكوارث الطبيعيّة أو حتى بسبب أعمال التخريب؛ فماذا لوّ قرّرت دولة ما قطع هذه الكابلات وتخريبها؟ فهل سيستطيع الذكاء الاصطناعي العمل عبرها، أم سيُمْكِنه توليدُ الداتا الخاصة به ما دام يقال عنه توليديًّا (Generative)؟ وهل توصّل هذا الذكاء الآن فعلًا إلى مرحلة التوليد الذاتيّ؟

رابعًا: الذكاء الاصطناعيّ إلى أين؟

نشرت صحيفة الغارديان البريطانيّة مقالًا افتراضيّا حول المّسيّرة التي قتلت مُشغّلها، فقط لأنها اعتقدت أنه قد يكون عائقًا أمام تنفيذ مهمّتها[56]. وحين عُدّلت مهمتها لمنعها من قتل مُشغّلها، عملت على مهاجمة الشبكة والمنظومة التي تُشغّلها. وهذا أمر يطرح البُعد الأخلاقي لاستعمال الذكاء الاصطناعيّ، وبخاصة في الحرب؛ فهل بدأ عصر انفصال الذكاء الاصطناعيّ واستقلاليّته عن سيطرة الإنسان؟ أليست إنجازات اليوم هي أحلام البارحة[57]؟ وهل يمكن وقف هجمة الذكاء الاصطناعيّ؟

في عام 1139 ميلادية، منعت الكنيسة الكاثوليكيّة القوس والنشّاب، حاسبة إيّاه سلاحاً شيطانيّاً[58]. لكن هذا الحُرم، لم يمنع الاستمرار في استعمال السلاح وانتشاره. لكن الفرق بين القوس والنشّاب وبين الذكاء الاصطناعي يندرج في أمرين، هما: أولًا، أن سرعة انتشار القوس والنشّاب ليست كالسرعة الجنونيّة التي ينتشر فيها الذكاء الاصطناعي، وكيف يتمّ استعماله في الأسلحة الحديثة؛ ثانيًا، أن زناد القوس والنشّاب هو تحت سيطرة المقاتل آنذاك، في حين أننا بدأنا اليوم نرى الأسلحة الذكيّة التي تعمل من دون أيّ تدخّل إنساني، أو تدخّل بشريّ محدود.

في هذا الإطار، تُحدّد وزارة الدفاع الأمريكيّة المُتطلّبات المفروض توافرها في الأسلحة الذكيّة وهي: المسؤوليّة، الإنصاف، التتبّع، المصداقية والقدرة على التحكّم في السلاح[59].

لكن، علّمنا التاريخ أن الدول العظمى تسعى مشتركة للحدّ من مخاطر ابتكار جديد، أو سلاح مُدمّر، فقط حين تشعر هذه الدول أن أمنها القوميّ أصبح مُهدّدًا بسبب هذا الابتكار أو السلاح. هكذا حصل مع أسلحة الدمار الشامل خلال الحرب الباردة وبخاصة السلاح النوويّ[60]. وهكذا تجنّبت الولايات المتحدة وروسيا دمار العالم عبر السلاح النوويّ، حين أسّسا، عبر سباق التسّلح، معادلة التدمير الأكيد المُتبادل (Mutual Assured Destruction). لكن الاتحاد السوفياتي، بسبب مخافته قدرة الولايات المتحدة على تدميره بالسلاح النوويّ، ابتكر منظومة لا تكاد تُسمّى «برنامج كومبيوتر» أو «خوارزميّة»، وذلك تحت مُسّمى «اليد الميتة» (Dead Hand). بُرمج هذا النظام لإطلاق السلاح النووي السوفياتيّ في الحالات التالية: عند توقّف تسلُّم الأوامر من الكرملين مباشرة؛ إذا رصدت آلةٌ خاصةٌ انفجارات وإشعاعات في سماء موسكو، تُطلق فورًا كلّ الصواريخ النوويّة الروسيّة. طُوّرت هذه المنظومة بعد سقوط الاتحاد السوفياتيّ، وهي لا تزال تعمل حتى اليوم[61]. وقد حصل هذا قبل الاستعمال المُكثّف للذكاء الاصطناعيّ في منظومات الأسلحة وتحسّبًا للسيناريو السيّئ.

على سبيل المثال لا الحصر، كانت مدّة الإنذار المُبكر للرئيس الأمريكيّ في ما يخصّ أيّ هجوم نوويّ، تبلغ ساعة تقريبًا[62]. كانت هذه المدّة تسمح بالتواصل مع الكرملين لتوضيح الأمور، كإلغاء أمر استعمال السلاح النوويّ أو غيره من الأمور. لكن مع تحويل الغواصات في أعماق البحار إلى منصّات لإطلاق الصواريخ النوويّة، بحيث تكون الغواصة قادرة على الاقتراب من شواطئ العدو، وذلك من ضمن المثلّث بحر- برّ- جوّ، تقلّصت مدّة الإنذار المبكر من ساعة إلى 30 دقيقة. لكن اليوم، وفي عصر دخول الذكاء الاصطناعيّ في المنظومات العسكريّة، تستعرض القوى العظمى إمكانيّاتها الفرط صوتيّة (Hypersonic) في منظومة الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نوويّة؛ فكم ستصبح مدّة الإنذار المُبكر؟ وما هو الدور المتوقّع للذكاء الاصطناعيّ في الحرب النوويّة؟ وهل نحن أمام عصر جديد للسلاح النوويّ[63]، بحيث أصبح منتشرًا أكثر، وحتى مستوى الدول الإقليميّة العظمى؟ وكيف ستُحدّث القوى العظمى ترسانتها النوويّ لتتمشى مع العصر الرقميّ؟ في هذه المعادلة تعود دورة اتخاذ القرار (OODA) لتؤدي الدور الأساسيّ.

حتى الآن، لا نعرف كيف أدخلت القوى العظمى الذكاء الاصطناعي في أسلحتها النوويّة، من التخطيط، إلى قرار الإطلاق. لكن السؤال يبقى: هل يعي الذكاء الاصطناعي معنى نظريّة النصر (Theory of Victory) كما يفهمها الإنسان؟ وهل يعي هذا الذكاء الاصطناعي ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، عن «أن الحرب النوويّة لا يمكن أن تُربح»؟[64] ومن المعروف والمألوف أن الذكاء الاصطناعيّ يُدرّب مُسبقًا على البيئة التي يعمل فيها. فماذا لو تغيّرت هذ البيئة؟ وماذا لو كانت هذه البيئة تتعلّق بالسلاح النوويّ؟ فكيف سيكون عليه تصرّف الذكاء الاصطناعيّ؟

حتى الآن، يبدو أن الصراع – التسابق بين الدول العظمى لا يزال في بداياته. وجُلّ ما يحصل في ما بينها يندرج في نطاق التجسّس العلمي والصناعيّ، والخرق السيبرانيّ. وحتى الآن، لم يحصل أيّ حدث جلل، على غرار هجوم بيرل هاربور، أو 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لذلك ستشهد المرحلة المقبلة مرحلة صراع وتسابق على التكنولوجيا الحديثة، لكن من دون معاهدات مهمّة تُذكر. لذلك تبدو مرحلة الفراغ الحالية، ومن دون ضوابط قانونيّة دولية، خطيرة جدّا. من هنا سعي مجلس الأمن مؤخّرًا، ولأول مرّة، وبدعوة من بريطانيا، إلى عقد اجتماع لدراسة مخاطر الذكاء الاصطناعيّ على الأمن العالميّ[65]؛ فهل سيكون ذلك الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل؟

يقول المفّكر والعالم الأمريكيّ راي كورزويل إن ساعة التفرّد التكنولوجيّ أصبحت قريبة، وهو يعزو ذلك إلى السرعة الجنونيّة التي يحدث فيها التغيير. لكن التمييز هنا، بحسب الكاتب، بين سرعة التغيير الخطيّة (Linear)، والتغيير المتسارع (Exponential). كي نوضّح هذه الفكرة سأعطي المثل التالي: لنتأمّل المياه التي تتجمّع خلف سدّ فيه بعض العيوب، هذا التجمّع هو تراكميّ - خطّيّ. لكن ما إن ينهار السدّ، سوف تتّبع المياه السلوك المُتسارع، بحيث لا يمكن توقّع ما قد يحدث، كما يستحيل التدخّل لاستباق الضر[66] (انظر الشكل الرقم (3))

الشكل الرقم (3)
تحوُّل السرعة الخطية

المصدر: من إعداد المؤلف

في هذا الرسم، توجد نقطة تحوّل بين السرعة الخطيّة، والتحوّل الفائق السرعة (Exponential). اسم هذه النقطة هو «نقطة الركبة من المنحنى». ما قبل هذه النقطة هو غير ما بعدها. وفي هذا الإطار، يقول كورزويل إننا نعيش اليوم مرحلة ما بعد نقطة الركبة، وهي لا يمكن السيطرة عليها أو وقفها. على سبيل المثال، وبحسب كورزويل، إن سرعة التغيير اليوم تفوق سرعة التغيير في القرن العشرين بخمس مرّات. وإن سرعة التغيير هذه تتضاعف كل عقد من الزمن[67].

إذًا، وبحسب الكاتب الأمريكيّ، سنصل إلى «نقطّة التفرد التكنولوجيّ» قريبًا، فكيف يُعرّف الكاتب هذه النقطة؟

«إنها مرحلة من المستقبل، حيث سرعة التغيير التكنولوجي كبيرة جدّا، وتأثيرها سيكون عميقًا، بحيث تتغيّر الحياة البشريّة على نحوٍ لا يمكن عكسه»[68]. فكيف ستكون حال الحرب بعد هذه النقطة؟ ومن سيديرها؟ وكيف ستكون عليه الأسلحة؟

خاتمة

قاربنا في هذه الورقة موضوع الحرب في عصر الذكاء الاصطناعيّ. تحدّثنا عن الثوابت والمتغيّرات، من دورة اتخاذ القرار، إلى عمليّة جمع الداتا لتحليلها وتحويلها إلى معرفة. لكن الأهمّ في هذه الورقة هو إظهار استعمال الذكاء الاصطناعيّ بكثافة في الحرب الدائرة في أوكرانيا، فتحدّثنا مطوّلًا عن هذه الحرب، وكيف ستكون الحرب في أوكرانيا نقطة التحوّل في استعمال الذكاء الاصطناعيّ في الحروب المقبلة. كما تناولنا سرعة التحوّل في الذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى نقطة التفرّد التكنولوجيّ.

لكن المفارقة (Paradox) في الحرب الدائرة في أوكرانيا تتمثّل بـأن هذه الحرب كلّما طالت استُعملت فيها الأسلحة الذكيّة أكثر وتمّ تحديثها وتطويرها بناء على التجربة الميدانيّة الحيّة. لكن ثمن تحديث الأسلحة التي تستعمل الذكاء الاصطناعيّ هو الإنسان في أوكرانيا كما في روسيا؛ هو العقل البشري في البلدين، الذي يُسخّر أفضل ما توصّل إليه لقتل الآخر، ولتسليم زمام المبادرة في النهاية إلى عقلّ آلي كان هو قد ابتكره وطوّره لكن بتكلفة كبيرة[69]. وإذا كان لا يزال يصحّ قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: «أنا افكرّ، إذًا أنا موجود»، وإذا وصل الإنسان مع الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة الـ«التفرّد التكنولوجيّ» (Singularity)، وبدأت الآلة تفكّر بدلًا منّي لأنها موجودة، فمن أكون أنا[70]؟

كتب ذات صلة:

خطوط الغاز الروسية: الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية

دور القيادة السياسية في إعادة بناء الدولة (روسيا في عهد بوتين)