«هذه المرة الأولى منذ نحو 75 سنة التي تعاني فيها إسرائيل شروخًا تُهدَّد أمنها، ليس بسبب الخطر على الديمقراطية فقط، بل نتيجة الإخفاق في الحفاظ على الفكرة الصهيونية التي تقوم على أن نلتئم حول هدفٍ واحد وحلمٍ مشترك. ونخشى في حالتنا الراهنة أن يهرب أبناؤنا من البلاد، وينفضّ عنا أصدقاؤنا». ليس هذا جزءًا من خطابٍ سياسي ألقاه أحد معارضي حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، بل هو مقطع من نص «تحذير استراتيجي» أصدره أحد أهم مراكز التفكير في إسرائيل، وهو «معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي»، في آخر آذار/مارس الماضي.
ليست أزمةً سياسيةً عابرة، إذًا، تلك التي نشبت منذ تنصيب حكومة الائتلاف بين حزب ليكود وجملة أحزاب دينية وقومية تُعدّ الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل. لا تشبه الأزمة الراهنة أيًا من سابقاتها. فهذه المرة الأولى بالفعل التي تندلع فيها أزمةٌ مرتبطةٌ بصراعٍ يشق التجمع الصهيوني شقًا، ومن ثم يوهنه على نحو غير مسبوق في تاريخه.
لهذا لم يكن غريبًا، ولا مبالغةً أو تهويلًا، حديث البروفسور عمونيل ترانتينبرغ الرئيس الحالي للمعهد الذي أصدر «التحذير الاستراتيجي»؛ فقد قال نصًا «إن إسرائيل تواجه خطرًا وجوديًا يفرض عليها الوحدة، في الوقت الذي علقَّتنا حكومتنا في صراع داخلي خطير».
وقبل ذلك التحذير وبعده، نبَّه أكاديميون ومثقفون ومسؤولون كبار سابقون، وحاليون، من تدحرُج الصراع في اتجاه حرب شوارع، وربما حرب أهلية أيضًا. غير أنه بمعزل عن المدى الذي سيبلغه هذا الصراع، فهو يعدّ الأعمق في تاريخ التجمع الصهيوني، لأنه يشطره شطرين متساويين تقريبًا. والأهم من ذلك أنه ينطوي على عداءٍ متبادل، وليس مجرد خلاف أو نزاع، بين طرفين. وقد وصل هذا العداء إلى قلب المؤسسة الصهيونية، التي تبادل أركانها في الحكم والمعارضة الاتهامات والتهديدات، إلى حدّ أن قادة بارزين في بعض أحزاب الائتلاف الحكومي، مثل تسفيكا فوغيل عضو الكنيست عن حزب «غوتسما يهوديت» دعوا إلى اعتقال رئيس الوزراء السابق يائير لابيد، ووزير الدفاع السابق بيني غانتس، ووزير الدفاع الأسبق موشيه يعالون، بدعوى أنهم يُحرِّضون ويخلقون أجواءً عدائية تُهدد بنشوب حرب أهلية، وفقًا لما بثته هيئة البث العام الإسرائيلي (كان 11) في 12 شباط/فبراير الماضي. وقد اعتُقل بالفعل قادة عسكريون سابقون أبرزهم العميد زئيف زار القائد السابق في سلاح الجو، في 6 شباط/فبراير، وأُطلق سراحه بعد التحقيق معه. ولا عجب في ذلك، فهذه هي حال الصراع الديني – العلماني أينما وُجد. وغني عن البيان الأثر السلبي الكبير الذي أحدثه هذا الصراع في عدة بلدان عربية، وأخرى غيرها، لم تستطع حله أو احتواءه.
* * *
إنه صراع مؤجل منذ ثلاثة أرباع قرن تقريبًا؛ فالانقسام الديني – العلماني هو قلب هذا الصراع، برغم أن تجلياته الأكثر وضوحًا في الأحداث اليومية ترتبط بمشروعٍ تسعى الحكومة الحالية لتمريره من أجل إضعاف دور القضاء، وإلحاقه بالسلطة التنفيذية وذراعها التشريعية المتمثلة بالكنيست، ومن ثم تقويض الديمقراطية الجزئية المقصورة على اليهود.
وكان هذا هدفًا أساسيًا للمتدينين وأحزابهم وجماعاتهم منذ البداية لاعتقادهم بأن الديمقراطية لا تنسجم مع اليهودية، وأن تكريسها يعني تثبيت العلمانية التي يرفضونها، ولكنهم اضطروا إلى قبولها على مضضٍ حين كانوا ضعفاء مقابل مزايا حصلوا عليها، في إطار تسويةٍ جعلتها منقوصةً بمعايير قواعدها الأساسية المعروفة، التي لا تسمحُ بتقنين طقوسٍ دينية وإلزام الناس بها مثل الامتناع عن العمل أيام السبت. هي علمانيةٌ منقوصة مثلها مثل الديمقراطية المقصورة على اليهود من دون عرب فلسطين الذين صمدوا فيها منذ عام 1948، مسلمين كانوا أو مسيحيين.
غير أنه عندما ازدادت قوة أحزاب المتدينين وجماعاتهم، والقوى القومية المتطرفة المتحالف بعضها والمتداخل بعض آخر معها، أصبح في إمكانها التحكم في الحكومة الحالية؛ فقد التقى هدفهم ذاك في نقطةٍ وسط مع رغبة رئيسها بنيامين نتنياهو المحمومة في الإفلات من مخالفاتٍ قانونية عبر إضعاف سلطة القضاء. وللأحزاب والجماعات اليهودية الأكثر تشددًا «الأرثوذكسية» أو «السلفية» مصلحةُ مباشرة أيضًا في الإجهاز على استقلال القضاء لتجنب أحكامٍ جديدة قد تمس بعض معتقداتها أو ما تعدّها ثوابت لا يجوز الاقتراب منها. وربما تطمح أيضًا إلى إعادة النظر في حكم المحكمة العليا الذي أنهى احتكار اليهود المتشددين الإفتاء في مسألة التهويد عندما قررت الاعتراف بمن يعتنق اليهودية في إسرائيل. ويُعدّ هذا الاعتراف أحد «تابوهات» اليهودية «الأرثوذكسية» أو «السلفية» التي لا تسمح بالتهويد، وتصر على أن اليهودي هو من وُلد لأمٍ يهودية فقط.
* * *
القوى الدينية والقومية، إذن، هي رأس الرمح في هذا الصراع الذي بدا أن إسرائيل نجحت في تجنبه في آخر أربعينيات القرن الماضي؛ فعندما اشتد الخلاف في ذلك الوقت على بعض نصوص مشروع دستور بُدئ في إعداده إعمالًا لما نص عليه ما سُمي «إعلان الاستقلال»، حدث نقاش عام أسفر عن تفاهمٍ على عدم ضرورة إصداره، والاستعاضة عنه بقوانين أساس يسنّها الكنيست. وكان السعي إلى تجنب اشتعال صراع ديني – علماني، على هذا النحو، أهم عوامل استبعاد الدستور، إلى جانب الارتباك الذي أحدثته إشكالية الحدود المتحركة التي لم يرغب مؤسسو الكيان المفروض بقوة السلاح حينذاك في تحديدها.
* * *
إن ما أمكن تجنُّبه قبل أكثر من سبعة عقود صار مستحقًا الآن. وهذا ما يجعل الصراع الراهن هو الأخطر في تاريخ إسرائيل. ويعود خطره – موضوعيًا – إلى أنه يُهدَّد المقومات الأساسية للقوة في زمننا. فأثر هذا الصراع في قوة إسرائيل العسكرية لن يكون هينًا في حال استمراره. وعندما حذر رئيس أركان الجيش في أول نيسان/أبريل الماضي من تأثير الصراع في جنود الاحتياط، وتراجع عدد منهم عن الانضمام إلى وحداتهم في الأوقات التي كانت محددةً لهم بسبب الاستياء من سياسات الحكومة الحالية، وما سيترتب عليها من تداعيات، فهذا نذير خطر على كيانٍ مُعسكر. وربما لا تُجدي مستقبلًا سياسة احتواء غضب المستائين في الجيش من طريق تصعيد الاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، وممارسة ضروب من الإرهاب بهدف تغيير الوضع الأمني في المسجد الأقصى، سعيًا إلى تحقيق تعبئة وتوجيه الأنظار إلى ما يُزعم أنه تهديد خارجي مفترض، عوضًا من الاهتمام بخطر داخلي حقيقي.
ولا تقل أهمية، بل قد تزيد، المؤشرات الدالة على تراجع مبيعات الأسلحة الإسرائيلية في الأشهر الماضية، بخلاف توقعاتٍ أُعلنت في أواخر العام الماضي وأفادت أن العام الجاري سيشهد انتعاشًا في هذه المبيعات بسبب تفاقم التوتر الدولي، واستمرار الحرب في أوكرانيا، ومن ثم تصاعد سباق التسلح في العالم. فالتقديرات التي أصدرتها بعض شركات الصناعات العسكرية في الأشهر الأخيرة تفيد أن الصفقات التي كانت مضمونةً تسير ببطء، وأن بعضها مُعلَّق، بسبب قلق المشترين من الوضع الداخلي في إسرائيل وكيف سيتطور، وإلى أي مدى قد يؤثر في الالتزام بشروط أية صفقة يُتفق عليها. ونسبت وسائل إعلام كثيرة إلى مسؤول كبير في إحدى تلك الشركات قوله إن وفودًا، بينها وفد عربي، ألغت زيارات كانت مقررةً لبحث إمكان شراء أسلحة. وفضلًا عن العائدات المالية، يحصل الكيان الإسرائيلي على مزيد من النفوذ في أوساط دولية وإقليمية نتيجة بيع الأسلحة.
أما الآثار الفورية لتصاعد الأزمة فهي تتجلى في قلقٍ يعتري أوساط المال والأعمال ودوائر «البزنس». ويبلغ هذا القلق ذروته في صناعات التكنولوجيا الرقمية، التي لا تقل أهميتها عن بيع السلاح بالنسبة إلى هذا الكيان، إذ تسهم بما يقرب من 50 بالمئة من صادراته، وتجذب استثمارات أجنبية متزايدة.
* * *
إنه طبيعي تمامًا هذا الذي يحدث. فالمعتاد أن يخيم القلق في أوساط المال والأعمال حين يكون الصراع في جوهره متعلقًا بهوية الكيان، ومُتمظهرًا في دور القضاء الذي يُوفر استقلاله الثقة التي لا يستقيم نشاط اقتصادي أو مالي من دونها. ويزداد القلق، عادةً، بمقدار ما يصعب توقع المدى الذي سيبلغه الصراع. وهذه قاعدة عامة لا تختص بها إسرائيل وحدها. ولكنها قد تكون أكثر عرضة لأخطار هذا الصراع، لأنه يؤثر سلبًا في صورتها التي نجحت في تسويقها دوليًا، وفي أسطورة الواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط. وقد نبَّه محافظ بنك إسرائيل المركزي أمير يرون، ورئيس بنك ديسكونت أوري ليفي في أيار/مايو الماضي، إلى أن استمرار الأزمة الراهنة سيؤثر على نحوٍ لا سابق له في الوضع الاقتصادي والمالي.
يحدث هذا، وغيره، بينما الصراع في أوله. واحتمال تفاقمه ليس صغيرًا، لعاملين: الأول منهما يرتبط بحالة الاسترخاء التي آل إليها كيانٌ عاش مشدودًا لمدةٍ طويلة تحت ضغط خوفٍ طبيعي يساور المستعمر الغاصب الذي يغتصب ما ليس له، وامتزج بتخويفٍ مصنوع لشد العصب في كيان غير طبيعي وإبقائه تحت السلاح. فقد اختلف الوضع الآن، بعد أن حقق الكيان الذي أُقيم على حساب شعب اغتُصبت أرضه، ما لم يحلم به مؤسسوه اعتمادًا على دعم غربي قوي ومتواصل، واستغلالًا لأخطاء وخطايا أضعفت بلدان الأمة العربية، وكان الصراع الديني – العلماني الذي تذوق إسرائيل مرارته اليوم أحد أهم أسباب هذا الضعف.
أما العامل الثاني فهو توسع نفوذ المتديّنين وجماعاتهم وأحزابهم، بعد أن ملأوا فراغًا نتج من انحسار تيارات علمانية أكثرها يسارية، في الوقت الذي يُقلب الميزان الديمغرافي لمصلحتهم. فالمتدينون يُنجبون أعدادًا كبيرة، في حين أن إنجاب العلمانيين قليل، بسبب اختلاف أنماط الحياة هنا وهناك.
* * *
أيًّا يكن ما سيحدث في المرحلة المقبلة، وحتى إن أمكن تهدئة الأزمة الناتجة من احتدام هذا الصراع، لن تكون إعادة اللُحمة إلى التجمع الصهيوني سهلةً بعد أن خرج أكثر أنواع الصراعات استعصاءً من مكمنه، الذي بقي فيه لأكثر من سبعة عقود استفحل خلالها تحت السطح، وأحدث انقسامًا في العمق.
وإذ لا يصح تضخيم هذا الصراع بما يجاوز معطيات الواقع، لا يجوز في الوقت نفسه التهوين من آثاره. ولكن أهم ما ينبغي الانتباه إليه هو أن هذه الآثار لا تكفي، مهما بلغت، لتغيير موازين القوى المختلة في المنطقة من دون إفاقةٍ عربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما فسد، وتحريك ما جُمّد، وبناء ما هُدم، على أن تكون مصحوبةً بإرادة حقيقية لإجراء إصلاحات تأخرت كثيرًا في بلدان الأمة، وفي العلاقات بينها، انطلاقًا من مشروع عروبي نهضوي تبدو الحاجةُ إليه اليوم أكبر من أي وقت مضى.
كتب ذات صلة:
المصادر:
نُشرت هذه المقالة بالأصل في مجلة المستقبل العربي العدد 533 في تموز/يوليو 2023.
وحيد عبد المجيد: مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ومديره الأسبق – القاهرة.
وحيد عبد المجيد
باحث وكاتب عربي، ومستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.