مقدمة:
الوحدة العربية ليست حلمًا بل ضرورة وجودية كعرب أصحاب رسالة للبشرية. وهذه الرسالة هي رسالة السلام والحضارة والمعرفة التي أنتجها العرب ونقلوها للعالم. لكن بفعل الضعف الناتج من التجزئة تخلّى العرب عن تلك الرسالة. وأمتنا مرّت وتمرّ بتحدّيات متتالية تستهدف المزيد من التجزئة والتمزيق، ليس فقط لنهب الثروات بل لتدمير الهوية العربية الجامعة والرسالة للبشرية التي حملناها في الماضي والتي نسعى إلى إعادة حملها في المستقبل. وهذه الرسالة مبنية على ثقافة العلم والتوازن وفقًا لموروثنا التاريخي في الدين والسياسة والثقافة والأخلاق.
القراءة السريعة للمشهد العربي الراهن تخلص إلى نتيجتين: النتيجة الأولى هي أن حال التجزئة والتمزّق هي سبب الضعف البنيوي والتخلف في السياسة والاقتصاد وبخاصة في الاستقلال الوطني لهما والثقافة؛ بينما النتيجة الثانية هي أن شباب هذه الأمة، مع من تبقّى من كهولها وشيوخها المؤمنين والمؤتمنين على نهضة الأمة، يرون أن المشروع النهضوي العربي بأبعاده الستة هو الرد المتكامل على الواقع الراهن ويمثّل الأرضية لمقاومة الاحتلال الأجنبي والصهيوني، للعقل العربي أولًا والأرض العربية ثانيًا. فمقاومة احتلال الأرض أسهل كثيرًا من مقاومة احتلال العقل وسلب الإرادة كما تظهرها الوقائع الميدانية. غير أن المقاومة حقّقت إنجازات كبيرة في تحرير أجزاء كبيرة من الأرض المحتلة في لبنان وفلسطين وسورية والعراق، وقبل ذلك الجزائر ومصر، لكن ما زال الاستعمار الغربي للعقل العربي معطِّلًا في الحد الأقصى، أو محيّدًا له في الحد الأدنى. لتثبيت استقلال الإرادة، في ندائنا اليوم نقول بوضوح إن مشروعنا النهضوي العربي وفي طليعته الوحدة العربية وتحرير فلسطين، هو الرد على سلبيات المشهد الراهن كافة. لذلك سنجيب عن ثلاثة أسئلة واضحة وهي؛ أولًا لماذا الوحدة وما هو مضمونها؟ وثانيًا هل الوحدة ممكنة؟ وثالثًا كيف نحقّقها؟
أولًا: لماذا الوحدة؟
1 – ضرورة الوحدة
بعد الحرب العالمية الأولى كانت معظم الأقطار العربية تحت الاحتلال الأوروبي المباشر وغير المباشر الذي عمل على خلق كيانات سياسية مبنية على هويات فرعية للفظ الهوية العربية الجامعة. فقد أخفقت الدولة القطرية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية – والمستمرة حتى الساعة – في تحقيق الاستقلال من التبعية الخارجية، كما أخفقت في تحقيق الأمن والتنمية والرفاهية والعدالة الاجتماعية، إضافة إلى إخفاق كارثي في إنجاز تجدّد حضاري يعيد العرب إلى مكانتهم السابقة. ومع كل ذلك كان المستعمر القديم والجديد يسعى وينجح في تحقيق المزيد من التجزئة والتبعية ودعم النخب المستبدة والفاسدة ويغذّي الصراعات الفئوية التي حجبت الهوية الجامعة. من الصعب جدًا عرض أي إنجاز للدولة القطرية في تحقيق ما يطلبه المواطن العربي. بل الدولة القطرية غارقة في حروب عبثية إما في ما بينها وإما في داخلها، وتخدم بالتالي الكيان الصهيوني المحتل ومصالح المستعمر القديم والجديد.
جوبهت محاولات النهوض في عدد من الأقطار، وفي مقدمها مصر والعراق وسورية والجزائر، بمواجهة تحالف الاستعمار القديم والجديد مع الصهيونية والرجعية العربية. والأخيرة تتباهى بأنها نجحت في القضاء على حركة التحرّر العربي، وهذا ما يؤكّد أن النهوض العربي لم ولن يكون مسموحًا به من جانب ذلك التحالف. فالدولة القطرية أُوجدت من جانب المستعمر لتكون تابعة للمركز الغربي وليست لتكون مستقلة في قرارها السياسي والاقتصادي والثقافي، كما أنها زرعت الكيان الصهيوني لمنع وحدة العرب جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
من ناحية أخرى، فإن النخب الحاكمة في الأقطار العربية تعي أن شرعيتها مهتزّة، وتعتقد أن بقاءها في الحكم هو رهن الامتثال لإملاءات الاستعمار القديم والجديد، فأصبحت أداة قمع للحركة التحرّرية العربية بوجه عام، ولمنع نصرة فلسطين بوجه خاص. فقد كان معيار الوطنية، وما زال، الموقف من فلسطين وواجب تحريرها من البحر إلى النهر. وهذه الحقيقة يدركها الأحرار العرب الذين يعون أن لا حرية ولا استقلال ولا تنمية ولا عدالة اجتماعية ولا نهضة بوجود الكيان الصهيوني المحتل المزروع في جسد الأمة. الأمريكيون واضحون ويسعون إلى جعل الكيان الصهيوني أقوى عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا من كل الدول العربية مجتمعة، فما بالك بتمكين دولة واحدة في مشروع استقلالي تنموي؟! لذلك ضُربت جميع محاولات قيام دولة قطرية مستقلة صاحبة سيادة على قرارها السياسي والاقتصادي والثقافي.
إذًا، التجزئة التي أوجدها المستعمر الأوروبي ودعمها من بعده الأمريكي هي سبب البلاء للأمة العربية. ولم يوفر المستعمر أي وسيلة لزرع وتجذير الفتن الداخلية لمنع الوحدة، ليس بين الأقطار ولكن داخل كل قطر، وذلك بمساعدة النخب الحاكمة أيًّا كان نوعها، ليبرالية، يسارية، قومية، أو إسلامية. هذه الحقيقة موجودة في وعي الكثيرين. ونشير هنا إلى الدراسة الاستشرافية التي أعدّها مركز دراسات الوحدة العربية في أواخر الثمانينيات والتي توصلت إلى أن لا مستقبل للأمة العربية في حال التجزئة؛ فلا بد من إقامة دولة الوحدة. أما شكل هذه الدولة فهو أمر يبحث لاحقًا.
تبحث الدولة القطرية عن شرعية وجودها ككيان مستقل. لكن بعد أكثر من سبعة عقود ما زالت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من حاجات المواطن العربي في الأمن والرفاهية. بل ازداد الوضع سوءًا حيث الهويات الفرعية داخل كل قطر أصبحت حجة لحركات انفصالية تحت ذريعة حق تقرير المصير والحفاظ على الخصوصية، وكل ذلك بتشجيع غربي وصهيوني، وللأسف من جانب بعض الدول العربية التابعة للتحالف الأمريكي – الصهيوني. وثقافة التجزئة أنتجت ثقافة الإقصاء والتعصّب والتوحّش والغلو. ألم يحن بعد التفكير بطريقة أخرى في إعادة البنية السياسية والاقتصادية والثقافية العربية عبر نشر ثقافة الوحدة؟
ففي التجزئة ضعف بنيوي ومزمن بينما في الوحدة قوّة. وفي الضعف تخلّف وفقر بينما في القوة تقدم ونمو. وفي التخلف موت بينما في التقدم حياة. وأخيرًا في الموت فناء بينما في الحياة استمرار وتجدّد.
2 – ما هو مضمون الوحدة؟
لا نقصد بهذا السؤال الشكل الدستوري أو السياسي لدولة الوحدة بل مضمونها. وهذا المضمون يعني إمكان التنقّل بين كل أقطارها من دون تأشيرة، والعمل في أي قطر من دون أي إذن، والاستثمار في أي قطر من دون أي عائق. وتتلازم حرية التنقل البشري مع حرية تنقل رأس المال، ولا يمكن تفضيل رأس المال على العمل. ودولة الوحدة تعني وحدة التشريع ووحدة الحقوق والموجبات لجميع المواطنين. دولة الوحدة توحد القضاء ومصادر التشريع. ودولة الوحدة لها سياسة خارجية واحدة وجيش واحد. ودولة الوحدة لها عملة واحدة واقتصاد موحّد ومتكامل وسياسات نقدية ومالية متجانسة.
دولة الوحدة لا تلغي الخصوصيات في كل قطر بل تعدّها مصدر تنوّع والتنوّع مصدر غنى. دولة الوحدة لا تذوّب القطر بل تحميه من أطماع الخارج وفتن الداخل وتخفّف من أعباء الحماية المنفردة. فالحماية الجماعية أفعل وأقلّ تكلفة نسبيًا من الإنفاق المنفرد على الدفاع والأمن. دولة الوحدة حريصة على الأمن القومي بينما الدولة القطرية لا تعطي الأهمية نفسها له. والأمن القومي ليس محصورًا بحماية الحدود الخارجية بل يوجد في العديد من القطاعات كالاقتصاد والمياه والطاقة والبيئة وشبكة المواصلات والتواصل، وأخيرًا وليس آخرًا الثقافة العربية المشتركة. الدولة القطرية لا تستطيع تأمين كل ذلك، لأنه فوق طاقتها، بينما دولة الوحدة تؤهلها إمكاناتها للقيام بالواجب. على سبيل المثال قضية سد النهضة ليست قضية محصورة بمصر والسودان بل تؤثر في مكوّنات وادي النيل والقرن الأفريقي كافة. والمعالجة الثنائية تصطدم بواقع التجزئة الذي يقلل من هيبة المجموعة ككل بينما المقاربة لدولة الوحدة تجعل لكل طرف خارج البوتقة العربية يحسب ألف حساب.
دولة الوحدة هي دولة الإنتاج للسلع والخدمات ولإنتاج المعرفة بينما الدولة القطرية بسبب تكوينها التاريخي ريعية وغير منتجة، بل مستهلكة عبر الاستيراد وتابعة سياسيًا للقرار الخارجي. دولة الوحدة هي دولة الاستقلال الوطني في السياسة والاقتصاد والثقافة كما هي دولة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. دولة الوحدة هي دولة المشاركة لكل مكوّنات المجتمعات العربية وليست دولة الإقصاء والتمييز بين المواطنين. ودولة الوحدة هي دولة التجدّد الحضاري الذي يعيد العرب إلى مكانتهم في العالم عبر إنتاج ونقل المعرفة والعلم.
إذا أردنا أن نتخيّل تلك الدولة فهي دولة ممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي ومساحتها توازي 13.5 مليون كيلومتر مربع أي في المرتبة الثانية بعد الاتحاد الروسي الذي تبلغ مساحته أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع. وأمنها القومي يطل على محيطين وتطلّ على خمسة بحار: البحر المتوسط، البحر الأحمر، الخليج العربي، بحر قزوين، والبحر الأسود. بمعنى آخر، إن البعد الجيوسياسي لتلك الدولة أهم من أي بعد لأي دولة. فالدولة الموجودة بثقل في قارتين أساسيتين تجعلها دولة عظمى على الصعيد الجغرافي والأمن الجيوسياسي.
إضافة إلى البعد الجغرافي هناك البعد السكاني. اليوم عدد العرب قد يتجاوز 436 مليونًا، وقد يصل في 2050 إلى أكثر من 653 مليونًا، وفي نهاية القرن إلى أكثر من مليار. اليوم هذه الكتلة البشرية هي الثالثة في العالم بعد الصين والهند. تتقدم مصر بـ 102 مليون تليها الجزائر بـ 43 مليونًا ثم العراق بـ 40 مليونًا والمغرب بـ 35 مليونًا تليها بلاد الحرمين بـ 34 مليونًا (إذا صحّت التقديرات الإحصائية) ثم سورية بـ 27 مليونًا. وسكان الوطن العربي يتوزّعون بنسبة 78 بالمئة في أفريقيا و22 بالمئة في آسيا.
نسبة نمو السكان في الوطن العربي تفوق 2.1 بالمئة سنويًا، ما يجعل ذلك النمو أعلى من النمو السكاني في الولايات المتحدة الذي لا يتجاوز 0.9 بالمئة و0.5 بالمئة للصين. فالدولتان العملاقتان اقتصاديًا وسياسيًا تشيخان بينما دولة الوحدة المرتقبة شابة حيث أكثر من 29 بالمئة هم من السكان دون سن 14 وذلك في سنة 2020، وهي أعلى نسبة من المتوسط العالمي الذي بلغ 25 بالمئة.
أما على الصعيد الإنتاج فإن الناتج الداخلي الإجمالي الاسمي لجميع الدول العربية هو 2.5 تريليون دولار ويأتي في المرتبة الثامنة عالميًا. لكن الناتج الداخلي الإجمالي للدول العربية على قاعدة القوة الشرائية فهي 6 تريليونات دولار ويأتي في المرتبة الرابعة عالميًا بعد الصين (24 تريليونًا) والولايات المتحدة (20.8 تريليون) والهند (8.9 تريليون). ونعتقد أنه يمكن زيادة أضعاف الناتج الداخلي العربي في حال إقامة دولة الوحدة على الأقل في تنمية التجارة البينية بين الأقطار العربية ناهيك بفتح الأسواق العربية للمنتجات العربية وإيجاد وفورات الحجم للتصنيع. فليس هناك من سقف للنمو والتنمية في المدى المنظور في دولة الوحدة. أما في حال استمرار الحال على قاعدة الدولة القطرية فالأفق الاقتصادي محدود والسقف منخفض والإمكانات مهدورة أو غير مستعملة بالكفاية المطلوبة.
هذا ولم نتكلّم على الثروات المعدنية والنفطية والغازية التي لم تخضع للتطوير والتنمية. فعلى ما يبدو معظم الأقطار العربية، كي لا نقول جميعها، تملك من تلك الثروات ما يكفي لمتطلّبات النمو والتنمية المستدامة وعلى قاعدة توزيع عادل للدخل وبناء طبقة وسطى تكفل الاستقرار في الوطن العربي. كما أن تلك الثروة التي لم تستغل حتى الساعة على نحوٍ مدروس وآفاق طويلة المدى يمكنها أن تؤمن الرفاهية لجميع المواطنين ومساعدة الدول التي تحتاج إلى تلك المساعدة. كما أن الثروات الموجودة يمكن استثمارها في البحوث العلمية لتكوين معرفة كما سبقنا أسلافنا ونقلوها إلى العالم.
على الصعيد العسكري يبلغ عدد القوات المسلحة الإجمالي لجميع الدول العربية أكثر من 2.2 مليون عنصر، ما يجعل ذلك المجموع في المرتبة الأولى في العالم قبل روسيا والولايات المتحدة والصين! طبعًا هناك تفاوت في التسليح والنوعيات القيادية كما برهنت الحروب الأخيرة حيث الطائرات والدبابات الحديثة ليست كافية لربح حرب ضد من يملك إرادة وقدرة على تحمّل تكلفة الدم. لكن ما نريد أن نؤكّده أن بعض مكوّنات الجيوش المسلحة والقوى المسلحة الشعبية كانت كافية لهزم الجيش الذي لا يقهر وتصمد أمام تحالف كوني عدواني على سورية وتحالف إقليمي ودولي عدواني على اليمن. بمعنى آخر، فإن دولة الوحدة ستكون قادرة على ردع أي عدوان عليها من أي جهة كانت وتستطيع أن تحرّر الأراضي العربية المحتلة كافة.
3 – من هو العربي؟
أسئلة كثيرة طُرحت في الماضي وما زالت حول من يشكّل الأمة. والسؤال يحمل في طيّاته أسئلة حول العروبة وطبيعتها ومن هو العربي. كما أن هناك من حاول في الغرب وفي الوطن العربي وضع العروبة في وجه الإسلام كتناقض جوهري غير قابل للحل. في رأينا، نرى أن التشكيك في العروبة والعلاقة بالإسلام هو من صنع من لا يريد العروبة ولا الإسلام. فالعروبة هوية والإسلام روحها. من هو مسلم فعليه أن يتقن العربية وإلا لما استطاع قراءة القرآن ولما فهم الإسلام على حقيقته، وعبر اتقان العربية يكتشف العروبة. ففي الأمة عرب مسلمون وغير مسلمين وفي دار الإسلام عرب وغير عرب. نقول بوضوح إن العروبة مدخل لفهم الإسلام وأن الإسلام مدخل لفهم العروبة ورفع العروبة إلى رسالة إنسانية أنتجت المعرفة ونقلتها للعالم أجمع. فمن هو غير عربي وأتقن اللغة العربية اكتشف الإسلام ومن خلال ذلك العروبة وكذلك الأمر لمن هو عربي وغير مسلم فاكتشف عبر عروبته الإسلام.
إذا كانت العروبة هوية فمن هو العربي؟ الإجابة جاءت في «لسان العرب» لابن منظور في القرن الثالث عشر الميلادي. العربي هو عكس الأعجمي والأعجمي هو من لا يعرف نسبه. فالعربي هو إذًا من يعرف نسبه أي يعلم التاريخ. والإعرابي هو من يعرف نسبه جزئيًا فقط وليس بشكل كامل أي ناقص المعرفة. ومن مشتقات كلمة «عرب» كلمة «إعراب» أي تفكيك ثم تركيب وكلمة «تعريب» التي تعني تنظيم. إذًا العربي هو من يعلم نسبه، أي التاريخ، ويستطيع أن يفكّك ويركّب؛ أي قادر على التحليل، والذي يستطيع أن ينظم. بمعنى آخر، العربي هو من «يعلم». لذلك أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم في لسان عربي مبين لعل يعقله من ينطق بذلك اللسان. العرقية لا مكان لها هنا، فالعرق الأساسي هو السامية بين سكان جزيرة العرب فهم سكان من كان من أصحاب المعرفة. أما علاقات الدم التي كانت تربط القبائل بعضها ببعض إيجابًا أو سلبًا فالعروبة ليست معنية إلّا عبر اللسان الذي يعبر وينقل التاريخ عبر الشعر، وفيما بعد عبر القرآن، وفيما بعد في العلوم.
النقطة الثانية هي أن الأقوام العرقية الموجودة في الوطن العربي منذ عدة قرون منهم من كان قبل ظهور الإسلام، ومنهم من دخل الإسلام، ومنهم من تساكن مع الإسلام في الوطن العربي الواسع فأصبح ينطق باللغة العربية واستبطن الثقافة العربية الإسلامية. وهنا تكمن العلامة الفارقة، فالعروبة هوية وللهوية مكوّنات وروافد تراكمت مع التاريخ. فعلاقات الدم في المراحل الأولى في التاريخ تلتها مراحل الثقافات والحضارات التي دخلت الإسلام وتأثرت بالعروبة كما تأثرت العروبة بها.
بناءً على ذلك، فإن مفهومنا للقومية العربية يختلف عن المفاهيم التقليدية المروّجة في الغرب والأماكن المعادية للعرب والإسلام، وهو أنها ليست مبنية على رؤية عرقية ينعتونها بـ «الشوفينية» بل هي هوية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية الموجودة في الوطن العربي وتحتضنها ولا تلغيها. كما أن القومية العربية هي التعبير السياسي للحفاظ على تلك الهوية وتطوّرت مع الزمن إلى حركة تحرّر وتحرير من المستعمر الأوروبي والصهيوني إلى حركة تطوير المجتمعات العربية. فالقومي العربي كما يعرّفه المؤتمر القومي العربي هو من ينطق باللغة العربية ويتبنّى المشروع النهضوي العربي بمختلف أبعاده.
4 – ما هو مضمون الدولة القطرية؟
هنا أيضًا لا نقصد شكل النظام السياسي القائم في كل قطر بل ما أنجزته الدولة القطرية على صعيد الاستقلال الوطني في القرار السياسي والاقتصادي، وعلى صعيد الأمن الوطني سواء في حماية الحدود أو في توفير الأمن الداخلي على الصعد كافة، وعلى صعيد العدالة الاجتماعية بين مكوّنات القطر، وعلى صعيد التنمية، وعلى صعيد التضامن العربي في وجه الاحتلالات القديمة والجديدة. كما لا بد من التكلم على ما أنتجته الدولة القطرية على صعيد البحوث والعلوم ومكانتها في العالم.
إن التقارير الدورية عن حال الأمة، سواء التي كان يعدّها مركز دراسات الوحدة العربية أو الأوراق السياسية التي كانت تقدم إلى المؤتمر القومي العربي، شرحت بشكل مفصّل الحالة البائسة العربية على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي، ما يؤكد مقولتنا أن الدولة القطرية أخفقت في تبرير وجودها وصحة جدواها. فالخطاب السياسي للنخب الحاكمة يهدف أولًا وأخيرًا إلى تأمين بقاء تلك النخب في الحكم وليس لتنفيذ مشاريع تخدم المواطن العربي. فالاستقلال أصبح قيمة نسبية، حيث شرعية الحكم تصبح مستمدة من دعم الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة. وبما أن بوابة ذلك الدعم هي التطبيع مع الكيان الصهيوني، فتصبح السيادة الوطنية منقوصة، لأن التطبيع يفرض تنازلات عن حقوق سيادية كحجم القوّات المسلحة وتسليحها وتموضعها في جغرافيا الوطن. كما تفرض «التعاون الأمني» حيث تصبح السلطة الحاكمة أداة قمعية لكل حركة مناهضة للصهيونية وداعمة للتحرّر العربي والوحدة العربية. كما أن «فوائد التطبيع» الاقتصادية أحادية الاتجاه، أي لمصلحة الكيان وليس لمصلحة الدول المتطبِّعة كما أوضحته الأوراق المقدمة إلى ملتقى مناهضة التطبيع الذي عقد في مطلع 2021 (شباط/فبراير- آذار/مارس).
تحاول الدولة القطرية تثبيت شرعيتها المنقوصة على حساب الدول الشقيقة عبر افتعال فتن وحروب عبثية للسيطرة والهيمنة. فلا تعاون اقتصاديًا حتى بين الدول التي تنتمي إلى التجمعات الإقليمية. فالصراع بين المغرب والجزائر دليل على ذلك، والصراع بين دول مجلس التعاون الخليجي دليل آخر، والصراع السابق بين سورية والعراق دليل آخر، وحصار غزّة وعدم نصرة فلسطين من جانب الدول القطرية دليل قاطع على الخوف من الغرب الداعم للكيان الصهيوني المحتل، الذي يهدّد بقاء نخبها في السلطة، وأخيرًا الحصار الاقتصادي المفروض على كل من لبنان وسورية من جانب دول خليجية يؤكّد ما نقوله.
استثمرت الدولة القطرية، وبخاصة تلك الغنية بالموارد الطبيعية، قدراتها في الحجر ولم تستثمرها في البشر. فالأقطار العربية في المرتبة الدنيا في البحوث العلمية من حيث الإنفاق على تلك البحوث ومن حيث براءات الاختراع التي تعكس الإبداع. ومتوسط ذلك الإنفاق للدول العربية هو 0.51 بالمئة من الناتج الداخلي وفقًا لمعهد اليونسكو الإحصائي. في المقابل ينفق العدو الصهيوني المحتل ما يوازي 4.9 بالمئة على البحوث وفنلندا ما يوازي 7 بالمئة من ناتجها الداخلي. وأعلى مستوى إنفاقي على البحوث العلمية في الدول النفطية الثرية هو في دولة الإمارات العربية حيث بلغت 1.28 بالمئة فقط بينما بلاد الحرمين لم تنفق إلّا 0.82 بالمئة والجزائر لم تتجاوز 0.54 بالمئة. فالعقلية الريعية قتلت المجهود واكتفت بشراء المعرفة وكأن المعرفة سلعة تشترى وتباع بينما في أساسها تنبع من عقل ومجهود الإنسان.
الدولة القطرية العربية دولة ريعية بامتياز كما أظهرته عدّة أبحاث. فثقافة المجهود لإنتاج الثروة مفقودة بينما ثقافة توزيع الثروة وفقًا لتراتبية الولاءات متطوّرة جدًا، وهذه ميزة الدولة الريعية. والدول التي حاولت بلورة ثقافة إنتاجية لتحصين استقلالها السياسي والاقتصادي ضُربت من جانب الغرب وبواسطة دول عربية أخرى تابعة للقرار الغربي الأمريكي والصهيوني. فالمطلوب دوليًا من الدول العربية أن تبقى دولًا ريعية لا تنتج وتستهلك فقط وتكون دائمًا مكشوفة تجاه الخارج لتمكين السيطرة على قراراتها وقدراتها. الدولة القطرية الريعية دولة ناقصة السيادة وغير قابلة للتطوّر وداعمة للفئويات الموجودة وبالتالي مروّجة لثقافة الإقصاء فتبقى فاقدة للوحدة الوطنية في مواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية. مصيرها لن يختلف عن الدولة الإسبانية التي اعتمدت على غزو دول أمريكا اللاتينية لنهب ذهبها فزالت إمبراطوريتها من الوجود ودخلت مرحلة الأفول المزمن. الدولة القطرية لن تقوم إلّا بالاقتصاد الريعي وإن الشذوذ عن ذلك التوجّه يواجه بالحروب والفتن والقتل.
ثانيًا: هل الوحدة ممكنة؟
إذا كان الاستعمار القديم مسؤولًا مباشرًا عن التجزئة القسرية للأقطار العربية في المشرق العربي كما في المغرب الكبير، فإن النخب الحاكمة التي أفرزها المستعمر عملت وما زالت تعمل على تكريس التجزئة خدمةً لمصالحها وليس خدمةً لشعوبها. فميزان القوة الذي فرض التجزئة والذي عمل ونجح في ضرب كل محاولات النهوض داخل القطر، هذا الميزان، تغيّر لمصلحة وحدة الشعوب العربية ومؤسساتها النضالية التي نجحت في كسر الهيمنة الاستعمارية عبر اعتناقها المصلحة القومية العربية على حساب المصالح الضيّقة للنخب الحاكمة. فقضية فلسطين قضية جامعة لمختلف مكوّنات الوطن العربي، وهي التي كانت حافزًا لتحرير الأراضي المحتلة من جانب العدو الصهيوني. ومناهضة التطبيع داخل البلدان العربية تفوّقت على الأجندات المحلية في محاكاة النخب الحاكمة الفاقدة لأي حجة تبرّر التطبيع المعادي للموروث التاريخي والثقافي والسياسي لجماهير الوطن العربي.
فشل الحرب الكونية على سورية أتى عقب إفشال الاحتلال الأمريكي للعراق وعقب حرب تموز/يوليو 2006 وقبل ذلك تحرير لبنان في 2000 من الاحتلال الصهيوني باستثناء مزارع شبعا، وبعد صمود غزّة وتلازمه مع فشل العدوان على اليمن ومعركة سيف القدس في 2021. فهذه الإنجازات الاستراتيجية على مدى عقدين من الزمن لم تكن لولا المجهود الذي قامت به قيادات محور المقاومة وساهمت في تسريع تراجع وانحدار مكانة الغرب والولايات المتحدة الذي تلازم مع صعود الكتلة الأوراسية التي تشمل كلًا من روسيا والصين وفيما بعد الجمهورية الإسلامية في إيران ومحور المقاومة العربية.
في المقابل لا بد من تسجيل عامل مساعد في إنجازات المقاومة العربية وهو عامل التراجع الغربي البنيوي والأزمة الوجودية التي تنذر بزوال الكيان الصهيوني المحتل. ليس هدف هذا النداء تفصيل عناصر تراجع وأفول الغرب ولا تعداد الإخفاقات التي مني بها ذلك الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، بل فقط لتسجيل أن التحالف الغربي القديم الجديد مع الصهيونية والرجعية العربية في حال تراجع استراتيجي. فالظروف الموضوعية لإقامة دولة الوحدة أصبحت أكثر حضورًا مما كانت عليه في السابق، وحتى في ذروة المد القومي الذي تجسّد في الوحدة التاريخية بين سورية ومصر. ولكن موازين القوّة آنذاك دوليًا وإقليميًا كانت لمصلحة الانفصال. لا ننسى أن الرجعية العربية وإيران الشاه وتركيا والكيان الصهيوني كانوا متحالفين مع الغرب لإسقاط الوحدة، فاستفادت من أخطاء ارتكبتها قيادة الوحدة لدعم الحركة الانفصالية. وفي رأينا، فإن الانفصال هو النكبة الثانية في التاريخ العربي المعاصر وأهم من نكسة حزيران/يونيو 1967. فهذه الثغر كانت مفتاحًا للتدخلات الخارجية لمنع أي منحى وحدوي بين الأقطار العربية، بل اعتمدت على الخلل الداخلي في كل قطر لتغذية الفتن وتعزيز التجزئة؛ فكان الضعف فالتبعية وفقدان الاستقلال وفقدان التنمية ومنع العدالة الاجتماعية، وبطبيعة الحال إلغاء إمكان التجدد الحضاري وحمل الرسالة العربية للعالم أجمع.
ولا بد من تسجيل دور لعامل خارجي آخر ساهم في تراجع وأفول التحالف الغربي والصهيوني مع الرجعية العربية هو صعود المحور الأوراسي المكوّن الذي يقوده كل من الصين وروسيا والذي تلتف حوله دول آسيوية أخرى كالهند ودول آسيا الوسطى في منظومة شانغهاي التي ترفض الهيمنة الأمريكية. كما أن حول هذا المحور الآسيوي تلتحق به دول من أمريكا اللاتينية ككوبا وفنزويلا ونيكارغوا وبوليفيا وقد تلتحق أيضًا كل من المكسيك والبارغواي والأرجنتين والإكوادور والبرازيل ليعطي بعدًا كونيًا للمحور الرافض للهيمنة الأمريكية، ويمنح روحًا جديدة لمنظومة عدم الانحياز الرافضة للهيمنة الأمريكية. وهناك حركة مماثلة على صعيد القارة الأفريقية حيث أفريقيا الجنوبية عضو في منظومة البريكس التي شكّلت أول محاولة لربط القارة الآسيوية بالأفريقية وبأمريكا الجنوبية.
العنصر الداخلي الذي نرتكز عليه لدفع مسار الوحدة هو وحدة الشعوب العربية التي بفطرتها وجدت أن الجامع المشترك بينها الذي يتجاوز كل الاختلافات هو قضية فلسطين. والهبّة الشعبية الواسعة لنصرة فلسطين تؤكّد أن طريق الوحدة وتحرير فلسطين طريق واحد. لن ندخل في الجدلية العقيمة التي تصل إلى العبثية حول أولوية فلسطين أو الوحدة بل نؤكد أن الاثنتين متلازمتان وشرط ضرورة وكفاية لكل واحدة منها.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن حاجز الخوف في مواجهة النخب الحاكمة قد انكسر كما انكسرت هيبة الجيش الصهيوني الذي زعم أنه لا يقهر. فالانتفاضات الشعبية التي عصفت بعدد من الأقطار العربية أدخلت بعضها قضية فلسطين في حراكها وبعضها تناساها. فتلك الانتفاضات التي تناست فلسطين فشلت بينما الأخرى التي ضمّتها لم تفشل وإن لم تحقق كل أهدافها كما في مصر وتونس. أما في لبنان فلما تحوّلت الانتفاضة الشعبية ضد الفساد والأوضاع الاقتصادية المزرية إلى مناهضة المقاومة فشلت فشلًا ذريعًا، إضافة إلى ضعف الظروف الذاتية في قيادة الانتفاضة. فمكنّت المجتمع الطائفي العميق من إجهاض تلك الانتفاضة. ما نريد أن نقوله هو أن الحراك الشعبي الداخلي الخالي من البعد القومي لن يكتب له النجاح، لأن موازين القوة ما زالت لمصلحة النخب الحاكمة. لكن عندما يدخل البعد القومي في الحراك الشعبي يتغيّر ميزان القوّة لمصلحة الحراك ولمصلحة المسار القومي. ففلسطين توحد الأمة وتوحد المجتمعات العربية بينما القضايا الداخلية الأخرى لا تحظى بالإجماع نفسه وإن كانت محقة.
بناءً على هذه التحوّلات الدولية والإقليمية والعربية يمكننا أن نقول إن الوحدة ممكنة رغم الصعوبات الحتمية التي ستواجه الوحدويين.
ثالثًا: كيف نحقّق الوحدة؟
الدور الاستراتيجي هو في وحدة الشعوب في مواجهة التحدّيات. فهي تفرز النخب التي تستطيع قيادتها عبر مراحل. لا ننسى أن الاتحاد الأوروبي بُني على مراحل امتدت على أكثر من أربعة عقود وذلك بين دول غير متجانسة بالسياسة والثقافة واللغة وتاريخ طويل من الحروب والعداوات الثنائية أو المحورية عبر القرون. فكل هذه العوائق غير موجودة في الوطن العربي حيث اللغة والموروث التاريخي الثقافي والسياسي المشترك يجعل فكرة قيام الوحدة فكرة منطقية وقابلة للتنفيذ.
لسنا في هذا البيان السياسي معنيين في تحدد مراحل زمنية لإقامة دولة الوحدة، ولسنا معنيين في تحديد الملامح الدستورية لها. فالمروحة واسعة من الصيغ الوحدوية التي يمكن اتباعها ونتركها للتشاور مع مختلف مكوّنات هذه الأمة. فهذه الوحدة هي أولاً وحدة شعبية قبل أن تتحوّل إلى وحدة سياسية دستورية.
1 – استراتيجية اقتصادية
الاستراتيجية المقترحة هي عبر بناء الوحدة الاقتصادية تليها فيما بعد وحدة سياسية. لكن هناك شكوك عند عدد من الاقتصاديين الذين لا يرون أن السوق الأوسع أو الاقتصاد القومي الأكبر حجمًا أفضل للقطر الواحد من الاقتصاد القطري بمفرده. ذلك أن الواقع الحالي للاقتصادات العربية قد يؤدي إلى تدمير الاقتصاد القومي إذا ما تمّت الوحدة اليوم من دون تغيير في البنى السياسية والاقتصادية. يمكن الموافقة على الطرح المنطقي لتلك الإشكالية إلّا أن تحفظّنا على تلك الأطروحة يعود إلى ماهية الوحدة. فتحقيق الوحدة أو حتى السعي لها يحمل في طيّاته دينامية جديدة تفرض مراجعة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية. فالواقع الفئوي والاقتصاد الريعي والفساد المتفشّي في جميع أقطار الأمة يتنافى مع التكامل أو حتى الشروع بمشاريع مشتركة فكيف بالوحدة؟ لذلك سلوك درب الوحدة يعني أيضًا تغييرًا جذريًا في البنى والسياسيات الاقتصادية والأخلاقية. أي بمعنى آخر إن الوحدة هي بحد ذاتها ثورة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى أخلاقية.
لكن وللإنصاف، هناك نمط من التعاون قد حصل بالفعل ويحصل بصورة متزايدة وهو في حركة رؤوس الأموال العربية التي أصبحت تنتقل بسهولة أكبر بين الأقطار العربية بينما تستمر القيود على حركة العمالة العربية بين الأقطار. فالانفتاح على الاستثمار في معظم الدول أدّى إلى تزايد في الحركة الاستثمارية العربية بين الأقطار العربية وإن كانت نسبة تلك الاستثمارات لمجمل الاستثمارات العربية داخل الوطن العربي صغيرة. وتقدّر الاستثمارات العربية من ودائع واستثمارات مباشرة خارج الوطن العربي بأكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار بينما الاستثمارات العربية في الوطن العربي لم تتجاوز خمسمئة مليار دولار معظمها في قطاع الطاقة. وهذه الاستثمارات العربية (خارج قطاع الطاقة) محصورة في قطاعات غير منتجة كالاستثمار العقاري بكل أشكاله (فنادق ومنتجعات ومراكز تجارية) أي استثمارات لا تؤدي إلى التراكم الرأسمالي وإن أدّت إلى تفعيل قطاعات تابعة كقطاع الإسمنت وبعض العمالة. كما أن الطابع الأساسي لهذه الاستثمارات هو الريع الذي يبقي الاقتصاد القطري منكشفًا وتابعًا لمراكز قرار خارجية. فالاستثمارات المطلوبة في رأينا هي للقطاعات الإنتاجية من السلع وحتى من الخدمات التي تأتي بقيمة مضافة متزايدة عبر اقتباس التكنولوجيات الحديثة وبخاصة في ما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال وليس الحصر، إن الاستثمار في قطاعات المعرفة العلمية هي التي ستوّلد القيمة المضافة. ونذكّر هنا أن أساس الثروة في التاريخ الاقتصادي لدول الغرب كان في ملكية الأرض في القرن الثامن والتاسع عشر بينما أصبح رأس المال مصدر الثروة في القرن العشرين. أما في القرن الحادي والعشرين فإن مصدر الثروة هو المعرفة وأساس المعرفة هو العلم.
أما الوجه الآخر لحركة رؤوس الأموال العربية فهو الاستثمار في المؤسسات المالية القائمة وبخاصة تلك الاستثمارات التي مصدرها الريع النفطي. والقطاع المالي العربي بصورة عامة مولج بتدوير الفوائض المالية الناتجة من الريع النفطي. وهنا أيضًا شكوك في جدوى تلك الاستثمارات التي لا تساهم في تكوين رأس المال أو الزيادة في القيمة المضافة للنشاط الاقتصادي.
إن العمل التعاوني العربي ما زال محدود الآفاق بسبب بنية الاقتصاد العربي الذي يرتكز على توزيع الريع بدلًا من إنتاج الثروة، وبالتالي يغيّب القرار السياسي لدفع المزيد من التعاون. لكن وللإنصاف لا بد من الإقرار بأن الجهود المشتركة لم تتوقف لإقامة نوع من التجمع الاقتصادي بين الأقطار العربية. فكمية القرارات التي صدرت والتزايد في الأجهزة المؤسسة التي أنشئت للإشراف على التجمع الاقتصادي ما زالت مستمرة. لكن العبرة كانت وما زالت في التطبيق وترجمة العمل القانوني والمؤسسي إلى واقع متجذر في البنية الاقتصادية العربية. ومن المعالم المشرقة ما تّم إنجازه في دول مجلس التعاون وإن كانت اقتصادات تلك الدول مبنية على الريع المالي النفطي. كما لا بد من الإشارة إلى المؤسسات التي تمّ إنشاؤها كالصناديق الإنمائية العربية أي كل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (1967) وصندوق النقد العربي (1976). أما الصناديق الوطنية فهي الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية (1961) وصندوق أبو ظبي للتنمية (1974)، وإن كانت قطرية أساسًا، فإن مداخلاتها الإنمائية تؤثر إيجابًا في شد أواصر التعاون العربي. أضف إلى ذلك ما يعرف اليوم بالصناديق المالية السيادية التي أصبحت لاعبًا أساسيًا في الحقل الاستثماري العالمي. ولعل أهم ما يميّز هذه الصناديق هو رسملتها بصورة تسمح لها بالقيام بالعمل المنوط بها بصورة فاعلة. وهذه الصناديق تستطيع أن تساهم في رأس مال المشاريع العربية المشتركة كمشاريع الطاقة أو مشاريع بنيوية مشتركة كربط شبكات الكهرباء بعضها ببعض. لكن التطبيع الذي قامت به بعض الدول صاحبة الصناديق السيادية قد تعطّل مشاريعها الاستثمارية في الأقطار العربية للاشتباه بدور ما للكيان الصهيوني العدو.
أ – المشاريع الوحدوية
المشاريع الوحدوية القائمة المقترحة هي على سبيل المثال وليس الحصر وقد تخضع لإضافات وفقًا للحاجة.
ب – القائمة
المشروع الأول هو بناء السكك الحديد التي تربط بين أقطار الأمة وتساهم في نقل المواطنين العرب والبضائع التي تنتجها لتنمية التجارة البينية بين الأقطار والتي ما زالت ضعيفة حتى الآن. فمعظم التجارة الخارجية العربية تصدّر سلعها إلى الخارج وتستورد معظم حاجياتها منه من دون التركيز على الأسواق العربية. صحيح أنه سبق للجامعة العربية إقرار السوق العربية المشتركة لكنها ظلّت حبرًا على ورق بسبب غياب الإرادة السياسية للنخب الحاكمة وبسبب هيكلية الاقتصاد لهذه الأقطار التي تركّز على الريع كمصدر أساسي لإنتاج الثروة كما أشرنا في عدة أبحاث.
المشروع الثاني هو تشبيك شبكات الطاقة بين.
المشروع الثالث هو تشبيك قنوات وأنابيب المياه بين الأقطار كافة.
المشروع الرابع هو تشبيك أنابيب النفط والغاز بين الأقطار كافة.
المشروع الخامس هو خطوط المواصلات السلكية واللاسلكية وشبكات الإنترنت السريع وفائق السرعة.
المشروع السادس إنشاء أسطول عربي لنقل البضائع العربية.
المشروع السابع توحيد خطوط الطيران العربي وسائر وسائل النقل البرّية.
المشاريع الثنائية على حدود مشتركة (لبنان وسورية، سورية والعراق والأردن، الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا، مصر وليبيا والسودان، السودان والصومال وجيبوتي).
يمكن إضافة مشاريع أخرى كما يمكن الاكتفاء بمشروع واحد كبداية للعمل من أجل استنهاض العمل الوحدوي.
ج – آلية العمل
بما أن المبادرة آتية من هيئة شعبية فمن الطبيعي والضروري إيجاد الآلية الشعبية المناسبة. نقترح في مشروع السكّة الحديد مثلًا الذي هدفه ربط الأمة من المحيط إلى الخليج إنشاء أربع هيئات عليا في كل من دول الاتحاد المغربي (المغرب، موريتانيا، الجزائر، تونس، ليبيا)، دول وادي النيل (مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي، الصومال)، دول الجزيرة العربية (اليمن، عمان، السعودية، الإمارات، قطر، البحرين، والكويت)، دول بلاد الرافدين وبلاد الشام (لبنان، سورية، العراق، الأردن، فلسطين).
د – مهمة الهيئة
مهمة الهيئة العليا الإقليمية لسكك الحديد التنسيق بين الهيئات القطرية التي ستتولى المهمات التالية:
أولًا، تعبئة الطاقات العربية لخدمة المشروع.
ثانيًا، إعداد دراسة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للمشروع على الأقل بخطوطه العريضة.
ثالثًا، إعداد خطة التمويل بين رأس مال يكتتب ودين طويل الأجل.
رابعًا، إعداد الخطة الترويجية الشعبية لبث الوعي بين شعوب الأقطار والضغط على النخب الحاكمة لتحقيق المشروع.
خامسًا، إعداد جدول زمني يحدّد المراحل لتحقيق المشروع وربط المجهود المبذول بالنتائج المحققة.
تضم الهيئة القطرية – ليس حصرًا – أعضاء الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي من الأقطار المعنية؛ أعضاء المؤتمر القومي العربي الراغبين في المشاركة في النشاط، الطاقات التقنية المميّزة في كل قطر التي ترغب وتستطيع أن تقدّم شيء ما لتحقيق المشروع.
من أعمال الهيئة القطرية إبلاغ الهيئة العليا الإقليمية التي تقوم بدورها التنسيق مع الهيئات الإقليمية الأخرى.
نعتقد أن المباشرة بهذه الآلية لكل مشروع يحقّق الأهداف التالية:
أ – الانتقال من حقبة طرح الأفكار إلى حقبة العمل الفعلي.
ب – تعبئة الطاقات البشرية العربية وبث الوعي الوحدوي فيها.
ج – الضغط المباشر وغير المباشر على النخب الحاكمة للقيام بواجبها تجاه المشروع.
هـ – الخطوات المدروسة في التشبيك في مشاريع محدّدة
إذًا الخطوة الأولى هي إلغاء تأشيرات التنقل بين البلدان العربية إضافة إلى إلغاء إجازات العمل في مختلف الأقطار العربية. أما الخطوة الثانية فتكمن في تفعيل الاتفاقات والمؤسسات التي أنشئت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كالسوق العربية المشتركة والدفاع العربي المشترك. الضغط يجب أن يكون شعبيًا ومستمرًا على الحكومات. الخطوة الثالثة هي دفع الحكومات إلى التشبيك الاقتصادي في البنى التحتية كشبكات الطرق والسكك الحديد وشبكات النفط والغاز في جميع الأقطار العربية.
2 – استراتيجية شعبية
في موازاة الاستراتيجية الاقتصادية هناك استراتيجية شعبية يجب اتباعها، وهي تعبئة مختلف المكوّنات المجتمعية في الوطن العربي. لذلك ندعو إلى تفعيل الهيئات الشعبية والنقابية كافة في لقاءات وندوات مشتركة داخل الأقطار وبين الأقطار حول أوجه العمل الوحدوي وذلك لتكريس ثقافة وحدوية تبتكر العمل الجماعي. وهذه الصيغة هي تجسيد لما نقصده بالكتلة التاريخية بين التيّارات السياسية وكذلك بين الفعّاليات السياسية. ليس هناك من تيّار واحد يستطيع أن يصنع الوحدة أو أن يروّج لها. جميع المكوّنات يجب أن تكون «رابحة» في العمل الوحدوي، وهنا تكمن مسؤولية النخب الوحدوية التي تسعى إلى تولّي ذلك العمل. ثقافة العمل التنسيقي ليست سهلة وليست «طبيعية» فهي مكتسبة عبر التجربة والانضباط.
في هذا السياق نعتقد أن ما قام به المؤتمر العربي العام الذي يضم كلًا من المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية في إقامة سلسلة من الملتقيات العربية والدولية لنصرة فلسطين ولمناهضة التطبيع ولدعم الأسرى ولدعم خيار المقاومة ولدعم سورية هي نموذج للعمل المشترك. فما قامت به اللجان التحضيرية لمختلف الملتقيات شكّل نواة عمل تنسيقي داخل الأقطار وبين الأقطار. والاستراتيجية المتبعة اعتمدت العمل عبر تفعيل الكتلة التاريخية في التحضير للملتقيات ونجحت. لذلك نعتقد أن سلوك ذلك الدرب في تعبئة الجماهير وبث الوعي الوحدوي والضغط على الحكومات يجب أن يُعمم ويُطوّر. كما أن النخب الناشطة في هذه المؤتمرات والملتقيات مدعوة إلى تكثيف جهودها عبر مقالات وإطلالات إعلامية لترويج ثقافة الوحدة وتجذير الوعي بضرورتها.
3 – استراتيجية التواصل ومخاطبة الشباب
ما زال الخطاب الوحدوي مغيّبًا في وسائل التواصل الاجتماعي، كما هو مغيّب عند النخب التي تعدّ نفسها معنية بالوحدة. فمنها من يعتقد أنها حلم، ومنها من لا يرى إلّا اللحظة الراهنة، ومنها من لا يرى إلّا السلبيات التي تكبّل الأمة. فهذه النخب مجتمعة تنسى الإنجازات التي حققتها هذه الجماهير عبر المقاومة الموجودة من المحيط إلى الخليج. فلولا المقاومة في العراق لنحج المشروع الأمريكي في المشرق العربي، ولولا المقاومة في لبنان لاستمر الاحتلال الصهيوني في لبنان، ولولا المقاومة في فلسطين لماتت القضية. ولولا صمود سورية في وجه العدوان الكوني عليها لتمّت محاصرة المقاومة. ولولا صمود الشعب اليمني أمام تحالف العدوان لانتصرت الرجعية العربية على المقاومة وثقافتها. فهذه إنجازات دُفع ثمنها بالدم والدموع والعرق ولن تذهب هدرًا. لذلك لا بد من إعادة الاعتبار للخطاب الوحدوي داخل القطر وبين الأقطار العربية.
هذا يعني ترويج ثقافة الحوار بدلًا من التراشق، وثقافة بناء الجسور بدلًا من بناء المتاريس، وثقافة تقبُّل الرأي الآخر بدلًا من ثقافة الإقصاء لمن يخالف الرأي. كما أن تلك الثقافة تفرض سلوكًا مختلفًا في العمل الجماعي حيث الذاتية تتراجع أمام المصلحة المشتركة. الأحزاب الوطنية والقومية التي وصلت الى الحكم أضاعت البوصلة ووضعت مصلحة الحزب والتمكين في السلطة بدلًا من إنجاز برنامج العمل.
ومضمون الخطاب الوحدوي يتطلب التركيز على تمكين وتحصين الكتلة التاريخية، أي الكتلة التي تضم مختلف التيّارات السياسية في الوطن العربي. فالاختلاف مقبول والخلاف مرفوض. لذلك يجب أن تتراجع القضايا الخلافية والتركيز على القضايا الجامعة. هنا يكمن دور نصرة فلسطين التي تحظى بإجماع الأمة ما عدا المتطبعين وهم أقلّية.
الخطاب الوحدوي يجب أن يحاكي تطلّعات الشباب. فالرهان هو عليهم. فهم نصف الأمة اليوم وكاملها غدًا كما قال القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. يجب أن ينسجم أسلوب الخطاب الوحدوي مع طبيعة الخطاب الشبابي. لذلك لا بد من إقامة ورش عمل مع الشباب لصوغ نماذج خطابية تحاكي تطلّعات الشباب وتربطهم بمشروع الوحدة والمشروع النهضوي العربي.
نعيش في عصر العلاقات الشبكية التي ستحل محل العلاقات الحزبية بسبب تطوّر وسائل التواصل وتوفير المعلومات والتعبئة والتنظيم عبر الآليات الرقمية. العلاقات الشبكية علاقة الثقافة الرقمية التي لم تكن موجودة في الأجيال السابقة. وهذه العلاقات تستطيع تعبئة شرائح واسعة من مكوّنات المجتمعات العربية وتكون شكلًا من أشكال الكتلة التاريخية الضرورية للقيام بهذا العمل.
قد يهمكم أيضاً تجسيد مشروع النهضة العربية
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الوحدة_العربية #نداء_الوحدة #بيان_سياسي #الدولة_القومية #الشباب_العربي #الدولة_القطرية #القومية_العربية
المصادر:
(*) أطلق المؤتمر القومي العربي هذا النداء يوم 22 شباط/فبراير 2022. ونُشرت هذه الوثيقة في مجلة المستقبل العربي العدد 517 في آذار/مارس 2022.
(**) زياد حافظ: الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.
البريد الإلكتروني: zhafez@gmail.com
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.
مقالات ذات صلة
0 Comments
Add comment إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
التقلبات العربيه خطوات تقوم بها دول ألعالم لانستطيع محاسبتهم