مقدمة:

ينطوي تعبير «العدوان الثلاثي» المستخدم في توصيف الهجوم الصاروخي على سورية يوم الثالث عشر من نيسان/أبريل 2018 على أكثر من مجرد تذكير بالعدوان الثلاثي على جمهورية مصر العربية في عام 1956، على أهمية هذا التذكير. فالهجوم الثلاثي على سورية يذكرنا بالمناخ الدولي الذي ساد علاقات الغرب مع الكتلة الشرقية في سياق الحرب الباردة، والذي قاد الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور لتبني وإعلان «عقيدته» التي تمحورت حول ما يعرف بالاحتواء‏[1]. فالعدوان الثلاثي على مصر قد أسفر – من بين مختلف تداعياته – عن ترسيخ نظام دولي وجد نقطة توازنه في القطبية الثنائية، وكان أحد مسارح تشكله وتكريسه هو المنطقة العربية والشرق الأوسط، إذ أدت حرب السويس والكيفية التي انتهت بها إلى تكريس الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة باعتبارهما قوتين منفردتين بمركز القوة الكونية بحكم استبعاد كل من فرنسا وبريطانيا من ميدان المنافسة على مكانة القوى العظمى، الأمر الذي أنهى «الهيمنة» الأنغلو - فرنسية في المنطقة. في هذا السياق تبلورت علاقات توازن قوى بين طرفَي القطبية حالت دون اندلاع حرب عالمية، ولكنها لم تمنع؛ بل وجدت أحد أهم تعبيراتها، في الحروب الإقليمية، والحروب بين الدول التي كانت تخاض بالنيابة عن الطرفين. فما الدلالات التي يمكن استخلاصها من هذا العدوان في ما يتعلق بالنظام الدولي الحالي؟ وهل أذِن العدوان الثلاثي على سورية بإطلاق حرب «باردة» جديدة؟ أم أنه يمكن أن يقود لحرب إقليمية؟

مشكلة الدراسة: تجد التساؤلات المثارة أعلاه تبريرها في ملابسات وطبيعة العدوان الذي تعرضت له سورية: ثلاث قوى دولية كبرى؛ ست مدمرات وغواصة؛ ومن ثلاثة مواقع مختلفة في المشرق العربي استهدفت مواقع منتقاة في سورية بذريعة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية في هجوم مزعوم على منطقة «دوما». الضربة حسب رأي معظم الخبراء لم تشكل أي فرق من الناحية العملية؛ أي أنها لم تغير قواعد اللعبة على الأرض، أو في موازين القوى المتحاربة في هذا البلد. كما أنها لم تنتقص من قدرات النظام السوري، ناهيك بحرص أطرافها على عدم المسّ بالقوات أو القواعد الروسية المنتشرة في سورية. فإذا كان العدوان لا يستهدف الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، ولا إضعافه أو المسّ بأركانه العسكرية، وهو (أي العدوان) محدود وحسب أطرافه فإنه انتهى عند هذه النقطة، فما المبرر الذي يدفع بثلاث قوى إلى ارتكابه في ظل معطيات متشابكة يمكن أن يقود فيها أي خطأ في الحسابات، أو تدخل طرف آخر على الأرض إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، أو إلى حرب إقليمية؟

مقولات الدراسة ومنهجياتها: تنطلق الدراسة من افتراض أن النظام الدولي في لحظته الراهنة غير متبلور من ناحية نقطة التوازن التي تفرض على اللاعبين الدوليين نمطاً محدداً من السلوك في إطار ناظم. أي أن هذا النظام يصعب تعريفه من حيث القطبية؛ فبانطواء خمسة عقود من الثنائية القطبية نشأ تصور في الكثير من الدوائر الأكاديمية والسياسية بأن المرحلة التالية هي مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية. إلا أن السنوات القليلة الماضية بينت عدم دقة هذا الادعاء. صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال قوة عظمى، وبخاصة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، لكن من الصحيح كذلك أن هذه القوة لم تعد كافية في ظل وجود قوى صاعدة على الحلبة الدولية؛ كما يشير كل من جوزيف ناي وجوزيف ستيغلتز‏[2]. في الوقت ذاته فإن النظام الحالي ليس متعدد القطبية بحكم غياب التوافق في سياسات وقواعد سلوك اللاعبين الكبار من خلال آليات محددة تضمن سلمية العلاقات الدولية. إن النظام الدولي الحالي يعيش حالة من السيولة واللاتحديد من زاوية غياب أي من حالات التوازن التي تأتي معها قواعد السلوك الدولي التي تضبط علاقات الدول سواء كانت علاقات تحالف أو عداء.

نهدف من الجهد التحليلي في هذه الدراسة إلى فحص المقولة (Proposition) التالية: في ظل صراع القوى العظمى على الحلبة الدولية لفرض نظام جديد للتوازن وقواعد السلوك والنظام، فإن العدوان الثلاثي على سورية يشكل حلقة مركزية لتشكيل نظام إقليمي يعكس التفضيلات والمصالح والرؤى الجيوسياسية للاعبين المعنيين: روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، إسرائيل، إيران، والمملكة العربية السعودية، كل حسب اصطفافاته وتحالفاته. إن غياب نقطة التوازن وقواعد السلوك التي تفرضها بنية النظام هو أخطر أشكال العلاقات الدولية الذي يتيح للاعبين الكبار وحلفائهم الإقليميين فرصة التحرك لفرض التوازن عبر العمل العسكري؛ فحالة المراوحة في المكان لا يمكن تجاوزها إلا عبر قنوات وآليات التوافق، وهي غائبة أو مغيَّبة في هذه المرحلة، أو باستخدام القوة. ولما كانت آليات التوافق غائبة مثلما أشرنا، فإن الحسم بالقوة يصبح أكثر احتمالاً.

تتعزز هذه الاحتمالية في ظل العوامل التالية:

1 – المسار التصعيدي في علاقات القوى العظمى الرئيسية المشاركة في صراعات المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل مباشر أو عبر وكلائها.

2 – تقدير هذه القوى بأن اللحظة مناسبة لإظهار الحزم والعمل على تثبيت نظام دولي بقواعد سلوك جديدة.

3 – إغراء القوة العسكرية والافتراضات المسبقة المصاحبة لسباق التسلح وما يعرف بمعضلة الأمن (Security Dilemma) في علاقات الأطراف الدولية والإقليمية، التي تقود في ظروف محددة إلى المواجهة العسكرية.

4 – إن أحد هذه الظروف المحددة يكمن في آليات وشخوص صنع القرار عند الأطراف المعنيين، التي تنزع إلى المغامرة والتشدد.

تعالج الدراسة هذه المحاور التحليلية من خلال أكثر من مدخل نظري: المدخل البنيوي ومفهوم توازن القوى للوقوف على الحالة الراهنة للنظام الدولي؛ المدخل النظمي لفهم العلاقات الجيوسياسية بين الإقليم حيث تدور صراعات القوة وبين النظام الدولي؛ المدخل الواقعي وتحديداً الأمني في تفسير التصعيد المتبادل واحتمالات اللجوء إلى العمل العسكري؛ ومدخل صنع القرار في فهم سيكولوجيا وحسابات ونزعات القادة السياسيين التي يمكن أن تغلق حلقة التفسير للوضع القابل للانفجار في المنطقة. وتستند الدراسة بشكل أساسي إلى مصادر أولية (تصريحات، تحركات، إعلانات رسمية، مقابلات… إلخ) تخضع لعملية تحليل المحتوى والخطاب في سياق منهجي وسطي بين الاستقراء والاستنباط: الانتقال من النظرية إلى الحالة، والعكس وفق ما تقتضيه الضرورات التحليلية.

أولاً: إنشاء توازن جديد في النظام الدولي

مثلما استخدم الجمهوريون في حملتهم الانتخابية لإيصال دونالد ترامب إلى الرئاسة انتقادهم لما يصفونه بافتقار إدارة باراك أوباما إلى الحزم، ترتكز إدارة دونالد ترامب في جزء هام من مبررات سياساتها الخارجية إلى ذات الادعاء القائل بأن إدارة أوباما «الضعيفة» قد عرَّضت مصالح الولايات المتحدة وقدرتها على الفعل للتآكل. في قلب هذا الانتقاد تبرز سياسة واشنطن تجاه كل من إيران وروسيا. فلا يكاد يتكلم الرئيس دونالد ترامب عن منطقة الشرق الأوسط إلا ليكرر انتقاده للاتفاق النووي مع إيران معتبراً إياه جائزة للسلوك الإيراني التخريبي في المنطقة. يربط ترامب بين بقاء القوات الأمريكية في سورية وبين منع «وصول إيران إلى البحر المتوسط»؛ هذا ما قاله في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الفرنسي في 24/4/2018. «وشدد ترامب على أن الإدارة الأمريكية الحالية لن تكرر أخطاء الإدارة السابقة وستواصل حملة الضغوط على إيران، مؤكداً أن بصمات إيران تظهر مع كل مشكلة يعيشها الإقليم»‏[3]. هذه التصريحات بقدر ما تنمّ عن فهم إقليمي متشابك للفعل الأمريكي المتوقع ارتباطاً بصراع القوة مع روسيا، فإنها تشير إلى تحريض أمريكي سافر في سياق التصعيد الجاري في المنطقة بين إيران وبين حلفاء واشنطن العرب ومعهم إسرائيل، وهو ما سنتطرق إليه تفصيـلاً في القسم الأخير من الدراسة.

يدّعي الجمهوريون بأن إحجام إدارة أوباما عن التحرك الفعّال (بما في ذلك العسكري) لكبح اندفاعات روسيا في جوارها الإقليمي مثلما حدث في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وتدخلاتها في دول البلطيق، وفي الشرق الأوسط، وبخاصة في سورية، ودورها في الملف النووي الإيراني، قد شجّع روسيا على مواصلة نهجها في تحدي نفوذ ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها. يجد هذا النقد بعداً أكثر دلالة بالنسبة إلى أصحابه في امتناع باراك أوباما في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية ضد سورية في العام 2016، وهو ما جاء مخالفاً لتفاهمات واشنطن مع كل من بريطانيا وفرنسا في حينه. لم يكن كافياً لدى باراك أوباما ذلك التبرير المعمول به منذ عقود في واشنطن لاستخدام القوة العسكرية، الذي يقول إن على أمريكا أن تترجم تهديداتها إلى فعل لكي لا تخسر صدقيتها. يقول أوباما في مقابلته الشهيرة مع مجلة الأتلانتيك إنه ليس كافياً أبداً اللجوء إلى العمل العسكري بكل ما يترتب عليه من نتائج قاسية لمجرد إثبات أننا إذا قلنا فعلنا‏[4]. من هذه الزاوية فإن ترامب لا يريد فقط أن لا يترك مجالاً للشك بأنه إذا قال فعل ما دام قد وضع خطوطاً حمراً للنظام السوري‏[5]، على عكس أوباما، بل يريد توجيه رسالة إلى روسيا بأن واشنطن اليوم ليست كأمس. تبلور هذا النهج حتى اللحظة على شكل هجومين على سورية: الهجوم الصاروخي الأمريكي المنفرد العام الماضي على قاعدة «الشعيرات» الذي أخذ ذات الطابع الآني؛ والهجوم الأخير بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا. وفي الحالتين اتسم العمل بالسرعة والمشهدية؛ أي هجوم سريع ولمرة واحدة ينتهي بالإعلان الشهير: «تمت المهمة» لإظهار بأن واشنطن في ظل إدارة ترامب إذا قالت فعلت، وبأنها تضع الخطوط الحمر التي لا ينبغي تخطّيها. هذا المسلك الأمريكي ربما يجد تفسيره في اندفاعات روسيا لتثبيت نظام علاقات دولية يعترف بها كقوة عظمى.

في الواقع لا تخفي موسكو عزمها على خلق توازن جديد للقوى في النظام العالمي، وهو ما عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من مرة. على سبيل المثال، أشار بوتين في أواخر العام 2016 إلى أن بلاده «ستواصل القيام بكل ما هو ضروري من أجل ضمان التوازن الاستراتيجي للقوى»، واصفاً محاولات تغيير هذا النظام أو الإخلال به، بأنها «خطيرة للغاية»، وذكَّر بأن هذا التوازن الاستراتيجي الذي قام في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات من القرن الماضي، جنّب العالم اندلاع صراعات عسكرية كبيرة‏[6]. وتقرأ واشنطن ذلك بعيون الحرب الباردة، وبخاصة أنها تدرك أن توسيع حلف الناتو في شرق أوروبا، ومحاولة ضم أوكرانيا إليه، وضم دول البلطيق للاتحاد الأوروبي، قد قوضت إلى حد كبير حيز المصالح الجيوسياسية لروسيا في جوارها المباشر. أبعد من سباق جديد للتسلح، فإن هذه الحرب الجديدة تبدو كما وصفها أمين عام الأمم المتحدة حرباً انتقامية. وبخلاف الحرب الباردة، كما أشار غوتيريز، فإن الآليات التي كانت تضبط الحرب الباردة لم تعد قائمة؛ الأمر الذي يجعل من الحرب الحالية أشد خطورة. ويمكن القول بأنها ستكون حرباً ساخنة، مثلما يمكن أن يتدحرج الأمر في سورية وفي الشرق الأوسط عموماً إذا ما أخذنا على محمل الجد – وينبغي لنا ذلك – تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بويتين في تعليقه على الهجوم على سورية بأنه «عمل عدواني، وسيكون له تأثيرات مدمرة على العلاقات الدولية»‏[7].

1 – فوارق ذات دلالة بين سمات الحرب الباردة والتصعيد الحالي

إن الآليات التي أشار إليها الأمين العام للأمم المتحدة دون تحديد تتعلق غالباً بحالة التوازن الصريح للقوى بين قطبي النظام الدولي في حينه؛ وبقنوات الاتصال التي كانت قائمة بينهما؛ واستعدادهما المتزايد للحد من انتشار الأسلحة عبر اتفاقيات متعددة؛ و«احترام» واعتراف كل طرف – ولو ضمنياً – بحدود نفوذ الآخر؛ وأخيراً امتناعهما عن المواجهة المباشرة. لم يشكل «الردع النووي» عامـلاً حاسماً في غياب الحرب المباشرة بين الطرفين في الحرب الباردة، وأغلب الظن لن يكون كذلك اليوم. على سبيل المثال، إن أزمة الصواريخ الكوبية بين القوتين في عام 1962 كانت قد وضعتهما على شفير الحرب النووية دون أن يشكل السلاح النووي أحد العوامل التي منعتها. بخلاف النظرية الشائعة، يشير جون موللر إلى أن تاريخ علاقات القوى العظمى عبر التاريخ يشير إلى نزعة ملحوظة للسلم لا علاقة للقوة النووية بها‏[8]. إن مثل هذا الادعاء (أي القول بأن الردع النووي يفسر غياب الحرب) لا يأخذ بالحسبان عوامل جوهرية تفسر غياب الحرب المباشرة بين الطرفين. من بين هذه الأسباب: ذاكرة الحرب العالمية الثانية الحاضرة والماثلة؛ سياسات احتواء ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنع النزعات التوسعية لقوى إقليمية حليفة من جر النظام العالمي إلى الحرب. إن أعظم العوامل ذات الصلة بالتصعيد في الشرق الأوسط هي غياب مبدأ وسياسات حرب الاستنزاف التي كان لدى الطرفين تقدير بخطورة تحولها إلى حرب مفتوحة وربما نووية. ولا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية أو روسيا تقدر مخاطر هذا التصعيد في جر الأطراف إلى حرب مباشرة، أو على الأقل حرب إقليمية تفتح الباب لحرب بين الطرفين.

لم تعد هذه الآليات موجودة، بل إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين لا ينظرون إلى روسيا نظرة تقدير أو ندية بل نظرة ازدراء. تتنازع زعماء العالم الغربي توجهات متناقضة بشأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ فمن جهة، تشيطن شخصيته بوصفه «صدام حسين» جديداً وبوصف روسيا دولة مارقة‏[9]. ومن جهة ثانية يوصف بالرجل القوي في سياق ضرورة «وضع حد» لقوته وتوجهاته الصدامية، إضافة إلى اتهامه بالتدخل في ديمقراطيات الغرب لزعزعتها‏[10]. تنعكس هذه العلاقات المتدهورة باضطراد بين القوى العظمى في العالم الغربي وبين روسيا على شكل حروب متعددة الجبهات في المجالات الاقتصادية، والمالية وعالم السايبر (الافتراضي)، وحلبة السياسة الدولية على امتداد مساحة أوروبا الشرقية والشرق الأوسط. لم تتميز الحرب الباردة بمثل هذه السمات الاستنزافية التي تأخذ مساراً حلزونياً نحو التصعيد والمواجهة وبخاصة في ظل فرض هذه القوى مختلف أنواع العقوبات على موسكو، واستبعادها إمكان التوصل إلى تسويات أو تفاهمات شبيهة بتلك التي تم التوصل إليها – على سبيل المثال – في الشرق الأوسط في أكثر من مناسبة: حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر)؛ حرب عام 1967؛ والإعلان الأمريكي – السوفياتي المشترك عقب حرب رمضان (تشرين الأول/أكتوبر) 1973. يذكر في هذا السياق أن الهيئات والمؤسسات الأممية التي تألفت بعد الحرب العالمية الثانية وكانت ملائمة من النواحي العسكرية السياسية والاقتصادية لخلق نظام في علاقات الدول العظمى (مثل الأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن الدولي، معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية، محكمة العدل الدولية، والمواثيق المختلفة مثل اتفاقية جنيف الرابعة… إلخ)، هذه الهيئات أصبحت بحد ذاتها محل خلافات بين القوى العظمى نفسها التي توافقت عليها، وبالذات مجلس الأمن الدولي، حيث إنها (الهيئات) أقيمت على افتراض التوازن ثنائي القطبية ونظام اقتصادي عالمي مثلته – غالباً – معاهدة «بريتون وودز»، ومن البديهي أنها لم تعد تشكل ميكانيزمات مناسبة للتعامل مع تحديات النظام الدولي الراهن، وصراعاته المشتعلة وبخاصة في الشرق الأوسط.

في الشرق الأوسط الذي تُعَدّ سورية ميدان الاختبار الأول فيه لإرادة وصلابة الطرفين فإن حسابات المواجهة لا تزال مفتوحة منذ أن تراجع باراك أوباما عن تهديده بضرب سورية في عام 2015؛ الأمر الذي ترك حلفاء واشنطن الذين حرَّضوا إدارة أوباما على توجيه الضربة: بريطانيا، فرنسا، إسرائيل، والسعودية؛ يشعرون بخذلان عميق، وبذات الوقت منح روسيا وحلفاءها: إيران، وسورية، أفضلية إقليمية. وتبدو حسابات لندن وباريس للمشاركة في العدوان الأخير على سورية مرتبطة إلى حد ما بهذا الاعتبار، ولكنها ذات صلة أكبر بالتوافق مع واشنطن في حسابات اللعبة الكبرى: تشكيل معالم النظامين الدولي والإقليمي بالقوة العسكرية.

إن تتابع الأحداث الراهنة في الموقفين الروسي والأمريكي من الأزمة السورية والملف النووي الإيراني، وإن كانت تشير إلى احتمالات الرجوع إلى مسار التفاهمات الثنائية والمتعددة الأطراف بإشراك «إسرائيل» في ترتيبات محتملة للأوضاع الميدانية في الجنوب السوري، إلا أنها غير كفيلة بنزع فتيل الأزمة تماماً. ففي ميدان القتال – بخلاف ميدان الدبلوماسية – تبدو روسيا أكثر استعداداً للتنسيق مع قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق سورية، بينما تحرض على التنسيق مع «إسرائيل» في شأن وجود القوات المدعومة من إيران في الجنوب. في هذا السياق فإن المسعى الروسي للحفاظ على الوحدة الإقليمية لسورية تصطدم بالوجود العسكري الأمريكي في هذين الموقعين.

2 – فرنسا وبريطانيا: فرصة العودة إلى محور التوازنات الجديدة

تبدو الأسباب المباشرة لمشاركة فرنسا وبريطانيا موضعية؛ أي ذات صلة بالحالة السورية: ففي نظر الرئيس الفرنسي تمثل تهديدات واشنطن فرصة لتنفيذ وعيده المتكرر بالتدخل العسكري في سورية، الذي لم يستطع تنفيذه في السابق وبعيداً من الآليات التشريعية الفرنسية، وعن القانون الدولي مثلما أشارت ماريان لوبين‏[11]. لقد ربطت فرنسا تحركها العسكري في سورية منذ ولاية الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند برغبة أو استعداد واشنطن لرسم خطوط حمر في سورية يستوجب تخطيها التدخل العسكري. وتشعر فرنسا بالخذلان من تراجع الرئيس الأمريكي السابق أوباما عن توجيه ضربات عسكرية للنظام السوري، وتتشارك مع إدارة ترامب في القناعة بأن موقف إدارة أوباما تم تفسيره من قبل موسكو كعلامة ضعف. لقد كان من الواضح لفرنسا أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض عازمة على تنفيذ وعيدها بانتظار حادثة مثل حادثة دوما. أما بريطانيا فقد تدهورت علاقاتها الدبلوماسية بشكل متسارع مع موسكو في الآونة الأخيرة بفعل قضية الجاسوس الروسي المعروفة؛ حيث تتهم لندن النظام الروسي بمحاولة تسميم الجاسوس «سكريبال» وابنته. سارعت الولايات المتحدة وعلى لسان رئيسها لدعم موقف الإنكليز، وانضمت إلى حملة العقوبات الدبلوماسية ضد روسيا على خلفية هذا الاتهام، لكي تتعزز حالة الاصطفاف الغربي ضد روسيا، وتحديداً في الحلبة الأوروبية التي تشهد تدهوراً متسارعاً للعلاقات مع روسيا منذ أزمة القرم. إلا أن هذه الملابسات قاصرة عن تفسير المشاركة في عمل عسكري يتجاوز حدود القانون الدولي، ويفتقر إلى أي غطاء دولي، بما في ذلك تجنب استخدام قوات الناتو بالرغم من أن الدول المشاركة في العدوان هي ذاتها القوى الرئيسية في هذا الحلف.

إضافة إلى ما سبق فإن الأطراف الثلاثة المشاركة في العدوان هي من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وتقدم نفسها بوصفها معاقل لقيم الديمقراطية الليبرالية. في هذا السياق يرى بعض المحللين المؤيدين لتوجيه هذه الضربة‏[12] أن مشاركة كل من فرنسا وبريطانيا في العدوان الأخير على سورية هي دفاع عن «مصالحها وقيمها المشتركة في وجه النظام الإجرامي السوري ربيبة كل من إيران وروسيا». يُفهم من ذلك أن المسألة الأساسية تتعلق بمواجهة قوى الغرب لروسيا وحلفائها، وسعي هذه القوى لرسم حدود القوة الروسية في أضيق نطاق، وربما في فرض نقطة التوازن التي يحتاجها النظام الدولي وهو يمر بحالة من السيولة واللاتحديد البنيوي تجعله من الخطورة بحيث يمكن لأي سوء تقدير أو تفسير مغلوط لسلوك الخصم أن يفجر حرباً كونية، وبخاصة أن مساحات الاحتكاك المباشر باتت متعددة، وهو ما ينذر بحرب ساخنة وليست بالوكالة كما كانت تخاض في الحرب الباردة.

ثانياً: فوضى ترامب «غير الخلّاقة»، وجيوبوليتيك النار

بخلاف ثلاثة جوانب رئيسية تبدو على درجة عالية من الثبات في سياسة الإدارة الأمريكية الحالية، فإن مجمل سياساتها في المنطقة والعالم تتسم بالتأرجح مع درجة عالية من صعوبة التنبؤ بها. أولى هذه القضايا الثلاث هي: سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وثباتها على تبني مواقف «إسرائيل»، وليس أدَلّ على ذلك من قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، والتشديد على افتتاح سفارة الولايات المتحدة في مدينة القدس في شهر أيار/مايو 2018؛ والقضية الثانية انقلاب إدارة ترامب على الاتفاق النووي الإيراني الذي وُقِّع من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي + ألمانيا؛ والثالثة الاستمرار في سياساتها في العراق وسورية التي يمكن أن تمنح داعش فرصة استغلال الفراغ الذي ستخلفه سياسات واشنطن. إن القاسم المشترك الأعظم بين هذه السياسات الثابتة هو مصالح كل من إسرائيل والسعودية وضغوطهما على الإدارة الأمريكية (وهو ما سنتطرق إليه بالتفصيل في المبحث الثالث من الدراسة). وبخلاف هذه «الثوابت» الكارثية لا تبدو استراتيجية الإدارة متسقة أو متماسكة، وهو ما يعني غياب عنصر ناظم لسلوك وتصرفات اللاعبين الأصغر حلفاء واشنطن في المنطقة.

1 – تناقض الاستراتيجيات

تنتهج إدارة ترامب سياسات (أو استراتيجية) متناقضة في الشرق الأوسط، وصفها أحد كتاب مجلة فورين بوليسي بعبارة Passive-aggressive‏[13]؛ فهي عدوانية بحيث باتت تزيد من اشتعال الصراعات القائمة عبر التدخل المباشر الذي يتسم بتغيير الاستهدافات والخصوم، لكنها في الوقت نفسه لا تتخذ أي سياسات لمعالجة الصراعات المندلعة. يمكن توصيف مجمل سياسات إدارة ترامب بأنها فوضى «غير خلاقة»، إذا ما استعرنا معكوس ما عرف باسم سياسات «الفوضى الخلاقة» أو «البناءة»‏[14] التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى في العالم عبر العقود الأخيرة من القرن الماضي، وبخاصة في العراق بعد احتلاله في العام 2003، وهو ما أدخل هذا البلد في حالة من الفوضى والصراعات الطائفية والإثنية والمذهبية‏[15].

فقد أعلنت الإدارة عن نيتها سحب القوات الأمريكية من سورية، ثم عادت وأعلنت عدم الانسحاب قبل أن تستدرك وتقول إن انسحاب قواتها قريب. وانتقلت من محاربة داعش بوصفها مبرر التدخل المباشر في سورية إلى انتهاج سياسة تهدف لمحاربة النظام. يعتبر العدوان الأخير على سورية نموذجاً لهذا التناقض؛ فهو الهجوم الثاني على سورية خلال عامين، ولكنه لم يشكل أي فرق من الناحية العسكرية أو من حيث التأثير في قوة النظام السوري، بينما لم تقدم الإدارة الأمريكية على أي خطوات لإيجاد تسوية سياسية – دبلوماسية للأزمة السورية كأن تتعاون مع موسكو وإيران عبر حوار مباشر مثلما حدث في شهر حزيران/يونيو الفائت عندما زار الرئيس ترامب كوريا الشمالية. أقدمت الإدارة الأمريكية على عدوانها في حين يدرك العسكريون الأمريكيون خطورة المواجهة ويقدرون قيمة التعاون الأمني والعسكري مع العسكريين الروس في سورية‏[16] الأمر الذي يشير إلى أن حسابات الإدارة أبعد كثيراً من سورية، وتتعلق بإدارة شأن السياسة الدولية والإقليمية من بوابة المنطقة العربية وأولها سورية حيث توجد روسيا على الأرض.

تندرج في ذات السياق أيضاً سياسة واشنطن في الملف النووي الإيراني، تنصلت الولايات المتحدة من الاتفاقية معيدة العقوبات الاقتصادية على إيران ومطالبة بإعادة صياغة الاتفاقية، في خطوة ستزيد تعقيد المشهد الأمني والسياسي في المنطقة. فإسرائيل تحديداً تخشى ما يمكن أن يترتب على تراجع واشنطن عن الاتفاق المذكور في ظل التهديدات الإيرانية بالرد على هجمات إسرائيل على سورية التي تسببت بمقتل عسكريين إيرانيين؛ ففي حسابات إسرائيل فإن التراجع عن الاتفاق سيوفر مبرراً وفرصة لإيران لمهاجمتها‏[17]، بالرغم من أن تل أبيب هي أكثر العواصم تحريضاً لواشنطن منذ الإدارة السابقة ضد الاتفاق. بذات الوقت لم تقدم إدارة ترامب على أي سياسات فعّالة لاحتواء النفوذ الإيراني الآخذ في التوسع سوى تشجيع النظام السعودي على التصعيد العسكري ضد حلفاء إيران الإقليميين في اليمن وسورية والعراق ولبنان. إن هذه التناقضات ستدفع بأزمات المنطقة إلى مزيد من التعقيد الذي سيستعصي على الحلول السياسية والدبلوماسية، مما سيعظِّم فرص اللجوء لعمليات الحسم العسكري، والذي نقرأ صفقات الأسلحة الأمريكية لدول المنطقة على خلفيته.

 

2 – إشعال سباق التسلح ومعضلة الأمن

تؤدي الإدارة الأمريكية دوراً خطيراً في جر دول المنطقة إلى سباق تسلح سيشكل أساساً لتغذية التصورات والمخاوف المتبادلة ونزعات العداء المتزايدة بين هذه الدول بأنها بصدد الإعداد للحرب‏[18]، الأمر الذي قد يتحول إلى حروب فعلية ومباشرة بين الخصوم الإقليميين على جانبي التقسيم المفترض للدول بين محوري «الاعتدال» و«الممانعة». حتى الآن لم تندلع مواجهة عسكرية مباشرة بين أقطاب هذين المحورين وبخاصة السعودية وإيران، أو بين إسرائيل وإيران و/أو سورية/لبنان، إلا أن السياسات السعودية وسلوكها التصعيدي في ظل صفقات التسلح التاريخية التي عقدتها مع واشنطن وبريطانيا وغيرهما من الدول يمكن أن تقود إلى حرب إقليمية. صحيح أن سباق التسلح لوحده لا يشكل عامـلاً كافياً لاندلاع الحرب، ولكنه ضروري للتشجيع على خوضها مع استمرار حالة المراوحة التي تعيشها المنطقة، وتصاعد التهديدات المتبادلة بين أطراف الصراع فيها. لقد شكلت الحالة السورية على امتداد ثلاثين شهراً ميداناً مذهـلاً لتجريب وعرض مختلف أنواع الأسلحة، وبخاصة الروسية. ليس غريباً، والحال هذه، أن يكتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغريدة على «تويتر» عشية العدوان الأخير محذراً روسيا من أن «الصواريخ الذكية جداً قادمة» في إشارة صريحة إلى مواجهة بين صدقية وقوة السلاح الأمريكي مقابل السلاح الروسي (إذا كان للسلاح صدقية من الناحية الأخلاقية).

وما يعزز هذه الفرضية على أرض الواقع هو احتمال وضع جيوش الفرقاء في مواجهة عن قرب في سورية إذا ما مضت الإدارة الأمريكية في خطتها لسحب قواتها من شمال شرق سورية. وهو ما صرح به الرئيس الأمريكي في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الفرنسي ماكرون في 24/4/2018. وبحسب ترامب فإن على دول المنطقة الثرية (قاصداً دول الخليج) أن تتكفل بتكاليف حمايتها (المقصود من التنظيمات الإسلامية وإيران)، مشيراً إلى أن على هذه الدول أن تضع جنودها مكان القوات الأمريكية التي ستغادر سورية «للحيلولة دون وصول إيران إلى البحر المتوسط»‏[19]. تكمن في هذا السيناريو مخاطر إضافية ذات صلة بحالة المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية على الأراضي السورية، فالطرف الأول المعني بمنع إيران من «الوصول إلى المتوسط» هو «إسرائيل» التي تعتبر ذلك خطاً أحمر تبرر في سياقه استخدام الضربات الجوية المدروسة بحجة تدمير قوافل الأسلحة المرسلة إلى حزب الله الحليف الأقوى لإيران في لبنان وفي سورية. لقد بات واضحاً أن نظام الرئيس بشار الأسد باق في السلطة، وهي أخبار ليست جيدة لإسرائيل، وفي سياقها يفهم التصعيد الإعلامي والدبلوماسي بينها وبين إيران، وبخاصة أن العدوان الثلاثي على سورية لم يقنع «إسرائيل» رغم ترحيبها به؛ فهو لم يكن بمستوى ما تريده حكومة نتنياهو وبخاصة لجهة ضربات أكثر استدامة وتستهدف أركان النظام.

3 – المواجهة المباشرة

إن من شأن سيناريو استبدال القوات الأمريكية الذي تحدث عنه ترامب مصحوباً بالتصعيد المتسارع بين كل من إيران و«إسرائيل» أن يقود إلى نتيجتين متلازمتين تدعم إحداهما الأخرى:

أولاً: إنشاء تحالف عربي سني – إسرائيلي في مواجهة الخطر «المشترك» الآتي من الشرق على قاعدة «عدو عدوي صديقي»، وهو ما تسعى الإدارة الأمريكية وإسرائيل لتحقيقه منذ زمن تمهيداً لما يعرف بصفقة القرن. وهو حلف هدفه الأول المعلن هو ضرب إيران بعدما أقدمت الإدارة الأمريكية على التخلي عن الاتفاق النووي وذهبت إلى تصعيد الموقف مع طهران. وجود القوات الخليجية في شرق وشمال شرق سورية سيضعها في أقرب نقطة للبحر المتوسط حيث «إسرائيل»، ويشكل حاجزاً جيوعسكرياً بوجه العمليات الإيرانية المفترضة في سورية عبر العراق، وهذا سيحول الحلف الصامت بين دول الخليج و«إسرائيل» إلى حقيقة جيوسياسية. لذا ليس من المستغرب أن يتحدث رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في مؤتمره الصحفي المشترك مع وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو عن عزم حكومته على منع الوجود العسكري الإيراني في سورية باستخدام القوة العسكرية‏[20].

الثاني: هو زيادة احتمالات المواجهة المباشرة بين أطراف الصراع الإقليمي في المنطقة عبر الساحة الجيوسياسية الممتدة من العراق إلى لبنان وفلسطين عبر سورية والأردن. إن أحد أهم الردود على تصريحات ترامب بشأن استبدال قواتها بقوات عربية وأموال عربية هو التهديد الصريح الذي أطلقه وزير خارجية السعودية عادل الجبير عقب هذه التصريحات، إذ قال إن على قطر أن تدفع ثمن وجود القوات الأمريكية في سورية، وإن النظام القطري «سيسقط خلال أقل من أسبوع» إذا سحبت أمريكا قاعدتها العسكرية في قطر التي تحمي هذا النظام‏[21]. وضع الجبير اسم قطر بوصفها الدولة التي قصدها ترامب في تصريحه المشار إليه آنفاً والذي قال فيه إن بعض الدول في المنطقة لن تصمد أسبوعاً دون الحماية الأمريكية.

إذن تستمر الإدارة الأمريكية في النفخ في نار التوترات الإقليمية وشحن العداءات المستعرة من خلال تصريحاتها وسياساتها المعلنة، وبخاصة في مجال التسليح، وتشكيل حيزات جيوسياسية قابلة للانفجار العسكري المباشر بين الخصوم الإقليميين.

إن سعي الولايات المتحدة المتزايد لبيع الأسلحة لدول المنطقة قد أخذ منعطفاً نوعياً في الآونة الأخيرة حيث أعلنت الإدارة الأمريكية أنها ستتقدم إلى الكونغرس للموافقة على إجراءات تسرع عقد صفقات الأسلحة مع حلفائها. وحسب وكالة رويترز فإن الاستراتيجية الجديدة ستسهل قواعد تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية، بما فيها طائرات حربية وطائرات مسيّرة وسفن حربية وأنظمة مدفعية وغيرها، والسماح لدول جديدة بشراء هذه الأسلحة وبخاصة دول الخليج العربية إلى جانب السعودية‏[22]. ربما لا يأتي ذلك مخالفاً لسياسات الولايات المتحدة في بيع الأسلحة فهي أكبر مصدر للأسلحة في العالم‏[23]، ولكنه يأتي في سياق تصعيدي جدي وتشابك للقوى في أكثر من ساحة على امتداد الإقليم، الذي جاء العدوان الأخير في سياقه. وليس من المصادفة أن العدوان على سورية قد تم تنفيذه من ثلاثة مواقع تحيط بالمشرق العربي: البحر المتوسط، البحر الأحمر، والخليج العربي، وهي الحدود الجيوسياسية لما تعتبره واشنطن المجال الحيوي لمصالحها، ومصالح حلفائها، الذي في سياقه شاركت فرنسا وبريطانيا في العدوان. وقد بدأ التحرك الفرنسي الدبلوماسي لجني الثمار السياسية والاستراتيجية لهذه المشاركة، وهو ما يظهر جلياً في تصريحات رئيسها في مؤتمره الصحفي المشترك مع دونالد ترامب. فقد أكد أن الاتفاق النووي الإيراني لن يتم التخلي عنه ولكنه بحاجة إلى تعديلات و«يجب أن يتضمن ثلاثة عناصر إضافية هي برنامج طهران الصاروخي البالستي؛ النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط؛ وما سيحصل بعد عام 2025 المحدد في الاتفاق الحالي الذي ستتمكن بعده إيران من استئناف جزء من برنامجها النووي بشكل تدريجي‏[24]. فرنسا التي كانت بالأمس القريب تدافع عن الاتفاق وترفض نية واشنطن نسفه، تأتي الآن لتتساوق مع هذه التعديلات التي هي بالذات ما تريده إسرائيل، وما يريده دونالد ترامب: تقليص النفوذ والقوة الإيرانيين في المنطقة ومن خلاله إضعاف تحالفاتها، وزعزعة مَواطن القوة الروسية من بوابة إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي، بما يكفل خلق توازن إقليمي لصالح واشنطن وحلفائها. وهو ما لا يمكن تصور قبوله من جانب طهران، الأمر الذي ينذر بعواقب قد تصل إلى عمل عسكري أطرافه الأولية هي الدول العربية وإسرائيل مدعومة بتحالف غربي من جهة، وإيران وحلفائها الإقليميين من جهة ثانية.

وإذا كان سيناريو المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية يبدو مستبعداً، فإن المواجهة بين حلفائهما الإقليميين تلوح في الأفق تعززها سياسة واشنطن وحلفائها الأوروبيين المشاركين في العدوان على سورية. وإن كان عنوانها الظاهر هو سورية وإيران فإن جوهرها هو حسم المراوحة في المكان التي يعيشها الإقليم عبر حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران مدعومتين بحلفائهما الإقليميين والدوليين ما دامت الحلول السياسية والدبلوماسية مستبعدة أو متعذرة. وهو ما قد يخرج عن السيطرة نحو حرب عالمية، وبخاصة في ظل التمترسات الإقليمية ووجود صانعي قرار يصعب التكهن بسلوكهم وآليات اتخاذهم للقرار وخصوصاً على الجانبين الأمريكي والسعودي من المعادلة.

ثالثاً: ترامب وبن سلمان وصناعة الحرب

في عالم السيكولوجيا والسمات الشخصية، كما في عالم اتخاذ القرار والرؤى السياسية يوجد التقاء فريد من نوعه بين دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وإذا أضفنا ذلك إلى التقاء المصالح، والتغيرات في التحالفات الإقليمية، سيتكون خليط سياسي خطير وعدواني في المنطقة، وربما أبعد منها. يشكل التقاء ترامب مع محمد بن سلمان نقطة تحوُّل في آليات صنع القرار في البلدين باتجاهات مشخصنة ولا تقوم على المؤسسة مثلما كانت في السابق‏[25]، الأمر الذي بدأ ينعكس على شكل أجواء حرب وتهديدات واحتكاكات مباشرة بين القوى الإقليمية المحركة لأزمات وصراعات المنطقتين العربية والشرق الأوسطية.

1 – ترامب غير المتوقع، غير المتزن والمتنمِّر

تعصف برئيس الولايات المتحدة الأمريكية تحقيقات فدرالية، وحالة عدم الاتزان في إدارته تشهد عليها التغييرات المتلاحقة في طاقم إدارته، وشجاراته العلنية مع أقرب مستشاريه المستقيلين أو المقالين، وهجومه على وسائل الإعلام ومكتب التحقيقات الفدرالي، إلى الحد الذي دفع بالمزيد من المراقبين إلى اتهام الإدارة بتهديد الديمقراطية الأمريكية والاستقواء على قوانينها‏[26]. تبقى سمة عدم الاستقرار والتأرجح في السياسات، وبخاصة الخارجية، علامة بارزة في سلوك هذه الإدارة منذ تولي ترامب للرئاسة. وربما دفعته هذه المسألة إلى استقدام عناصر رئيسية للإدارة تتماشى تماماً مع سياساته. فقد انضم إلى إدارته مؤخراً كل من جون بولتون كمستشار للأمن القومي، ومارك بومبيو الذي أصبح وزيراً للخارجية، وهذا يعزز التوجهات العنيفة والتفردية لواشنطن بحكم ما يعرف عن الرجلين من يمينية مفرطة، في ظل إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي كان على خلافات مع الرئيس ترامب حول العديد من قضايا السياسة الخارجية ومن بينها الموقف من الملف النووي الإيراني. تعتبر التعيينات الجديدة أخباراً جيدة لمحمد بن سلمان ولولي العهد الإماراتي محمد بن زايد. فبعد الخيبة التي تلقياها بسبب تراجع ترامب عن إسناد حملة البلدين ضد قطر، فإن فرص التشدد إزاء خصوم السعودية والإمارات ستزداد مع قدوم كل من بولتون وبومبيو إلى البيت الأبيض حيث لا يخفي هؤلاء عداءهم لإيران، وللإخوان المسلمين. وهذا سيقدم فرصة أمام دول الخليج بقيادة السعودية والإمارات لاستعادة الزخم الذي حققاه في عام 2017 لجهة حمل الإدارة الأمريكية على مواقف متشددة تجاه هذه الأطراف؛ حتى لو تطلب الأمر اللجوء إلى العمل العسكري مثلما حدث في سورية وبمعزل عن القانون الدولي والمنظمات الدولية. إن هذا الميل الفظ للاستعلاء والتنمر سيتعزز أكثر فأكثر في ظل وجود شخصيات مركزية في الإدارة الأمريكية لا تخفي – مثلها مثل ترامب – استخفافها بالمنظمات والأعراف الدولية.

تفوقت هذ الإدارة على إدارة جورج بوش الابن في ازدرائها للمنظمات الدولية والقانون الدولي. وهذا ينسجم تماماً مع إحساسها العميق بأنها تقف في جانب الخير والحق حتى لو وقف العالم كله ضدها. هذا ما تتميز به الأنظمة والأيديولوجيا الميسيائية؛ فهي تعتبر وقوف العالم ضدها دليـلاً على تفرُّدها واعتدادها بالحق. ألم يمارس نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا ذات القناعات معتبراً البيض الأفريكانرز (الهولنديين) شعب الله المختار؟ ألا نلاحظ أن «إسرائيل» تستند في أحد أهم مبررات سياساتها العنصرية إلى قناعة ذاتية بأنها تمثل الحق، وبأنها تجسد شعب الله المختار أيضاً؟ مثل هذه الأيديولوجيا تذهب إلى حد أنها تستدعي عداء الآخرين كبرهان على صوابية مذهبها. إذاً ليس غريباً أن تبدأ سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة نيكي هايلي، وظيفتها بالتلويح بأنها ستضرب بالحذاء كل من سيجرؤ على انتقاد أو ملاحقة «إسرائيل» في الأمم المتحدة، وتنتهي إلى تهديد دول العالم التي ستعترض على قرارات إدارة ترامب. إنها دبلوماسية الاستعلاء والتنمُّر التي تجد تعبيراً فظاً في تهديد ترامب بقطع المساعدات المالية عن تلك الدول «التي تأخذ مالنا، وتصوِّت ضدّنا» حسب تعبيره. هذه مرحلة أشد تشوّهاً من شعار بوش الابن: «إما معي وإما ضدي،» الذي أطلقه مستهدفاً عدداً من الدول من بينها إيران.

قال مايك بومبيو، في أول تصريح له كوزير للخارجية، ومن الرياض – الخصم العنيد لإيران -، وزير الخارجية الجديد، إن إيران تعمل على «زعزعة المنطقة، وتدعم الميليشيات والجماعات الإرهابية، وتعمل كتاجر سلاح، إذ إنها تسلح المتمردين الحوثيين في اليمن، وإيران تقوم بحملات قرصنة إلكترونية. وتدعم نظام الأسد القاتل». وتابع في ذات التصريح: «على العكس من الإدارة السابقة، نحن لا نتجاهل إرهاب إيران الواسع النطاق»‏[27]. من هذه الزاوية يبدو العدوان الأخير على سورية بمنزلة اختبار لردود الأفعال الدولية والإقليمية، وقياس المدى الذي يمكن أن تذهب إليه واشنطن وحلفاؤها في التصعيد ضد إيران وحلفائها انطلاقاً من اليمن وسورية وبما يكفل إحراج روسيا ورسم قواعد اللعبة الإقليمية والدولية استناداً إلى تحالف أمريكي – إقليمي يتسم بالعدوانية والحزم.

إن حالة الفوضى المدمرة التي تحدثها سياسات وتصريحات ترامب هي حالة ملائمة تماماً لنزوع شخصيته غير المستقرة نحو الإثارة والمشهدية «الهوليوودية» والتنمّر. لم يحدث – ولا يحدث – مع أي رئيس دولة في العالم أن يقيل أحد أركان إدارته من خلال تغريدة على «تويتر» مثلما فعل ترامب مع وزير خارجيته ريك تيلرسون. وهي ليست حادثة معزولة، ولا يحتاج الأمر إلى توثيق لاستخدام ترامب المكثف لتويتر في إدارة شؤون الرئاسة، والعلاقات الخارجية، وإطلاق التهديدات. وقد سبق له أن شغل الرأي العام والصحافة في بعض تغريداته غير المفهومة‏[28].

في سياق التحضير للضربة ضد سورية كرر ترامب عبر تويتر تهديده بقرب الضربة، وقدم إيحاءات بموعدها تاركاً العالم كله يرقب الفعل الآتي. ولا تخلو لغته من حالة إعجاب «بذكاء» و«جمال» السلاح الأمريكي. فقد قال في تغريدته عشية العدوان وهو يتوعد روسيا «صواريخنا قادمة، وستكون جديدة، وجميلة، وذكية»‏[29]. فأي قائد سياسي، بل أي إنسان سوي هذا الذي يمنح صفة الجمال والذكاء لتكنولوجيا الدمار والموت؟ في حقيقة الأمر، إن هذا الرجل يعاني أعراض مرض ذهاني خطير ويصعب علاجه، وأعراضه تلك تميز أصحاب جرائم القتل والاغتصاب غير المستقرين ذهنياً بفعل مرض «رُهاب الوهم»‏[30]. هي ذات المشهدية التي في سياقها عرض ترامب في مؤتمر صحافي مشترك مع ولي العهد السعودي مستخدماً لوحة تصويرية نوعية وحجم صفقات الأسلحة التي سيتم توريدها للسعودية، والتي ظهر فيها مقدار سعادته وهو يعرضها أمام العالم مفنداً إياها واحدة واحدة بمئات ملايين الدولارات. في هذا المؤتمر وجه ترامب حديثه لمحمد بن سلمان قائـلاً «هذا فستق بالنسبة إليكم» (أي أن كل هذه المبالغ بالنسبة إلى السعودية لا تعني الكثير)‏[31]، ولم يبدُ ولي العهد السعودي أقل فرحاً ورضاً من مضيفه بهذه الصفقة، ولا بنظرة ترامب إلى بلده (السعودية) باعتبارها مصدراً لإثراء الولايات المتحدة الأمريكية وصناعاتها العسكرية. إن الالتقاء بين الرجلين مذهل ومخيف بذات الوقت، إذا ما أخذنا بالحسبان سمات شخصية محمد بن سلمان ذات الاستعداد الكبير للميل للمخاطرة والقرارات السريعة (أو المتسرعة)، وشغفه بالصفقات الكبرى.

2 – محمد بن سلمان: «كاوبوي» ترامب المفضل

في الرياض يأتي طغيان شخصية وسلطة محمد بن سلمان في ظل رحيل أهم أركان الحكم السعودي مثل الأمير سعود الفيصل، والأمير نايف بن عبد العزيز، وهذا ما فتح الباب أمام ولي العهد الجديد ليُحكم قبضته على السلطة معززاً ذلك بحملة الاعتقالات الشهيرة التي شملت أركان المال والسلطة في السعودية، وعزل شخصيات نافذة في الحكم مثل الأمير محمد بن نايف. لقد تحول ولي العهد إلى الحاكم الفعلي للمملكة بشخصيته المندفعة وميله الكبير إلى المغامرة والصدام، وبخاصة في المحيط الإقليمي، وتشدده الكبير بما يتعلق بسورية وإيران، والأزمة القطرية. باتت سياسات المملكة متطابقة تماماً مع توجهات محمد بن سلمان على الصعيدين الداخلي، حيث يسير برنامج الإصلاح الاجتماعي 2020، و«رؤية 2030» الاقتصادية على قدم وساق؛ والخارجي حيث تستمر المملكة في سياسات توتير الجوار، والتصعيد ضد إيران، وبخاصة استمرار حربها في اليمن، وتدخلها في لبنان، ناهيك بدورها في الساحة السورية. إن مجمل سياسات المملكة منذ صعود محمد بن سلمان كشخصية ذات نفوذ ثم توليه للعهد تشير إلى مقدار تأثرها بسماته الشخصية وأسلوبه في صنع القرار. يبدو أن محمد بن سلمان مصرٌّ على فرض بلاده بوصفها اللاعب الإقليمي الأول حتى لو من خلال اللجوء إلى القوة العسكرية، أو الضغط المباشر بأساليب التهديد ولوي الذراع. هذا ما تظهره سياسات وسلوك محمد بن سلمان التي تشير إلى استعداده المفرط للمخاطرة ولاستخدام كل الوسائل لتحقيق تلك الغاية بطريقة مفرطة في «المكيافيلية».

تبدو الغاية العليا ذات الأولوية بالنسبة إلى السعودية بقيادة محمد بن سلمان هي محاصرة إيران والتصدي لما تعتبره الرياض توسعاً للنفوذ الإيراني في الجوار الجيوسياسي للمملكة؛ سواء كان في جوارها المباشر في اليمن أو جوارها الأقرب في العراق، أو الأبعد في سورية ولبنان. تطور شعور ولي العهد بالعجز أمام ما تحققه طهران من إنجازات في سورية واليمن والعراق، وبخاصة بعد أن تجرأ الحوثيون على قصف الأراضي السعودية بالصواريخ للمرة الأولى أواخر العام الماضي، الأمر الذي يؤشر إلى امتلاك إيران أفضلية مقابل السعودية. لا يتعلق الموضوع بالصواريخ بحد ذاتها، بل في فرض قواعد اللعبة في الصراع بين النظامين والممتد عبر الإقليم كله تقريباً، وبالذات في دول إما فاشلة وإما آيلة إلى الفشل في سورية والعراق واليمن.

ثمة ما يبرر القول بأن إيران تمتلك الأفضلية: في لبنان لا يبدو أن حلفاء السعودية قادرون على تحجيم قوة «حزب الله» الحليف القوي لإيران. على النقيض تماماً، فحزب الله تمكن منذ العام 2008 من حسم المواجهة مع حركة «الرابع عشر من آذار» الموالية للسعودية، إضافة إلى دخوله العلني في الحرب السورية إلى جانب النظام، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها الحزب بالعمل المسلح خارج الأراضي اللبنانية، وهو ما يحوله إلى قوة يمكن أن تدخل في مواجهة مع «إسرائيل على جبهتين» مفتوحتين على كل الاحتمالات وهما لبنان وسورية. وقد تعززت القوة السياسية والحكومية لحزب الله في لبنان مقابل معسكر سعد الحريري، الأمر الذي يفسر السلوك الدراماتيكي للسعودية بقيادة بن سلمان تجاه الحريري وإجباره على الاستقالة واحتجازه على الأراضي السعودية، وإعلان الرياض عن وقف الدعم المالي للجيش اللبناني، وهو الدعم الذي من المفترض أن يسهم في خلق توازن داخلي للقوى في مواجهة قوة حزب الله.

لم تحقق سياسات السعودية نجاحات يمكن أن تشكل فرقاً في الحرب الدائرة في سورية، فإصرارها على تغيير النظام وإطاحة الرئيس السوري لم يجد استجابة في واشنطن في عهد إدارة باراك أوباما التي أعطت الأولوية لمحاربة «داعش». إن قوى المعارضة السورية المسلحة المدعومة من «الرياض» تبدو مفككة وعاجزة أمام قوة النظام المدعومة بالقوة البشرية والعسكرية والأمنية لإيران وحزب الله. بذات السياق لا يبدو أن النفوذ الإيراني في العراق يشهد أي تراجع مقابل محاولات الرياض تأدية دور مؤثر فيه، كما لم تؤد الحرب السعودية في اليمن إلى أي حلول للأزمة اليمنية، في حين تتعرض السعودية لاتهامات واسعة النطاق بارتكابها جرائم حرب وخروق لحقوق الإنسان‏[32]. إن الحروب المتعددة للسعودية التي يقودها محمد بن سلمان بإصرار تكشف عن استراتيجية يمكن وصفها باستراتيجية زعزعة الجوار، التي تبرهن على خفة استثنائية في اتخاذ قرارات الحرب والعداء، وهو ما تجلى في الأزمة القطرية أيضاً. ومن اللافت حقاً هنا هو أن السعودية تجاهر في قبول وتبرير هيمنة واشنطن على العواصم العربية وتعامل ترامب المتعالي والإكراهي معها، مثلما حدث عندما طالب وزير خارجية السعودية دولة قطر بتحمل تكاليف الحرب في سورية تعقيباً على تصريحات لدونالد ترامب، كما ذكرنا سابقاً.

إن من أبرز مظاهر هذه النزعة لدى بن سلمان هو سياساته في التسلح. لقد عقدت المملكة في عهده صفقات سلاح غير مسبوقة في فترة زمنية قياسية‏[33]، وباتت نزعات المغامرة تستدعي التسلح والتسلح بدوره يعزز الشعور بالمنعة والقدرة على المغامرة واللجوء إلى القوة العسكرية. لا تكمن المسألة في الأحجام الرقمية لواردات الأسلحة، بل في قراءتها في سياق الصراعات المشتعلة في المنطقة، التي تشكل السعودية عاملها المشترك الأول، الأمر الذي سيزيد من احتمالات التصعيد واللجوء إلى الخيارات العسكرية في ظل عدم قدرة الرياض على التقدم استراتيجياً في أي من المعارك العسكرية أو الدبلوماسية التي فتحتها في السنوات الأخيرة، والتي تجد اليوم فرصة لتحقيقها في ظل إدارة ترامب وسياساته آنفة الذكر. إن التقاء نمط ونزعات ترامب غير المستقر وهوسه بالقوة يجعل من بن سلمان شخصية محببة وملائمة تماماً لتفكير ترامب وسلوكه، إذ يبدو الأمير المغامر أقرب إلى شخصيات «الكاوبوي» في أفلام «هوليوود».

خاتمة تحليلية

اليوم أكثر من أي وقت مضى تبدو مسألة اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل مسألة وقت، بل إن المواجهة قد بدأت بالفعل، وتل أبيب هي مَن شرعت في إشعالها، بعدما قصفت طائراتها قاعدة سورية يوجد فيها ضباط إيرانيون، وأسفرت عن مقتل عدد منهم، وهو تصعيد غير مسبوق دفع المحلل الصحافي الأمريكي المعروف والخبير بشؤون الشرق الأوسط إلى اعتبار ذلك بمنزلة المرة الأولى التي تجري فيها مواجهة بين إسرائيل وإيران مباشرة، وليس عبر وسطاء، وهو ما أكده له مصدر عسكري إسرائيلي رفيع. هذه الواقعة يمكن أن تفضي إلى «نشوب حرب حقيقية»، وهو التحذير الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معتبراً أن خطر الحرب محدق بالعالم في حال انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني‏[34]. إن هذا الاحتمال مبني على قراءات متأنية للأزمة الشاملة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والتي تجد أحد أهم عوامل استمرارها في الحالة الراهنة للنظام الدولي، الأمر الذي يؤشر على احتمالات تدحرج هذه الأزمة نحو حرب ساخنة بين القوى العظمى التي تخوض صراعاً محموماً على فرض قواعد جديدة للنظام الدولي.

إن حالة العداء بين إيران و«اسرائيل» ليست وليدة الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، إلا أن تصاعدها الآن مرتبط حكماً بهذه الأزمة، التي تشكل الإطار الأول لفهم وتفسير سيناريو الحرب المقبلة بين الطرفين، بينما يشكل صراع روسيا وحلفائها من جهة، وواشنطن وحلفائها من جهة ثانية على حسم توازن النظام الدولي الإطار الثاني لفهمها.

لم تكن تل أبيب لتقدم على اختبار قدرتها على توجيه ضربات عسكرية في سورية تستهدف قواعد للوجود الإيراني، أو تصعيد تهديداتها الصريحة ضد إيران وضد الرئيس السوري شخصياً، لولا معرفتها بتغير تموضع القوى الإقليمية المؤثرة في سياق التحالف ضد إيران. فتل أبيب لم تقف يوماً عن تحريض واشنطن والمجتمع الدولي ضد إيران، ولم تخفِ رفضها للاتفاقية النووية مع إيران، ولا رغبتها في اللجوء إلى العمل العسكري ضدها. لقد تعزز في الآونة الأخيرة – أي منذ وصول ترامب للرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتولي محمد بن سلمان دفة القرار في الرياض – تحالف شبه علني بين الأطراف الثلاثة يقوم على رؤية سعودية تعتبر أن النفوذ الإيراني في المنطقة هو الخطر الأساسي الذي يهدد الأمن الإقليمي. تتفق الأطراف الثلاثة بأن مفتاح حسم مسألة صراع القوى الإقليمي تكمن في الانقضاض على إيران عسكرياً ومن البوابة السورية تحديداً.

يتعزز هذا الحلف بحكم عاملين: الأول، هو أن أطرافه لم تجد حـلاً لتوسع وترسخ النفوذ الإيراني عبر «الهلال الخصيب» بمعناه الواسع وليس انتهاءً باليمن؛ والثاني، هو إدراك واشنطن والرياض أن القوة الوحيدة القادرة عسكرياً وبحكم تمتعها بـ «استثنائية» كقوة متمرسة في خرق القانون الدولي هي «إسرائيل». إن الوجود المتعاظم لإيران بشكل مباشر ومن خلال حزب الله على الساحة السورية يشكل سبباً أكثر من كافٍ بالنسبة إلى تل أبيب مدعومة من واشنطن والرياض لكي تقوم أخيراً بما أرادته منذ زمن بعيد: ضرب إيران ومعها سورية وحزب الله. وما العرض الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبوع الماضي ووجد تصديقاً في واشنطن والرياض حول خرق إيران للاتفاق النووي سوى دليل إضافي على هذه النية، والذي سيعقبه غالباً إعلان مرتقب للرئيس الأمريكي عن التخلي عن ذلك الاتفاق أو على الأقل المطالبة بإدخال تعديلات جوهرية عليه، وهو ما يمكن اعتباره كلمة السر في بدء العد التنازلي لمواجهة عسكرية مع إيران في ظل اعتبار واشنطن بأن الموقف من إيران هو مسألة حزم في مواجهة قوة إرهابية لا يمكن تجاهلها مثلما فعلت إدارة أوباما. يسهم في إذكاء احتمالات الحرب تلك السياسة غير المتزنة لإدارة ترامب، وتحويلها المنطقة إلى ميدان للصراعات المسلحة وسباق التسلح، واستجابتها لحلفائها وبخاصة السعودية و«اسرائيل». فحالة التصعيد والتهديدات مصحوبة بمستويات غير معهودة للتسلح تحفز الأطراف على الحسم العسكري في ظل المخاوف المتبادلة بشأن من وكيف ومتى سيبدأ الحرب، وبوجود صانعي قرار لديهم سمات مغامرة وعدوانية تجعل من قرارات الحرب مسألة إرادة منفردة، وبخاصة في بلد لا تحكمه قواعد مؤسسية مثل السعودية.

أبعد من مجرد مواجهة إقليمية، تمثل منطقة الشرق الأوسط اليوم المنطلق الرئيسي لصراع القوى الكبرى في النظام الدولي، الذي يمكن إعادة تشكيله من خلالها لفرض توازن جديد للقوى في نظام دولي يفتقر إلى هذا التوازن. فالضربة الثلاثية لسورية كانت بمنزلة إعلان أمريكي – غربي صريح بأن هذه الأطراف لن تسمح لروسيا بأن تتمكن أكثر من التحكم في ماجريات الحرب السورية وعبرها تعزيز نفوذها في هذه المنطقة التي يعتبرها الغرب تاريخياً منطقة لنفوذه ومصالحه. فواشنطن أعلنت مراراً أنها هي من يضع الخطوط الحمر، وهي من يفرض احترام هذه الخطوط حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية. يأتي ذلك على خلفية موقف روسي صريح بأن موسكو تسعى لاستعادة توازن القوى الذي ساد الحرب الباردة. إن خطورة المواجهة الحالية في هذا المستوى هي أن الميكانيزمات الناظمة والضابطة للحرب الباردة وتوازناتها لم تعد قائمة، الأمر الذي قد يفضي إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين الأطراف الكبرى المشتبكة على الساحة السورية والشرق الأوسطية في ظل تصاعد المواجهة الغربية – الروسية في عدد من الميادين التي أشرنا إليها في هذه الدراسة.

وإن كانت احتمالات الحرب العالمية أقل حضوراً في ظل المواقف الأوروبية والصينية من التصعيد الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، فإن سيناريو الحرب بين وكلاء واشنطن وبدعمها تبقى أكبر كثيراً. وهذا الأمر مرتبط بغياب رؤية أمريكية للدور الذي تريد أو يمكن لأمريكا تأديته في هذا النظام الدولي غير المستقر. فإذا رأت واشنطن أن نجاحها في تحقيق تفوقها على خصم يزيد قوته (أي روسيا) يتطلب عمـلاً عسكرياً ضد إيران حتى لو انطوى على خطر المواجهة المباشرة مع روسيا، فإنها أغلب الظن ستقدم على ذلك، إذ لا يبدو أن واشنطن تعرف ما هو الدور المُتَصوَّر لها في العالم: هل تقدم أمريكا نفسها باعتبارها الأمة التي لا غنى عنها للعالم بما تملكه من قيم وما تمثله من نموذج للازدهار وما تحمله من رسالة، أم ستجسد دور الشرطي الذي تناط به مهمة تنظيم هذا العالم سواء برغبتها أو باضطرارها. وهل يمثل القوة المهيمنة الخيِّرة، أم الامبراطورية، أم أنها ستؤدي دور القيادة من الخلف، وكل ذلك إلى افتراض مسبق (له ما يبرره) بأن أمريكا لا تزال قوة عظمى ذات نفوذ هائل في السياسة الدولية. إلا أن ثمة حالة من الفوضى السياساتية وانعدام الاستراتيجية في السياسة الخارجية لفريق ترامب تجعل من الصعب تأطيرها بهدف فهمها وربما التنبؤ بالسلوك المترتب عليها. ولكن ثمة سمات في السياسة الخارجية الأمريكية تدعم ما ذهبنا إليه، وأهمها النزوع المفرط للإحساس بالتفوق والاكتفاء بالذات، الذي يتجاوز نزعة «الانعزال» المعروفة في التاريخ الأمريكي نحو نمط من الشوفينية العدوانية. لقد كانت أولى خطوات هذه الإدارة التنصل من اتفاقيات دولية في ميادين التجارة الحرة والبيئة والعلاقات الدولية مثلما هو معروف. كما لم تظهر هذه الإدارة أية حساسية تجاه الحلفاء والأصدقاء. فقد انتهجت سياسات وأقامت أحلافاً دون الرجوع إلى حلفائها، واشترطت على هؤلاء الحلفاء أن يدفعوا مقابل تحالفهم معها. على سبيل المثال، كرر ترامب مراراً عدم رضاه عن الالتزام بحلف الناتو، ويريد من الشركاء في هذا الحلف دفع تكلفة تحالفهم مع واشنطن. في هذا السياق فإن تقاربه مع روسيا – قبل أن ينقلب عليها – يشكل اختلالاً في الاستراتيجية الأوروبية القارية للولايات المتحدة وحليفها الاتحاد الأوروبي. من ذلك أيضاً مغامرات إدارته في الخليج في ما يتعلق بالأزمة القطرية والحرب في اليمن، وقراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بالضد من موقف كل حلفاء واشنطن الدوليين وخصومها على السواء. كل ذلك يجعل إدارة ترامب من الخطورة بمكان بحيث تقدم على سياسات تقود بصورة شبه مؤكدة إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط هي تعبيرات ساخنة لحربها مع روسيا وحلفائها، وربما حرب مباشرة مع روسيا ذاتها.

 

قد يهمكم أيضاً  الموقف الروسي من الأزمة السورية وانعكاساته الخارجية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #سورية #الأزمة_السورية #الحرب_على_سوريا #سوريا #الهجوم_الصاروخي_على_سورية #العدوان_على_سورية #العدوان_الثلاثي_على_سورية