مقدمة:

تثير الهجمات الإرهابية المختلفة التي حدثت خلال العقدين الأخيرين من عام 2001 إلى عام 2019 في مختلف أنحاء العالم، سؤالاً محورياً حول هذا النزوع المتزايد نحو العنف والوحشية الناجمة عن الوجوه المختلفة للإرهاب والتطرف. ما يمكن وصفه السمة الغالبة في جميع العمليات الإرهابية التي يعرفها العالم، يكمن بالأساس في حجم الخسائر في صفوف المدنيين وتكريس كراهية الآخر. ومهما تعددت الدوافع والمسببات لا يمكن قبول أي تفسير يبيح أعمال عنف وترويع تزعزع استقرار المجتمعات.

لهذا، فالمجتمع الدولي مطالب بإدانة جميع أنواع الإرهاب، والقضاء على كل الدوافع والمحركات الرئيسية التي أسهمت في إنتاج كل التصورات الضاربة في التطرف والانغلاق، ومواجهة كل الصور النمطية عن الإرهاب الإسلامي الذي شاركت في إنتاجه أكثر فأكثر القناعات الغربية الراسخة ووسائل الإعلام الغربية التي اختزلت التطرف في الإسلام السياسي وجماعاته وتياراته، وسمحت في الوقت نفسه بانتشار التعصب والعنصرية وكراهية الأجانب عبر سياساتها الرسمية ومأسسة أحزابها اليمينية المتطرفة التي ركبت موجة الهوية الضيقة، بهدف الوصول إلى أصوات الناخبين مستغلة الأوضاع الاجتماعية السيئة. وقد سجل تقدم واضح للأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في السنوات الأخيرة، كحزب الجبهة الوطنية في فرنسا الذي أصبح القوة السياسية الثالثة، والذي يرفض التعايش مع المهاجرين، وبخاصة المسلمون، ويطالب بإرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد مثل موضوع الهجرة حجر الزاوية لليمين الشعبوي لاستمالة الأجيال الجديدة من الشباب الأوروبي، والزجّ بهم في علاقات صراعية مع المهاجرين من أصول عربية مسلمة، وهو ما يفسر ارتفاع الكراهية وقيام أفراد ومجموعات محسوبة على هذا التيار بحوادث عنف مقصودة ضد المهاجرين.

إن فهم التطرف يقتضي مسبقاً فهم كل ما يلزم من السياق والتصورات التي ساهمت في تكريسه. حسب بعض الاتجاهات، يشير التطرف إلى مسارات التشكل والتنشئة، وفي حالات أخرى، قد يتعلق الأمر بمعاينة وتحليل النتائج، بمعنى إعطاء الأولوية للمخرجات الناجمة عن الممارسة العنيفة للجماعات المتطرفة. علاوة على ذلك، فإن التطرف لا يعني دائماً في دلالته ومعناه وغائيته ممارسة الإرهاب‏[1]. هذا النقص في الوضوح حول ماهية التطرف يشوّه فهم التطرف العنيف‏[2]، على وجه الخصوص عندما يكون هناك سوء فهم مركّب للعوامل الاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية التي تنطوي على تعقيدات واضحة تمثل تهديدات أمنية ذات أولوية كبيرة.

لا يوجد معنى واحد وقارّ لتعريف «التطرف» بنفس الطريقة والأسلوب؛ فبعض الاتجاهات، تعدّ الفعل العنيف هو حجر الزاوية الذي يستحوذ على اهتمامها ويحوز على الأولوية لديها، ولهذا ركزت أكثر على تداعيات العنف من دون الأخذ بعين الاعتبار أصل الأيديولوجيات المتطرفة. بالنسبة إلى الاتجاهات أخرى، فإن الأيديولوجيا التي قد تؤدي، أو لا تؤدي، إلى العنف هي محور الاهتمام الأساسي. وبالرغم من ذلك، فإن جميع التعريفات تدرك فكرة التطرف بوصفها في أغلب الأحيان عملية منفردة جداً، ولا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير، كما هو الشأن بالنسبة إلى عمليات الذئاب المنفردة التي ينكر فيها مرتكبو الجرائم والعمليات الإرهابية من متشددين من القومية البيضاء انتماءهم إلى أي جماعة إرهابية، وإنما يستوحون عنصريتهم المقيتة من أفكار متطرفة لعدد من زعماء الفكر الممجد لتفوق الجنس الأبيض على باقي الأجناس والديانة المسيحية على باقي الديانات‏[3].

تحاول هذه الورقة التطرق إلى كل من مراحل التطرف وكذا مخرجاته الرئيسية. بناءً على اليقين الراسخ أن التطرف تعرفه كل الديانات والمعتقدات والحضارات، وأن الإرهاب متعدد الألوان والأشكال والجذور ولا وطن ولا أرض له، تضع هذه الورقة موضع البحث القواسم المشتركة التي تجمع بين التطرف الإسلامي والتطرف اليميني، من خلال اعتمادهما العنف كخطاب رئيسي يستخدم أيديولوجيا متعصبة لزعزعة استقرار الدول والمجتمعات، عبر الفهم العميق للدوافع الرئيسية لتلك البنى الغارقة في التعصب والكراهية، التي تجد في البيئة الإقليمية والدولية كما في الصراعات الداخلية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، المناخ المناسب لدفع العديد من الفئات الاجتماعية للارتماء في أحضان الفكر المتطرف، والاحتماء به من النزعة العولمية والليبرالية المتوحشة التي قذفت بهذه المجموعات إلى الهامش. كما أن الاستيعاب العميق للظاهرة، يمهد الطريق لوضع استراتيجية شاملة تواجه جميع أنواع التهديدات المتطرفة المحتملة.

أولاً: أوجه التشابه والاختلاف بين الإرهاب الإسلامي وإرهاب اليمين المتطرف

بلا أدنى شك، إن من ساهم في ارتفاع التطرف اليميني الشعبوي الغربي، وجود مركزية خطاب أيديولوجي ممنهج وفائق الحساسية تدعمه وسائل الإعلام الغربية، يفترض أن الإسلام السياسي هو المحرك الرئيسي للتطرف في الغرب. ولكن في الواقع، الفرق بين التطرف اليميني والتطرف الإسلامي هو خط رفيع جداً غارق في العنف المحافظ‏[4]. كلاهما، على الرغم من العيش في ظل الحداثة، وازدهار الحركة النسائية، والتيارات العلمانية، والنخب الحضرية وتطور مهارات المعرفة والتعليم، يفضل لغة العنف والمدافع والعسكرة والثيوقراطية والتوسعية والحنين إلى الماضي المجيد. هما أساساً وجهان لعملة واحدة مفرطة وموغلة في المحافظة والتطرف.

خلال العقدين الأخيرين، ركزت الحكومات الغربية جهودها لمحاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة بمختلف أصنافها، بما في ذلك تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، ومع ذلك، فإن المتطرفين المحليين من أبناء الدول الغربية‏[5] الذين ألهمتهم فكرة التطرف، يمثلون مشكلة أكثر إثارة للقلق في الوقت الراهن. ورغم تنظيم العديد من المؤتمرات واللقاءات والندوات التوعوية، ظل التركيز منصباً على مواجهة الإرهاب «الجهادي» وليس الإرهاب الداخلي الذي يشتمل على تهديد الجماعات الإرهابية المتطرفة، وبخاصة تلك التي تؤمن بتفوق العنصر الأبيض، وتجعل من المهاجرين المسلمين أعداءها المفترضين، وتسعى للقضاء عليهم مستغلة ارتفاع العديد من الأصوات الشعبوية اليمينية المتطرفة التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم سنة 2016، وما تلت هذه المرحلة من ظهور موجة جديدة من التطرف والعنصرية، وبخاصة ضد المسلمين بعد تحقيق اليمين المتطرف للعديد من المكتسبات الانتخابية في عدد كبير من الدول الأوروبية، حيث أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة خلال عام 2019 عن تقدم وصعود اليمين الشعبوي ونهاية التكتلات التقليدية في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا.

بعد أكثر من عقد من الزمن من الإهمال والتغاضي عن التيار المتصاعد للحركات المتعصبة البيض، المقترن باتساع الانقسام السياسي المبني على التناقضات العرقية والدينية والإثنية، تفجرت موجة جديدة من الإرهاب الداخلي أو الوطني لم يسبق لها مثيل في تاريخ العمليات الإرهابية. على سبيل المثال، كانت كنيسة أمريكية من أصل أفريقي مسرحاً لفظائع مروعة‏[6] في ساوث كارولينا. وتمت مهاجمة العديد من المساجد وتدنيسها في الولايات المتحدة‏[7]. وأصبحت المعابد الأمريكية في بيتسبورغ وسان دييغو مستهدفة منذ فترة طويلة، وتعرضت لإطلاق نار جماعي من جانب بعض المتطرفين القوميين البيض. وأصبحت هذه الحوادث الإرهابية المؤسفة في ارتفاع متصاعد داخل المجتمع الأمريكي والأوروبي.

لطالما كان التطرف الديني والأيديولوجي يهدد المصالح المشتركة لدول العالم الإسلامي والغرب على حد سواء، كما يعدّه البعض أيضاً تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، أي ذلك البعبع المخيف الذي يشكل أداة الغرب النافذة لتحقيق مصالحه في المنطقة العربية والإسلامية. لكن غالباً ما يتم تجاهل وجوه التطرف الأخرى بوصفها سمة من سمات التعصب الموجودة في جميع المجتمعات. تتزايد الحركات اليمينية في مجتمعات أمريكا الشمالية وأوروبا. الغريب أن هذه الجماعات اليمينية المتطرفة قدمت الكثير من الأسس والادعاءات والخطابات المشابهة لتلك التي تظهرها الجماعات الإسلامية المتطرفة.

بناءً على تحليل الخطاب لمفهومين متصلين من الناحية المفاهيمية والغائية، نسعى في هذه الورقة لشرح طبيعة التشابهات والاختلافات بين جماعات الإسلام السياسي الراديكالي والحركات اليمينية الغربية المتطرفة. كما نحاول تفكيك هذا الخطاب ووجهات نظر كل منهما ودورهما في تأجيج النعرات العنصرية والأفكار الهامشية والانتصار للشوفينية الفكرية والراديكالية. لهذا يحتاج صنّاع القرار والباحثون والمهتمون إلى فهم التطرف اليميني والإسلامي على أنهما ظواهر لها قواسم مشتركة ونزوعات ذات قوى دافعة لها تأثير كبير، إن على الصعيد المحلي أو على الصعيد الدولي.

منذ نهاية الحرب الباردة، حوّلت السياسة العالمية الأنظار والاهتمام إلى العالم الإسلامي، كما يتم التفكير وعلى نحو متزايد في الأقليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية الغربية كمجموعات دينية بدلاً من وصفها أقليات عرقية أو ثقافية. إن هذه الصورة النمطية تعطي انطباعاً سيئاً لدى المسلمين، وتفجر في داخلهم كل ما هو سلبي وعدائي وعنيف ضد الغرب وثقافته الاستئصالية.

تستغل النخب السياسية في الغرب كل التوترات والصورة القدحية عن الإسلام والمسلمين لتحقيق مكاسب سياسية على الصعيدين الوطني والدولي. أصبحت السياسات الغربية تضع الأقليات المسلمة تحت الأضواء الكاشفة، وتمكنت من فرض بعض المفاهيم الجاهزة على المواطن العادي، كما جندت كل وسائل الإعلام لإقناع مواطنيها بالتعميمات البسيطة باتهام المسلمين والإسلام بأنهم مصدر للإرهاب والعنف، وإلصاق كل العمليات الإرهابية بهذه المجموعة، وجعل الرهاب ضد الإسلام أمراً مسلّماً به.

كما أن مستويات الإحباط لدى بعض الشباب المسلم تؤدي في كثير من الأحيان إلى اختيارهم التوجه إلى نقطة اللاعودة، والانتقال بهم من حالة فقدان الأمل إلى حالة الانتقام والتشظي والكراهية. ويتمثل رد الفعل المقاوم للعنصرية الغربية في انضمامهم أكثر فأكثر إلى الجماعات الإسلامية، واعتناقهم أفكارها المتطرفة، حيث إن كثيراً من المسلمين لا يقاتلون من أجل مجتمعاتهم المحلية، ولكن من أجل مشروع عالمي متخيَّل، يؤدي إلى مزيد من الفراغ على المستوى المحلي المليء بمكائد السياسات اليمينية التي يتم تحضيرها محلياً ولكن برعاية وتوجيه من سياسات وطنية ذات الأصول اليمينية المتعصبة.

وفي الوقت نفسه، تؤدي الهجمات اليمينية المتطرفة والخوف من الإسلام إلى ظاهرة الرهاب المزمن من الدين الإسلامي، ويرتبط ذلك بسياق ثقافي محلي. إنه يعكس تحولاً داخل التطرف اليميني بوجه عام، ومع إدانة العديد من الجماعات والأفراد – بما في ذلك بريفيك – للنازية والفاشية ومعاداة السامية، لكنهم لا يتورعون عن التعبير عن رغبتهم الدفينة في صيانة هويتهم الضيقة من الانهيار والتآكل نتيجة التهديد المتصور من خطر الإسلام على بنية المجتمعات الغربية الاجتماعية والديمغرافية‏[8].

في المقابل، فإن نسبة كبيرة من الإرهابيين «الذئاب المنفردة» انشغلوا فقط بالرمزية النازية الجديدة وأبطال ورموز التيارات اليمينية المتطرفة وأيديولوجياتها. ومع ذلك، هناك نقص نسبي في معالجة وتحليل التهديد الناجم عن التطرف اليميني في أمريكا الشمالية وأوروبا‏[9]. اعترف بافلو لابشين، وهو إرهابي يميني متطرف أدين بتهمة قتل محمد سليم، البالغ من العمر 82 عاماً من برمنغهام، بقتل هذا الأخير، لا لشيء إلا لأنه مسلم الديانة.

بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين اليمين المتطرف والتطرف الإسلامي من حيث النشأة والجذور الفكرية والأهداف والمآلات والخطط التكتيكية والاستراتيجية، فهما يتقاسمان الكثير من القواسم المشتركة، أهمها: الميكانيزمات المستخدمة من جانبهما لجذب اهتمام الضحايا وتمجيد الجهاد والقتل من خلال استغلال شبكة الإنترنت أو غير ذلك – فهي متشابهة جداً. كما هي الطريقة التي يكون بها شكلان من أشكال النشاط العنيف على هامش حركة أوسع كثيراً‏[10]. لا توجد «ذئاب منفردة»، على الأقل ليس بمعنى قاتل منفرد، من دون صلة أو وشائج تجمعه مع جماعة متطرفة، سواء كانت افتراضية أو حقيقية. ففي «بيان» نشره موقع هجوم كرايست تشيرش على الإنترنت، على سبيل المثال، ذكر فيه أنه ليس «عضواً مباشراً» في أي مجموعة أو منظمة، لكنه تفاعل واستلهم من هذه التيارات الكثير من أفكاره المتطرفة والمتعصبة حيث وصل به المطاف إلى قتل أبرياء بدم بارد في دور العبادة.

يشترك التياران معاً أيضاً في عنصر مشترك آخر هو الاعتقاد بأن «مقاومة» الاستبداد واجب. يقول مفكرون إسلاميون متشددون إنه يجب إطاحة الحكام أو الأنظمة الحاكمة المستبدة إذا وقفوا في طريق الحكم المستنير والمخلص. ينظر المتطرفون اليمينيون أيضاً إلى الحكومة كمضطهِد لمجتمعهم المتخيل، المعرَّف بـ «العرق» وأحياناً بالعقيدة، ويعتقدون أن هذه السلطة السياسية يجب التخلص منها ما دامت تعارض وجودهم كمجموعة بشرية لها أفضلية العيش والاستمرار في بلدانها الأصلية من دون السماح للآخرين والمهاجرين بالتمتع بنفس الحقوق والحريات.

يعتقد كل من الإسلاميين والمتطرفين اليمينيين أن مجتمعاتهم تواجه تهديداً وجودياً، وهذا يفرض التزاماً على الفرد لمواجهة هذا الواقع ومحاولة تغييره. بالنسبة إلى الإسلاميين، ومن الناحية التاريخية، فإن الاعتقاد السائد هو أن الغرب عمل على استغلال العالم الإسلامي لأزيد من 1000 عام، كما كرّس واقع الفرقة والشتات من خلال دعم الأنظمة الفاسدة في العالم الإسلامي للاستمرار في استغلال خيراتها وارتهان مستقبل شعوبها. وهذا ما يفسر موقفهم من الغرب ليس كفاعل حضاري وإنما كمستعمر ساهم في تمزيق الوطن العربي والإسلامي، وهذا ما يستوجب في نظرهم الجهاد.

تعدّ ردود الفعل على هجوم كرايست تشيرش بأستراليا من أعراض التطرف التراكمي المشترك بين الإسلام المتطرف واليمين الغربي المتطرف. كلا الأيديولوجيتين تتغذى على مثل هذه التصورات الإرهابية، وتستخدم بعض العمليات الإرهابية لإضفاء الشرعية على بعضها بعضاً وتعزيزها، من خلال تمسكها المشترك برؤية عالمية تتعلق بصراع الحضارات بين الإسلام والغرب. فالهجوم الإرهابي من جانب إحدى المجموعات يدعو إلى انتقام واستعداد المجموعة الأخرى لتوجيه ضربات مماثلة للتيار الآخر المختلف.

قد نعتقد بأن هاتين الأيديولوجيتين البغيضتين – التفوق الأبيض والإسلام المتطرف – متناقضتان كلياً، لكن وجهات نظرهما حول العالم تتشابهان إلى حد التطابق؛ فكلاهما مصاب بجنون العظمة، ويظهران مزيجاً ساماً من التفوق والإحساس بالغطرسة تجاه الآخر، وهم يحتقرون أفراداً أقل تطرفاً في مجتمعاتهم، ويحنّون إلى الماضي المتخيَّل للهيمنة الثقافية. هذه المنطلقات الشمولية التي ينطلق منها كل تيار، تجد أساساً لها في الطوباوية المتخيلة الراسخة في متنهم ومرجعيتهم الفكرية. فالجماعات الإسلامية، أخذت بفكرة الخلافة الإسلامية ودافعت عنها بقوة. وتتشابه هذه الجماعات في هذا المعطى، وتتداخل بينها على غرار أيديولوجيا الإخوان المسلمين والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. في المقابل ينحو اليمين المتطرف الغربي المنحى نفسه، لكن من منطلق إثني وديني مركب يمعن في احتقار الشعوب والثقافات الأخرى ويعدّها غير صالحة للتنافس، بل للتواجد جنباً إلى جنب مع أيديولوجيته وفكره وتاريخه وتفوقه الحضاري.

إن ازدراء الحداثة «الغربية» سمة أخرى يتقاسمها الإسلام المتطرف ومعتنقو أقصى اليمين. وقد أشار حسن البنا، الأب المؤسس للإسلام السياسي، في كتاباته، حسب ما تحدث عنه تارانت، أن الغرب أغرق العالم في الحياة المادية والرأسمالية المتوحشة، مع بث سمومهم للسيطرة والهيمنة على الدول الإسلامية التي تقع تحت سيطرتهم، وهو مقتنع بأن الغرب أصبح «مجتمعاً من العدمية المتفشية والنزعة الاستهلاكية والفردية». هذا الازدراء للعديد من جوانب الحداثة يترجم الرغبة التواقة إلى ماضٍ مفترض أكثر نصاعة وبياضاً، وحنينٍ إلى العظمة الإمبراطورية القديمة حين كان العالم تحت قيادة الإمبراطورية الأوروبية أو الخلافة الإسلامية بالنسبة إلى حركات الإسلام السياسي.

تزداد الهوة حدة في طريقة التعامل مع التطرف الإسلامي واليمين المتطرف من الأغلبية البيضاء والقومية الضيقة، حيث يناشد التطرف على غرار داعش أقلية صغيرة داخل المجتمعات الغربية. وحتى عندما تكون جاذبية أيديولوجيتها أكثر تناسباً داخل مجتمعات الأغلبية المسلمة، فإن الجاذبية تكون ضئيلة جداً في الدول الغربية. علاوة على ذلك، لا يمكن تخيُّل استمرار هذه التنظيمات الإسلامية المتطرفة لفترات طويلة، بالنظر إلى الجهود الدولية التي تبذل على نطاق واسع لمحاربتها وسحقها نهائياً.

في المقابل عندما يتعلق الأمر بتطرف اليمين والانتصار للقومية البيضاء، فإن التعاطف يكون أكبر كثيراً في المجتمعات الغربية من أي نوع من الأيديولوجيا المتعاطفة مع داعش. في الواقع حتى عندما نقارن الجاذبية التي تتسم بها أيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية في مجتمعات الأغلبية المسلمة، فقد نواجه مشكلة أكثر نسبياً مع تفوق التطرف الأبيض. ومع هذا لا يتم التعاطي مع التيارات القومية المتشددة بما يتناسب مع التهديدات التي تطرحها في المجتمعات الغربية‏[11].

يمكن أن نقارن هذا الأمر بكيفية مواجهة إشكالية الطائفية في العالم العربي والإسلامي، حيث إن الصراعات الطائفية في هذه المناطق الجغرافية، استهدفت من ضمن أهدافها المجتمعات الدينية غير المسلمة مثل المسيحيين أو الأيزيديين، وأودت بحياة الكثير من الأبرياء من هذه الأقليات، وتواجه حالياً بصرامة كبيرة من جانب الغرب. فحينما يتعلق الأمر بحقوق الأقليات غير المسلمة ينتفض الغرب ولا يهدأ له بال، في حين أن الخطاب الطائفي هدفه الرئيس هو التلاعب بجغرافية وديمغرافية أجزاء كبيرة في العالم الإسلامي، وتأثيره على المدى القريب والبعيد أمر لا يستهان به، بوصفه محركاً أساسياً لحالة الفوضى التي أصبحت ميزة أساسية لهذه الرقعة الجغرافية من العالم.

يكمن الفرق الأساسي في كيفية تعاطي الحكومات الغربية مع التطرف الإسلامي واليمين المتطرف. منذ عام 2001، تعاملت الحكومات في جميع أنحاء العالم مع التطرف الإسلامي بالكثير من الصرامة والجدية من خلال متابعة نشاطاته عبر الإنترنت، وقامت برصد ومتابعة مصادره التمويلية، وبحثت عن إرهابيين محتملين، وعملت عبر منصات التواصل على وقف انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة وتوقيف عملية التجنيد والاستقطاب غير المباشر التي تنهجها هذه الجماعات.

على النقيض من ذلك، لم تتعامل هذه الحكومات بنفس الجدية والصرامة مع الجماعات اليمينية المتطرفة، بل واصل العديد منها حملاته على الإنترنت مستعرضاً أفكار اليمين المتطرف المعادية للمهاجرين. على سبيل المثال لا الحصر، بعد عدة ساعات من العملية الإرهابية في نيوزيلندا، كان من السهل جداً العثور على الفيديو عبر الإنترنت ومنعه من التداول على نطاق واسع في مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، لكن تم التعامل بقدر كبير من التجاهل ومنطق تحقيق المكاسب التجارية وبث الذعر وتخويف الناس. ولم يتخذ الرئيس الأمريكي أي موقف مندد من القاتل، كما عبر سياسي أسترالي، عقب الهجوم، عن تأييده الضمني للقاتل وللهجوم على المسجدين. من جهة أخرى، هناك عدد قليل من البرامج الحكومية الخاصة لمحاربة الأصناف الأكثر تطرفاً لهذه الأيديولوجيا العنيفة، ولم يخصص إلا القليل من الوقت للتفكير في السبل الكفيلة بمواجهتها.

ويلاحظ بوجه عام، أنه عندما يتعلق الأمر باليمين المتطرف الغربي وهيمنة القومية البيضاء، يصبح خطاب التقليل من خطورته وتبسيط منطلقاته هو الخطاب السائد لدى الساسة ووسائل الإعلام الغربي. على سبيل المثال، وصفت صحيفة الديلي ميرور في المملكة المتحدة المجرم في حادثة كرايست تشيرش بنيوزلندا بأنه «طفل ملائكي» نشأ في بيئة عادية ليصبح إرهابياً فيما بعد. ووصفته صحيفة ديلي ميل الأسترالية بأنه «يافع في مدرسة الرعب» تحول بعد ذلك إلى قاتل جماعي – مبررة أنه عانى طفولة صعبة نتيجة شكله البدين، ما ساهم في انحرافه وإقدامه على قتل مجموعة من المسلمين في مسجدَي نيوزلندا أثناء تأديتهم صلاة الجمعة.

ندرك في الوطن العربي حجم تهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة، على غرار داعش والقاعدة، حيث كان المسلمون بوجه عام الضحايا الرئيسيين لهذا النوع من التطرف. لكن المتطرفين في هذه التنظيمات، لا يمكنهم تصور قلب موازين الغرب وتهديد بُناه وأنظمته الدستورية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بغض النظر عن النيات والرغبات والمشاريع المرتبطة بتيارات فكرية متطرفة كهذه. يمكن وصف التهديد الوجودي‏[12] الذي يمثله اليمين المتطرف على أمن واستقرار الدول الغربية، بعد الحادثة الفظيعة التي تعرض لها مسلمون في مسجدَي نيوزيلندا، بأنه الأخطر في نوعه من الناحية العملية ويجب التعامل معه بالمزيد من الجدية والتبصر والمتابعة الأمنية والإعلامية، ومحاولة تفكيك هذا الخطاب العنصري الذي يبني أسس وجوده على النعرات الضيقة وعلى بناءات عنصرية تضرب التعايش والتسامح في الصميم.

 

1 – السياق البنيوي والثقافي

لقد أصبحت هذه الهجمات التي يشنها اليمين المتطرف، وانتشار الإسلاموفوبيا، تعكس تحولاً حقيقياً داخل منظومة التطرف اليميني الغربي بوجه عام. وشمل هذا التحول العديد من الجماعات والأفراد. رغم إدانة المتطرف النرويجي أندريس بريفيك، منفذ اعتداءَي أوسلو وأوتويا‏[13] بالنرويج في 22 تموز/يوليو 2011، اللذين أوديا بحياة 69 شخصاً، للنازية والفاشية ومعاداة السامية، فهو لخّص قضيته ودوافعه الإرهابية في الدفاع عن الهوية التي ينتمي إليها ضد التهديد الذي يمثله الإسلام على المجتمعات الغربية.

لقد شهدت مجتمعات واقتصادات أوروبا الغربية تغيراً عميقاً منذ إلغاء القيود المنظمة للقطاع المالي وهيمنة خصخصة المرافق العامة والليبرالية الاقتصادية التي بدأت في حقبة الثمانينيات‏[14]. وقد أدى ذلك إلى العديد من التداعيات على صعيد تغيير الخريطة الهوياتية للشباب، وبخاصة في المناطق الحضرية‏[15]. غالباً ما يُغفل واضعوا السياسات الحضرية والعمرانية الظروف السيئة التي يواجهها سكان المناطق الهامشية من المجموعات المحرومة، «الطبقة الدنيا»، فهي مناطق لمجتمعات متنوعة متجانسة مع بعضها وغير مندمجة مع النسيج المجتمعي الغربي بوجه عام‏[16].

إن التمايزات العرقية التي تم اعتمادها بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت على تجميع الأقليات في مناطق حضرية معينة للاستفادة من رأس المال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وفي الوقت نفسه، فإن التركيز المكاني للأغلبية المهمشة المحرومة يمثل فرصة أيضاً لحماية إرث وتاريخ المجموعة وقيمها المرتبطة بهويتها الثقافية والحضارية. في ضوء السياسات الحالية، يتصور وجود تهديد حقيقي للخطاب الليبرالي والديمقراطي السائد من جانب هذه الجماعات الغاضبة على طبيعة الأنظمة الغربية المفتوحة التي ضيقت، حسب أنصار هذا التيار، المجال عليهم وأولويتهم في الحصول على فرص اقتصادية وظروف اجتماعية أفضل. كما أن أغلبية المجتمعات المنغلقة من الأغلبية البيضاء تعاني أيضاً المآزق التي تؤدي إلى التطرف والتطرف العنيف، لكن الخطابات الإعلامية والسياسية تركز بصورة أقل على مثل هذه الجماعات، وهذا يؤدي إلى تخطي النقاش على نحو مقصود وتوجيه سهام النقد إلى جماعات الإسلام السياسي‏[17].

أثرت مرحلة ما بعد نهاية الحقبة الصناعية وتصاعد الاقتصاد العولمي‏[18] في الأقليات المسلمة داخل مدن أوروبا الغربية، كما ساهمت هذه المخاوف في شعور الساكنة الأصلية بالإحباط والتذمر نتيجة ما وصلت إليها وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية المتردية. على سبيل المثال، يمكن وصف احتجاجات أصحاب السترات الصفر في فرنسا، بمنزلة رد فعل على السياسات الفرنسية الفاشلة في الحفاظ على مكاسب الطبقة المتوسطة التي أصبحت عاجزة عن الاستفادة من دولة الرفاه الاجتماعي. بدافع الحنق والتذمر قد يلجأ البعض من الغاضبين إلى أقصى اليمين السياسي، وقد يجد في أطروحتهم المبجلة للذات الأوروبية بعض العزاء في انهيار وضعهم الاقتصادي والاجتماعي‏[19].

بوجه عام، ليس هناك نقاش عميق غربي لتحليل العلاقة بين اليمين المتطرف والجماعات الإسلامية الراديكالية. من شأن تغيير بوصلة التفكير نحو هذا الاتجاه العقلاني، من وجهة نظر أكاديمية، أن تساعد على اكتشاف أوجه التقارب والتشابه بينهما، كما يمكن الاستنتاج أنهما يلتقيان حتماً في نوعية النواتج الناجمة عن تداعيات التطرف العنيف‏[20]. في الواقع، في الفترة ما بين 1970 و2012، لم ينفذ المتطرفون الإسلاميون سوى 2.5 بالمئة فقط من جميع الهجمات والعمليات الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية، بالمقارنة بعدد العمليات التي قام بها المتطرفون اليهود والمسيحيون. أي أن أكثر من 90 بالمئة من جميع الهجمات نفذها مواطنون من أصول غير مسلمة‏[21].

إن التمييز بين الأغلبية من البيض والقومية البيضاء والأقلية المسلمة يتم تعريفه من خلال الفروق في الهوية على المستويين المحلي والعالمي. وهذا ما يكشف نوعية الصراع التي تعتمل داخل كلا المجموعتين في صورة صراع شديد من أجل إثبات ذاتها في المجتمع. وعلى خلاف إثبات الذات، فإن التطرف الإسلاموي يستهدف البحث عن هوية بديلة «أكثر نقاء»‏[22] على الرغم من أن كلا المجموعتين أحدثت العديد من التأثيرات السياسية على المستوى المحلي والدولي، لكن نجاحاتها الانتخابية لم تكن لها أهمية تذكر حتى وقت قريب‏[23]. ويتمثل المؤشر الأكثر وضوحاً في تصويت المملكة المتحدة عن اتفاقية البريكسيت، والذي كان جزئياً مدفوعاً بالخطابات السلبية حول الهجرة واللاجئين ومسائل الهوية السياسية الوطنية‏[24].

2 – صراع الهويات الاجتماعية وجغرافية المكان

على المستوى الفردي، يمكن لمختلف العوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والهيكلية أن تجعل من تداخل وازدحام الهويات موضوعاً إشكالياً ومعقداً بامتياز، انطلاقاً من حاجة الأفراد إلى الرغبة في الارتقاء الاجتماعي وتحقيق الذات من خلال فقاعات هوياتية متضخمة. وهذا ينطبق على كل من الأقليات المسلمة وفئة من الطبقة العاملة البيضاء. داخل كل من هذين التيارين، تناسلت مخاوف متعددة حول خطر التعددية الثقافية وتضارب الهويات الثقافية والدينية. كما أن فقدان الأمل واليأس في تحقيق مستقبل أفضل ساهم في سقوط هذه الفئة بسهولة في براثن التطرف والانحراف والجريمة، وبأن تكون أكثر من غيرها عرضة للمخاطر والتأثيرات الخارجية المتعاظمة.

مع مستوى تعليمي متدن وفرص عمل محدودة بسبب تعاظم كل أنماط الاستعلاء المعيبة المكرسة للتمييز والمحسوبية، يواجه مختلف الشباب في المناطق الهامشية بالمراكز الحضرية الكبرى بأوروبا مستقبـلاً مجهولاً وغامضاً، كما يواجهون العديد من التحديات في ظل انسداد الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدان الاستقبال‏[25].

جدير بالذكر أن هذه المخاوف تؤثر في الشباب من جميع الخلفيات الثقافية والدينية. كما أن جزءاً من أسباب تطرف شباب الجيل الثالث من مسلمي أوروبا والشباب اليميني المتطرف هو الجانب المتعلق بمدركات الهيمنة الذكورية في سياق الانفصال عن الأجيال السابقة، إضافة إلى انعدام الأمن الاقتصادي‏[26].

أصبح الانعزال أيضاً من مميزات مجتمعات الأقليات ذات السمات الثقافية الخاصة. حيث أظهرت العديد من الدراسات وجود السلطة الأبوية لدى الآباء الباكستانيين والأتراك وهي وجه من وجوه الهيمنة على الأسرة‏[27]. وهذا يشمل السلطة على الأبناء الذين يجسدون بدورهم أنماط الرجولة المهيمنة داخل الأسر، وهذا قد يؤدي إلى مزيد من الانفصال بين الآباء وأولادهم. هذه السلوكيات مستمدة أساساً من منطلقات إسلامية وثقافية تعلي من شأن الرجل والثقافة الذكورية في المجتمع.

بالرغم من ذلك، فإن هؤلاء الآباء أنفسهم يتعرضون للعنصرية والتهميش في مواقع عملهم، كما تعاني هذه الفئة مضايقات وتهميشاً من جانب القوى المتحكمة في سوق العمل. تواجه الأقليات المسلمة عقوبات إثنية ودينية في العديد من الوحدات الإنتاجية، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص، وهو ما يؤثر أكثر فأكثر على مستوى الدخل الاقتصادي‏[28]. ويؤدي التردّي الاقتصادي بدوره إلى تزايد الشعور بالاضطهاد لدى الرجال من أصول مسلمة. وبالتالي تعيش هذه الفئة الاجتماعية في تناقض صارخ بين الشعور بالذكورة المتضخم داخل الأسرة والإحساس بالدونية الممارس من جانب المحيط المهني والاجتماعي.

لمعالجة مشاكل التطرف الإسلامي، حددت الحكومات الغربية «المجتمعات الإسلامية» كأكثر المجتمعات هشاشة و«عرضة» للتطرف مقارنة بالمجموعات الأخرى. لذلك ينظر إلى الجماعات الإسلامية بوصفها المجموعة المستهدفة الرئيسية للاستفادة من برامج مواجهة التطرف العنيف (Countering Violent Extremism (CVE))، حيث تغيب عن معظم هذه البرامج في المملكة المتحدة مثـلاً الإشارة للجماعات اليمينية المتطرفة التي تظل غائبة بصورة خاصة عن خطاب المنع والتحذير والمواكبة والمعالجة، على الرغم من أن العديد من الشواهد اليومية تؤكد ارتفاع دورها في تفريخ الإرهاب وتعويم العنف المباشر وغير المباشر.

تركز هذه البرامج عموماً على إعادة الإدماج المجتمعي، ووضع آليات جديدة تكرس قيم المرونة والاعتدال والمشاركة في الشأن العام، كما تم التشديد على الحفاظ على تماسك المجتمع من خلال «القيم المشتركة». لكن أبدت العديد من الأقليات مقاومة شرسة إزاء مجموعة من البرامج المشابهة باعتبار التوظيف السياسي المقصود من هذه السياسة التدخلية. كما ينظر إليها البعض بوصفها محاولة لنزع الشرعية عن نقد السياسة الداخلية مع الحفاظ على الوضع الراهن في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وتتجاهل الغياب التام للسياسات الداخلية القادرة على إدماج هذه الأقليات العرقية.

ترتبط ظاهرة «تغيير منحى التطرف» بين المجموعات البيض بنقص كبير في ترسيخ قيم المجتمع، أو ربما تبنّي الإسلام من جانب بعض الشباب الغربيين كطريقة لرفض الواقع وكنوع من أنواع التمرد‏[29]. يبدو أن صراع الأجيال له أهمية أيضاً داخل السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إضافة إلى الشعور بالاغتراب الذي هيمن على مجموعة واسعة من المجتمعات بسبب التحولات السياسية والدينية والثقافية التي حدثت في ضوء التطورات التي شابت التفكير والممارسة في قضايا التعريب والعولمة.

في خضم التحديات المادية التي تواجه الشباب في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، تنشأ مخاوف خاصة حول فرط الذكورة وفرط النشاط الجنسي (التركيز المفرط على النشاط الجنسي)‏[30]. يشير هذا الخوف إلى التوقعات غير الواقعية التي يتم تداولها لدى الشباب وارتفاع منسوب الخوف والإحساس بعدم الأمان في المستقبل، بدلاً من الانتقال السلس من الشباب إلى مرحلة البلوغ. وفي هذا الصدد، يواجه «الجهاديون» ومتطرفو أقصى اليمين تحديات متماثلة، حيث توجد اختلافات في الدين والثقافة في ما يتعلق بـ «الآخر»، وهي مشكلة تخضع للكثير من التسييس والمزايدات السياسوية. كما أن الإحساس المتضخم بالذكورة‏[31] يقلل من ثقة الشباب في صناعة مستقبلهم ويتم دفعهم في المقابل لإثبات ذواتهم والحصول على التقدير مهما كلفهم الأمر، وربما يؤدي بهم الوضع في النهاية إلى اعتناق أفكار متطرفة تذهب بهم للبحث عن البطولة وعن نماذج مثالية في نظرهم اتخذت من العنف مسلكاً لها لإثبات الذات، بدل الحرص على الارتقاء الاجتماعي بالسبل المشروعة‏[32].

ثانياً: فهم جذور التطرف: الطريقة المثلى لمواجهة الإرهاب

لا يمكن أن نتجاهل دور التمثلات القومية المتطرفة وأشكالها العنيفة ذات الدوافع السياسية – التي تشمل العنصرية ومعاداة السامية ومناهضة الهجرة والمشاعر المعادية للحكومة – في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا من بين بلدان أخرى لعدة عقود. مع فارق بسيط أنه في الماضي كانت هذه الأعمال العنيفة تتم بطريقة معزولة ومتقطعة، أو ما يسمى دورات متقطعة أو مؤقتة للعنف. لكن الوتيرة ارتفعت في السنوات الأخيرة أكثر فأكثر. ويعزى هذا الأمر إلى وسائل الاتصال المتطورة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت قادرة اليوم على توحيد الأفراد الحانقين على السياسات في بلدانهم ​​والرافضين للواقع في رؤية أكثر تماسكاً أيديولوجياً، والتي تعمل كمنصة لتصريف أعمال العنف الخبيثة وتسهم في الترويج لهذه الأفكار وإقناع العديد من الشباب بجدوى التغيير من طريق العنف بدل استخدام الوسائل السلمية والحضارية.

على سبيل المثال، عندما طُلب من وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة تحديد أخطر تهديدات المتطرفين العنيفين التي واجهوها في ولاياتهم القضائية، أشاروا إلى خطر المتطرفين اليمينيين والمناهضين للحكومة؛ وفي المرتبة الثانية تأتي السلفية الجهادية. ولكن بالنظر إلى ظهور القومية البيضاء العنيفة والتطرف اليميني المتطرف، وقوة منصات الاتصالات في القرن الحادي والعشرين، فإن التهديد يتطور بسرعة بالغة ويحتاج إلى فهم عميق وحلول عاجلة.

يتعين على السلطات الأمنية في الدول الغربية أن تكون على دراية تامة بالتطورات المتعلقة بمجال التطرف وأدوات التجنيد، وسهولة تبادل المعلومات المتعلقة بالعمليات والهجمات، والمؤشرات التي يمكن أن تسهل التدخل والوقاية وإحباط الحوادث الإرهابية المؤسفة في المستقبل. هناك حاجة إلى المزيد من تبادل المعلومات الاستخبارية والتدريب والتعليم لمواكبة هذا التهديد المتحرك والمتحول.

ثالثاً: هل من استراتيجية شمولية لمواجهة اليمين المتطرف؟

من خلال الاطلاع على الاستراتيجية الأوروبية لمحاربة الإرهاب التي اعتُمدت في مجلس الاتحاد الأوروبي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2005 يمكن فهم الآليات الأوروبية الكفيلة بمواجهة الإرهاب وحماية ضحاياه في جميع صنوفه ومظاهره، بالتشديد على سيادة القانون ومنع انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز الإثني والوطني والديني، والإقصاء السياسي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي ونقص الحكم الرشيد، إدراكاً لأن أي نقص في هذه الشروط لا يمكن أن يبرر أعمال العنف والإرهاب‏[33].

ومن التدابير الأساسية التي تم اعتمادها تشمل الإشكالات التي تهم محاربة الإرهاب والكراهية ضد الإسلام: مواصلة التعاون والتنسيق تحت رعاية مبادرات منظمة الأمم المتحدة وبرامجها لتعزيز الحوار والتسامح والتفاهم بين الحضارات والثقافات والشعوب والديانات، وتعزيز الاحترام المتبادل ومنع تشويه الأديان والقيم الدينية والمعتقدات والثقافات. ومن بين هذه المبادرات مبادرة تحالف الحضارات تحت رعاية الأمم المتحدة لتعزيز ثقافة السلام والعدالة والتنمية البشرية والعرقية والوطنية والتسامح الديني، واحترام جميع الأديان والقيم الدينية والمعتقدات والثقافات، ووضع برامج التثقيف والتوعية العامة وإشراك جميع قطاعات المجتمع. في هذا الصدد، تؤدي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة دوراً رئيسياً في هذا الموضوع من خلال تشجيع الحوار بين الأديان وبين الحضارات‏[34].

لتنفيذ هذه الاستراتيجية، أُنشئت مجموعات عمل ضمن «فرقة عمل مكافحة الإرهاب» وأحدها هو الفريق العامل المعني بالتطرف. وهو نهج إيجابي لاستخدام مفاهيم محايدة تميز مثـلاً بين «التطرف غير العنيف والتطرف الذي يؤدي إلى العنف» غير المرتبط بأي دين أو معتقد، وذلك حسب تقارير منظمة الأمم المتحدة ووثائقها. وهذا النهج يجب أن يكون نموذجاً تقتدي به الاستراتيجيات الوطنية. لكن ما يميز هذه الاستراتيجيات الدولية والوطنية هو المقاربة العمومية وعدم الإشارة إلى خطر التطرف اليميني في الدول الغربية، كما لا تشير إلى موضوع صراع الحضارات كما تم الترويج له في وقت من الأوقات.

إن الاستخدام المقصود للإسلاموفوبيا كفكرة جديدة – قديمة لمضاعفة الرهاب والخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، هو الخطاب السائد في الغرب، الذي يمثل تهديداً للحوار بين الحضارات والتعاون والتناغم والتعددية الثقافية وثقافة العيش المشترك. وهو كما يبدو خطاب يقوم بخرق سيادة القانون ولا سيما قانون الحريات العامة وحقوق الإنسان، وذلك بسبب الأفعال التمييزية والعنف. في هذا السياق، من الضروري أن يستخدم الساسة في الغرب ووسائل الإعلام لغة مناسبة في الساحة الوطنية والدولية على حد سواء لمنع انتشار فكرة كراهية الإسلام وعدّه المصدر الحقيقي للتطرف والعنف وما ينطوي على هذه المقاربة من تهديد للسلام المدني والأمن الداخلي، والاستقرار الدولي والإقليمي. كما أن تعميم الخطاب الذي قد يشعل المشاعر المعادية للإسلام في وسائل الإعلام والجمهور، يسهم في ارتفاع الأصوات العنصرية وكره الأجانب ويمثل عائقاً حقيقياً في سياق المعركة ضد الإرهاب‏[35].

ومع ذلك، فإن ربط الإسلام – الذي يحظر أي نوع من أنواع العنف والعدوان ويدافع عن الرحمة والتسامح – بالإرهاب والعنف ومعاملة جميع المسلمين كما لو أنهم إرهابيون محتملون لمجرد أن منفذي هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر كانوا مسلمين، هو موقف غير عادل ومهين للإسلام والمسلمين، ذلك أن العالم الغربي المسيحي الذي يعرّف الإسلام بالعنف والإرهاب يجب ألّا ينسى الماضي الغربي الدموي الذي اتسم أولاً وأخيراً بالاستخدام المفرط للعنف، وفرض الاستعمار بالقوة، وشن الحروب الصليبية. ويفرد الأكاديمي الأمريكي آرثر ف. بوهلر وجهة نظر متميزة حول هذا الموضوع حين يقول إن «الخوف من الإسلام هو مظهر نفسي لتاريخ الغرب الطويل المتمثل بإنكار احتكاره للعنف الممارس على الإسلام والمسلمين»‏[36]. إنه خوف لا أساس له من الصحة، وهو غير موجود في الواقع، بل ينطوي على إسقاط نفسي يبتغي صنع «الآخر» كعدو. هذه الظاهرة هي آلية الدفاع النفسي التي تنطوي على إسقاط ما يشير إليه بـ «الجانب المظلم للغرب» تجاه الإسلام وأتباعه.

من الواضح أننا نحتاج إلى استراتيجيات فعّالة ومتكاملة على الصعيدين الدولي والوطني. تناقش الاستراتيجيات الدولية الحالية الإرهاب بوصفه مشكلة عامة، كما تعالج هذه الاستراتيجيات ظاهرة الإسلاموفوبيا على نحو غير مباشر من خلال الإشارة إلى حوار الحضارات. علاوة على ذلك، لا تشتمل هذه الاستراتيجيات على عبارات واضحة تشجع الحوار بين الحضارات وبين الثقافات لدعم المعركة ضد الإسلاموفوبيا. من ناحية أخرى، ينبغي على الاستراتيجيات الوطنية أن تبني هيكلها وآليات عملها على الاستراتيجيات الدولية؛ لكنها، وبشكل مقصود، غالباً ما تحسب التنظيمات والهيئات والجماعات الإسلامية التهديد المحتمل للمجتمع الدولي في سياق الحرب على الإرهاب، كما تستخدم مفاهيم تربط الإسلام بالعنف. مثل هذه الاستراتيجيات تفشل في دعم الحرب ضد الإسلاموفوبيا، حيث تستخدم الاستراتيجيات الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والسويد مصطلح «رهاب الإسلام» في وثائقها المتعلقة بالاستراتيجية الوطنية‏[37].

إن العلاقة بين الإسلاموفوبيا والإرهاب لها بعدان أساسيان: الأول يكمن في دفع المسلمين إلى التطرف، مثل العنف بسبب التمييز والعزلة والإقصاء الاجتماعي؛ وهذا البعد يجد لنفسه مكاناً في الاستراتيجيات الوطنية والدولية لمكافحة الإرهاب، ويتعامل مع الجوانب الوقائية بكثير من الاستخفاف. أما البعد الثاني فيتعلق بردود أفعال الناس إزاء ظاهرة العنف تحت تأثير الدعاية المعادية للإسلام والمسلمين أو في بعض الأحيان ضد أولئك المتهمين بالتسامح تجاه المسلمين.

لا يمكن حل مشكلة الإرهاب وكراهية الإسلام ما لم يؤخذ بعين الاعتبار البعدان الأول والثاني والتشديد على هذا البعد في سياسات مكافحة الإرهاب. لذلك، فالبلدان التي تواجه التهديد الإرهابي ملزمة باتباع نهج موضوعي تجاه قضية الإرهاب وتطوير وتنفيذ سياسات شمولية ومتكاملة وفقاً لذلك. في هذا الصدد، نؤكد أن العنف والإرهاب لا يرتبط بأي دين أو جماعة عرقية وأيديولوجية، والقيم الخاصة بالجماعات الدينية. إن الفهم العميق لأبعاد التطرف وماهيته ومآلاته وتداعياته، سوف يسهم في نسف الشروط والبيئة المؤدية إلى تبنّي خطاب الكراهية ضد الدين الإسلامي وعدّه البعبع الذي يهدد سلامة وأمن المجتمعات.

في الحقيقة، إن الفهم العميق لجذور التطرف وتصميم وإرادة الدول الغربية لمواجهة الظاهرة بكل وجوهها وأشكالها، من دون تمييز أو استثناء، هو المفتاح الحقيقي لإدراك الغايات القصوى لهذه الاستراتيجيات. وبينما تسعى الدول الغربية لإشراك الدول الإسلامية في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، فإنه على المستوى نفسه من التصميم والإرادة، يجب أن تبذل الجهود ذاتها، وتسخر تلك الإمكانات لمواجهة الإسلاموفوبيا. النجاح في هاتين المسألتين سيمهد الطريق إلى الاستقرار والسلام والأمن وسيادة القانون على المستوى المحلي والإقليمي والدولي‏[38].

خلاصة

في النهاية، اليمين المتطرف الغربي وتطرّف الإسلام السياسي، هما وجهان لعملة واحدة، حيث إن الحد من أحدهما سيقلل من فعالية ودينامية وخطورة الآخر بصورة كبيرة. كلا التيارين يتشابهان في العديد من الجوانب المهمة كتمجيد الذات واستخدام العنف لإقصاء الآخر المختلف، ويتغذى خطاب كل واحد منهما من خطاب الآخر. في حين يسعى التوجه الغربي الرسمي إلى نهج سياسة التفرقة والتمييز في تعاطيه مع الاختلافات المجتمعية التي تعتمل داخل المجتمعات الغربية عبر بوابة الصراعات الإثنية والدينية وإثارة النزاعات الهوياتية لتحقيق أجندته السياسية، وهو ما يفسر وجود ازدواجية غربية تحارب التطرف وتستخدمه في ذات الوقت لأهداف سياسية. إن الفهم الأكبر للروابط والتفاعلات الخاصة بالجماعات المتطرفة وبُناها وأبعادها، أمر حاسم وضروري للمضيّ قدماً في معالجة الظاهرة، والتمكن من محاصرتها، من خلال توفير الظروف المناسبة للتعايش والتسامح بين كل الأفراد تحت سقف المواطنة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وتوفير فرص اقتصادية مناسبة.

 

قد يهمكم أيضاً  الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في أوروبا: مقاربة سوسيوثقافية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اليمين_المتطرف #التطرف #الجماعات_الإسلامية_المتطرفة #دراسات