انطوى اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الذي انعقد في مطلع شباط/ فبراير 2022، على واحدة من المفارقات، إذ طالب السلطة الفلسطينية في رام الله، راعية الاجتماع، بوقف التنسيق الأمني، أي مبرر وجودها نفسه، فضلًا عن سحب الاعتراف بـ “إسرائيل” وهو مطلب انتحاري للسلطة القائمة. ليست هي أول مرة التي يجود بها المجلس المركزي بمثل تلك التوصيات النارية، فلطالما زخرت اجتماعاته السابقة بنصوص لا تقل “ثورية” عمّا جاء في بيانه الأخير، من دون أن يتم تفعيلها أو البدء في تنفيذها منذ سنوات. إلا أن المفارقة الجديدة تطرح إشكالية المشروع الوطني الفلسطيني بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا على قيام سلطة أوسلو، في ظل الانقسامات الكبيرة، وأزمة القيادة العاجزة التي تسيطر على الحركة الوطنية الفلسطينية، وتقزيم وظيفة السلطة إلى حدود التنسيق الأمني مع إسرائيل.

وتظهر المراوحة فلسطينيًا، أكثر ما تظهر، في غياب أي نقاش حقيقي في مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، وفي انفراد حركة “فتح” والرئيس محمود عباس من خلفها، بتنظيم عملية انتقالية لسلطة الرئيس، من خارج أي عملية انتخابية غير مضمونة النتائج، وفرض شخصية تتلاءم مع متطلبات الأمن الإسرائيلي. ولكي تصبح قضية الخلافة قضية القضايا فلسطينيًا، صار معهد الأبحاث القومي الإسرائيلي، العقل الاستراتيجي الأقرب إلى مراكز صناعة القرار في كيان الاحتلال، داعية من دعاة العمل على تنظيم المرحلة الانتقالية في خلافة الرئيس عباس، كون هذا الموقع هو حجر الزاوية في التنسيق الأمني، وأحد هياكل الأمن القومي الإسرائيلي. ومن المفارقات أن أحدًا في الجانب الفلسطيني الرسمي لم يتحدث صراحة عن أي عملية لاستخلاف أحدٍ من فريق “أوسلو” في رام الله. تاريخيًا اقتصر اجتماع مركزية فتح على مبايعة الرئيس عباس وترشيح حسين الشيخ وريثًا لمقعد الراحل صائب عريقات في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. أما “خبراء” القضايا الفلسطينية في الإعلام ومراكز الأبحاث الإسرائيلية فقد تكفلوا بتقديم رؤية أكثر واقعية لصعود الشيخ، جاعلين الحدث لحظة انطلاق خلافة عباس، وتطويب حسين الشيخ ثالث رؤساء السلطة، أقرب إلى حقيقة يروّجون لتصديقها.

أي صفات لخليفة عباس

يستدعي الأمر لأول مرة الحديث عن خلافة الرئيس محمود عباس بصورة أوضح مما كانت عليه في الماضي بين أبواب مواربة، من خلال وضع الرجل الأقرب إلى “إسرائيل” على منصة خلافة الرئيس. ففي الوقت الذي يقترب محمود عباس من استنفاد عامه السابع والثمانين، تتآكل شرعيته الدستورية والشعبية مع ترحيلين متتاليين للانتخابات، وانقلاب السلطة من مؤسسة تمثيلية سياسية، إلى مجرد إطار أمني يعمل على تثبيت الاحتلال ونتائج أوسلو، وتسهيل التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وتأبيده في المنطقة (ج)، وربط كتله الكبرى في قلب الضفة التي باتت تضم 600 ألف مستوطن، وفصل شمالها عن جنوبها، وهو ما أفضى إليه رميم مشروع السلطة بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، ووظيفة أي خليفة سيأتي فوق دبابات التنسيق الأمني.

نزل اجتماع المجلس المركزي كضربة معول تمهّد الدرب أمام الخيار الإسرائيلي من خلال وضع حسين الشيخ على منصة الخلافة وتعيين أحد مهندسي التنسيق الأمني (منذ عام 2007) أمينًا لسر التنفيذية. فالتضحية بالوحدة الوطنية، والدَّوس على دعوات التأجيل لانعدام توافر نصاب تمثيلي وازن، ليس بالخسارة الجليلة لدى القائمين على هذا السيناريو في رام الله وتل أبيب. ولا يقتصر الأمر على رمزية انتقال القرار في رام الله من يد جيل الشتات إلى يد جيل نشأ وانتفض في الداخل، قبل أن ينغمس في وحول التنسيق الأمني.

يتجاوز هذا الحدث بدلالاته المعانيَ الرمزيةَ لغروب جيل وصعود جيل آخر، إلى دخول الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة إضافية منذ أن بادلت في “أوسلو” سلاحها برهان على حل الدولتين الذي لم يعد مطروحًا على جدول الأعمال الإسرائيلي، في حين لم تبلور القيادة الفلسطينية أي مشروع بديل، مكتفية بالرهان الوهمي على تغيّر الموقف الأمريكي.

وفي سياق العملية الانتقالية التي يتم تنظيمها، إذا ما واصل الرئيس عباس الإشراف عليها، فإن مرحلة جديدة ستتهيّأ لمشروع أوسلو ستُدمَج السلطة في رام الله خلالها بمنظومة الأمن الإسرائيلي رسميًا، عبر أحد رموز هذه السلطة حسين الشيخ، الذي تَرجَح كفته حتى الآن. كما يوفر هذا السيناريو انتقالًا سلسًا للسلطة بين أجنحة «أوسلو» والتنسيق الأمني وعدم المخاطرة بخروجها عن السيطرة إذا ما تُرك الأمر للناخبين وحدهم.

منذ أن أغلق الرئيس عباس مزدوجَي الانتخابات الرئاسية في نيسان/أبريل من العام الماضي، بحجة منع الاحتلال فتح صناديقها الأربعة أمام المقدسيين بحسب نص اتفاق أوسلو، وتفاديًا لهزيمة متوقعة أمام الأسير الفلسطيني الأشهر، وقائد كتائب شهداء الأقصى، مروان البرغوثي الذي تصدر الاستطلاعات، يبدو أن تحييد الأخير هو الهدف الأول لما يجري. اختار الرئيس، ومعه “إسرائيل” هذه المرة، طريقًا التفافيًا لقطع دروب رام الله، والحرية أمام من تحوَّل لأسباب متباينة إلى عدوهما المشترك.

أين وكيف بدأ مسار العملية الانتقالية؟

ليس إقدام محمود عباس على إصعاد رئيس هيئة تنسيق الشؤون المدنية إلى اللجنة التنفيذية، حسين الشيخ، عمليةً منزوعة الجذور عن سياق طويل لتعزيز قوة أحد ضلعَي البنية الأمنية الإسرائيلية في إدارة الحكم الذاتي إلى جانب اللواء ماجد فرج، وجزءًا لا يتجزأ من هيكليتها الأمنية التي تتولى احتواء المقاومة ومعاضدة الأجهزة الإسرائيلية في مطاردة معارضة أوسلو وتثبيتها على ما تبقى من أرض تقوم عليها سلطة فلسطينية ما. ويقترن تفضيل “إسرائيل” لوزير هيئة الشؤون المدنية على مدير الاستخبارات وذراعها الأمنية الضاربة، امتلاك الأول شرعية تنظيمية أكبر، وشبكات مدنية خدمية أوسع، يتوسط فيه للعبور إلى “إسرائيل” لأكثر من مئتي ألف عائلة فلسطينية، بين رسمي وغير رسمي، ويشرف على المقاصّة واسترداد الرسوم من “إسرائيل”، التي باتت تمثل وحدها عصب حياة الحكم الذاتي وأكثر من 90 بالمئة من موارده، وورقة “إسرائيل” الأقوى للّعب في مؤسسات السلطة.

وفي إطار هذا السيناريو انتظمت أولًا العملية الانتقالية عبر خطوات متباعدة زمنيًا، ولكنها بدت مترابطة عضويًا للإمساك بكل مراحلها بدءًا من: (1) ترحيل الانتخابات بشقَّيها التشريعي والرئاسي، للقضاء على أي تحالفات تعيق العملية الانتقالية كما رسمها التنسيق الأمني، وكسب الوقت لإنضاج مرشح من داخل المحور الإسرائيلي في الحكم الذاتي، أوسلو؛ (2) تجديد البيعة لمحمود عباس؛ (3) حصول تفاهم انتخابي بين محمد دحلان وما يمثله من شبكة علاقات عربية خليجية وخبرات أمنية، وبين مروان البرغوثي وشرعيته الثورية؛ (4) إجراء تغييرات عميقة في بنية «فتح» بتعديل لوائحها الداخلية، لتكريس سيطرة فريق أوسلو، وعزل الكتل المعارضة،  وتحييد المنافسين المحتملين واحدًا بعد الآخر والاستفادة من الصراعات فيما بينهم؛ (6) إضعاف ما تبقى من تيار مروان البرغوثي وما يمثله من شرعية ثورية.

 هل يبكر الإسرائيلي وإدارة الحكم الذاتي في فتح معركة الخلافة؟

يمثل حضور عباس في ترتيبات الخلافة ضمانة كبيرة لإنجاحها، ذلك بأن غيابه المفاجئ قبل استكمالها، والإمساك بكل مفاصلها، قد يؤدي إلى قلب الطاولة على أصحابها، وإلى فرملة حسين الشيخ. وينتاب هذا السيناريو هنات متعددة. ذلك أن مجرد خروج الرئيس عباس من المشهد مبكرًا، سينسف كل التفاهمات والتعيينات التي أجرتها مركزية فتح، التي لن يصعب عليها الرجوع عن قراراتها مع غياب عباس. فهل ينجح الضغط الإسرائيلي للتسريع بالعملية الانتقالية استباقًا لمعركة ما بعد الغياب ونشوء معارضة كبيرة حتمية لمرشحها التي لن يكفي تعيينه في التنفيذية لتكريسه رئيسًا؟ وهل الذهاب مبكرًا إلى فرض خليفة من التنسيق الأمني رئيسًا لإدارة الحكم الذاتي، يستهدف كسب الوقت لإقناع المعارضين به، أو إحداث فرز يسهل فيما بعد، ومواجهة من يرفضون تعيينه؟

إن استكمال العملية يرتبط ببقاء الرئيس في المقاطعة مهما طال أمدها، وقبوله ربما بالاستقالة لتسهيل الخلافة، وهو الحلقة الأضعف في العملية، لاستبعاد أي سيناريو للاستقالة لدى من خبِروا محمود عباس. ولن يكون يسيرًا وصول حسين الشيخ إلى المقاطعة فوق دبابات التنسيق الأمني. فلو حدث ذلك بمجرد خروج عباس من التحكيم بين الأجنحة الفتحاوية، ومراكز القوة فيها، فإن السيناريو المرجح هو غرق الضفة الغربية في الفوضى وعنف كبير في الشارع الفلسطيني مع اشتعال المقاومة في مواجهة الاحتلال. ولن يكفي اللجوء إلى قوة الأمن والمال لاحتواء المعارضة، إذ لا يزال في وسع المعارضين اللجوء إلى السلاح الذي يملكون الكثير منه، بدءًا من محمد دحلان الذي يحظى بحضور مسلح وقوي في مخيمات الضفة، وجبريل الرجوب الذي يستند إلى منظمة فتحاوية وشعبية عالية في جنوب الخليل ورام الله. أما حماس والجهاد الإسلامي فقد تستفيدان من الفرصة المتاحة، وانفكاك قبضة التنسيق الأمني وانقسام رموزها وأدواتها، لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال والتصدي لمشروع إحلال شخصية ضفّاوية معادية بشدة لغزة، ولا سيّما بعد نجاح معركة “سيف القدس” بالربط مجددًا بين جناحَي الحكم الذاتي في غزة والضفة الغربية.

الموقف العربي ومشروع السلطة الفلسطينية في مرحلة ما بعد عباس

إن استحواذ إسرائيل وحدها على اختيار قيادة فلسطينية موالية لها سيُحدث تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق لن تقبل به دول كمصر، أدّت دورًا تاريخيًا في مواكبة أي خيار قيادي فلسطيني منذ أن رأس المفتي أمين الحسيني اللجنة العليا للإنقاذ في الثلاثينيات من القرن الماضي. وليس كافيًا أن يقوم مندوب القيادة الروسية إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، بتهنئة حسين الشيخ على تعيينه في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أو أن يستقبله وزير الخارجية الإسرائيلية يائير ليبيد مباشرة بعد اختياره، كي يجعلا منه مرشحًا طبيعيًا، محولين شرعيته العربية نافلًا من النوافل، التي لا تزال رغم اضمحلال مراكزها في سورية والأردن، ضرورية هي أيضًا لإنجاز عملية انتقالية مقبولة عربيًا في رأس السلطة الفلسطينية، إذ لا يمكن لأي شخصية فلسطينية أن تصعد رئاسة السلطة من دون عمق عربي، أي دون رضى مصر وسورية والأردن والسعودية والجزائر.

بناءً على كل ما تقدم، يتبين أن القيادة الفلسطينية السياسية الحالية لا تستشعر خطورة ما تُقدم عليه من خيارات رئاسية تُعمّق الانقسام الفلسطيني والتنسيق الأمني مع “إسرائيل”. إن نهج الانفراد باتخاذ القرارات من طرف رئيس السلطة الفلسطينية، الذي يرأس منظمة التحرير الفلسطينية، كما بدا من اجتماع المجلس المركزي، سيؤدي إلى تفاقم مشاعر الإقصاء لدى طيف واسع من الحركة الشعبية والوطنية الفلسطينية، ومن ضمنها أجنحة من حركة فتح. ورغم ذلك لا يزال متاحًا أمام الجميع خيار وقف العملية الجارية إذا ما توحّدت القوى المتضررة داخل فتح أولًا وباقي الفصائل المجتمعة للتصدي لعملية تسييد التنسيق الأمني على المشروع الوطني الفلسطيني.