مقدمة:

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على وعد بلفور الذي تم إعلانه في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 من حيث الدواعي والأهداف التي أدت إلى إصداره، وتحلل أساساً الموقفين البريطاني والفلسطيني الرسمي في الماضي والحاضر. تتناول الدراسة المسار التاريخي للصراع العربي – الإسرائيلي على مدار قرن منذ وعد بلفور، وهذا يعد أمراً حيوياً، في ظل الدعم الأمريكي والبريطاني الواضح والمستمر لإسرائيل في الوقت الذي تتراجع أولوية القضية الفلسطينية في السياسات العربية. وتحلل الدراسة أيضاً عوامل التراجع والانحدار العربي والفلسطيني الرسميين، متطرقة إلى مستقبل القضية الفلسطينية والقدس بعد 24 سنة من توقيع اتفاقية أوسلو وبعد إصدار الوعد الثاني من جانب الرئيس الأمريكي دونالد طرمب في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017 الذي نص على الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال – إسرائيل – وعلى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.

بناء على ما تقدم، تسعى الدراسة للإجابة عن كثير من الأسئلة، ومن أهمها:

  • هل شكل وعد بلفور البذرة التي انطلق منها الصراع العربي – الإسرائيلي المستمر حتى الآن؟
  • ما الفائدة من وراء طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس من بريطانيا الاعتذار عن وعدها البلفوري لليهود؟
  • ما الأسباب التي تقف وراء رفض الحكومة البريطانية الاعتذار عن هذا الوعد؟
  • هل تقوم السلطة الفلسطينية بمقاضاة بريطانيا قانونياً كما أعلنت أكثر من مرة، بعدما رفضت بريطانيا الاعتذار؟
  • كيف تحول هذا الوعد إلى حقيقة على أرض الواقع؟
  • ما موقف جامعة الدول العربية من الوعدين، ومن الموقفين البريطاني والأمريكي الحاليين؟
  • بعد قرار طرمب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال – إسرائيل – ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة وغيرها من القرارات المتطرفة والعنصرية بحق الشعوب العربية والإسلامية، هل ما زالت أمريكا راعية السلام المزعوم؟
  • كيف ستواجه السلطة الفلسطينية الضغط العربي، وبالأخص السعودي، عليها للقبول بما يسمى «صفقة القرن»؟

على الرغم من أن هذا الموضوع كان وما زال مهماً، إلا أن أهميته قد ازدادت في الذكرى المئوية بسبب التعنُّت البريطاني. ففي كلمات الانحياز الصريح لخصت تيريزا ماي رئيس وزراء المملكة المتحدة، وبحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان وعد بلفور بالتالي‏[1]:

«يسعدني أن أكون معكم هنا في هذه الليلة وأن أكون مع اللورد بلفور في هذه الأمسية الخاصة، وبخاصة ونحن نحتفل بمرور مئة سنة على رسالة كتبها عمك العظيم… رسالة فتحت الباب للمساعدة في جعل الوطن اليهودي حقيقة… علينا أن نأخذ بالاعتبار السياق الذي كُتبت فيه هذه الرسالة… عندما كانت بريطانيا لا تزال متورطة في خضم الحرب العالمية الأولى وكانت فكرة إقامة وطن قومي للشعب اليهودي تبدو كحلم بعيد بالنسبة إلى الكثيرين؛ لكن وفي تلك اللحظات تحديداً كانت لدى اللورد بلفور رؤية لإصدار هذا الإعلان العميق حول استعادة الشعب المضطهد لوطن سليم وآمن».

هذه الكلمات تنم عن اعتزار وفخر المملكة بالدور الذي أدّته في تأسيس دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. لقد مضى قرن على بلفور وما زالت الكارثة مستمرة، والشعب الفلسطيني يدفع ثمن هذا الوعد، وما زالت تمعن دولة الوعد بالدعم المعنوي والسياسي والعسكري لدولة الاحتلال، وترفض حتى الاعتذار عن الجريمة النكراء التي ارتكبتها بحق فلسطين، المتمثلة بتوطين إسرائيل لتمزيق الوطن العربي‏[2].

إن أطماع الغرب في فلسطين قديمة العهد لما يمثّله موقعها الجغرافي من أهمية استراتيجية اقتصادية وعسكرية ودينية، وقد كانت بريطانيا على رأس الدول الاستعمارية الطامعة في السيطرة على المنطقة، حيث ازدادت رغبتها في السيطرة على المنطقة العربية من أجل تأمين مصالحها وحماية طريقها إلى الهند‏[3].

أولاً: ظروف تبلور وعد بلفور

تبلور الوعد تعبيراً عن مصالح الدول الغربية التي كانت تريد التخلص من اليهود في أوروبا، فالفلسطينيون كانوا وما زالوا ضحايا حسابات ومصالح دول عظمى، حيث جاءت ملابسات إصدار وعد بلفور في وقت كانت فلسطين تحت حكم الإمبراطورية العثمانية المترهلة، وفي ظل صعود الحركة الصهيونية، وتراجع القضية القومية العربية.

1 – سايكس – بيكو وبلفور والانتداب البريطاني على فلسطين

بدأت فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين تتبلور في نهاية القرن الثامن عشر، عندما اقترح نابليون بونابرت هذه الفكرة على يهود فرنسا من أجل تشجيعهم على تمويل الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام 1798 – 1801. إلا أن هزيمة نابليون في 1799 في عكا على يد العثمانيين وبمؤازرة الأسطول البريطاني أدت إلى تراجع الحملة، وفشل أول مشروع استيطاني صهيوني‏[4].

أما بريطانيا التي تبرعت بفلسطين للحركة الصهيونية بإعلان الوعد إلى ليونيل دي روتشيلد، لم تكن تحتل فلسطين التي كانت لا تزال تحت سيطرة الدولة العثمانية. ففي سنة 1838 لم يتجاوز عدد الجالية اليهودية في فلسطين 6500 نسمة، إلا أن كـلاً من بريطانيا وفرنسا عبر قنصليتيهما اللتين أنشئتا في القدس قامتا بمساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين. ومن ثم طلبت بريطانيا من الدولة العثمانية سنة 1845 طرد الفلسطينيين لتوطين اليهود مكانهم. وبعد عشر سنوات تم شراء أول قطعة أرض في فلسطين بتمويل من زعيم الجماعة اليهودية في بريطانيا وأحد الأثرياء البريطانيين. وفي سنة 1891 عرض اللورد البريطاني اليهودي غوشن على الحكومة العثمانية توطين اليهود في فلسطين مقابل مبلغ كبير من المال لكن مشروعه، رفض. وفي سنة 1900 قام روتشيلد بتسليم جميع مشروعاته في فلسطين إلى جمعية الاستيطان اليهودي‏[5].

لم تكن الحركة الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى مراهنة على بريطانيا، فقد كانت تتوسل السلطان محمد الخامس من أجل توطينها في فلسطين بتدخل ومساعدة من ألمانيا‏[6]، وخلال الحرب العالمية الأولى قسمت بريطانيا وفرنسا، من خلال اتفاق سايكس بيكو سنة 1916، الإمبراطورية العثمانية بينهما، إلا أنهما لم تستطيعا الاتفاق حول فلسطين‏[7].

وفي الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1917 احتلت القوات البريطانية القدس، وفي أيلول/سبتمبر 1918 استكملت احتلال باقي فلسطين، وظلت السلطات البريطانية تحكم فلسطين لمدة سنتين، حيث أخذت بريطانيا على عاتقها تهيئة فلسطين كي تصبح وطناً قومياً لليهود‏[8].

أرسلت الحكومة البريطانية وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور‏[9] في 5 نيسان/أبريل 1917 بمهمة رسمية للاتصال بممثلي المصارف الأمريكية من أجل إبلاغهم رسمياً بأن بريطانيا ستتبنى مشاريعهم المتصلة بالصهيونية السياسية مقابل تعهدهم بإدخال أمريكا الحرب إلى جانب بريطانيا، وهذا ما تم تنفيذه من قبل الطرفين، حيث أرسل اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد أحد قادة الحركة الصهيونية إلى الحكومة البريطانية نصاً يتضمن فقرتين للموافقة عليه، وهو ما أصبح فيما بعد يعرف بوعد بلفور‏[10]. وكان بلفور معارضاً للهجرة اليهودية إلى شرق أوروبا خوفاً من انتقالها إلى بريطانيا. وفي سنة 1906 حين التقى بلفور بالزعيم الصهيوني حاييم وايزمان أُعجب بشخصيته، فرأى في الصهيونية قوة تستطيع التأثير في السياسة الخارجية الدولية؛ وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا. وحين تولّى منصب وزارة الخارجية في حكومة لويد جورج في الحقبة من 1916 إلى 1919 أصدر وعده المعروف بـ «وعد بلفور» عام 1917 انطلاقاً من تلك الرؤية‏[11].

وفي 11 أيلول/سبتمبر 1922 أقرت عصبة الأمم الانتداب بصفة رسمية على أساس وعد بلفور. وغطت منطقة الانتداب المنطقة التي تقع فيها اليوم كل من «دولة إسرائيل» وقطاع غزة، بالإضافة إلى منطقة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية). وفي 22 تموز/يوليو من العام نفسه أعلنت شروط الانتداب البريطاني لفلسطين، وجاء فيها أن الانتداب مسؤول عن تنفيذ إعلان بلفور‏[12]. لم يكن وعد بلفور جزءاً من سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين فقط، وإنما أصبح جزءاً أصيـلاً من مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية‏[13].

خلاصة القول، إن وعد بلفور هو نقطة التحول الكبرى ليس في المشروع الصهيوني فقط، وإنما في تغيير مستقبل الوطن العربي، من خلال زرع دولة إسرائيل مكان دولة فلسطين.

2 – الهدف من وعد بلفور

إن وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود مهّد لتأسيس دولة قمعية واستعمارية في المنطقة، وإن الهدف من إقامة تلك الدولة الصهيونية كان تفتيت الوطن العربي. وقد أصبحت تلك الدولة الصهيونية الآن عبئاً ومصدراً للإرهاب. إن الدولة القومية لليهود التي تم تأسيسها أضحت أداة لقتل الفلسطينيين وتشريدهم واغتصاب أراضيهم، وما وعد بلفور في الحقيقة إلا كارثة على الشعب الفلسطيني‏[14]. لقد ثبت الانتداب البريطاني الكيان الصهيوني في فلسطين من خلال أربع منهجيات رئيسية: انتزاع الأراضي الفلسطينية؛ دعم الهجرة اليهودية؛ تشجيع ودعم المشروعات الاقتصادية اليهودية؛ وقمع الشعب الفلسطيني‏[15].

إن فكرة ومشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، فكرة استعمارية غربية نفذتها بريطانيا، وتتلخص أهداف المشروع البريطاني في عدد من النقاط لعل أهمها‏[16]:

أ – التخلص من وجود اليهود في أوروبا؛

ب – إنشاء قاعدة عسكرية لتأمين مصالحهم في مستعمراتهم جنوب آسيا؛

ج – إقامة حاجز يمنع تواصل ووحدة مشرق الوطن العربي، مع مغربه.

إن الاستيلاء البريطاني على فلسطين جاء ضمن سياسة استعمارية يسودها التفكير العنصري، الذي يرى تفوق بعض الأعراق على البعض الآخر‏[17]. ويعتبر وعد بلفور البذرة التي انطلق منها النزاع الذي لا يزال يؤرق المجتمع الدولي حتى الآن‏[18].

3 – دور روتشيلد والدول الغربية في بلورة وعد بلفور

يعتبر روتشيلد كبير أغنياء اليهود في حقبة الحرب العالمية الأولى وما بعدها وهو مول إقامة مستوطنة «تل أبيب» سنة 1907؛ حينها كان الفلسطينيون يعيشون ظروف الفقر المدقع، ويفتقرون إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وممنوعين من التواصل مع محيطهم العربي بعد تقسيمه بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي‏[19]. وقد أصبح روتشيلد عضواً في مجلس العموم البريطاني في الحقبة 1929 – 1945‏[20].

عملت بريطانيا خلال عشرات السنين التي تلت الوعد، على جعله ممكناً وعملياً، وتسابقت الدول الكبرى من أجل الاعتراف بدولة إسرائيل، ومن ضمنها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي وغيرها‏[21]. وقام بلفور بزيارته الأولى لفلسطين سنة 1925 حينما شارك في افتتاح الجامعة العبرية، وعمت وقتها التظاهرات معظم فلسطين احتجاجاً على قراره المشؤوم‏[22].

من جهة أخرى، يؤكد المؤرخ الفلسطيني جوني منصور معارضة وزير الخارجية البريطاني بلفور نفسه أجزاءً كبيرة من صيغة الوعد الأصلية، التي قدمها اللورد ليونارد روتشيلد، وجاء فيه «فلسطين تكون وطناً قومياً لليهود». لذلك تم تغيير نص الوعد ليصبح «وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»‏[23].

بعد فرض بريطانيا انتدابها على فلسطين لم يستطع الفلسطينيون وقف تدفق قطعان المستوطنين رغم الثورات المتواصلة. ومن ثم سلّمت بريطانيا كل مؤسسات دولة الانتداب إلى اليهود. في المقابل نسفت بريطانيا كل بيت فلسطيني كانت تجد فيه بندقية، أو طلقة نارية واحدة، واعتبرت تدخل الجيوش العربية عمـلاً عدائياً ضدها‏[24].

أدّتت فرنسا أيضاً دوراً حيوياً في إقامة دولة إسرائيل، من خلال مساعدة اليهود على تنظيم الهجرة بأعداد كبيرة‏[25]؛ إضافة إلى إقرارها بحق بريطانيا في الانتداب على فلسطين وتخليها عن بند أساسي في اتفاقية سايكس – بيكو ينص على أن تكون الأراضي الفلسطينية تحت السيطرة الدولية. وقد باركت إيطاليا هذا الوعد لاحقاً، واشترطت ألّا يتعرض الصهاينة للطوائف غير اليهودية في القدس، وعلى هذا المنوال سارت روسيا بسبب رغبتها في حماية أملاك ونفوذ الكنيسة الأرثوذكسية‏[26]. وكان للولايات المتحدة الأمريكية أيضاً دور ريادي في توطين اليهود في فلسطين في عهد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، الذي ظل وفياً لالتزامه ودعمه للوعد إضافة إلى تقديم الدعم المالي للحلفاء ضد الدولة العثمانية وحلفائها‏[27]. وبعد ضعف بريطانيا ورثت الولايات المتحدة الوصاية على الكيان الصهيوني عبر الدعم اللامحدود منها وفرضت مساعدتها مادياً وعسكرياً على بعض الدول‏[28].

ولكن مع بداية حرب 1948، قام اليهود بتظاهرة توجهت إلى بيت بن غوريون مطالبين بالعودة إلى الدول الأوروبية لأنهم لا يشعرون بالأمان في فلسطين، فطلب منهم أن يمهلوه عدة أيام. خلالها تدخلت بريطانيا مع الحكام العرب، وتم فرض الهدنة الأولى في حزيران/يونيو 1948، بعد أن كان المجاهدون على أبواب تل أبيب، وحاصروا المستعمرات. استقدم بن غوريون صفقة أسلحة تشيكية كانت سبباً في تحول الحرب لمصلحة العدو. ومنذ ذلك الوقت حرص الغرب على استمرار تفوق إسرائيل العسكري، وهذا مكّن إسرائيل من توجيه ضربة ساحقة للعرب سنة 1967، حيث تم احتلال الضفة الغربية، وغزة، والجولان، وسيناء‏[29].

4 – الدور العربي تجاه وعد بلفور

عقد فيصل بن الشريف حسين مع حاييم وايزمان في عمان سنة 1918 اتفاقية يعطي فيها وعوداً لليهود بمنحهم تسهيلات بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين‏[30]. أضف إلى ذلك أن ابن سعود قام بإخماد ثورة 1936 ضد البريطانيين، حيث بعث رسالة إلى أمير الأردن عبد الله بن الشريف حسين، يقترح فيها توجيه نداء بمشاركة الملك غازي في العراق والإمام يحيى في اليمن من أجل وقف إضرابات الفلسطينيين وفسْح المجال أمام الحكومة البريطانية لإنصافهم. على هذا المنوال، يبيّن ميخائيل كهنوف، وهو مسؤول سابق في الموساد، في كتابه المملكة العربية السعودية والصراع في فلسطين، أن تقبّل عبد العزيز لفكرة وجود اليهود على أرض فلسطين ورفض مقاومتهم لا يعود فقط لتواطئه مع بريطانيا، بل للحؤول دون سيطرة حاكم الأردن الشريف عبد الله بن الحسين على فلسطين بكاملها‏[31].

ثانياً: الظرف الفلسطيني إبان إصدار الوعد

لقد كان الفلسطينيون ضعفاء إبان إصدار الوعد، وما زال ذات الذنب يلاحقهم، وما زال الفلسطينيون يرفضون الوعد الذي أعطى مَن لا يملك ما لا يستحق، حيث لم يقبل الفلسطينيون بوعد بلفور بل قاوموه مع مقاومتهم للاحتلال الإنكليزي في ثورة البراق سنة 1929، وثورة القسام سنة 1936، ولكن موازين القوى في تلك المرحلة كانت تخدم اليهود أكثر مما تخدم الفلسطينيين، وما زال النضال الفلسطيني مستمراً للرد على وعد بلفور من أجل إقامة الدولة الفلسطينية‏[32].

يذكر عضو المجلس الثوري لحركة فتح تيسير نصر الله، أننا أخفقنا كثيراً في التعامل مع وعد بلفور خلال العقود الماضية، فلم نكن نعي تماماً كيفية التعامل مع القرارات الدولية، لماذا لم نقم بملاحقة بريطانيا في المحاكم الدولية على كل ما سببته لنا من معاناة من جراء الوعد؟ ويؤكد نصر الله أن الحقوق لا تسقط بتقادم السنين عليها‏[33].

أما ليلى نقولا، فقد بيّنت أن الوثائق التاريخية تفيد بأن الفلسطينيين وعوا مبكراً خطورة هذا الوعد، لكن المفاوضين باسم الفلسطينيين اتّخذوا الأمر بحُسن نيّة، واعتبروا أن المفاوضات هي الوسيلة الفضلى للمواجهة‏[34].

1 – الموقف الفلسطيني ومطالبة بريطانيا بالاعتذار

أكد عضو المجلس الثوري لحركة فتح والمتحدث باسمها أسامة القواسمي، أن بريطانيا ارتكبت أبشع جريمة بحق الإنسانية عندما سولت لها نفسها منح هذا الوعد وتطبيقه… لقد كان مبررها في ذلك الوقت هو حل مشكلة اليهود في العالم وإقامة كيان لهم، فكان الأولى على بريطانيا أن تعطيهم مما يملكون، لا أن يجودوا عليهم من أرض فلسطين‏[35].

على هذا المنوال أعلن نبيل شعث، المستشار السياسي للرئيس الفلسطيني، أن تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي حول وعد بلفور توتّر العلاقات مع لندن، مطالباً بريطانيا بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود عام 1967‏[36].

في هذا السياق، قال رئيس دائرة شؤون اللاجئين زكريا الآغا، إن إعلان الاحتفال يصب في اتجاه معاداة الشعب الفلسطيني… مؤكداً أن رفض بريطانيا الاعتذار وإصرارها على الاحتفال بالذكرى المئوية للوعد سيقابله الحراك الفلسطيني الرسمي من خلال مقاضاتها، ومتابعة هذا الملف أمام المحاكم الدولية‏[37]. أما المجلس الوطني الفلسطيني فقد طالب بريطانيا بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه ما حل بالشعب الفلسطيني من نكبات وويلات وتشريد ولجوء‏[38].

تجدر الإشارة، أن الرئيس عباس كان قد طالب بريطانيا بمناسبة الذكرى الـ 69 للنكبة الفلسطينية في 15 أيار/مايو 2017، بالاعتذار عن إصدارها وعد بلفور، وقال الرئيس إن الظلم التاريخي الذي لحق بشعبنا وما زال يتفاقم، قد بدأ من الناحية العملية مع وعد بلفور، ودعا الحكومة البريطانية إلى تحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية، بأن تبادر إلى تقديم الاعتذار للشعب الفلسطيني الذي دفع ثمناً باهظاً دماً وتشرداً، نتيجة لهذا الوعد‏[39]. وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية رياض المالكي، أنه سيتم رفع قضايا قانونية على بريطانيا، في حال إصرارها على الاحتفال بمئوية وعد بلفور‏[40].

إن الاعتذار الذي طلبه الرئيس عباس من بريطانيا لا قيمة له، فعلى بريطانيا أن تتوقف عن دعم إسرائيل، وأن تقدم كل الدعم المطلوب للفلسطينيين، وعليها أن تدفع ثمن خطئها، وإن الاعتذار الذي رفضت تقديمه إلى الفلسطينيين لا يكفي، حيث عليها الاعتراف بالدولة الفلسطينية‏[41]. وفي السياق إياه، يرى فيليب هول، القنصل البريطاني العام في القدس، أن اعتراف بريطانيا بفلسطين أشد أهمية من اعتذارها، وأن هذا الأمر قد يدفع دولاً أوروبية أخرى لاتخاذ الخطوة ذاتها، ويعكس لإسرائيل وجود عواقب لخرقها القوانين الدولية‏[42].

2 – موقف الحكومتين البريطانية والإسرائيلية بعد قرن على الوعد

ردت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2017 على طلب الاعتذار بأن بريطانيا ستحتفل حتماً بالذكرى المئوية للوعد، مؤكدة أن بريطانيا تفتخر بدورها في تأسيس دولة إسرائيل‏[43]. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي فقد بيّن في مستهل لقائه مع نظيرته البريطانية ماي في لندن بأنه فخور بهذا الحدث التاريخي الكبير في التاريخ اليهودي والبريطاني، وشكرها على دعوتها له للاحتفال بهذا «الحدث»‏[44].

ويلخص العضو في مجلس اللوردات، النائب السابق في حزب العمال، نورمان وارنر موقف الحكومة البريطانية الحالية من فلسطين بأنها غير قادرة على الاعتذار عن وعد بلفور، ولا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومجلس اللوردات بمجمله داعم لإسرائيل ومعتنق لرؤيتها‏[45].

وعليه، يمكن تلخيص أسباب رفض الحكومة البريطانية الاعتذار عن وعد بلفور‏[46] بالتالي:

أ – أن الاعتذار عن وعد بلفور سيفتح الباب أمام العديد من المطالب الأخرى التي تعود إلى العهد الإمبراطوري البريطاني. فإرث بريطانيا الاستعماري لا يقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل يمتد إلى مناطق أخرى في العالم.

ب – تبرير الحكومة بأن إعلان بلفور وعد تاريخي «لا يمكن تقييمه كلياً وتقييم ما تبعه إلا من قبل المؤرخين».

ج – كما تحاول ماي بناء علاقات وثيقة مع الدول الحليفة من خارج الاتحاد الأوروبي، ومنها دولة إسرائيل.

د – سياستها الخارجية التي لا تزال منحازة وبشكل سافر لمصلحة الاحتلال.

3 – مواقف تنظيمات المقاومة من الوعد

أكدت حركة حماس أن وعد بلفور باطل وجائر، وطلبت من بريطانيا التوقف عن دعم الكيان المحتل، والتكفير عن جريمتها التاريخية بحق شعبنا، والكف عن الانحياز للاحتلال ودعم حق شعبنا في استعادة حقوقه الوطنية كافة‏[47]. وعلى المنوال نفسه، أكد القيادي في حركة الجهاد الإسلامي يوسف الحساينة، أن ما يجري من استيطان وتهويد وهدم للمنازل، جاء نتيجة وعد بلفور الآثم‏[48].

بالمنطق عينه أكدت حركة فتح أن الوعد المشؤوم هو وعد باطل، وأن الإنكليز بالفعل لا يملكون حقاً في أرض فلسطين ليعدوا به الآخرين، ويتسببوا بشكل مباشر بنكبة الشعب وتشريده وقتله وذبحه‏[49]. أما ماهر الطاهر عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، فقد طالب كل الفاعليات العربية والأوروبية والدولية، بإقامة ورش عمل تتناول وعد بلفور، ولا سيَّما أنه بعد مرور قرن، هناك محاولات جادة لتصفية قضية فلسطين‏[50]. بينما دعت الجبهة الديمقراطية، بريطانيا إلى الاعتذار للشعب الفلسطيني والتكفير عن تلك الجريمة بإعادة الحقوق لأصحابها‏[51].

كما أكد عضو المكتب السياسي في حزب الله، محمود قماطي، أن كل ما يجري من محاولات للطعن بهذا الوعد وإسقاطه والوصول إلى قرار عربي أو دولي أو موقف تجاه هذا الوعد ومطالبة بريطانيا بالاعتذار عنه، هو أمر جيد لكني أؤكد باسم المقاومة أن كل ذلك لن يعيد فلسطين وربما يكون مخرجاً لبريطانيا من أزمتها‏[52].

ثالثاً: قانونية وعد بلفور

إن وعد بلفور باطل إجرائياً وقانونياً وديمغرافياً ودينياً وحضارياً، وإن رفض بريطانيا الاعتذار عنه هو هروب من فضح الأُسس والأهداف والمصالح التي يقوم عليها الانحياز البريطاني إلى جانب دولة الاحتلال، وتنصلٌ من تحملها المسؤولية عن قرارها الذي جاء في سياقٍ استعماري محض‏[53].

وقد أكد أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي العام، إن بريطانيا مهما قدمت من جبر واعتذار للشعب الفلسطيني، فإن ذلك لن يطهر الفعل البريطاني المنتهك لقواعد القانون الدولي‏[54]. بينما بيّن عبد الحسين شعبان «أن العرب لم يجابهوا وعد بلفور بشكل قانوني إلا مؤخراً، على نحو محدود، وهذا تقصير عربي وفلسطيني ينبغي تجاوزه على صعيد السياسات والتحالفات لاحقاً»‏[55]. أما جار الله البشير فقد طالب بريطانيا ليس فقط بالاعتذار، بل بمباشرة كل الإجراءات السياسية والقانونية لإعادة الحقوق إلى أصلها‏[56].

1 – مقاضاة بريطانيا قانونياً

لقد تسارعت وتيرة تصريحات القيادة الفلسطينية حول مقاضاة بريطانيا مع اقتراب الذكرى المئوية لوعد بلفور. فقد أوضح حسن العوري، المستشار القانوني للرئيس عباس، أن السلطة تريد مقاضاة بريطانيا على جريمتها، إلا أنه لا مجال للتوجه للقضاء الدولي، ولا لمحكمة العدل العليا، ولا للمحكمة الجنائية الدولية، فليس أمام السلطة وفقاً للعوري إلا التوجه للقضاء البريطاني‏[57]. وهنا يبرز تساؤل منطقي: هل سيكون القضاء البريطاني نصيراً للقضية الفلسطينية ضد سياسة دولته؟ وعليه يمكن القول بأن كل تصريحات القادة الفلسطينيين حول مقاضاة بريطانيا قانونياً لرفضها الاعتذار ذهبت مهب الرياح وكانت فقط من باب الاستهلاك الإعلامي ولا تمت للواقع السلطوي الفلسطيني بصلة.

2 – قرار تقسيم فلسطين سنة 1947

كانت فاتحة قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية القرار الرقم 181، الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 الذي قسّم فلسطين إلى دولتين، بالإضافة إلى كيان منفصل يتألف من مناطق القدس وبيت لحم. فقرار التقسيم ساهم في تفكيك الوطن الفلسطيني، وأرسى قواعد جديدة لتقسيم فلسطين، لا تنسجم مع عدد الفلسطينيين ولا مع حجم ممتلكاتهم، ولا مع علاقتهم بأرضهم وترابهم الوطني، وركز على أن تكون القدس كياناً خاصاً، إلا أن القرار أعطى اليهود حق إقامة كيان قومي لهم على أكثر من نصف مساحتها، وذلك على حساب سكانها الأصليين وحقوقهم الفردية والجماعية، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية‏[58].

3 – قضية اللاجئين الفلسطينيين التي خلقها الوعد

تعاظمت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا بيوتهم وأرضهم، بل وهويتهم الوطنية، ليتحولوا بأكثريتهم إلى مجموعات وكتل بشرية من اللاجئين. فبعد حرب 1948 التي نجم عنها تشريد نحو 940 ألف فلسطيني، كما ورد في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الموجّه إلى الدورة الرابعة للجمعية العامة، في حزيران/يونيو 1949، استمرت عملية طرد الفلسطينيين وكان الاعتقاد السائد لدى المهجّرين أن رحيلهم مؤقت، وأنهم سيعودون إلى بيوتهم وأرضهم خلال أسابيع، وتوّجت الجهود الدولية بإصدار الأمم المتحدة القرار 194 في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، الذي تضمّن الحق القانوني للاجئين في العودة، غير أن الكيان الصهيوني أوضح للمجتمع الدولي على الدوام، وبشكل قاطع ونهائي، أن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم لن تتحقق أبداً‏[59].

فعلياً لم تبدأ النكبة الفلسطينية في سنة 1948، بل بدأت مع إعلان الوعد المشؤوم، حيث بدأت بريطانيا والحركة الصهيونية بتنفيذ الوعد، من خلال بناء المؤسسات الصهيونية في فلسطين وفتح باب الهجرة لليهود ووضع اليهود في الوظائف الرئيسية والمفتاحية، وهو أمر ترافق مع عمليات الاقتلاع، وتفريغ للمناطق الرئيسية في فلسطين من سكانها الأصليين‏[60].

 

رابعاً: الدور الفلسطيني في مقاومة وعد بلفور

يقوم الفلسطينيون في كل عام بإحياء الذكرى في كل محافظات الوطن ومخيمات الشتات وأماكن وجود الفلسطينيين، من خلال تنظيم المسيرات والوقفات أمام السفارات الفلسطينية في دول العالم لتأكيد موقفها الرافض للوعد، ومن أجل الضغط على حكومة بريطانيا لتقديم اعتذارها والاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ففي الذكرى المئوية لوعد بلفور تظاهر الفلسطينيون في الضفة المحتلة والقطاع والخارج، وهتف المتظاهرون «يا إنكليز، يا استعمار، بدنا منكم اعتذار»، و«يا بلفور وعدك باطل أنت مجرم وأكبر قاتل»، و«الانتداب الانتداب.. أسس دولة للإرهاب»، وحمل المتظاهرون أعلاماً فلسطينية وأعلاماً سود‏[61].

أشار معن بشور إلى أن ما شهدته الأمة من فعاليات ومؤتمرات وأنشطة بمناسبة ذكرى وعد بلفور على مستوى العالم بأسره لدليل على امتداد وتجذُّر القضية الفلسطينية، على الرغم من نفوذ الصهيونية العالمية وتأثيرها‏[62]. وفي إطار الحملة الفلسطينية لمنع الاحتفال البريطاني – الإسرائيلي بمئوية وعد بلفور كتب طلبة المدارس في فلسطين 100 ألف رسالة إلى الحكومة البريطانية تطالب بالاعتذار للفلسطينيين عن وعد بلفور والاعتراف بحقهم بدولة فلسطينية مستقلّة‏[63].

ونظم مركز العودة الفلسطيني الكائن في لندن، حملة توقيعات في إطار المبادرة التي تدعو بريطانيا لتقديم اعتذار رسمي عن وعدها، حيث بلغ عدد موقِّعي الحملة نحو 100 ألف شخص؛ وهو ما يفتح الطريق لتلك المطالب لتدرج على أجندة نقاشات البرلمان البريطاني‏[64]. كما عرض المركز فيلماً قصيراً «100 طريق بلفور»، وهو فيلم من إنتاج منظمة أصوات يهودية مستقلة، يشرح التداعيات طويلة الأمد للوعد‏[65].

يتعين على الفلسطينيين في ظل الدعم البريطاني لإسرائيل العمل على إتمام المصالحة، وتدعيم كل السياسات التي ترمي إلى مقاومة الاحتلال ومواجهة سياسة التطبيع. إضافة إلى محاكمة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في المحاكم الدولية، ومغادرة مظلة أوسلو وإعادة بناء منظمة التحرير على أسس الشراكة الوطنية والعمل الجاد على انضمام حركتَي حماس والجهاد الإسلامي لها، وإعادة الاعتبار للثقافة الوطنية والقومية من خلال المدارس والجامعات والمراكز والأحزاب لتكون قاعدة انطلاق في مواجهة ثقافة التطبيع ومحو التاريخ الثقافي الوطني الفلسطيني، والتمسك بالثوابت الوطنية.

خامساً: الواقع العربي والمشروع الصهيوني من وعد بلفور إلى وعد طرمب

لقد فشلت الدول العربية في مواجهة المشروع الصهيوني منذ إعطاء الوعد وحتى الآن، إضافة إلى كشف زيف أقنعة الخطابات الغربية التي تنادي بالديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها‏[66].

1 – العرب وإسرائيل وسياسات بلفور المستمرة

إن إعلان تحالف استراتيجي بين العرب وإسرائيل هو نتيجة للتردي العربي الرسمي والمساندة الدولية الخارجية للمشروع الصهيوني، إضافة إلى التلاعب بالنظم السياسية العربية والضغط عليها للاستسلام‏[67].

يكشف سامي مبيض في مقدمة كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان غرب كنيس دمشق عن اجتماع سري عُقد في تل أبيب بين موشي شاريت قبل استقالته من رئاسة الحكومة الإسرائيلية وسلفه الأب المؤسس للدولة العبرية دايفيد بن غوريون الذي قال إن إسرائيل تحتفل قريباً بالذكرى العاشرة لاستقلالها، وإنها لا يمكن أن تستمر وتنمو في ظل نهضة كل من سورية ولبنان والعراق على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فاقترح شاريت بث الفوضى وإشعال نار الفتنة في جميع هذه الدول، وأن يبدأ الخراب من العراق، لكن بن غوريون رفض. ثم اقترح شاريت أن يبدأ بلبنان، إلا أن بن غوريون عارضه مجدداً. ثم اقترح أن يبدأ بسورية، فوافقه بن غوريون‏[68]. والوضع اليوم في كل من سورية والعراق ولبنان وغيرها من الدول العربية يؤكد أن هذا الدمار الحاصل هو من صنيعة إسرائيل وأدواتها الداعشية وهو مخطط قديم.

وفي ما يتعلق بموقف السلطة الفلسطينية، فقد طالب الرئيس عباس الحكومة البريطانية بتقديم اعتذار رسمي عن وعد بلفور، مما يوحي برغبة السلطة في رفض ومعارضة وعد بلفور ومفرزاته السياسية والميدانية، إلا أن الموقف الرسمي الفلسطيني لم يقم بأي خطوة عملية تتوافق مع هذه المطالب‏[69].

لقد نظم مؤتمر بدعوة من الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة في الذكرى المئوية لوعد بلفور، تم فيه الإجماع على عدد من النقاط أهمها‏[70]:

أ – تحميل بريطانيا المسؤولية عما حصل ويحصل في فلسطين والمنطقة من آثار نتجت من وعد بلفور، وعليها أن تتراجع عن هذا الوعد، وأن تعتذر لشعب فلسطين وللأمة العربية والإسلامية.

ب – إن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين.

أما بالنسبة إلى موقف جامعة الدول العربية، فقد طالب أمينها العام أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، بإعلان الاعتراف بدولة فلسطين، مبيناً أن دولة إسرائيل قامت بناء على الوعد ولكن أين الدولة الفلسطينية التي تحدث عنها القرار 181 لسنة 1947‏[71].

لقد استطاعت بريطانيا خلال السنوات المئة الماضية تمزيق العرب، ونجحت بالاستفراد وتحويل القضية الفلسطينية من قضية العرب والمسلمين الأولى، إلى قضية تخص الفلسطينيين وحدهم. وإن نجاح المقاومة اللبنانية بطرد الاحتلال من جنوب لبنان، ونجاح المقاومة الفلسطينية بطرد الاحتلال من غزة ما هو إلا دليل على ضعف وهشاشة الاحتلال. وهو ما أقر به نتنياهو في جلسة دينية في منزله حيث قال: «إن وجودنا ليس بديهياً، وإنه سيبذل كل ما في وسعه للدفاع عن الدولة، والمملكة الحشمونية – دولة يهودية قديمة دامت 80 سنة – وإن علينا بدولة إسرائيل أن نتخطى هذه الفترة». وكأنه يحذر شعبه، بأن 100 سنة لم تكن كافية لتثبيت دولته، ولا لإخماد المقاومة‏[72].

2 – صفقة القرن والدور السعودي

لقد أعد جاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس طرمب، خطة سلام بين العرب وإسرائيل بالاتفاق مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. تتضمن خطة كوشنر تنازلات كبرى من أطراف عربية على رأسها السعودية والإمارات عن العديد من الثوابت في القضية الفلسطينية، تهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية مدعومة مالياً من قبل عدد من الدول على رأسها السعودية، ومن هذه التنازلات حكم ذاتي وتبادل للأراضي مع مصر والأردن‏[73].

وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز اقترح بن سلمان على الرئيس عباس خلال زيارة مفاجئة في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، الحصول على دولة غير متصلة في الضفة والقطاع من دون أن تكون لديهم السيادة الكاملة على الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم؛ ولن يتم إخلاء معظم المستوطنات اليهودية في الضفة؛ ولن يحصل الفلسطينيون على القدس الشرقية عاصمة لدولتهم؛ ولن يُسمح للاجئين بالعودة إلى إسرائيل، على أن تقام عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية في أبو ديس، وتضاف أجزاء من شبه جزيرة سيناء المصرية إلى غزة مقابل أراض في الضفة سيتنازل عنها الفلسطينيون. وقد رفضت مصر في السابق اقتراحات كهذه، حيث أعلن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أنه رفض الفكرة عندما طرحها نتنياهو عليه في عام 2010‏[74]. وبنفس المنطق أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، أن حل القضية الفلسطينية لن يكون على حساب مصر‏[75].

تجدر الإشارة إلى أن السعودية أمهلت الرئيس عباس مدة شهرين لقبول الخطة أو مواجهة ضغوط تطالبه بالتنحي عن منصبه لشخص أكثر استعداداً لقبول الاقتراح‏[76]. وقد أفاد موقع «ميدل إيست» في15 كانون الأول/ديسمبر 2017، أن السعودية مارست ضغطاً على الرئيس عباس والملك عبد الله الثاني، من أجل عدم المشاركة في القمة الإسلامية التي عُقدت في تركيا في13 كانون الأول/ديسمبر 2017 لبحث إعلان طرمب إزاء القدس، من أجل إضعاف القمة وإفراغها من جوهرها، ولكنهما رفضا‏[77].

3 – وعد طرمب والتبعية العربية للإدارة الأمريكية

بعد قرن على وعد بلفور تم إعلان وعد جديد يمكن أن يطلق عليه الوعد الثاني، ولكن هذه المرة جاء الوعد من أمريكا (وعد طرمب) الذي يمنح القدس لإسرائيل من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأمريكية إليها. لقد تكرر مشهد بلفور «الذي أعطى من لا يملك ما لا يستحق». والمهم أن وعد طرمب لا يمكن أن يحدث لولا الموقف العربي المتخاذل والموافق على هذا القرار، وأكبر دليل على ذلك أن كل المواقف العربية الرسمية بعد اتخاذ القرار لم تتجاوز الاستنكار والشجب.

وترى إسرائيل أن القرار الأمريكي لا يحمل سوى دلالة رمزية فقط بالنظر إلى سيطرة إسرائيل واقعيّاً على المدينة. لقد أصدر الكونغرس الأمريكي هذا القرار في سنة 1995، وعلى مدار 22 عاماً أجّل الرؤساء الأمريكيون تنفيذه بصورة روتينية كل ستة أشهر. وإسرائيل منذ احتلالها كامل أرجاء المدينة سنة 1967 عكفت على تعزيز هيمنتها على القدس، وبلغت المحاولات أوجَها في سنة 1980 بإصدار «قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل»‏[78].

يقودنا هذا إلى تساؤل مفاده، لماذا الآن؟ لأن إسرائيل لا تتوقع حدوث ردود فعل فلسطينية لا يمكن السيطرة عليها، ولقد عبّر عن ذلك رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق «عاموس يادلين»، بقوله إن الفلسطينيين والعرب والأتراك «يهدّدون بمسدس فارغ»‏[79]. وإن اتصال طرمب بقادة فلسطينيين وعرب لم يكن لإعلامهم بقراره نقل سفارته إلى القدس، وإنما لتحذيرهم من القيام بأي خطوات ضد القرار. وتبعية أغلبية الحكومات العربية والإسلامية لأمريكا تؤكد أن هذه الدول تغلِّب مصالحها على أي اعتبارات دينية أو قومية.

وهذا ما أكده الوزير الإسرائيلي يسرائيل كاتس، أن الإدارة الأمريكية قامت مسبقاً بالتنسيق مع قادة من الدول العربية بشأن قرار طرمب، وذلك لضمان احتواء رد الفعل الفلسطيني على القرار‏[80]. وعلى المنوال نفسه، أكد رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال غادي إيزنكوت أن هناك توافقاً مع السعودية لمواجهة الخطر الإيراني‏[81].

يتجلى مما سبق أن الموقف الرسمي العربي – الإسلامي تجاه قرار طرمب يؤكد أن علاقة بعض الأطراف العربية والإسلامية مع إسرائيل أهم من المقدسات الإسلامية ومن القضية الفلسطينية. فردود الفعل الرسمية العربية والإسلامية على القرار لم تصل إلى مستوى الشجب والاستنكار، فاجتماع رؤساء الدول العربية والإسلامية في قمة إسطنبول لم ينتج منه حتى قرار واحد على المستوى الرسمي يؤكد رفض هذه الدول المجتمعة قرار طرمب؛ على سبيل المثال لم يتم قطع العلاقات مع إسرائيل وأمريكا، أو سحب سفرائهم من أمريكا وإسرائيل، أو حتى طرد السفراء الإسرائيليين والأمريكيين من بلادهم. إضافة إلى أن بعض الدول العربية متواطئة مع هذا القرار، وتريد منع أي حراك ضده. فقد كشف عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد اشتية أن دولاً عربية أفشلت عقد قمة عربية طارئة‏[82]. فالتضامن العربي مع القضية الفلسطينية كان باهتاً جداً‏[83]. ويتبدى ذلك من خلال تصريح لوزير خارجية البحرين خالد بن أحمد آل خليفة، في 21 كانون الأول/ديسمبر 2017، بيَّن فيه أن قضية فلسطين قضية جانبية وليس من المفيد إثارة الخلاف مع أمريكا بشأنها‏[84].

إن علاقة أمريكا مع العرب هي علاقة قائمة على المصلحة، فأمريكا لن تقدم للعرب شيئاً ولن تقف في صفهم؛ فهدفها فقط حماية إسرائيل، لذلك تقوم باستغلال بعض العرب من أجل تدمير بلدان عربية وإثارة القلاقل وإسقاط رؤساء في بعض الدول التي تشكل خطراً عليها. ومن ثم بعد أن تقوم بتدمير الوطن العربي ستتخلى عمن ساعدها وساندها من الدول العربية التي ستلتحق بدورها بقطار الدمار، لأن أمريكا وإسرائيل معنيتان بالسيطرة على المنطقة العربية وفق قاعدة فرِّق تسد.

وفي هذا الصدد، يتساءل الكاتب الأمريكى توماس فريدمان هل بإمكان طرمب تقدير التأثير المدمر نتيجة ما يفعله حالياً في الضفة الغربية؟‏[85]. ولكن الباحث يخالف فريدمان الرأي، فبناء على معطيات لدى إسرائيل، قامت بالإيعاز لأمريكا لتوقيت تنفيذ قرار نقل السفارة إلى القدس، فكل من إسرائيل وأمريكا تدركان ما تفعلان؛ فإسرائيل متأكدة تماماً أن التوقيت مناسب ولن يكون هناك أي حراك ولو حتى بالكلمة على المستوى العربي الرسمي، فقد عملت بكل جهدها في الدول العربية على المستوى الرسمي والشعبي خلال الفترة السابقة، على شيطنة الفلسطينيين ونقل القضية الفلسطينية من قضية محورية للعرب والمسلمين إلى قضية هامشية.

4 – الردود العربية والفلسطينية على وعد طرمب

تباينت ردود الفعل العربية والفلسطينية الرسمية وغير الرسمية والإسلامية والمسيحية تجاه الموقف من وعد طرمب.

فعلى مستوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، صرح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في إثر إعلان طرمب: «نشعر أنه بعد مئة سنة من وعد بلفور الأول أتانا وعد بلفور ثان»، مضيفاً أنه «استهانة بكل دول العالم لصالح إسرائيل واعتداء على مشاعر المسلمين والمسيحيين»‏[86]، واصفاً القرار بـالأحمق والغاشم‏[87]. وفي السياق نفسه، أكد رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية أن عملية السلام قبرت للأبد، داعياً إلى انتفاضة‏[88]. وعلى هذا المنوال، جاء رد «الجهاد الإسلامي» وحركة حماس على القرار بأن الإدارة الأمريكية أثبتت أنها شريكة للكيان الصهيوني في عدوانه وجرائمه بحق شعبنا ومقدساتنا. كما أكد الجانبان أن طريق الانتفاضة والمقاومة هو السبيل الوحيد لتحرير أرضنا ومقدساتنا‏[89]. وبالمنطق نفسه أكدت الجبهة الشعبية أن القرار هو بمثابة إعلان حرب على الشعب الفلسطيني، ومقدمة لتنفيذ المخططات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والرد على القرار يفرض علينا التمسك بالمصالحة ‏[90]. ودعت الجبهة الديمقراطية الشعوب العربية وقواها السياسية إلى تحمل مسؤولياتها القومية نحو القدس، والضغط على قادة دولها لاتخاذ إجراءات على مستوى المسؤولية القومية بما فيها مقاطعة الولايات المتحدة‏[91].

أما على المستوى الفلسطيني الرسمي، فقد صرح الرئيس عباس بأن إعلان طرمب «لا يحمل أي شرعية، وسنتخذ إجراءات قانونية وسياسية ودبلوماسية ضده»‏[92]. وبيَّن رئيس الوزراء رامي الحمد الله أن القرار هو إنهاء لدور أمريكا كراعٍ لعملية السلام وأن المصالحة الفلسطينية هي الخيار لإنقاذ القدس. أما رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون فقد شدد على أن هذا القرار العدواني مرفوض جملة وتفصيـلاً ولا يملك طرمب الحق في تقرير وضع القدس كعاصمة لإسرائيل‏[93]. أما رئيس دائرة المفاوضات الفلسطينية صائب عريقات فقد صرح بأن الإعلان يدمر عملية السلام‏[94].

وفي السياق نفسه طالب صالح رأفت، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بوقف جميع أوجه تفكيك العلاقات الفلسطينية مع الولايات الأمريكية ومقاطعتها سياسياً واقتصادياً، كما دعا إلى إغلاق السفارات الأمريكية في العواصم العربية وفرض مقاطعة اقتصادية شاملة للولايات المتحدة الامريكية، مطالباً الدول المنتجة للنفط بوقف تصديره إلى أمريكا وسحب ودائعها المالية من بنوكها وطرد القواعد العسكرية من بلدانها‏[95].

وعلى المستوى الإسلامي والمسيحي، حذر شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب من التداعيات الخطيرة للقرار لما يشكله ذلك من إجحاف وتنكُّر للحق الفلسطيني والعربي الثابت في مدينتهم المقدسية، وتجاهل لمشاعر المسلمين والمسيحين‏[96]. وقد رفض شيخ الأزهر على نحو قاطع طلباً رسمياً سبق ووافق عليه للقاء نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس في 20 كانون الأول/ديسمبر 2017، بعد قرار طرمب‏[97]. وبالمنطق نفسه، أعلن البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، رفضه لقاء بنس للسبب نفسه‏[98]. وقال المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس إن طرمب فقدَ إنسانيته ومسيحيته واستفزّ المسيحيين عندما أعلن قراره‏[99]. أما عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى فقد لخص الموقف العربي، بأن التعليمات الصادرة من الدول العربية هي الرضوخ للقرار الأمريكي والاتفاق على التنديد والاستنكار والشجب ليمر القرار بسهولة‏[100]. في السياق نفسه عُقد مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس في القاهرة في 17 – 18 كانون الثاني/يناير 2018، بمشاركة أكثر من 86 دولة وبحضور شيخ الأزهر، والرئيس عباس، وبابا الإسكندرية وغيرهم من الشخصيات الدينية والسياسية‏[101]؛ حيث أكد المشاركون من علماء الدين الإسلامي ورجال الدين المسيحي وحاخامات يهود رفضهم قرار طرمب، مشددين على ضرورة العمل لمواجهة القرار الباطل‏[102].

أما على مستوى جامعة الدول العربية، ففي 9 كانون الأول/ديسمبر 2017، عقدت جلسة طارئة لوزراء خارجية جامعة الدول العربية لبحث قرار طرمب. حيث صرح رئيس الجامعة أبو الغيط بأن «قرار واشنطن بشأن القدس مستنكر ومرفوض ولا يمكن تبريره»، مضيفاً أن «القدس بحسب القانون الدولي أرض محتلة لا سيادة لدولة الاحتلال عليها، والقرار في جوهره شرعنة للاحتلال»‏[103]. وفي 6 كانون الثاني/يناير 2018 عقد في عمان اجتماع الوفد العربي الوزاري المصغر المكلف متابعة تداعيات قرار طرمب، ولكن السعودية ومصر طلبتا مباشرة من وزير الخارجية الفلسطيني عدم مطالبتهما بتبني أي موقف ضد الولايات المتحدة الأمريكية‏[104].

وقد عبّر عن الموقف الواجب جبران باسيل، وزير الخارجية والمغتربين اللبناني، حيث قال: «إن شرف القدس من شرفنا» وحذر من التخاذل، وطالب بإجراءات ردعية ضد القرار من ضمنها العقوبات الاقتصادية والمالية، كما رأى أن الأمة العربية حوّلت نفسها إلى أمة فاشلة، معتبراً أن البعض أراد هذه الأمة أن تكون منعدمة‏[105]. وفي هذا السياق، وضح أمين عام المؤتمر القومي العربي زياد حافظ، أن قرار طرمب هو بمثابة عدوان واضح على العرب بوجه عام والمسلمين والمسيحيين بوجه خاص، ويشكّل تحوّلاً نوعياً في مسار الصراع العربي – الصهيوني، ويُسقط القناع عن الموقف الأمريكي وينهي الرهان على صدقية الوساطة الأمريكية على الأقل عند الذين ما زالوا يراهنون على ذلك‏[106].

أما على المستوى الدولي والقانوني، فقد صوّت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 كانون الأول/ديسمبر 2017 بأغلبية كبيرة لصالح مشروع قرار يحث الولايات المتحدة على سحب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. بدعم 128 دولة، ومعارضة تسع دول فقط، بينما امتنعت 35 دولة عن التصويت، الأمر الذي يعني رفض القرار‏[107].

وعلى المستوى الأكاديمي والبحثي نظم مركز دراسات الوحدة العربية، في 21 كانون الأول/ديسمبر 2017، حلقة نقاشية مصغرة حول «القدس ومستقبل القضية الفلسطينية»، بمشاركة عدد من الباحثين والمثقفين والناشطين اللبنانيين والعرب، وقد خلص المجتمعون إلى أهم النقاط التي يمكن أن تُبنى هذه الرؤية عليها ومنها‏[108]:

أ – التوحد نحو هدف واحد وهو فلسطين كلها من النهر إلى البحر.

ب – آليات دعم الداخل الفلسطيني لتستمر الانتفاضة، وجميع أوجه المقاومة، مع الأخذ في الحسبان الحصار الاقتصادي والسياسي للداخل الفلسطيني.

ج – الاستفادة من السلطة الفلسطينية كأداة تنفيذية في الحراك الدبلوماسي.

أما على مستوى الحراك الشعبي الفلسطيني، فقد استشهد 21 فلسطينياً واعتقل المئات وأصيب أكثر من 5 آلاف بالمواجهات المستمرة التي اندلعت مع الاحتلال وتم هدم عدد من منازل المقاومين منذ إعلان طرمب وحتى 18كانون الثاني/يناير 2018 ‏[109].

وبعد أربعين يوماً من إعلان قرار طرمب عُقدت الدورة الثامنة والعشرون للمجلس المركزي الفلسطيني في رام الله في 14 – 15 كانون الثاني/يناير 2018، في ظل مقاطعة حركة حماس والجهاد الإسلامي، واتخذ المجلس عدداً من القرارات من أهمها‏[110]:

(1) تعليق الاعتراف بإسرائيل حتى تعترف بدولة فلسطين على حدود عام 1967.

(2) أن الإدارة الأمريكية بهذا القرار قد فقدت أهليتها كوسيط وراعٍ لعملية السلام.

(3) وقف التنسيق الأمني بكل أوجهه، وبالانفكاك من العلاقة التبعية الاقتصادية.

ويذكر أن المجلس المركزي الذي عقد في 5 آذار/مارس 2015 وصادق على قرار وقف التنسيق وغيره من القرارات لم يتم تطبيقها.

وعليه، المطلوب من السلطة البحث عن خيار بديل للمفاوضات، وقلب الطاولة لعودة القضية الفلسطينية للاهتمام الدولي والإقليمي، ولكن السلطة التي لا تؤمن بغير طريق المفاوضات عاجزة في ظل القيادة الفلسطينية الحالية عن اتخاذ قرار مصيري واستراتيجي كما فعل الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي توصل إلى نتيجة مفادها أنه لا حل للقضية الفلسطينية ولا وجود لدولة في الأفق، وما يعرض هو أقل من حكم ذاتي، فعمل على إطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000‏[111]. وأهم رد فعل من وجهة نظر الباحث على هذا القرار الأمريكي والتخاذل العربي هو: قطع التنسيق الأمني وإتمام المصالحة، وبناء منظمة التحرير على أسس الشراكة الوطنية؛ وإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد وعاصمتها مدينة القدس، وإعادة النظر بالمشروع السلمي برمته؛ ومقاطعة إسرائيل ومغادرة مظلة أوسلو؛ والتوجه للأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية أو أن تتسلّم الأمم المتحدة المسؤولية عن فلسطين ورفض الرعاية الأمريكية للسلام في المنطقة بعد وقاحتها في الانحياز التام للاحتلال ونكران كل القواعد والقوانين الدولية تجاه الصراع العربي – الصهيوني.

خاتمة

إن أي قراءة موضوعية لما جريات الأحداث، منذ وعد بلفور إلى وعد طرمب، لا بد أن تقودنا إلى جملة من النتائج؛ لعل أبرزها أن من يمتلك القوة يكون قادراً على التأثير في صناعة التاريخ، وأن من يمتلك الحق دون القوة لن يلتفت إليه أحد في عالم لا تعنيه كثيراً قضايا الضمير والعدل إن لم تتوافق مع مصالحه.

إن نتائج وعد بلفور وآثاره الكارثية ما زالت مستمرة ومتصاعدة، فدولة الاحتلال أقيمت على أغلبية أرض فلسطين التاريخية، إضافة إلى استمرار الاحتلال بالتوسع الاستيطاني وتهويد القدس، والهدم والقتل والاعتقال وتشريد ملايين الفلسطينيين في الشتات، حيث لم تكتفِ بتشريدهم وإنما قامت بملاحقتهم في مخيمات الشتات واستهدفتهم وشردتهم إلى الغربية معتمدة على المقاول الداعشي، ومن قبله على جيش لبنان الجنوبي وعملاء إسرائيل الذين نفذوا مجزرة صبرا وشاتيلا من أجل طمس حق العودة وضرب المقاومة الفلسطينية. في المقابل تقوم الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل، حتى أصبح قادة الاحتلال يتفاخرون بعلاقاتهم السياسية مع أغلبية الدول العربية والخليجية. بل وصل بالبعض العربي إلى وصف حركات المقاومة الفلسطينية والعربية بمنظمات إرهابية، في الوقت الذي تشارك فيه الاحتلال العدوان على بقية الدول العربية التي تشكل حلف المقاومة والممانعة، وهذا كله بمباركة من بريطانيا وأمريكا، من أجل استمرار مخططات السيطرة والهيمنة على الوطن العربي وسرقة ثرواته.

في النهاية، نخلص إلى قاعدة أساسية حكمت الواقع العربي الرسمي إبان إصدار وعد بلفور ووعد طرمب، هي أن النظام الرسمي العربي في وعد بلفور كان عاجزاً عن الدفاع عن القضية الفلسطينية، بينما كان هذا النظام عند إعلان وعد طرمب متخاذلاً متآمراً على القضية الفلسطينية والقدس.

 

قد يهمكم أيضاً  المشروع الصهيوني : قرن جديد من الصراع

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #وعد_بلفور #وعد_طرمب #فلسطين_المحتلة #المشروع_الصهيوني #اللاجئين_الفلسطينيين #سايكس_بيكو #الانتداب_البريطاني #المشروع_الصهيوني #صفقة_القرن #ترمب