المصادر:
(*) محاضرة ألقيت بدعوة من مركز تمّوز للدراسات والتكوين على المواطنية في ورشة “حياد لبنان: التحديات والفرص” التي نظمت في 25 أيلول/سبتمبر 2020.
(**) حيان سليم حيدر: كاتب و”مواطن سيادي غير حيادي”.
(1) “هذا بعض من تراكم الوعي الذي تكوّن على كرور الزمن”:
بين عامي 1958 و 1962 كنت تلميذًا في المغرب، في خضمّ الثورة الجزائرية الإستقلالية. وبين عامي 1964 و1972 طالبًا في جامعة لندن، في زمن ثورات إستقلال دول أفريقيا وسائر العالم. أمّا المفارقات. في المغرب، 1960، تعرّفت على تسمية بَرْبَرْ على أنّهم قبائل تقطن في أعالي جبال شمال أفريقيا وتمتد إلى صحاري جنوبها ولم تكن تتميّز عن باقي القبائل العربية إلّا باللغة. وفي زيارة لاحقة في العام 1970 عرفت أنّ لغتهم هي الأمازيغية، ولها عدّة نماذج، وقد تم الإعتراف بها في الجزائر والمغرب مؤخرًا لغة ثانية للدولة. وفي حادثة إشتباك أخيرة بين قبائل في وسط البلاد والجيش الجزائري تطوّر التصنيف بذهاب بعض الصحف إلى وصفهم، ولأول مرّة، أنهم قوم من المذهب الأباضي. ونقرأ في الصفحة 100 من تقرير” الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل” (عمل جماعي) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (2018): “كما حاول الفرنسيون ذرّ الفرقة بين القبائل العربية والأمازيغية في الجزائر عبر الترويج لنظرية زائفة تعدّ المكوّن الأمازيغي هو الأقرب من حيث القيم والتقاليد إلى الشعوب الأوروبية. وكان الهدف من “أسطورة التفوّق العرقي” التي روّج لها المستعمر الفرنسي إحداث شرخ بين القبائل الأمازيغية والعربية في أفريقيا الشمالية”. أما المطلوب من سرد هذه الوقائع هو دور القوى الإستعمارية والإستغلالية، ومعها “مراكز” الدراسات وما يتبع من إعلام موجّه، في تجزئة المجزّأ في بلاد العالم وفي بلادنا بشكل مركّز. والأمر المشابه يبرز في اعتماد تسمية “مكوّن” و”مكوّنات” في العالم العربي علمًا أنّه لا تخوننا المفردات من نوع الطوائف والقبائل والجماعات والأطياف وما شابه، وتعبير مكوّن ينطوي على تشيِيءْ البشر، والملاحظ أنّ هذا المنحى قد نشأ وتصاعد مع إحتلال العراق في العام 2003.
أردت أن نتمعّن في هذا الأمر قبل الولوج سريعًا إلى أمثال “تَفْريقية” كثيرة تتكرّر في سائر العالم. وتراود ذاكرتي ومنها في الفترة الزمنية التي سبق وذكرت: محاولة إنفصال مقاطعة بيافرا عن نيجيريا تحت عنوان “ديني” مسلم – مسيحي، وذلك بقيادة الكولونيل أوجوكوو وقد إنتهى إلى الفشل بسبب أن حتى هذه المقاطعة كانت خليطًا من الطوائف ولأن السبب الرئيس كان وجود النفط فيها. ومثلها محاولة إنفصال إقليم أوغادين في الصومال، وهو إقليم نفطي، ولم تنته الأمور فيما بين أرض الصومال وشباب الصومال إلى ما لا نهاية من إستعمال للقوى الإقتصادية الإستعمارية. ونذكر المواجهات العسكرية للأكراد في أقطار وجودهم ال4، في تركيا والحكم الذاتي في العراق وفي إيران وسوريا وربما لبنان لاحقًا إذا ما كمّل الناس على هذا النمط. ومع إحياء وتأجيج الصراع السني – الشيعي بالشكل الفجّ القاتل بتنا نسمع عن الإيزيدي والحوثي والزَيْدي وغيرهم والعودة إلى إنفصال اليمن الجنوبي لخصوصيته لا بل لتفكك اليمن إلى يمنات مع ما نسمعه من مخططات لتفكيك الجزيرة العربية برمتها مع جوارها من إيران وتركيا وأبعد شرقًا، وكلّ ذلك على أساس عرقي وديني. وهل يشرح لنا أحدهم عن حال يوغوسلافيا السابقة والتي تقسّمت إلى سبع دول “تنعم” بالإستقرار بعد مجازر ضارية برعاية قوى الناتو وأوروبا، والحالات لن تندمل؟ وهل أحدّثكم عن الطموح الإنفصالي لبعض أهل بلجيكا، “والّون” و”فلامان”، أو الباسك والنورمان والبروتون في فرنسا، أو الباسك والكاتالان في إسبانيا؟ أم نعود شرقًا إلى الأويغور في الصين أو الكيرغيزعلى حدودها والروهينجا في ميانمار والشيشان والداغان. ويجدر التذكير أن إختراع هونغ كونغ، مثال الرخاء الإقتصادي، بحجّة التفريق بين لغتي الكانتونيز المحلية والماندرين في باقي الصين، نشأ على خلفية زراعة الأفيون في أفغانستان وإصرار المستعمرين وفي مقدّمهم بريطانيا، التي لم تكن الشمس لتغيب عن إستغلالها لموارد العالم، إصرارها على تدجين شعب الصين بنشر الإدمان على المخدّرات فيها من طريق ما عُرِفَ بحرب الأفيون. وبالعودة إلى الغرب ماذا عن الإسكوتلانديين والإيرلانديين مع إنكلترا وكلّهم مجموعين والبريكسيت مع أوروبا؟ وهل نطلق العنان لنبرّر الإنفصالات على صياح حركة “حياة السود مهمّة” أو لإنفعالات كاليفورنيا وتِكساس وفيرمونت وربما فلوريدا لتنفصل عن الولايات المتحدة على خلفية إقتصادية ولغة إسبانية. وإذا بات واضحًا من الأمثال السابقة أن الأسباب الجوهرية هي الهيمنة على الموارد والبشر والإقتصاد ليس إلّا، فماذا عن الهند والباكستان، وما زال إقليم كاشمير معلّقًا بينهما، والتيبيت والنيبال ومونغوليا مع الصين، ثم المذابح التي أنشأت بنغلاديش، وأريتيريا وجنوب السودان لأسباب دينية ولكن الذي “يصدف” أن يختزن النفط السوداني؟ وهل نفرز الناس وفقًا للغة المستعملة وبالتالي نحسب حساب الهند ب 780 لغة على مليار وثلث مليار إنسان، أو نذهب إلى جوارها إلى نصف جزيرة بابوا-غينيا مع 851 لغة (الرقم الأعلى عالميًّا) على 8,9 مليون شخص؟ وهل نناصر إنفصال الأعراق عن الألوان عن اللغات وبالنهاية عن “الذين لا يشبهوننا” !
في خلاصة هذا السرد الطويل والذي سيبقى مقصّرًا، أراني أضع خلفية (ليس جميعها طبعًا) المطالبات بالحياد والفيديرالية والتقسيم في أسباب تبرير الحروب وسلب الموارد وتبادل “تنسيق” المصالح.
(2)Anthony Nutting, British Foreign Minister, “No End of A Lesson”
(3) وفيها أيضًا: القواعد العسكرية، التسهيلات “البريئة” على غرار الخط العسكري وقاعات الشرف في المرافق والمرافيء، “الوضع الخاصّ” للسفارات ومهاربها و”حقائبها” الدبلوماسية. الإعفاءات من المحاكمة على جرائم مواطني أيّ من الدول مهما كان الأمر وشأن الدولة، على خلفية إعلان وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية (في 2 ايلول 2020) أن بلاده فرضت عقوبات على فاتو بنسودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بسبب تحقيقاتها فيما إذا كانت القوات الميركية قد إرتكبت جرائم حرب في أفغانستان، واعتبر الوزير بومبيو أن فاكسيو موتشوتشوكو رئيس قسم الإختصاص القضائي والتكامل والتعامل بالمحكمة وُضِعَ كذلك على القائمة السوداء بموجب عقوبات صرّح بها الرئيس ترامب. والعقوبات تشمل تجميد الأموال وحظر السفر، وتابع: واليوم نأخذ الخطوة التالية، لأن المحكمة الدولية تواصل إستهداف الأميركيين، والأفراد والكيانات التي تستمر بتقديم الدعم المادي لبنسودا وموتشو تشوكو ستواجه خطر العقوبات أيضًا. وتفكّر السلطات البريطانية بإتّخاذ إجراءات “قضائية” مماثلة كي “تحمي” قواتها العسكرية العدوانية.
(4) فهي أيضًا عملة خاصّة أنشئت من قِبَل الإتحاد الأوروبي الذي هو ليس دولة بل مجموعة دول. وقد قرّروا ذلك في معاهدة ماستريخت. لا أحد يمتلك عملة اليورو وبالتالي من هو مسؤول عن اليورو؟ البنك المركزي الأوروبي الذي له إستقلال سياسي وبالتالي فهو لا يخضع لدولة. الحكومة والبرلمان الأوروبيان لا يحكمان هذا المصرف بل يديره حاليًا السيد دراغي الذي يفعل ما يشاء ثمّ يًعلم تلك “السلطات” بالأمر بغضّ النظر عن إعتراضات البرلمان والحكومة.
(5) عندما يقول الفرنسيون للبنانيين هذا هو رئيس حكومتكم وهذه هي تشكيلة رئيسها وهذا هو البيان الوزاري للحكومة اللبنانية العتيدة، فنحن أمام نموذج غير مسبوق في الإنتداب والإستعمار والوصاية. ربما لو كان بلدنا محتلاً، لما أمكن للمحتلّ أن يفرض ما يفرضه الفرنسي حاليًا، وكلّ هذا بداعي الغيرة والحرص على “لبنان الكبير” في ذكرى مئويته الأولى.
ملاحظة: تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، في وقت بات من المسلّم به أن البيع في ظروف لبنان الحالية، هو الجنون بحدّ ذاته أو السرقة الموصوفة أو هو سبب لإعادة تعويم أية زعامة. الإعلان الفرنسي بأن فرنسا ستأخذ على عاتقها إعادة إعمار المرفأ والخدمات والنقل في المرفأ يوحي وكأنّ الأمر لا يحتمل النقاش وبالتالي ليس مسموحًا فتح الباب أمام فرص أخرى سواء للدول او الشركات، بما في ذلك تنويع التلزيم وتقسيم الإختصاصات. إنّ أيّ تسليم بهذا الأمر يشكّل مقدمة للفوز أيضًا بقطاعات أخرى أبرزها الكهرباء، ولو راجعنا ما ورد في متن “الورقة الفرنسية”، نجد آليات فعلية لذلك. كانت فرنسا شريكة في قطاع الإتصالات اللبناني، سواء الثابت أو الخلوي منذ اليوم الأول لإعادة بناء هذين القطاعين في النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم، وبالتالي، كانت الشركات الفرنسية شريكة في الفساد، سواء مباشرة أو عبر شراكات مع مستفيدين لبنانيين من المال العام، حسب تاريخ تشغيل الهاتف الخلوي إستثمارًا وإدارة وتعويضات، علمًا أنّ الشركات المذكورة هي من أسوأ الشركات المشغلة أوروبيًا على صعيد الكلفة والخدمات. تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، والتدقيق الجنائي، هو إدخال المصرف المركزي الفرنسي إلى كلّ حسابات مصرف لبنان. لقد ورد صراحة في “الورقة الفرنسية” أن مشروع “الكابيتال كونترول” يجب أن يحظى بموافقة جميع أقسام صندوق النقد الدولي ومدته أربع سنوات وتطبيقه يجب أن يكون فوريًا، أي يجري عبره ربط كامل الجهاز المصرفي اللبناني بصندوق النقد وتحديد كيفية هيكلة القطاع المصرفي والمالي وكذلك آليات التدفق المالي وتحويلات المغتربين وملكية المصارف. أي بسطر واحد تُحدد خيارات كبرى دون تحديد هدف في وقت محدّد ومن دون أيّ نقاش مع المعنيين مصرفيًا وماليًا. تطرح “الورقة” قضية التعيينات في جميع الهيئات الناظمة والمجالس والهيئات، وكذلك إنشاء “ليبان تليكوم” مع ما تعنيه من تفعيل لقانون الإتصالات وإلغاء وزارة الاتصالات حكمًا، وهذه مسائل هامة للغاية تطال بنية الدولة الهيكلية والإدارية. ثم تنص “الورقة الفرنسية – البيان الوزاري” على أن كلّ الدراسات المقترحة سواء للقضاء أو للادارة أو المالية العامة سيتم تلزيمها للمؤسّسات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي أو شركات دولية خاصة، أي جعل البلد مكشوفًا حتى على مستوى التفكير والمقاربة وتحديد الأهداف.
(6) ذكر تقرير لبنان المقدم في فصوله المختلفة إلى مؤتمر باريس3 عشرات المرات عدوان العدو على لبنان في حرب تموز ، وقد تحجّج بها لتبرير إنعقاد المؤتمر، 2006 ولم يجرؤ على المطالبة حتى بإدانة الفاعل أو بالتعويض عن أفعاله الإجرامية أو بإلزامه إعطاء لبنان خرائط مواقغ سقوط القنابل العنقودية المُجرّمة دوليًا.
(7) ولن يفوتنا الإشارة إلى الإصرار على عدم التدخّل في ما سبق خاصّة على ضوء ما جاء في تخطيط وتحديد المناهج والبرامج للمدارس الفلسطينية في خطط ما يُعرف ب”صفقة القرن” (181 صفحة) على غرار، ولا يفوتنا التذكير هنا، بما ذهبت إليه تفاصيل “إتفاق 17 أيّار” الساقط تتدخل في المناهج الدراسية اللبنانية من دون أيّ مبرّر عسكري أو أمني. وكلّ هذا ناهيكم عن تكليف وتلزيم شركة ماكينزي الأميركية، وليس الأزهر أو النجف أو قُمْ، بل ماكينزي، مهام إعادة وضع مناهج تعليم الدين الإسلامي وأصول الكلام لخطباء الجوامع لتعميمها والعمل بتوجيهاتها في البلاد العربية والإسلامية.
(8) عندما خاضت أثينا وإسبارطة الحرب في القرن الخامس قبل الميلاد، لاحظ الجنرال والمؤرّخ اليوناني ثوسيديدس أن “الإغريق لم يعودوا يفهمون بعضهم البعض، على الرغم من أنّهم يتحدّثون اللغة نفسها”.
(9) سليم حيدر – ديوان “إشراق” – صفحة 103 – شركة المطبوعات للنشر والتوزيع ش.م.ل. – 2016.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.