مقدمة:

طُلب مني أن أتكلّم عن حياد النمسا وسويسرا، وخلال مناقشة الأمر، عُرِضَ عليّ أن أعدّل في العنوان إذا ما أردت فأجبت أنّي سأتكلّم حسب الرغبة هذه على أن أضيف عليها ممّا ملأ دلوي.  ولأنّ دلوي قد طفح على مرور الزمن، وقد فاض مرارًا وتكرارًا، أردت أن أنتهز هذه الفرصة، التي قلّما تتكرّر معي، كوني لا أنشط بانتظام في مجال التعليم أو الدراسات، لأفرغ جعبتي ممّا تحتويه من مشاهدات ومتابعات وعِبَرْ، للتاريخ كما عشته أولًا وللأجيال الآتية لعلّها تفيد أحدًا … ولو بعد حين.

هذه ورقة لا شكّ طويلة لا تصلح للقراءة هنا.  وللمتابع أن يطلبها مني مباشرة أو من أمانة إدارة الندوة التي أودعتها كامل الكلمة ورقيًّا وإلكترونيًّا.

رأيت أيضًا، وتجنّبًا لإضاعة لبّ الموضوع الذي يطول ولن ينتهي يومًا، أن أضع جلّ ما قلت أنّه في جعبتي في ملاحق للمداخلة، قد يهتم القاريء لقراءتها (1).

مدخل

يقول الكاتب والباحث حسن حماده: “الحياد، الذي يرمز إلى السلام، مصطلح دقيق جدًّا، وأخطر ما فيه أنّه لا يعيش من دون نقيضه: السلاح”.

النمسا: المساحة = 83,879 km2 ، عدد السكن = 8،9 مليون

كانت تشكّل النمسا قلب القوة الأوروبية، النمسا-المجرية الواسعة، وقد تحجّمت بعد الخسارة في الحرب العالمية الأولى، ثمّ تمّ ضمّها إلى ألمانيا النازية في العام 1938 فإلى إحتلال الحلفاء في العام 1945 وبقيت غير واضحة المعالم السياسية لعقد من الزمن.  ثمّ تمّ توقيع معاهدة دولية في العام 1955 تنصّ على مبادىء حياد، ليتم تضمينها في دستور الدولة فيما بعد، والتي أنهت الإحتلال واعترفت باستقلال النمسا ومنعت إنضمامها إلى ألمانيا بالتزامن مع إعلان دستوري عن حياد أبدي  (perpetual neutrality) وهو الشرط لإنسحاب القوات العسكرية السوفياتية من أراضيها.  كما وتنصّ المعاهدة على عدم الإنتماء إلى أيّ منظمة إقليمية أو دولية، مع الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة تُعتَبَر أنها تتوسّل العنف المسلح لتحقيق غاياتها السياسية بسبب لجوئها إلى ما يُعرف بالفصل السابع.  ولكن: بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي في العام 1991 دخلت النمسا في الإتحاد الأوروبي في العام 1995 ممّا “عدّل في مفهوم الحياد” (وهذا كلام صادر عن تقرير وكالة الإستخبارات الأميركية   CIA في وصفها لدولة النمسا).  ثمّ دخلت النمسا في الإتحاد الأوروبي الإقتصادي والنقدي في العام 1999، الأمر الذي زاد في عدم حيادها.

النمسا جمهورية برلمانية فيديرالية مؤلفة من 9 ولايات.  اليوم الوطني هو يوم الإعلان عن الحياد في 26 تشرين الأول 1955، وليس يوم الإستقلال.  السكان هم بأكثرية نمساوية 80% يليها الألمان 2،6% وغيرهم من جنسيات مجاورة مختلفة (بوسنة وهرسيك 1,9%- ترك 1,8%- سرب 1,6%- رومانيون 1,3%- وغيرهم 10%).  اللغات: الألمانية 88%، التركية 2،3%. الطوائف: كاثوليك 57% – أرثوذكس شرقي 8،7% – مسلم 7،9%).

من أهمّ معطيات الحياد أنّ في النمسا: 1- لا تُمنح الجنسية بالولادة، بل تُكتَسَب من خلال السلالة الأصلية فقط من أحد الوالدين، 2- لا مجال لازدواجية الجنسية.  ثمّ: سنّ الإقتراع 16.  الرئيس يعيّن رئيس السلطة التنفيذية بناءً على توصية الأحزاب.  البرلمان الفيديرالي مشكل من 61 عضوًا والمجلس الوطني من 183 عضوًا.

(أرقام 2017) الدخل القومي 441 مليار$ ، والفردي 55,000$ ، الإدخار الوطني 27% من الدخل الوطني، ميزانية التعليم 5،5% من الناتج العام (إنّ الأرقام المُسطّرة هي مهمّة جدًّا لموضوعنا). عدد العمال 4,26 مليون، التجنيد العسكري الإلزامي لمدة 6 أشهر بعمر 18 سنة.

سويسرا: المساحة = 41,277km2 ، عدد السكان = 8,4 مليون (تموز 2020)

تأسّست في الأول من آب 1291 على شكل إتحاد دفاعي بين 3 كانتونات.  إستقلّت من الأمبراطورية الرومانية المقدسة في العام 1499.  تتشكّل حاليًا من 26 كانتونًا.  دخلت الحياد بإعلان أحادي تمّ تبنّيه لاحقًا في معاهدة دولية.  ثم أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة في العام 2002 ممّا يفقدها حيادها للأسباب المذكورة آنفًا.  الجنسية لا تُكْتَسَب بالولادة  بل بالسلالة (كما في حال النمسا).  إزدواجية الجنسية مسموحة.

جمهورية فيديرالية (سابقًا كونفيديرالية) بمجلسين: 1- فيديرالي ب46 مقعد، ووطني ب 200 مقعد.  سنّ الإقتراع 18.

السكان: سويسرانيون 69,5% – ألمان 4,2% – إيطاليون 3,2 % – برتغاليون %2,6 – فرنسيون 2 % – كوسوفو 1,7% وغيرهم  17,3 %.  اللغات: ألماني أو ألماني سويسري 62,6 % – فرنسي 22% – إيطالي 8,2 % وغيرها.

الديانات: كاثوليك 35,9 % – بروتيستان 23,8 % – مسيحي آخر 5,9 % – مسلم 5,4 % –        و 26 % من دون أيّ ديانة محدّدة.

(أرقام 2018) الدخل القومي 350 مليار$، والفردي 67,885$.  إنتسبت سويسرا مؤخرًا إلى منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (OECD) وإلى معاهدة السريّة المصرفية.  وسأعطي مثلًا واحدًا فقط عن مستوى التعليم هناك، فعندما كانت، مؤخّرًا، الموازنة السنوية لجامعة بوليتكنيك لوزان(EPDL)  10 مليارات فرنك سويسري كان قسط الطالب الجامعي فيها 8 آلاف فقط وكانت كبريات الصناعات حاضرة في الجامعات بتقديماتها للمتفوّقين من الطلاب مُنَحًا سخيّة وعقود عمل مستقبلية.

في مثليْ النمسا وسويسرا هناك معادلة ذات دلالات أساسية مصيرية في موضوع الحياد وتتمثّل في تصدّر أولوية الحفاظ على مستوى عالٍ جدًّا للتعليم العالي والناتج القومي والدخل الفردي وبالتالي فرص العمل والجهوزية والحماية العسكرية وشروط منح الجنسية.

سويسرا، المعروفة (والسويد أيضًا) بمجتمع حرب، إعتمدت الحياد المسلّح بجيش، مدعوم بحصّة وازنة من الضرائب (العالية أصلًا)، قادر على الدفاع عن الحياد وردع من يحاول خرقه.  وكلّ عام هناك تدريب لمدّة شهر لكلّ مواطن في سنّ الخدمة العسكرية، والدولة تؤمّن السراديب والتحصينات والملاجيء النوويّة لكلّ مواطنيها.

طبعًا، وللأهمية، لا يُخْفى أنّ سويسرا هي الملاذ “الآمن” الأول للأموال “الموهوبة” الوافدة، بالتوافق، من عوالم المال “الظلامي”.  وبحسب مركز “The Information Clearing House” الأميركي فإنّ واشنطن سبق وأجبرت الحكومة السويسرية (10-1-2016)  على مخالفة القوانين المصرفية السويسرية ثمّ أجبرتها على إلغاء قانون السريّة المصرفية الذي كانت تعمل به، وبهذا تكون سياسة سويسرا تتقرّر في واشنطن من قبل اشخاص لم ينتخبهم السويسرانيون لتمثيلهم.

وأختم هذا الجزء بالقول: ما كان يصلح، لمرحلة ما، لسويسرا والنمسا، في عالم الماضي قد تغيّر في عالم التواصل والتداخل والمصالح والأحلاف الجديدة والجشع المتفلّت والليبيرالية المتوحّشة.

في عموميات بديهية عن الحياد:

في حالة لبنان فالحلول هي نفسها المشكلات أو، عندما تصبح المشكلة هي الحلّ!  وما أخشاه أنّ في لبنان يكاد يتحوّل خطابنا السياسي إلى حرب أهلية ولكن بوسائل أخرى.  وهذا ما علينا تداركه.

لبنان ليس ولا يمكن أن يكون خارج الزمن وتطوّره وخارج التاريخ وإنقلاباته.  عندما كشف العلماء عن نظرية النسبية فُتحت أمامهم بابًا لإحتمالات لا ولم ولن تُغْلَق يومًا.  فالموضوع هو كما الكتابة في حياة الإنسان، كتاب تاريخ هذا الإنسان.  كلّ ما سيتبع اللحظة هذه يتعلّق بك، ب”مِنْ أين تبتديء الحكاية”، على أيّ فصل من الكتاب فتحت الصفحة لتقرأ القصص على أحفادك ولتؤكّد مقصدك أنت وليس بالضرورة كلّ الحقيقة، التي هي أعقد من ذلك بكثير، متجاهلًا ما كان من قبل، من مآسي ربما، بانيًا أحلامًا على ذلك الآتي؟  وهل “لا نهاية من الدرس كما عنْوَنَ وزير خارجية بريطانيا العظمى (يومذاك) كتابه الإعتذاري عن حرب السويس؟(2).

ونسأل: من يضمن الحياد وما هي الضمانات وهل تدوم؟ وهل الحياد هو ظرفي أم دائم؟

هل هناك من حياد بين الحقّ والباطل، بين الظلم والعدل، بين الأخلاق والفساد؟

الحياد يجب أن يكون بين متساويين، في التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، والموارد، و… العقل.

في خصوصية وضع لبنان: كلّ ما ورد وقد يرد من حجج و”براهين” وقرائن وإستدراكات لم ولن تكون، في حال لبنان، إلّا جزءً من الخطأ الأصلي المتمثّل بزرع ما يُسمّى بدولة “إسرائيل” في أرض فلسطين على تخوم لبنان واقتلاع وتشريد الفلسطينيين.  هي الخطيئة الأساس وقد أوجدتها وشاركت فيها دول إستعمارية إستغلالية ومعها رجال “أعمال” وسياسة ودين ودنيا !

وبكلّ شفافية ومن دون أيّ إنحياز كان، ولأنّني حريص، بل حريص جدًّا، على الحفاظ على صداقاتي الكثيرة التي أحترم وأرغب بصداقتها من لبنانيّين قد لا أوافقهم الرأي، وموقفي من الحياد معروف وواضح جدًّا، سأكون مع محاولة الذهاب إلى حياد لبنان ولكن ضمن المفاهيم السيادية، والسيادية فقط، التي تؤمّن ألّا يحكمك وأيضًا ألّا يتحكّم بك أحد وبالتالي بإحتياجاتك الحياتية من الإقتصاد والعمل والفكر وما إليها.

لا شكّ أنّ القارىء سيعتبر الشروط المذكورة فيما يأتي تعجيزية، غير أنّنا، أذكّر، في عالم الحياد العام والتام وفي هذه الحالة لا يمكن لا المراعاة ولا المحاباة ولا المسايرة خشية من الوقوع في الإنحياز إلى هذه الجهة أو تلك الفكرة أو هاتيك القاعدة.  لذلك، مع سؤالنا المكرّر “من وما يضمن كلّ هذا وما هي الضمانات.” علمًا أنّها تقتضي كلّها تعديل الدستور طبعًا، ولهذه الغاية، ومع تطبيق مبادىء التعاون السيادي مع سائر المراجع والجهات، فعلى دولة الحياد العام والتام أن تتجنّب وتبتعد ولا تنخرط ولا تنتمي ولا تنضمّ ولا تُجْري معاهدات من أيّ نوع كان إلخ… مع أو إلى أيّ من التالي:

– الدول: كلّ دول العالم وبخاصة الدول الكبرى ودول الجوار المباشر، وفي الحياد لا وجود لدول “صديقة” ولا ل”مجتمع دولي” ولا ل”مجتمع عربي” وما شابه،

– المنظمات (وجميعها تفرض شروطها المُفْقِدة للسيادة للتعامل معها): الأمم المتحدة ومجلس الأمن وجميع وكلّ المنظمات العائدة والتابعة لها (الصحّة، العمل، الزراعة، البيئة…) بأيّ شكل كان وكلّ ما يندرج عن ذلك.  جامعة الدول العربية وكلّ منظماتها وكلّ ما يصدر عنها ويندرج عن ذلك.  مجلس تعاون الدول الإسلامية إلخ… المحاور على أنواعها، الدولية والإقليمية، مثال الحلف الأطلسي، المتوسّط، المجموعات الإقتصادية الدولية والعالمية والإقليمية والقارّية.  البنك الدولي وتوابعه من صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي والبنك الإسلامي والصناديق العربية والدولية ومثيلاتها.  ونشير إلى أنّ هذه المنظمات باتت، مع مرور الزمن ومروق الدول، تخالف قوانينها وقواعد عملها وبالتالي الغايات والأسس التي من أجلها أُنْشِئت.

– القوانين والمعاهدات والإتفاقيات والمواثيق والإعلانات والعهود الدولية والعالمية ومذكرات التفاهم والتعاون: السياسية، الإقتصادية، التجارية (حرّة وغيرها)، السلاح والتسلّح على أنواعه، منتجو النفط والغاز، السلاح النووي وغيرها.  وكيف تكون حياديًّا من إتفاقية المناخ مثلًا، التلوّث البحري أو من موضوع حقوق البثّ عبر الأقمار الصناعية ؟  ونسأل ما قيمة كلّ هذه المعاهدات والإتفاقيات وخاصّة نتائج التحقيقات الجنائية والجزائية مع الدول المارقة التي تزداد عددًا كلّ عام؟ وما كان مصير كلّ من (نماذج منتقاة فقط، وليس للحصر) تقارير: أسلحة الدمار الشامل وتقرير غولدستون حول الحروب على فلسطين في غزّة، وتقرير الفشل برئاسة فينوغراد أو تقرير تشيلكوت عن مسؤولية الرئيس البريطاني توني بلير الإجرامية في حرب العراق، وطبعًا “لا مسؤولية” على بوش وزملائه في الجريمة؟ (3)

الحياد في الإقتصاد والمال والنقد:

كما وعلى طالب الحياد الخروج من التعامل بالدولار الأميركي كعملة عالمية حصرًا ومن أيّ وسيلة تعامل أو تبادل مالي، نقدي، تجاري أخرى وبالتالي التعامل فقط مع لبنان بعملته الوطنية “المحايدة”. وكي لا نبقى ماضَويّين في التفكير بأمورنا، كما نُتّهم بحقّ، نذكر أيضًا ببالغ الأهمية الشركات عابرة للقارات والدول والقوانين والمصالح وأهمّ مجالات عملها: النفط والغاز، الغذاء، الأدوية، الأمن، الأسلحة، المرتزقة، إدارة السجون، التكنولوجيا وتلك العاملة في المجال الرقمي والإلكتروني، الحواسيب والبرمجة وما شابه ونذكر أهمّها وليس حصرًا: جوجل، أمازون، فايسبوك، تويتر، أبل، سامسونغ، هواوي، ويندوز، تيك توك وي تشات علي بابا وغيرها.  وأيضًا قوانين وأنظمة الملكية الفكرية والإحتكار وأنظمة التجسّس والترقّب والمتابعة مثال ال 5G وقد وقّعت أمازون هذا الشهر عقدًا لنشر طائرات مسيّرة في جميع أجواء دولة الولايات المتحدة الأميركية، واللائحة تطول، وكلّ هذه الشركات-الدول أصبحت دولًا ضمن دولنا.  وبطبيعة لزوم ما لا يلزم القول أن كلّ من وما سبق ذكره عليه أن يوافق ويتعهّد إلخ… على هذه الأمور والإجراءات التي قد تضمن الحياد العام والتام.  وليس أقلّ أهمية ما توارد من أنّ 28 شركة تكنولوجيا عملاقة من أمثال، ومن دون حصر، فايسبوك وأمازون وبايبال وفيزا قرّرت في آذار العام 2020 إستحداث عملة رقمية خاصّة أسموها Libra أي “حرّة” على أن تدفع بواسطتها لأيّ شيء وكلّ شيء فأنت حرّ، وهذا شعارها.  لن يكون هناك من رقابة ولا دولة ولا أصول مالية، فأنت تعطي فقط رقمك وهذا كلّ شيء، والمُخَطّط لتطبيقها في العام 2021.  والعملة لم تعد إمتيازًا سياديًّا للدولة، العملة أصبحت بذلك إمتيازًا خاصًّا يتحكّم به الجشع.  ونعطي مثلًا على ذلك: عملة اليورو(4)..  إذن القطاع الخاص هو الذي يحكم هذه العملة وليس الدولة.  الشركات الخاصّة تلك ستحكم العملة والعالم بما أنها لديها البنية الأساسية الرقمية المُعوْلمة والمُدوّلة والبنوك المُعوْلمة والأسواق وقوائم المستهلكين وأسرارهم وخصوصياتهم وأقلّها قوائم إتصالاتهم وميولهم الإستهلاكية وعلاقاتهم وما شابه، كما يتّضح كلّ يوم، لقد دخل العالم في مرحلة “حوسبة” ورقمنة حياة الناس ولا حياد في ذلك.

الحياد العام والتام من الدول الكبرى والمارقة:

وفي الحياد على كلّ الدول إحترام حياد لبنان الدائم والعام والتام وبالتالي إعفائه من أيّ قوانين وإجراءات خاصّة، سارية أو التي قد تسري، مثال قوانين الولايات الأميركية المتحدة من نوع  “PATRIOT” و “JASTA” و“FATCA”  و“MAGNITSKY” و “قيصر” وغيرها كما والإمتناع عن إصدار عقوبات أحادية الجانب أو غيرها بوجه الدولة أو مواطنيها. والحياد يطالب بتفسير، ومن ثمّ تبرير يكون بمثابة تبرئة، لمفهومِهِ إزاء ما أعلنه أمس مساعد وزير الخارجية الأميركية السيد ديفيد هيل أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس أنّ دولته أنفقت في لبنان عشرة مليارات دولار على المؤسّسات العسكرية (1,4 مليار) ومنظمات المجتمع المدني (كي تكون حيادية) خلال السنوات الماضية لمواجهة حزب الله. كما وفي حال الحروب في العالم وفي الجوار، على الدول ضمان منع عبور أو وفود اللاجئين إلى لبنان تحت أيّ ذريعة. وما ينطبق على الدولة العظمى هنا يجب حكمًا أن ينطبق على سائر الدول من دون إستثناء والتي تتعاظم مطامعها في لبنان، ومنها فرنسا(5).

أما بالنسبة للعدو الإسرائيلي، وعلينا أولًا أن نتفق هل هي دولة عدو وجودي تاريخي أو حليف أو صديق مُسالم؟ علمًا أنها دولة التعدّي والإحتلال والتمييز العنصري بامتياز والديني أيضًا في دستورها والقوانين والإجراءات وفي تأسيس الدولة، وهو سبب كلّ هذا الحوار الجدلي: فيطلب منها، وعلى غرار دول العالم والدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، تقديم خريطة لبلادها المزعومة موقّعة بشكل رسمي إلى المراجع الدولية وفيها تحديد للحدود “النهائية” برًّا وبحرًا وجوًّا وجوفًا مع كلّ الجوار وليس مع لبنان فقط، كما وتحديد عدد المواطنين “النهائي” حاليًا ولا يُسمح بإستجلاب “مواطنين” من العالم على مرّ الزمن لما يشكله ذلك من خطر ديموغرافي على لبنان والجوار على حدّ السواء.  ويجدر التذكير بالمادة 7 من إتفاقية الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية (هدنة رأس الناقورة في 23 آذار 1949). وعليها تنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة، الهيئة العامة ومجلس الأمن، وسائر المنظمات والمعاهدات ذات الصلة، المتعلقة بالشرق الأوسط وبخاصة، وليس حصرًا، القرارات الأممية برقم 181 و194 و242 و338 و425 (الذي بقي 22 عامًا لم تنفذه دلوماسية “قوة لبنان بضعفه”بل مقاومة اللبنانيّين) حتى القرار 1701 الذي عليه أن يقضي بنشر قوات السلام مع قواعد ضمان السلام والصلاحيات ذاتها على طرفي الحدود، كما وإحترام جميع وكلّ المعاهدات والقرارات ذات الصلة ومنها تسديد المبالغ التي حكمت بها المحكمة الدولية من جرّاء تخريب العدو في حرب تموز 2006 (6).  وعليها الإعتذار عن إجتياح لبنان تكرارًا وإحتلاله وقتل مواطنيه وتدمير بناه والتآمر المستمر عليه والتعويض عن كلّ ذلك.  والحياد يتطلب التراجع الرسمي عن ما تُضْمِره من مخططات إحتلالية واستعمارية والتراجع عن تصريحات المسؤولين الصهاينة على مرّ العصور (منذ ما يفوق 150 عامًا) ونموذج عنها، وليس حصرًا، تصريح حاييم وايزمان القائل: “إن فلسطين كلّها من متصرّفية جبل لبنان المستقل إلى الحدود المصرية.. يجب أن تفتح أبوابها أمام الإستيطان” (3 آذار 1919 جريدة النيو يورك تايمز)، أمّا باقي التصريحات على مرّ التاريخ فهي لا تليق الذكر باسم البشر.

ومن مستلزمات الحياد العام والتام، من خبرة بلاد الإستعمار والإستعباد والفصل العنصري أيّ التفرقة، تطبيق مبادىء العدالة الإنتقالية في سبيل مصالحة الشعوب والناس وإنهاء الصراع بين الظالم والمظلوم (كما تمّ تطبيقها في كلّ من أفريقيا الجنوبية ورواندا على سبيل المثال).  وهذا يُحتّم، على الأقلّ، إجراء بعض الأمور التمهيدية ومنها: 1- إعتراف الظالم (المرتكب) بجريمته،  2- تلاوة المجرم فعل الندامة على جريمته تنفيذًا للمصالحة وطلبًا للصفح وقبول الضحية بذلك، 3- تحديد مدى وحجم الجريمة والتعويض الفعلي عنها لأهل المظلوم. وهل كلّ ظالم ومعتدي ومرتكب على إستعداد لفعل ذلك؟

ومن يضمن لك الحياد الدائم والعام والتام؟  إنّ الحياد يضمنه ويصونه أحرار وسياديون ومستقلّون، وتُترجم سيادتهم بأن تكون أمور السياسة الخارجية والأمن والإقتصاد ممسوكة وموحّدة.  وبما أنّ اللائحة تطول، ولأن هي الدولة المنتدبة المستعمرة الأساس فنسأل عن نيّة فرنسا كيف أنّها أنشأت لبنان الكبير”محايدًا” (في ظلّ إنتداب؟ عجبًا!) وهل فرنسا نفسها ذات سيادة وقد توالت فيها القوانين المنحازة للعدو بحيث باتت في آخرها تهمة مناهض للسامية الأقدم توازي تهمة مناهض للصهيونية السابقة والتي أصبحت، مؤخّرًا، توازي تهمة مناهض ل”إسرائيل” الدولة، الجريمة التي يُسجن بسببها المتّهم بمجرّد التفوّه بها من دون فرصة للإعتراض حتى ؟  (وماذا عن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبدالله الذي أكمل عقوبته بموجب القانون الفرنسي وزاد عليها عشر سنوات من الظلم في ظلام السجن الفرنسي فقط لأن فرنسا لا تجرؤ على تطبيق قانونها هي، والذي ورثه لبنان الكبير، وذلك إنصياعًا لأوامر “الحليف” الأميركي ؟)  ومن يضمن لك الحياد تسالني؟  وأسألك جوابًا: هل هو ذاك الذي هدّد المنطقة بالفوضى الخلّاقة فأحدثها، وهذا الذي يهدّد لبنان الآن بالزوال وهو سبق وأحدثه، وقبلها ذلك الذي جاء ببواخره عرض بحر لبنان عارضًا على أهله “إخراجهم” من أرضهم لإعطائها للذين سبق وأخرجهم هو نفسه من أرضهم وأعطاها للغاصب الذي سبق المُسْتعمِر نفسه وأحرق أجداده في بلاده ؟!  أقنِعْه !  وعلى ضامن الحياد، أي كلّ من سبق تسميتهم من دول ومنظمات دولية وعالمية وذات صفة قانونية وقضائية إلخ…، توقيع تعهّد وإعطاء كفالات فعلية ترتبط بعقوبات تحت البند السابع الأممي، بعدم التدخّل في الحياة اللبنانية بكلّ أشكالها، قرارات وتعيينات وما إليها من أمور، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية والعسكرية والأمنية والقضائية والدبلوماسية والتربوية والثقافية وغيرها وهل علينا أن نقترح إنشاء محكمة خاصّة للسهر على حماية وحسن تطبيق حياد دول الحياد ؟

إستراتيجية ضمان الحياد الدائم والعام والتام:

لكي لا يصبح الحياد “سياسة واقعية تفضي بالإستسلام لموازين القوى”، على لبنان الرسمي والإداري والشعبي والأهلي إيجاد آليات (عقيدة ونهج وقوانين ووسائل وأساليب) لضمان حياده على جميع الصُعُد: السياسة، الدفاع، الأمن، القضاء، الإقتصاد، المال والنقد، التربية والثقافة، الإعلام بمعنى ألّا يحتاج للخارج على ألّا يستفزّ الخارج أيضًا، على قدر ما هو مُتاح.  لامجال مع الحياد لحرية إعلام عنوانه الرئيس ما قرأناه مؤخّرًا: “ماذا يبقى من لبنان بلا حصانة أميركية؟”

وقبل تطبيق الحياد العام والتام علينا معالجة أمور هامة منها: قضاء مستقل، فعلًا مستقل، عن كلّ جهة داخلية وخاصّة خارجية، العسكر والأمن وقبلها باقي المنظومة من رئيس وحكومة وبرلمان وغيرها، ولا مجال مع هذا الحياد لأصحاب العقول المستقيلة من الكرامة الوطنية.  وبالتالي لن تجوز إذن إزدواجية الجنسية لأيّ كان.  وأيضًا وخاصّة تحديد مفاهيم في مناهج التربية وبرامج التعليم وكتاب التاريخ (7). وفي المجال الثقافي لن يُسْمح بعد الحياد باستعمال كلمات ومعاني وإتجاهات وإيحاءات لوصف لبنان من نوع: المشرقي، الإستشراق، الإستغراب، سائر المشرق..ومن أولى الأولويات أن يكون هناك إقتصاد مستقلّ منتج في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا بدايةً.

كلّ ما سبق لا شكّ يقتضي تعديلات كبيرة في الدستور اللبناني.  ولكن، وقبل أيّ تعديل، علينا أن نطبّق الدستور القائم، نظريًّا، قبل تعديله، إذ لا جدوى من الهروب من دستور لم يطبّق بكامله منذ العام 1926 إلى دستور لم يُحْتَرم بتفاصيله بعد العام 1990 إلى أيّ بديل قبل تعميم إرادة وقناعة إحترام الدستور والقانون وتطبيق النظام.

ويجدر السؤال: هل ضمنت دول ثلاث أعضاء في حلف واحد “الناتو” وضع قبرص؟ وحتى آيسلاندا، الجزيرة الجليدية المعزولة في محيط الشمال لا تسلم من التدخّل، وقد إنهار إقتصادها مع الإنهيار المالي العالمي عام 2008.  الحياد، كما في أمثال النمسا وسويسرا، يحتاج إلى جيش قوي يحمي حدود البلاد، وبالتالي على سلاح على أنواعه، جوّ – بحر – برّ- جوفي – إلكتروني- إفتراضي، غير مقيّد بعدم إمكانية إستعماله و مجهّز لردع العدو، أيّ كان.

نقول كلّا.  إنّ مسألة بهذه الأهمية المصيرية الحياتية لا يمكن أن تُتْرَك لا للسياسيين ولا للخارجيين، على اختلاف مصالحهم ومآربهم، ولا لرجال دين أو أعمال أومراكز دراسات حتى.  كما وأنّ لا يُبْحَث الأمر لأن الغني شعر أن المُعْدَم “لا يشبهنا” أو “مش منا” أو أنّه رغب ب”لبنان متل ما بدنا إياه، الكانتون “النقيْ” “، ليصبح الوطن فندقًا نغادره عندما تسؤ الخدمة فيه.  وقد يجدر التذكير بمقالة جبران خليل جبلران بعنوان “لكم لبنانكم ولي لبناني” المليئة بالعِبَر على مرّ الزمن.  وماذا عن حكم الإستفتاء الشعبي، والشعب هو مصدر السلطات، في مقابل حلول إفتراضية تعوزها واقعية؟

ونحذّر الحالمين في اليقظة:  إنّ العاجزين عن بناء الدولة العادلة في لبنان الكبير لن يفلحوا من بنائها في لبنانات صغيرة، لأن طرح الحياد المستحيل يتضمّن في طيّاته جذور الفدرلة وأطراف التقسيم من منطلق إعادة تحديد مفهوم “التعايش” ونظامه الوقح بإعادة توزيع الغُنْم والغُرْم، وكلّ فضّ شراكة ما يوجب إجراء محاسبة “جنائية” دقيقة والتعويض على الطرف المتضرّر كي يتم الأمر بسلام ! وفي هذا السياق نذكّر بقول الجنرال المؤرّخ اليوناني (8).

نعم، أجاوبكم، على هذا الخياد العام والتام أن يبدو “إنعزاليًّا” إلى حدّ بعيد كي ينجح، فالحياد هو ألّا يقرّر الخارج، وبخاصة الإستعماري منه، كيف أكون أنا، إبن هذه الأرض منذ العصور “المنيرة” (المعروفة بالغابرة المظلمة سابقًا) إبن هذه اللغة وهذه الثقافة … كيف أكون “أكثر لبنانيًّا…” كما نسمعه يُعلِمنا الآن !  بين التأريخ العلمي والتأريخ السياسي يبحث المُحاور عن الوقائع التي تناسبه وتنفعه في مشروعه السياسي، وبالوسائل المُتاحة يحاول السيطرة على الماضي بغية الهيمنة على الحاضر في سبيل التحكّم بالمستقبل.

هل نبقى نتحاور في حيّز اليوتوبيا غير القابلة للتحقّق في هذا العالم ؟  أم نتوقّف قليلًا مع وصف الشاعر سليم حيدر لحالنا بقوله منذ أكثر من نصف قرن:

”  نحن  في  لبنان  أشكالٌ  ألوانٌ  عديدَه                                                                                                                     وشعوبٌ   ودروبٌ    وتواريخٌ    مجيدَه

نحن في رقعة أرضٍ أصغر الأوطان حجمًا

والمسافات  التي  تفصلنا  جدُّ  بعيده ! “(9)

وبعد التلهّي بتحليل إسقاطات الماضي على تطورات المستقبل الأمر الذي منعنا من عيش الحاضر حتى، أقول في الخلاصة، نعم أنا أكون (إيجابيًّا) مع الدعوة إلى الحياد الدائم، العام والتام منه وضمن المفاهيم والمسلّمات المعدّدة هنا.  أما إذا اعتبر أحدهم أن هذه شروط تعجيزية ويسأل عن البديل، فالبديل موجود، فإلى ورقة ثانية لا تبتغي بناء الوطن بحجارة الهيكل المنهار.

 

قد يهمكم أيضاً  حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #لبنان #الحياد #حياد_لبنان #السيادة #الأوضاع_في_لبنان                                                           

المصادر:

(*) محاضرة ألقيت بدعوة من مركز تمّوز للدراسات والتكوين على المواطنية في ورشة “حياد لبنان: التحديات والفرص” التي نظمت في 25 أيلول/سبتمبر 2020.

(**) حيان سليم حيدر: كاتب و”مواطن سيادي غير حيادي”.

(1) “هذا بعض من تراكم الوعي الذي تكوّن على كرور الزمن”:

بين عامي 1958 و 1962 كنت تلميذًا في المغرب، في خضمّ الثورة الجزائرية الإستقلالية.  وبين عامي 1964 و1972 طالبًا في جامعة لندن، في زمن ثورات إستقلال دول أفريقيا وسائر العالم.  أمّا المفارقات.  في المغرب، 1960، تعرّفت على تسمية بَرْبَرْ على أنّهم قبائل تقطن في أعالي جبال شمال أفريقيا وتمتد إلى صحاري جنوبها ولم تكن تتميّز عن باقي القبائل العربية إلّا باللغة.  وفي زيارة لاحقة في العام 1970 عرفت أنّ لغتهم هي الأمازيغية، ولها عدّة نماذج، وقد تم الإعتراف بها في الجزائر والمغرب مؤخرًا لغة ثانية للدولة.  وفي حادثة إشتباك أخيرة بين قبائل في وسط البلاد والجيش الجزائري تطوّر التصنيف بذهاب بعض الصحف إلى وصفهم، ولأول مرّة، أنهم قوم من المذهب الأباضي.  ونقرأ في الصفحة 100 من تقرير” الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل” (عمل جماعي) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (2018): “كما حاول الفرنسيون ذرّ الفرقة بين القبائل العربية والأمازيغية في الجزائر عبر الترويج لنظرية زائفة تعدّ المكوّن الأمازيغي هو الأقرب من حيث القيم والتقاليد إلى الشعوب الأوروبية.  وكان الهدف من “أسطورة التفوّق العرقي” التي روّج لها المستعمر الفرنسي إحداث شرخ بين القبائل الأمازيغية والعربية في أفريقيا الشمالية”.  أما المطلوب من سرد هذه الوقائع هو دور القوى الإستعمارية والإستغلالية، ومعها “مراكز” الدراسات وما يتبع من إعلام موجّه، في تجزئة المجزّأ في بلاد العالم وفي بلادنا بشكل مركّز.  والأمر المشابه يبرز في اعتماد تسمية “مكوّن” و”مكوّنات” في العالم العربي علمًا أنّه لا تخوننا المفردات من نوع الطوائف والقبائل والجماعات والأطياف وما شابه، وتعبير مكوّن ينطوي على تشيِيءْ البشر، والملاحظ أنّ هذا المنحى قد نشأ وتصاعد مع إحتلال العراق في العام 2003.

أردت أن نتمعّن في هذا الأمر قبل الولوج سريعًا إلى أمثال “تَفْريقية” كثيرة تتكرّر في سائر العالم.  وتراود ذاكرتي ومنها في الفترة الزمنية التي سبق وذكرت: محاولة إنفصال مقاطعة بيافرا عن نيجيريا تحت عنوان “ديني” مسلم – مسيحي، وذلك بقيادة الكولونيل أوجوكوو وقد إنتهى إلى الفشل بسبب أن حتى هذه المقاطعة كانت خليطًا من الطوائف ولأن السبب الرئيس كان وجود النفط فيها.  ومثلها محاولة إنفصال إقليم أوغادين في الصومال، وهو إقليم نفطي، ولم تنته الأمور فيما بين أرض الصومال وشباب الصومال إلى ما لا نهاية من إستعمال للقوى الإقتصادية الإستعمارية.  ونذكر المواجهات العسكرية للأكراد في أقطار وجودهم ال4، في تركيا والحكم الذاتي في العراق وفي إيران وسوريا وربما لبنان لاحقًا إذا ما كمّل الناس على هذا النمط.  ومع إحياء وتأجيج الصراع السني – الشيعي بالشكل الفجّ القاتل بتنا نسمع عن الإيزيدي والحوثي والزَيْدي وغيرهم والعودة إلى إنفصال اليمن الجنوبي لخصوصيته لا بل لتفكك اليمن إلى يمنات مع ما نسمعه من مخططات لتفكيك الجزيرة العربية برمتها مع جوارها من إيران وتركيا وأبعد شرقًا، وكلّ ذلك على أساس عرقي وديني.  وهل يشرح لنا أحدهم عن حال يوغوسلافيا السابقة والتي تقسّمت إلى سبع دول “تنعم” بالإستقرار بعد مجازر ضارية برعاية قوى الناتو وأوروبا، والحالات لن تندمل؟ وهل أحدّثكم عن الطموح الإنفصالي لبعض أهل بلجيكا، “والّون” و”فلامان”، أو الباسك والنورمان والبروتون في فرنسا، أو الباسك والكاتالان في إسبانيا؟ أم نعود شرقًا إلى الأويغور في الصين أو الكيرغيزعلى حدودها والروهينجا في ميانمار والشيشان والداغان.  ويجدر التذكير أن إختراع هونغ كونغ، مثال الرخاء الإقتصادي، بحجّة التفريق بين لغتي الكانتونيز المحلية والماندرين في باقي الصين، نشأ على خلفية زراعة الأفيون في أفغانستان وإصرار المستعمرين وفي مقدّمهم بريطانيا، التي لم تكن الشمس لتغيب عن إستغلالها لموارد العالم، إصرارها على تدجين شعب الصين بنشر الإدمان على المخدّرات فيها من طريق ما عُرِفَ بحرب الأفيون. وبالعودة إلى الغرب ماذا عن الإسكوتلانديين والإيرلانديين مع إنكلترا وكلّهم مجموعين والبريكسيت مع أوروبا؟  وهل نطلق العنان لنبرّر الإنفصالات على صياح حركة “حياة السود مهمّة” أو لإنفعالات كاليفورنيا وتِكساس وفيرمونت وربما فلوريدا لتنفصل عن الولايات المتحدة على خلفية إقتصادية ولغة إسبانية.  وإذا بات واضحًا من الأمثال السابقة أن الأسباب الجوهرية هي الهيمنة على الموارد والبشر والإقتصاد ليس إلّا، فماذا عن الهند والباكستان، وما زال إقليم كاشمير معلّقًا بينهما، والتيبيت والنيبال ومونغوليا مع الصين، ثم المذابح التي أنشأت بنغلاديش، وأريتيريا وجنوب السودان لأسباب دينية ولكن الذي “يصدف” أن يختزن النفط السوداني؟ وهل نفرز الناس وفقًا للغة المستعملة وبالتالي نحسب حساب الهند ب 780 لغة على مليار وثلث مليار إنسان، أو نذهب إلى جوارها إلى نصف جزيرة بابوا-غينيا مع 851 لغة (الرقم الأعلى عالميًّا) على 8,9 مليون شخص؟  وهل نناصر إنفصال الأعراق عن الألوان عن اللغات وبالنهاية عن “الذين لا يشبهوننا” !

في خلاصة هذا السرد الطويل والذي سيبقى مقصّرًا، أراني أضع خلفية (ليس جميعها طبعًا) المطالبات بالحياد والفيديرالية والتقسيم في أسباب تبرير الحروب وسلب الموارد وتبادل “تنسيق” المصالح.

(2)Anthony Nutting, British Foreign Minister, “No End of A Lesson”

(3) وفيها أيضًا: القواعد العسكرية، التسهيلات “البريئة” على غرار الخط العسكري وقاعات الشرف في المرافق والمرافيء، “الوضع الخاصّ” للسفارات ومهاربها و”حقائبها” الدبلوماسية.  الإعفاءات من المحاكمة على جرائم مواطني أيّ من الدول مهما كان الأمر وشأن الدولة، على خلفية إعلان وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية (في 2 ايلول 2020) أن بلاده فرضت عقوبات على فاتو بنسودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بسبب تحقيقاتها فيما إذا كانت القوات الميركية قد إرتكبت جرائم حرب في أفغانستان، واعتبر الوزير بومبيو أن فاكسيو موتشوتشوكو رئيس قسم الإختصاص القضائي والتكامل والتعامل بالمحكمة وُضِعَ كذلك على القائمة السوداء بموجب عقوبات صرّح بها الرئيس ترامب.  والعقوبات تشمل تجميد الأموال وحظر السفر، وتابع: واليوم نأخذ الخطوة التالية، لأن المحكمة الدولية تواصل إستهداف الأميركيين، والأفراد والكيانات التي تستمر بتقديم الدعم المادي لبنسودا وموتشو تشوكو ستواجه خطر العقوبات أيضًا.  وتفكّر السلطات البريطانية بإتّخاذ إجراءات “قضائية” مماثلة كي “تحمي” قواتها العسكرية العدوانية.

(4) فهي أيضًا عملة خاصّة أنشئت من قِبَل الإتحاد الأوروبي الذي هو ليس دولة بل مجموعة دول.  وقد قرّروا ذلك في معاهدة ماستريخت.   لا أحد يمتلك عملة اليورو وبالتالي من هو مسؤول عن اليورو؟  البنك المركزي الأوروبي الذي له إستقلال سياسي وبالتالي فهو لا يخضع لدولة.  الحكومة والبرلمان الأوروبيان لا يحكمان هذا المصرف بل يديره حاليًا السيد دراغي الذي يفعل ما يشاء ثمّ يًعلم تلك “السلطات” بالأمر بغضّ النظر عن إعتراضات البرلمان والحكومة.

(5) عندما يقول الفرنسيون للبنانيين هذا هو رئيس حكومتكم وهذه هي تشكيلة رئيسها وهذا هو البيان الوزاري للحكومة اللبنانية العتيدة، فنحن أمام نموذج غير مسبوق في الإنتداب والإستعمار والوصاية.  ربما لو كان بلدنا محتلاً، لما أمكن للمحتلّ أن يفرض ما يفرضه الفرنسي حاليًا، وكلّ هذا بداعي الغيرة والحرص على “لبنان الكبير” في ذكرى مئويته الأولى.

ملاحظة: تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، في وقت بات من المسلّم به أن البيع في ظروف لبنان الحالية، هو الجنون بحدّ ذاته أو السرقة الموصوفة أو هو سبب لإعادة تعويم أية زعامة.  الإعلان الفرنسي بأن فرنسا ستأخذ على عاتقها إعادة إعمار المرفأ والخدمات والنقل في المرفأ يوحي وكأنّ الأمر لا يحتمل النقاش وبالتالي ليس مسموحًا فتح الباب أمام فرص أخرى سواء للدول او الشركات، بما في ذلك تنويع التلزيم وتقسيم الإختصاصات.  إنّ أيّ  تسليم بهذا الأمر يشكّل مقدمة للفوز أيضًا بقطاعات أخرى أبرزها الكهرباء، ولو راجعنا ما ورد في متن “الورقة الفرنسية”، نجد آليات فعلية لذلك.  كانت فرنسا شريكة في قطاع الإتصالات اللبناني، سواء الثابت أو الخلوي منذ اليوم الأول لإعادة بناء هذين القطاعين في النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم، وبالتالي، كانت الشركات الفرنسية شريكة في الفساد، سواء مباشرة أو عبر شراكات مع مستفيدين لبنانيين من المال العام، حسب تاريخ تشغيل الهاتف الخلوي إستثمارًا وإدارة وتعويضات، علمًا أنّ الشركات المذكورة هي من أسوأ الشركات المشغلة أوروبيًا على صعيد الكلفة والخدمات.  تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، والتدقيق الجنائي، هو إدخال المصرف المركزي الفرنسي إلى كلّ حسابات مصرف لبنان.  لقد ورد صراحة في “الورقة الفرنسية” أن مشروع “الكابيتال كونترول” يجب أن يحظى بموافقة جميع أقسام صندوق النقد الدولي ومدته أربع سنوات وتطبيقه يجب أن يكون فوريًا، أي يجري عبره ربط كامل الجهاز المصرفي اللبناني بصندوق النقد وتحديد كيفية هيكلة القطاع المصرفي والمالي وكذلك آليات التدفق المالي وتحويلات المغتربين وملكية المصارف.  أي بسطر واحد تُحدد خيارات كبرى دون تحديد هدف في وقت محدّد ومن دون أيّ نقاش مع المعنيين مصرفيًا وماليًا.  تطرح “الورقة” قضية التعيينات في جميع الهيئات الناظمة والمجالس والهيئات، وكذلك إنشاء “ليبان تليكوم” مع ما تعنيه من تفعيل لقانون الإتصالات وإلغاء وزارة الاتصالات حكمًا، وهذه مسائل  هامة للغاية تطال بنية الدولة الهيكلية والإدارية.  ثم تنص “الورقة الفرنسية – البيان الوزاري” على أن كلّ الدراسات المقترحة سواء للقضاء أو للادارة أو المالية العامة سيتم تلزيمها للمؤسّسات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي أو شركات دولية خاصة، أي جعل البلد مكشوفًا حتى على مستوى التفكير والمقاربة وتحديد الأهداف.

(6) ذكر تقرير لبنان المقدم في فصوله المختلفة إلى مؤتمر باريس3 عشرات المرات عدوان العدو على لبنان في حرب تموز ، وقد تحجّج بها لتبرير إنعقاد المؤتمر، 2006 ولم يجرؤ على المطالبة حتى بإدانة الفاعل أو بالتعويض عن أفعاله الإجرامية أو بإلزامه إعطاء لبنان خرائط مواقغ سقوط القنابل العنقودية المُجرّمة دوليًا.

(7) ولن يفوتنا الإشارة إلى الإصرار على عدم التدخّل في ما سبق خاصّة على ضوء ما جاء في تخطيط وتحديد المناهج والبرامج للمدارس الفلسطينية في خطط ما يُعرف ب”صفقة القرن” (181 صفحة) على غرار، ولا يفوتنا التذكير هنا، بما ذهبت إليه تفاصيل “إتفاق 17 أيّار” الساقط تتدخل في المناهج الدراسية اللبنانية من دون أيّ مبرّر عسكري أو أمني.  وكلّ هذا ناهيكم عن تكليف وتلزيم شركة ماكينزي الأميركية، وليس الأزهر أو النجف أو قُمْ، بل ماكينزي، مهام إعادة وضع مناهج تعليم الدين الإسلامي وأصول الكلام لخطباء الجوامع لتعميمها والعمل بتوجيهاتها في البلاد العربية والإسلامية.

(8) عندما خاضت أثينا وإسبارطة الحرب في القرن الخامس قبل الميلاد، لاحظ الجنرال والمؤرّخ اليوناني ثوسيديدس أن “الإغريق لم يعودوا يفهمون بعضهم البعض، على الرغم من أنّهم يتحدّثون اللغة نفسها”.

(9) سليم حيدر – ديوان “إشراق” – صفحة 103 – شركة المطبوعات للنشر والتوزيع ش.م.ل. – 2016.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز