كان الشعب الفلسطيني دائمًا وما يزال، هو السلاح الأهم والأقوى في ترسانة القضية الفلسطينية، وهذا ما جعل من تدمير هذا الشعب بكل الوسائل هدفًا استراتيجيًا لـ«إسرائيل» وحلفائها. ولعل أهم تلك الوسائل هي تلك القادمة من داخل ذلك الشعب نفسه، لأن أي عملية مماثلة من خارج الشعب الفلسطيني سوف تواجَه غالبًا بمقاومة شعبية شديدة. من هنا تنبع أهمية السلطة الفلسطينية ودورها في المخطط الإسرائيلي الهادف إلى حل القضية الفلسطينية من خلال تدمير الشعب الفلسطيني وقِيَمِهِ وترابطه والتزامه الوطني بقضيته، وتحويل أولوياته من النضال من أجل الحرية والاستقلال إلى الاقتتال الداخلي والانقسام المتعدد الأوجه، وتحريم مقاومة الاحتلال، والتغاضي عن بناء المستوطنات، وتقليص أهداف النضال الوطني من التحرير إلى تحصيل لقمة العيش، حتى لو جاءت تلك اللقمة مغموسة بدماء القضية الفلسطينية نفسها ومعجونة بسموم الاحتلال الإسرائيلي.
إن تشخيص الحاله الفلسطينية الحالية تحت إدارة السلطة الفلسطينية يدفع المرء إلى التساؤل عن الأسباب والوسائل التي حولت هذا الشعب في الضفة الفلسطينية المحتلة إلى ما أصبح عليه الآن من خنوع قهري وقبول مرير بالأمر الواقع الاحتلالي.
إن إعادة تعريف أولويات أي شعب هي أمر من الصعب تحقيقه بسرعة وسهولة، بل قد يستغرق ذلك الأمر عقودًا طويلة ويستوجب الكثير من الضغوط والتفاعلات التي قد تؤدي، كما في الحالة الفلسطينية مثلًا، إلى صَهر منظومة القيم الفلسطينية وإعادة تشكيلها بما يتناسب ورؤية الاحتلال الإسرائيلي؛ فتحويل الفلسطينيين من شعب مناضل مقاوم مقاتل إلى شعب مُقسَّم ومنقسم على نفسه، قابلٍ بالاحتلال حتى ولو على مضض، ساعٍ فقط إلى تأمين لقمة العيش، هي مهمة أوكلتها «إسرائيل» إلى السلطة الفلسطينية بوصفها قيادة للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وقيادة للقضية الفلسطينية من خلال قيادتها المزعومة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يعَدّ تدمير الوحدة الوطنية الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطيني إلى مجموعات مختلفة متنافسة في أحسن الأحوال ومتناحرة في أسوئها هدف «إسرائيل» الخفيّ والأهم. وهذا المسار، إذا ما سمُح له أن يستمر طويلًا، قد يساهم في خلق أكثر من أمر واقع جديد في فلسطين وبين أوساط الفلسطينيين.
إن سياسة الأمر الواقع هي ما اتبعه الاحتلال في تعامله مع الشعب الفلسطيني عمومًا منذ عام 1948، وهو ما نفّذته السلطة الفلسطينية في المناطق المحتلة منذ عام 1967 من خلال تمزيق الشعب الفلسطيني وخلق واقعَين مختلفَين، إن لم يكن متناقضَين، بين فلسطينيّي قطاع غزة وفلسطينيّي الضفة الفلسطينية. وفي حين نجحت السلطة الفلسطينية في افتعال مسببات الانقسام وتعزيز مساره، فشلت حركة حماس في خلق الأرض اللازمة لإفشال مخطط السلطة الفلسطينية في فصل الشعب الفلسطيني في منطقة غزة عن الشعب الفلسطيني في الضفة الفلسطينية المحتلة، وتم بذلك تكريس المخطط والرؤية الإسرائيليين. وقد ساهم في تعزيز هذا التباعد التباينُ الواضح بين برنامج حماس النضالي وبرنامج السلطة التابع لرؤية الاحتلال.
إن استمرارية السلطة الفلسطينية وبقاءها كأداة لاحتواء الشعب الفلسطيني والسيطرة عليه بما يتناسب وأهداف الاحتلال الإسرائيلي هما أمر حيوي واستراتيجي لـ«إسرائيل»، الأمر الذي يتطلب العمل الدؤوب المستمر وبالتعاون مع أمريكا وحلفاء «إسرائيل» من أجل خلق شرائح متتالية من القيادات للسلطة الفلسطينية تكون موالية لـ«إسرائيل» والاحتلال، وتغطي على الأقل الصفّين الأول والثاني من تلك القيادات التي تستند في أصولها وشرعيتها التاريخية إلى حقبة النضال الفلسطيني التي سادت منذ هزيمة 1967 وحتى ثمانينيات القرن الماضي، بينما تستمد شرعيتها الحالية من اتفاقات أوسلو ومن الاحتلال نفسه.
في الوقت الذي غاب نهج النضال في مناطق الضفة الفلسطينية كنتيجة لحرص السلطة المستمر والشرس على الالتزام بالتنسيق الأمني وتحريم المقاومة ضد الاحتلال، صعد في المقابل إصرار عجيب من السلطة نفسها على المحافظة على استمرار مفهوم الفصائلية وتكريس مكتسباتها المادية والمنصبية كما كان الوضع عليه خلال حقبة الكفاح المسلح، وهو ما يؤشر إلى وجود رغبة خفية في استرضاء تلك الفصائل بالمال والمنصب عوضًا من النضال والكفاح، واستغلال التاريخ النضالي لتلك الفصائل لتعزيز صدقية السلطة الفلسطينية وإضفاء الشرعية النضالية الجامعة عليها. الهدف هو زج جميع الفصائل في مخرجات أوسلو لتعزيز ادعاء السلطة بتمثيل جميع الفلسطينيين، وخصوصًا بعدما اختطفت تلك السلطة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وألحقتها بذيل السلطة. وقد رافق ذلك تعيينُ بعض المناضلين الفلسطينيين السابقين بمناصب في السلطة وبرواتب عالية بهدف خلق طبقة من المستفيدين والمنتفعين لضمان استمرارية قيام السلطة بدورها المنوط بها في كيفية إدارة شؤون الشعب الفلسطيني بالطريقة التي يريدها الاحتلال، وهو أسلوب خطير ومسعى لئيم لمصادرة المستقبل بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وتعزيز قدرة طبقة الفاسدين على الاستمرار في قيادة ذلك الشعب.
السلوك المالي والأخلاقي للقيادة الفلسطينية عند وجودها في تونس، والفساد الذي غمر أوساطها، كانا من المحتم أن يصبغا سلوك القيادة نفسها التي قامت بمفاوضات أوسلو، ومن ثم إبرام صفقة الحكم الذاتي والسلطة الفلسطينية. وعلى مَرّ السنين صبغَ تراثُ الفساد سلوكَ السلطة الفلسطينية بحيث أدى إلى ابتعاد الكثير من العناصر الشريفة من حركة فتح، والمناضلين الفلسطينيين بوجه عام من السلطة ومؤسساتها، الأمر الذي أدى إلى حصر مقدرات الشعب الفلسطيني في تلك الطبقة من الفاسدين ماليًا وسياسيًا، وأصبح هنالك بالنتيجة طبقة من الفاسدين على قمة هرم قيادة السلطة ومؤسساتها. إن حكم الفاسدين لن ينتج منه أي خير سوى فتح المجال أمام المزيد من الفاسدين لتولي الشأن الفلسطيني. ومجتمع الفاسدين في الحياة السياسية الفلسطينية تحت الاحتلال قد أصبح الآن هو السائد والمسيطر، وعماد استمرار تلك الطبقة هو رضا ودعم الاحتلال الإسرائيلي.
إن كل السياسات والممارسات الإسرائيلية لإلغاء الهوية والصفة الفلسطينية وتشتيت وتمزيق الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي الشتات، بتعاون ملحوظ بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية، لم تنجح في إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة لتجمعات الشعب الفلسطيني كافة. وقد جاءت الحرب الرابعة على غزة عام 2021، المعروفة بمعركة «سيف القدس»، لتقلب الموازين لمصلحة إعادة تأكيد وحدة الشعب الفلسطيني في كل أرض فلسطين. ولكن «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية ومعظم الأنظمة العربية والعالم، غربه وشرقه، تآمروا جميعًا لمصلحة السلطة الفلسطينية ومنع انهيارها بعد معركة «سيف القدس» ووقفة العز والفخار الفلسطينية. وعكفت «إسرائيل» في إثر ذلك على دراسة الأسباب والمسببات التي أدت إلى ذلك النهوض الفلسطيني، وسعت – وما زالت – إلى استخلاص العبر وتعلُّم الدروس، وابتدأت ذلك المسار بالعمل على إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية عربيًا ودوليًا حتى تتمكن من الاستمرار في القيام بدورها المشؤوم في مساعدة الاحتلال الإسرائيلي على احتواء وتدمير الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
الاقتداء بالآخرين في ما هو باطل هو سمة من سمات الضعف الأخلاقي والمادي والانحلال السياسي. والسلطة الفلسطينية هي في هذا المسار منذ تأسيسها على يد الاحتلال الإسرائيلي. تسير السلطة الفلسطينية منذ إنشائها في المسار نفسه لمعظم الأنظمة العربية بجعل الرأي الآخر أو المعارضة السياسية فِعْلًا يستوجب العقاب وفي عدِّ المعارضين، بالتالي، أعداءً للنظام. ومن المؤسف والمحزن أن السلطة الفلسطينية تمادت في هذا التفسير ليشمل تصنيف النضال ومقاومة الاحتلال بوصفهما أعمالًا «إرهابية» تستوجب العقاب.
إن استعمال الخلفية النضالية والتراث النضالي للقادة لتبرير مرحلة التحول من النضال إلى العمالة أمرًا غير متعارف عليه في العادة. فقيادات مراحل النهوض هي في العادة تختلف اختلافًا بيِّنًا عن قيادات مرحلة السقوط. الاستثناء يأتي واضحًا في الحالة العربية كما جاء السادات عقب عبد الناصر. أما بقاء قادة النهوض أنفسهم لقيادة مرحلة السقوط فلم يأتِ إلا في الحالة الفلسطينية عندما تحول ياسر عرفات من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى رئيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاقات أوسلو، ومن ثم جاء خليفته محمود عباس لينقل السلطة الفلسطينية من مرحلة التواطؤ إلى مرحلة السقوط والاستسلام ويعيد تسميتها زورًا مرحلة الاستقلال. وفي انتظار خليفة محمود عباس ليحوِّل مرحلة السقوط والاستسلام إلى مرحلة الخيانة الكاملة، ومن ثم اعتبار هذه المراحل الثلاث الممتدة من مرحلة التواطؤ إلى مرحلة السقوط والاستسلام انتهاءً بمرحلة الخيانة الكاملة هي المراحل الثلاث المتممة لمرحلة النضال الفلسطيني، وذلك من منظور قيادات أوسلو التي ما زالت تدير السلطة الفلسطينية والشأن الرسمي الفلسطيني. وهكذا فإن السلطة الفلسطينية تحسب نفسها ونهجها مرحلةَ الختام بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والفلسطينيين بالرغم ممّا تمثله تلك السلطة من سقوط وخيانة للأهداف الوطنية الفلسطينية.
قد يهمكم أيضاً مآلات السلطة الفلسطينية بعد عباس
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاحتلال_الإسرائيلي #ممارسات_الإحتلال #السلطة_الفلسطينية #محمود_عباس #التواطؤ_الفلسطيني #تواطؤ_السلطة_الفلسطينية #القضية_الفلسطينية #غزة #الضفة_الغربية #ياسر_عرفات #الشعب_الفلسطيني
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 517 في آذار/مارس 2022.
[1] لبيب قمحاوي: كاتب ومحلل سياسي فلسطيني.
البريد الإلكتروني: lkamhawi@cessco.com.jo
لبيب قمحاوي
مفكر وكاتب سياسي فلسطيني، حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن عام 1978؛ أستاذ سابق للعلوم السياسية في الجامعة الأردنية؛ الرئيس السابق للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في الأردن؛ عضو في اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني الأردني (1990-1991)؛ عضو مجلس أمناء كل من: مركز دراسات الوحدة العربية، المنتدى العربي، المنظمة العربية لمكافحة الفساد، ومنظمة المساعدة القانونية للفلسطينيين. صدر له عدد من الكتب والمقالات السياسية والاقتصادية. من مؤلفاته: القضية الفلسطينية: من منظور جديد (بالإنكليزية) (2020)؛ القضية الفلسطينية من منظور جديد (2018)؛ لغة الإرهاب (2017)؛ وحجارة على بيت من زجاج (2016).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.