المؤلف: منير شفيق

تدوين وتحرير: نافذ أبو حسنة

مراجعة: فارس أبي صعب [1]

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

الطبعة: الثانية

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات: 571

 

قصة الفتى الثائر: القضية الوطنية وتنوع الأيديولوجيات

من جمر إلى جمر، قصة فتى فلسطيني مقدسي، كانت له تجربته الخاصة مع القضية الفلسطينية، فما سر هذه الخصوصية في تجربة منير شفيق، ومن أين استمدّت تلك الخصوصية عناصرها، وما أبرز الدروس التي يمكن استنباطها من تلك الخصوصية من أجل المستقبل، ولو متأخرين.

لا شك في أن القضية الفلسطينية جاءت في سياق تحولات كبرى عرفتها المنطقة، مع الظهور المتدرج للثورة الصناعية في الغرب وما ولّدته تلك الثورة من حاجات متزايدة إلى أسواق ومواد أولية تلبي تطلعات الأسواق الرأسمالية المتنامية في الغرب إلى تصريف فوائض إنتاج صناعاتها الحديثة من جهة، وإلى المواد الخام التي تضمن استمرار دوران عجلات آلاتها الصناعية الحديثة من جهة أخرى. وهي عملية أخذت تولّد مع الوقت سلسلة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، دخل الغرب معها في نمط إنتاج رأسمالي جديد كانت له تطلعاته وتأثيراته لا في حدود المجتمعات الداخلية في الغرب وحسب، بل على اتساع الجغرافيا الأرضية، بحثًا عن أسواق وموارد طبيعية جديدة وبالتالي بحثًا مراكز نفوذ جديدة للسيطرة على تلك الموارد وطرق الوصول إليها.

كذلك هذه التطورات كان لها فكرها، فقد مهّدت الثورة الصناعية وما رافقها من تطور لوسائل الإنتاج وللأسواق الرأسمالية في حدود الدول القومية المتشكلة حديثًا، إلى ثورة فكرية انبثقت منها أبرز مدارس الفكر السياسي الرأسمالية والقومية والاشتراكية.

ولم تكن المنطقة العربية بمنأى من تلك التحوّلات في العالم، فترهُّل الدولة العثمانية مقابل تلك التطورات التي كان يعيشها الغرب كشفها أمام قوة الغرب المتعاظمة في المنطقة، وأسقطها في حرب تقاسم العالم (العالمية الأولى) بين الأقطاب الغربية الرأسمالية الصاعدة على حساب إمبراطوريات قديمة متهالكة.

وكان المشروع الصهيوني الاستيطاني – الاستعماري في فلسطين أحد أبرز نتائج تلك التحولات العالمية في المنطقة. وكان العرب هم الخاسر الأكبر فيها، فكل تلك التطلعات التي عبرت عنها نخبهم الفكرية والدينية المتنورة في ما سمي عصر النهضة، باتجاه بناء دولة وطنية تخرجهم من حقبة الكمون التي عاشوها في ظل الدولة العثمانية، راحت هباءً مع تقاسم المنطقة بين الدول الكبرى وفرض مشاريع استعمارية عليها انتهت بتجزئتها وبإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين.

في هذا المناخ القاسي، الملتهب كالجمر، وُلد منير شفيق في القدس، حين كانت فلسطين قد دخلت لتوِّها في ثورة شعبية عربية ضد مشاريع الاستيطان الصهيوني التي ينفذها الاستعمار البريطاني في فلسطين. يومها لم تكن الساحة الفكرية الفلسطينية والعربية بدورها بمنأى من تلك التحولات التي عرفها الغرب والعالم منذ الثورة الصناعية، فالنظريات الحداثية، وبخاصة القومية والماركسية، التي وُلدت استجابة للثورة الصناعية ونمط الإنتاج الرأسمالي أو ردًّا عليهما، وما لبثت أن لقيت صدىً لها في المجتمعات العربية كغيرها من مجتمعات العالم الثالث الواقعة تحت الاستعمار، فحجزت تلك المدارس الفكرية مكانًا لها في هذا المجتمع بهدف بناء الدولة الوطنية وتوحيد الأمة العربية ومواجهة الظلم والاستعمار وسيادة العدالة الاجتماعية، إلى جانب المدارس الفكرية الإسلامية، التي أخذت تتسلل بدورها إلى الحقل السياسي بهدف استعادة الخلافة – الأمة من جهة ولمواجهة الاستعمار وتحرير فلسطين من جهة أخرى.

هكذا نشأ منير شفيق وانخرط في العمل السياسي والنضال من أجل تحرير فلسطين عقب قيام دولة «إسرائيل»، في ظل هذا التنوع الفكري والأيديولوجي على الساحة الفلسطينية. ولا شك في أن بيئته الخاصة أيضًا، الأُسَرِية، قد ساهمت في تحديد خياراته الفكرية الأولى من حياته النضالية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية ومواجهة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين. فكانت تربيته الأبوية قد أعدّته مسبقًا في الاتجاه الماركسي الذي لا يمكن ترجمته نضاليًا إلا عبر الانخراط في الحزب الشيوعي آنذاك، على الرغم من التباين المبكر الذي أخذ ينمو لدى منير مع الحزب الشيوعي منذ أيام الدراسة في المدرسة الرشيدية، وهو تباين جزئي لكنه جوهري بين الموقف العدائي الجذري عند منير شفيق تجاه المشروع الصهيوني وتجاه قضية تحرير فلسطين وبين موقف الحزب الشيوعي المتبني قرار التقسيم تأثرًا بقرار الاتحاد السوفياتي آنذاك، المؤيد لقرار التقسيم أيضًا، وما لبث هذا التباين بين منير والحزب أن اتسع في النصف الثاني من الخمسينيات، وتحديدًا بعد العدوان الثلاثي على مصر ثم بعد قيام الوحدة المصرية – السورية وموقف الشيوعيين منها عام 1958. كل تلك الأحداث، المترافقة مع تعمق وعي منير، كانت تزيد مساحة التباين اتساعًا بينه والحزب الشيوعي على قاعدة انحياز منير للقضية الوطنية والقضايا القومية على حساب الموقف الرسمي للحزب الشيوعي، غير القادر آنذاك على التمايز عن الاتحاد السوفياتي، أو غير المهيأ لهذا التمايز على الأقل.

وما دامت الحركة القومية العربية عمومًا قد أصبحت رأس الحربة في معركة تحرير فلسطين، وبخاصة بعد صعود دور عبد الناصر ثم انطلاق الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات، انخرط منير شفيق في النضال ضد إسرائيل عبر حركة فتح، محدثًا تحولًا حقيقيًا باتجاه هذه الحركة ومنطلقاتها. من دون أن يعني ذلك، مرة أخرى، ذوبانه المطلق في تنظيم الحركة وخطها السياسي الرسمي بقدر ما كان دوره مرتبطًا بها في حدود العمل المقاوم وفق رؤية قومية عربية للصراع. وهذا ما انعكس كذلك على كتابات منير شفيق في تلك الحقبة، التي لن يخفي فيها بدايات تشكل موقفه النقدي من الشيوعية والماركسية، وذهابه باتجاه البحث في التاريخ العربي – الإسلامي وفي التراث والأصالة، في محاولة منه للاقتراب أكثر من فهم تاريخ الأمة العربية.

ولم تتوقف الأحداث عن إلقاء جمرها على الساحة الفلسطينية والعربية عمومًا، فكانت هزيمة عام 1967، ثم تبعتها وفاة عبد الناصر، ثم حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي مهّدت الطريق أمام اتفاقات «السلام» المصرية – الإسرائيلية وخروج مصر من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، وهي أحداث ساهمت في تراجع مكانة الحركة القومية العربية وانكفاء دور المقاومة الفلسطينية عقب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وإخراج المقاومة الفلسيطينية منه باتجاه تونس، وكأن مرحلةً من القضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني قد طويت مع ذلك الانكفاء الفلسطيني بعيدًا من حدود فلسطين.

لكن جمر النكسات التي لحقت بالقضية العربية بين هزيمة عام 1967 وغزو لبنان عام 1982 لم يَطُل وهْجه. فعلى الضفة المقابلة لشبه الجزيرة العربية، كانت أمواج من البشر تجتاح الميادين في وجه حاكم دولة كانت يومها من أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة. لكن حدث إسقاط حكم شاه إيران لم يكن وقعه في حدود إسقاط إحدى القواعد الأمريكية في المنطقة وحسب، بل كان بمنزلة انطلاق مرحلة تاريخية جديدة في العالم العربي والإسلامي، مرحلة يمثل الإسلام السياسي فيها رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني ومشاريع الهيمنة الإمبريالية في المنطقة. فكان تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران منذ عام 1979، ثم انطلاق المقاومة الإسلامية في لبنان عقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 مقدمة لإطلاق مشروع جديد للمقاومة في المنطقة يملأ الفراغ الذي أحدثه السقوط التاريخي للمرحلتين القومية والماركسية على الساحة العربية والإسلامية.

ولم يكن منير شفيق بعيدًا من تلك التحولات التاريخية في المنطقة، فهو التقط إشارات تلك التحولات مبكرًا. فبموازاة انطلاق الثورة الإسلامية في إيران كان شفيق يعمل على التأصيل النظري للثورة والمقاومة، بالعودة إلى التراث والمرجعية الإسلاميين.

وهكذا استطاع منير شفيق أن يعبُر هذه الحقب الثلاث في التاريخ السياسي العربي المعاصر؛ الحقبة الماركسية، والحقبة الناصرية والقومية العربية، والحقبة الإسلامية، وأن يتكيّف معها – أو ربما يكيِّفها – لمصلحة قضيته الوطنية، قضية فلسطين، التي جعلها أسمى من أي أيديولوجيا انخرط فيها.

هنا يكمن سر الخصوصية في تجربة منير شفيق النضالية. أما الدروس التي يمكن استنباطها من تلك الخصوصية فتتمحور أساسًا حول ضرورة الخروج من الاستقطاب الأيديولوجي، أو حتى الصراع الأيديولوجي أحيانًا، وسط القوى العربية التحررية، الذي كان يصل إلى حد العداء أو التكفير أحيانًا، بين أطراف، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات، يحملون القضية الوطنية نفسها؛ فزرعوا الشقاق بين أبناء الشعب الواحد، وهدروا الكثير من طاقاتهم، وأضاعوا الكثير من الفرص والجهود التي لو أحسنوا استثمارها وجمعها لكانت ضاعفت عناصر القوة لديهم. ومنير شفيق في تجربته النضالية وضع نموذجًا لهذه المقاربة، مقاربة المناضل الثوري الذي يمسك بالبوصلة التي تصوِّب له الطريق دومًا نحو القضية الوطنية المركزية قضية تحرير فلسطين، حتى لو اختلفت الأيديولوجيا التي تفتح له الطريق أمام السير في اتجاه هذه القضية، بحيث تغدو الأيديولوجيا له بمنزلة الثوب الذي يرتديه في مسيرته نحو تحقيق أهداف القضية الوطنية.

وقد أظهرت تجربته هذه أن هناك تقاطعًا عميقًا وبنيويًا بين الأيديولوجيات التي تبدو متناقضة أو متعاكسة، أعني هنا تحديدًا الأيديولوجيا الإسلامية المقاومة والأيديولوجيا القومية العربية والأيديولوجيا الماركسية. وهذا التقاطع يحدث عند قضايا جوهرية كقضايا الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار والهيمنة الإمبريالية وتحرير الأرض من الاحتلال وتحرير الإنسان في لقمة عيشه وكرامته، لكن حين يغدو الانجرار خلف الأيديولوجيا على قاعدة الاختلاف على وجه الملائكة تغدو الأيديولوجيا عنصر تفارق وانقسام، أو ربما انحراف عن القضايا الكبرى.

لذا علينا أن نتعاطى مع الأيديولوجيا بوصفها أداة معرفية معيارية لفهم المجتمع والتاريخ والوجود ولتحديد موقف من التناقضات والتضادات السائدة في المجتمع والوجود ووضع رؤية بديلة تعبِّر عن حقوقنا ومصالحنا وقيمنا. وبالتالي الأيديولوجيا هي وسيلة لخدمة القضية الوطنية والإنسانية وليست غاية في حد ذاتها. من دون أن نعني هنا التقليل من قيمة الأيديولوجيا كرؤية وكأداة معرفية لفهم الأمور وتفسيرها ولبلورة الرؤى البديلة للمستقبل. وهكذا فإن النهج الثوري عند منير شفيق هو الذي يتخطى حدود الأيديولوجيات واختلافاتها من أجل الانتصار للقضية الوطنية.

وللأسف الشديد، شاهدنا كيف أن كل تلك الأيديولوجيات قد تشظَّت أمام الحرب الإمبريالية على المنطقة بأدواتها المختلفة: المحلية والإقليمية والدولية، أو الخشنة والناعمة. تشظت هذه الأيديولوجيات، سواء الإسلامية أو القومية أو الماركسية، في الحرب الكونية على سورية، وتشظت تجاه العدوان على العراق وعقب غزوه، وتشظت في العدوان على اليمن، وتشظت في القضية الفلسطينية ومسارات أوسلو، وتشظت في ما سمِّي الربيع العربي… إذًا البوصلة الحقيقية للصراع في المنطقة تحددها القضية الوطنية التحررية ببعديها الخارجي والداخلي لا الأيديولوجيا.

أمام هذا التنوع الأيديولوجي على الساحة العربية، وتحديدًا وسط القوى الوطنية التي لا تزال ترى أن القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي هما القضية المركزية، لا بد من هوية جامعة توفر الأرض المشتركة للقضية الوطنية والمشروع التحرري في المنطقة. ويبدو لي أن العروبة هي التي يمكن أن تمثل هذه الهوية الجامعة والإطار الواسع الذي يجمع قوى التحرر والتغيير العربية من مختلف الاتجاهات الأيديولوجية والفكرية والكيانات والحركات السياسية والنقابية والثقافية النهضوية التي تمثل بدورها مختلف الجماعات الدينية والإثنية التي تعيش في هذه الأرض العربية وتتكلم لغتها منذ عشرات أو مئات السنين إلى اليوم، في إطار ثقافي سياسي جامع يحترم كل هذا التنوع وفق رؤية تحررية نهضوية تساعد على إخراج الواقع العربي من هذا التمزق والتشرذم والانحراف عن سيرورة التطور الحضاري التحرري العربي الجامع.

بهذا المعنى، العروبة التي أتحدث عنها هي عروبة تحررية بالضرورة، لا عروبة شكلانية كالتي يتم ترويجها في الآونة الأخيرة؛ إذ تشهد الساحة العربية في السنوات الأخيرة نمو نسخة معدّلة أو مدجّنة من العروبة، يمكن تسميتها العروبة الجديدة أو النيوعروبة، تقودها المنظومة الخليجية المتحكمة في النظام الرسمي العربي وحتى في كثير من مفاصل القوى الجماهيرية العربية ومرجعياتها السياسية والمدنية والدينية أفرادًا ومؤسسات، وهي تدفع في الوضع العربي باتجاه معاداة حركات التحرر والمقاومة مقابل التطبيع مع إسرائيل وحرف البوصلة في القضايا الوطنية المركزية التي تمثل قضايا مصيرية للشعب العربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضايا التحرر من مشاريع الهيمنة الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، فضلًا عن قضايا تحرير الإنسان من الفقر والجوع والظلم، مقابل أخذ الصراع والاستقطابات في المنطقة باتجاه قضايا مذهبية أو إثنية وهمية، تمهيدًا لتهميش القضية المركزية، قضية فلسطين، وصولًا إلى شطبها.