مقدمة:

هناك مصدر يفرض حضوره على الباحثين في تاريخ فلسطين والقدس وهو الرواية التاناخية (التوراتية – المصادر الكتابية اليهودية) مع بعض الاستثناءات المحدودة التي تعارضها. أما المصادر التاريخية الأخرى فهي مغيبة ومنسية، وهي: المصرية القديمة، والسامية، واليونانية، والفارسية، والرومانية، والرواية القرآنية. التي يُتَعَمَّد تغييبها من قبل الباحثين اليهود والغربيين لمعارضتها، بل لنفيها، لرواية المصادر الكتابية اليهودية، وللحضور اليهودي في التاريخ. الأمر الذي يترتب عليه نفي الرواية الكتابية اليهودية شكـلاً وموضوعاً. أما الباحثون العرب، قديمهم وحديثهم، فالغالبية الساحقة منهم، تتبنى رواية المصادر الكتابية اليهودية، من خلال اعتمادها على المراجع اليهودية والغربية في كتابة تاريخ فلسطين والقدس. وربما يعود السبب في عدم توظيف الباحثين العرب المصادر التاريخية التي تعارض الرواية الكتابية اليهودية، إما لعدم معرفتهم بها، وإما لعدم قدرتهم على توظيفها، وإما للسببين معاً.

واللافت للنظر أن معظم المؤرخين والمفسرين المسلمين تبنوا الرواية اليهودية في تفسير آيات القرآن الخاصة باليهود. كما زعم بعضهم أن المسجد الأقصى من بناء النبيَّين داود وسليمان. ولقد تنبَّه ابن كثير الدمشقي (ت 775هـ) لهذا الأمر، فعرض لحديث رواه البخاري في صحيحه، وهو: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». ووصف ابن كثير هذا الحديث بأنه: «من الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار. وهذا هو ما نستعمله في كتابنا هذا [البداية والنهاية]. فأما ما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال، فإذا كان الله سبحانه وله الحمد قد أغنانا برسولنا محمد (ﷺ) عن سائر الشرائع، وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير»‏[1].

يتضح مما سبق أن ابن كثير كان على علم بأن رواية المصادر الكتابية اليهودية ليست صادقة، فَحَكَّمَ الرواية القرآنية في الحكم عليها. ولو توافر لابن كثير المعلومات التاريخية والآثارية المعاصرة التي تنفي الرواية الكتابية اليهودية لما تردد في نفيها كلياً، ولذلك حصر استعمالها للاعتبار فقط. وفي رأيي أن ما توافق من الرواية القرآنية مع رواية المصادر الكتابية اليهودية، على محدوديته، ذُكِرَ فقط في القرآن، في الأعم الأغلب، كعمل معجز، غرضه الدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والوعظ والزجر؛ وليس كأحداث تاريخية معاشة. لأن المعجزات أحداث لحظية آنية غير معاشة، وإن حدثت في زمان، لأنها أعمال إلهية خارقة لقوانين الطبيعة، فهي فوق تاريخية؛ أما الأحداث التاريخية فهي معاشة لأنها من صنع البشر. كما سأبين في هذا البحث.

يهدف هذا البحث إلى التعريف بالمصادر التاريخية المغيَّبة (المصرية القديمة، السامية، اليونانية، الفارسية، الرومانية) في تاريخ فلسطين والقدس، ويبين آلية توظيفها. ولتحقيق ذلك سيعرض البحث لرواية المصادر الكتابية اليهودية، ثم للمصادر التاريخية المغيبة، ويبين معارضة الثانية للأولى ونفيها، وخلوّ الثانية بالمطلق من مزاعم الأحداث التاريخية التي سجلتها الرواية الكتابية اليهودية، الأمر الذي ينفي حدوثها ويكشف زيفها وكذبها. ثم يقابل البحث الرواية الكتابية اليهودية بالرواية القرآنية التي تسجل، في الأعم الأغلب، معجزات دينية، فوق تاريخية، لا أحداثاً تاريخية بشرية معاشة. ثم يبين البحث مبالغات وزيف الرواية الكتابية اليهودية، التي عمدت إلى تحويل المعجزة الدينية إلى حدث تاريخي بشري معاش في محاولة لإقحام اليهود في تاريخ فلسطين والمنطقة العربية. وسأبدأ بالرواية الكتابية اليهودية في ما يلي من عرض وتحليل.

أولاً: رواية المصادر الكتابية اليهودية

تقوم رواية المصادر الكتابية اليهودية لتاريخ فلسطين والقدس، على تغييب التاريخ الفلسطيني شكـلاً وموضوعاً، وإنكار الوجود البشري الفلسطيني في فلسطين من ناحية، وعلى إقحام اليهود في تاريخ المنطقة العربية بتحويل المعجزة الدينية إلى حدث تاريخي بشري معاش، من ناحية أخرى. بحيث أصبحت هذه الرواية واقعاً معاشاً، لا يناقش، في الوجدان الجمعي اليهودي والمسيحي الغربي؛ وللأسف، وبدرجة عالية، في الوجدان الجمعي العربي والإسلامي؛ على الرغم من اعتراف الرواية الكتابية اليهودية بالوجود الكنعاني في فلسطين‏[2]. وعلى الرغم من خلو المصادر التاريخية: كالمصرية القديمة، والسامية، واليونانية، والفارسية، من أي حضور للرواية اليهودية فيها.

وهذا ما شجع بعض الاستثناءات في سبعينيات القرن الماضي على معارضة الرواية الكتابية اليهودية، إلا أنها لم تتمكن من دحضها، لكنها خلخلتها ودقت مجموعة مسامير في نعشها. والمؤسف أنه لم يتم البناء على هذه الاستثناءات عربياً بالشكل المناسب، فبقي حضور رواية المصادر الكتابية اليهودية في المصادر العربية التاريخية والدينية ظاهر الحضور، على الرغم من المبالغات اللامعقولة التي تتضمنها هذه الرواية، وتوظيفها المعجزة الدينية كحدث تاريخي بشري.

ومن هذه الاستثناءات بعض التوجهات التاريخية اليهودية والغربية المعاصرة التي عارضت رواية المصادر الكتابية اليهودية، وبيّنت زيفها وتحاملها على التاريخ الفلسطيني في محاولة لطمسه، وتغييب وجوده بشرياً، لمصلحة المزاعم والدعاوى اليهودية بأحقيتهم بفلسطين. نجد المؤرخ اليهودي المعاصر شلومو ساند، الأستاذ في جامعة تل أبيب، ينفي في كتابه، اختراع الشعب اليهودي[3]، مزاعم الشتات، ونفي «الشعب» اليهودي من قبل الرومان، كما ورد في الرواية الكتابية اليهودية. وكذلك المؤرخون اليهود: كفنكلشتاين، وليدمان، وبونيموفتش، قدموا معطيات وآراء لتاريخ فلسطين مغايرة للرواية الكتابية اليهودية.

كما نجد مؤرخين غربيين مثل المؤرخ الأمريكي توماس طمسن في كتابه الماضي الخرافي التوراة والتاريخ؛ الذي يشكك بالرواية الكتابية اليهودية، ويخلص إلى أنها قصص لا تصلح لبناء أحداث تاريخية‏[4].

وكذلك المؤرخ البريطاني كيث ويثلام في كتابه: تلفيق إسرائيل التوراتية؛ الذي يشكك في الرواية التوراتية جملة وتفصيـلاً‏[5]، ويعتبرها أداة لقمع التاريخ الفلسطيني لمصلحة اليهود. كما أدان وجرم الباحثين الذين استخدموا الرواية الكتابية اليهودية تاريخ بني إسرائيل لطمس التاريخ الفلسطيني ولتأييد الدعاوى الصهيونية. ومن هؤلاء المؤرخين الذين عارضوا الرواية الكتابية اليهودية: فيليب دافيز، ونيلز لمكة وغيرهما.

وعلينا كعرب ومسلمين أن نعظِّم هذه التوجهات وأن نبني عليها، وأن نفند، بل ننفي، الرواية الكتابية اليهودية جملةً وتفصيـلاً. وأن نوظف إلى جانب هذه التوجهات الرواية القرآنية التي توضح أن المعجزة الدينية عبارة عن حدث لحظي، آني، وفوق تاريخي، من صنع الله، وليس حدثاً تاريخياً بشرياً معاشاً، كما في مبالغات وتفاصيل الرواية الكتابية اليهودية، كما سأبين لاحقاً.

ثانياً: المصادر التاريخية المغيَّبة

 

1 – المصادر المصرية القديمة

هذه المصادر مغيبة كلياً، فلا وجود لقصة الخروج في المصادر المصرية القديمة (البرديات). وقصة الخروج على وضوحها في القرآن لا تحدد أن مكان الخروج هو مصر المعروفة لدينا الآن كما ورد في الرواية اليهودية، فالآية التالية: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ…﴾‏[6] تصف واقعاً بعد الخروج وليس قبله، كما أن التنوين في مصر (مصراً)، لا يفيد التخصيص حسب رأي المفسرين واللغويين بل التعميم. والمصر في اللغة يعني المدينة، وليس مصر الدولة المعروفة الآن‏[7]. فما ورد في الآية لا يؤيد رواية المصادر الكتابية اليهودية: لا زمانياً، لأن الآية تصف واقعاً قائماً بعد الخروج اليهودي؛ ولا مكانياً، لأن التنوين في مصر ينفي تحديد المكان طبقاً لقواعد اللغة.

أما ما جاء في القرآن من وصف وتسجيل لواقع اليهود قبل الخروج، في سور: البقرة، والأعراف، والمائدة، ويونس، وطه، والشعراء والقصص وغيرها من السور؛ فلا يجزم بتحديد مكان إقامتهم، فقد يكونون في مصر وهو الأرجح، وقد يكونون في أي مكان آخر حسب الآية السابقة. كما أن ما جاء في القرآن لا يحدد وجهة خروجهم تسميةً وتعييناً، أي أنه لا يذكر فلسطين صراحةً، كما في قوله: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُـمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين﴾‏[8].

على النقيض مما جاء في سفر الخروج، من المصادر الكتابية اليهودية، الذي يجزم بأنهم كانوا في مصر واتجهوا إلى أرض الكنعانيين، فلسطين‏[9].

وهذا ما لا تؤكده المصادر المصرية القديمة (البرديات)، فلا وجود فيها على الإطلاق، حتى وقتنا الحاضر، لقصة الخروج اليهودي من أرض مصر‏[10]. وهذا بدوره لا يتناقض مع ما جاء في سور القرآن من وصف لواقع اليهود؛ لأن منهج القرآن في تسجيل الأحداث التاريخية يقوم على عدم تحديد تاريخ الحدث التاريخي زمانياً ومكانه جغرافياً. الأمر الذي يتركه مفتوحاً على كل الاجتهادات، لأن الغرض من ذكر وتسجيل الأحداث التاريخية في القرآن هو: الدروس والعبر، والتفكر والتأمل، بما آلت إليه الأمم السابقة والحضارات المنقرضة لوعظها وجزرها عن عصيان الله والشرك به. وهذا تكريس لفلسفة التاريخ في الإسلام التي تقوم على: التواصل التاريخي، والدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة؛ على النقيض من التوراة المحرفة التي تحدد تاريخ الأحداث زمانياً ومكانها جغرافياً، الأمر الذي يسهل عملية دحضها ونفيها. وعليه فإن المنهج القرآني في ذكر وتسجيل واقعة الخروج، وغيابها من البرديات المصرية، يدحض الرواية اليهودية للخروج وينفي تفاصيلها التي وردت في سفر الخروج من التوراة.

وهذا يقودنا إلى احتمالين: الأول، أن اليهود لم يكونوا في مصر، وعليه فإن الخروج لم يحدث منها؛ وبهذا نستطيع تفسير صمت المصادر المصرية القديمة عن حدث الخروج، بصرف النظر عن المبالغات في الرواية الكتابية اليهودية؛ وتأكيد الرواية القرآنية لواقعة الخروج التي تؤكد أنها حدثت من مكان ما، كان اليهود موجودين فيه، لكنهم قليلو العدد. كما في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إنَّ هَـٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾‏[11].

والثاني، أن اليهود كانوا في أطراف مصر، ولقلة عددهم فلم يشكل خروجهم حدثاً ذا قيمة تاريخية، فأهملته المصادر المصرية القديمة، ووظفته الرواية القرآنية للدروس والعبر وللزجر والاتعاظ، في صورة معجزة للنبي موسى. واللافت للنظر أن المعجزات لا تترك آثاراً تدل على حدوثها، لأنها في الأعم الأغلب خارقة لقوانين الطبيعة.

كما يقتضي التنويه أن صمت المصادر المصرية القديمة عن ذكر خروجهم من مصر، إذا رجحنا وجودهم فيها أو في أطرافها، يعني أن حدث الخروج لا قيمة له في التاريخ المصري القديم، لأنه لم يحدث بالمبالغات التي وصفتها التوراة، وبالأعداد التي دونتها. حيث ذكرت أن عدد الذين خرجوا مع النبي موسى من الرجال فقط بلغ 600.000‏[12]. وعليه، وطبقاً لتقديرات تفسير الكتاب المقدس فإن مجمل عدد بني إسرائيل من الرجال والنساء والأطفال الذين خرجوا مع النبي موسى يكون 2.000.000 نسمة. وهذا ينافي العقل ويؤكد رواية القرآن بأنهم شرذمة قليلون. كما أكد وبرهن ابن خلدون قلة عددهم حسابياً في المقدمة‏[13].

أي أن قلة عددهم ربما تكون السبب في إهمال قصة أو حدث الخروج في المصادر المصرية القديمة، وهذا بدوره يدحض مبالغات الرواية الكتابية اليهودية؛ ولا يناقض الرواية القرآنية لأن الغرض من الأخيرة هو الدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والوعظ والزجر، بما حصل لليهود والمصريين القدماء من عقاب على شركهم وعدم طاعتهم لله، وليس تأريخ واقعة الخروج.

وبالجملة فإن ما وصل إلينا من المصادر المصرية القديمة التي تتعلق بتاريخ القدس يقتصر على رسالة من رسائل تل العمارنة في القرن 15 ق.م. التي تضمنت شكوى ملك القدس (أور سالم) عبد خيبيا إلى فرعون مصر من اعتداءات البدو على المدينة، وهذا بدوره لا يدعم رواية المصادر الكتابية اليهودية. وكذلك غزو المصريين لفلسطين. وعليه، فإن توظيف هذا الغياب المطلق لليهود في المصادر المصرية القديمة، من قبل المشتغلين العرب والمسلمين بتاريخ فلسطين والقدس، الملاصقة جغرافياً والمرتبطة تاريخياً وأمنياً بمصر، يدحض بل ينفي مبالغات الرواية اليهودية عن الخروج شكـلاً وموضوعاً.

أما محاولات، فلايكوفسكي في كتابه: عصور في فوضى؛ إقحام اليهود في التاريخ المصري القديم، بإسقاط ما جاء في بردية: إيبوير، التي عرفت في ما بعد، ببردية ليدن، وبردية الأرميتاج؛ من تنبؤات عن أحداث وكوارث ستقع مستقبـلاً فهي محاولات بائسة‏[14]. لأن فلايكوفسكي يعترف أن ما جاء في البرديتين ليس إلا مجرد تنبؤات، لا تصف حدثاً تاريخياً حصل في الماضي، أو معاصراً للمتنبئ أو كاتب البردية، أي ليس تسجيـلاً لحدث معاش. كما يعترف أنه لا يوجد في التاريخ المصري القديم أي وثيقة أو نقش يشير صراحة إلى قصة الخروج.

وكذلك في محاولته ضغط التاريح المصري القديم 600 سنة لتتزامن مع رحلة الملكة المصرية حتشبسوت (1508 – 1458ق.م) إلى بلاد بونت (الحبشة أو الصومال) مع زيارة ملكة سبأ (بلقيس) إلى النبي سليمان (957 – 917 ق.م)، حيث حاول أن يثبت بمنهجية المقاربة والمقارنة تارة؛ وبتطويع وتغيير الوقائع تارة أخرى؛ وبالتخمين والاحتمال تارة ثالثة؛ أن بلاد بونت هي فلسطين، وأن حتشبسوت هي التي زارت النبي سليمان‏[15]. فهي محاولة أكثر بؤساً وضعفاً من سابقتها. فجميع الهدايا التي أحضرتها معها حتشبسوت، في رحلة العودة إلى مصر، من بلاد بونت مثل: العاج وخشب الأبنوس والبخور والمر والصندل والعاج والحيوانات كالأسود والفيلة… إلخ، لا توجد في فلسطين.

كما أن تصميم معبد الدير البحري (حتشبسوت)، الذي ادعى فلايكوفسكي أنه متأثر بهيكل سليمان المزعوم، يختلف شكـلاً وموضوعاً، وبناءً ومواد، عن هيكل سليمان المزعوم. كما أن الدير البحري أقدم بنحو 600 سنة من الهيكل المزعوم. كما أن الهيكل المزعوم ليس بناءً يهودياً بل فينيقي بناه المهندس حيرام الصوري كما تزعم الرواية الكتابية اليهودية. أما معبد الدير البحري فهو بناء مصري أصيل يتضمن كل تقانات وعناصر وزخارف وسمات وخصائص العمارة المصرية القديمة.

وأما علم الآثار فيصنف قصة بلقيس مع النبي سليمان، كما وردت في الرواية الكتابية اليهودية، بالأسطورة، لعدم وجود أي دليل مادي يثبت صحة الرواية الكتابية اليهودية.

أما الرواية القرآنية عن لقاء النبي سليمان بالمرأة التي تحكم سبأ وما صاحبها من حيثيات وتفاصيل؛ كما في قوله: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أو لَأَذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾…‏[16] ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين. قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾‏[17].

فالمرأة التي وردت في الآيات السابقة سميت بلقيس من قبل المفسرين والمؤرخين المسلمين، وتدخل ضمن المعجزات‏[18]. غرضها وغايتها الدروس والعبر، والوعظ والزجر، لأن من قام على تنفيذها هم من الجن الذين سخرهم الله لمساعدة النبي سليمان، وليس البشر. والمعجزات تسجل ظاهرة أو حدثاً آنياً ولحظياً وعابراً، وإن حدثت في زمان، بمعنى أنها لا تترك آثاراً تدلل عليها. لأنها، أي المعجزات، ليست حدثاً تاريخياً من صنع البشر، بل حدثاً فوق تاريخي ومن صنع الله. وفي الأعم الأغلب تسجل المعجزة حدثاً غير مألوف، يصعب إدراكه، لأنه يخرق قوانين الطبيعة، وغرضه بيان قدرة الخالق على الإبهار والتأثير في معاصري الحدث المعجز؛ حتى يصل الوعظ والزجر مداه، وتحقق المعجزة غايتها. كما في قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِن بَاقِيَةٍ. وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾‏[19].

وعليه فلا يجوز تسجيله، أي الحدث المعجز، أو التعامل معه كحدث تاريخي عادي، لأنه لحظي وآني، وإن حدث في زمان. وليس واقعاً معاشاً كسائر الأحداث التاريخية. وربما لهذا السبب خلت المصادر التاريخية المصرية القديمة واليمنية من تسجيل هذه الأحداث كوقائع تاريخية معاشة. وهذا يفسر أيضاً عدم تسجيلها وتوثيقها آثارياً، فلا شواهد آثارية على حدوثها لأنها تخرق قوانين الطبيعة، فهي خارج التاريخ البشري.

فالرواية القرآنية إذاً تسجل حدثاً لحظياً، وآنياً، عابراً، في صورة معجزة، خارقة لقوانين الطبيعة، أغراضها دينية وهي: الوعظ والجزر، والدروس والعبر، والتفكر والتأمل، وليس حدثاً تاريخياً من صنع البشر وقائعه ممكنة الحدوث. على النقيض من الرواية الكتابية اليهودية التي حولت لقاء النبي سليمان مع المرأة التي تحكم سبأ، وغيرها من الأحداث العابرة في دينهم وعلاقتهم بالله، إلى أحداث تاريخية معاشة، خلافاً للهدف من حدوثها، في محاولة لإقحام أنفسهم في التاريخ، شأنهم شأن المصريين القدماء والبابليين والكنعانيين وغيرهم. حيث خلا تاريخ هذه الأمم من ذكر اليهود، فهم، أي اليهود، جماعة عاشت على جانب التاريخ، فحاولت إقحام نفسها في التاريخ من طريق تحويل الأحداث العابرة في حياتهم الدينية إلى أحداث تاريخية معاشة. ناسين أو متناسين أن أهم عنصر في الأحداث التاريخية هو الجغرافيا (المكان)، وهو العنصر الذي افتقروا إليه في الماضي والحاضر. فعقدة اللامكان متلازمة مع ماجريات حياتهم؛ فالتوراة نزلت في التيه، أي في لا مكان، وترحالهم وشتاتهم الأبدي يكرس عقدة اللامكان عندهم. فالجغرافيا عدوهم الأول وهي التي أخرجتهم من التاريخ في الماضي، وما زالت تخرجهم في الحاضر.

أما وجود بعضهم في فلسطين، فهو وجود مرحلي مهما طال، لأنه اغتصاب واحتلال. والاغتصاب لا يوفر حاضنة جغرافية للمغتصب، لأن ما يسفر عنه من أحداث، مهما عظمت، لا تصنف إلا كأعمال إجرامية، لا تصنع التاريخ، بل تسجل على هامشه. واستناداً إلى ما سبق فإن اليهود كانوا وما زالوا وسيبقون على هامش التاريخ، لأنهم يفتقرون إلى العنصر الرئيسي في صناعته وهو الجغرافيا.

فكل محاولاتهم في الماضي لتحويل الحدث الديني إلى حدث تاريخي والبناء عليه، ليكسبهم عنصر الجغرافيا في الحاضر، ليمكنهم من دخول التاريخ والمشاركة في صنع أحداثه ليست إلا محاولات بائسة وفاشلة كما بيَّنا.

2 – المصادر السامية (حضارات ما بين النهرين)

انفردت الرواية الكتابية اليهودية بذكر السَبْيَين الصغير والكبير، ودمار الهيكل المزعوم. فالأول طبقاً للرواية الكتابية اليهودية قام به الإمبراطور الأشوري سرجون الثاني سنة 721 ق.م.‏[20]؛ والثاني قام به الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر سنة 586 ق.م‏[21].

هاتان الواقعتان لا وجود لهما في المصادر الأشورية والبابلية؛ فعلم الآثار الخاص بأشور وبابل لم يسهم بشكل مقنع في تسجيل حضور الرواية الكتابية اليهودية في هذه المصادر، وكذلك كتب تاريخ الشرق القديم، المبني على علم الآثار، لم تسجل حضوراً مقنعاً للرواية اليهودية، الأمر الذي ينفي حصولهما.

واللافت للنظر صمت المراجع التاريخية الغربية عن هذا الغياب، وهذا الصمت أعطى بدوره شيئاً من المصداقية التاريخية للرواية الكتابية اليهودية؛ الأمر الذي أدى بالمشتغلين العرب بتاريخ الشرق القديم وفلسطين والقدس على وجه الخصوص إلى تبني هذه الرواية، بدلاً من دحضها لغيابها من المصادر الأشورية والبابلية. لأن دحض حصول السَبْيَين، وتحديداً السبْي الكبير، المنسوب لنبوخذ نصر، ينفي بدوره مزاعم وجود الهيكل المزعوم وتدميره من قبل نبوخذ نصر. فهدفنا من النفي، ليس النفي في حد ذاته، على ما له من مصداقية علمية وقيمة تاريخية، بل يجب أن يوظف لدحض مزاعم اليهود بوجود هيكلهم المزعوم.

وهذا النفي لا يتعارض مع الرواية القرآنية التي وردت في سورة الإسراء التي ذكرت مراحل معاقبة الله لليهود بمرحلتين رئيسيتين ومجموعة مراحل لاحقة مشروطة بسلوكهم كما توضح آيات من سورة الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ أَلّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا. ذُرِّيَّـةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّـهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا. وَقَضَيْنَا إلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾‏[22]. ولكن قبل أن أعرض لهذه المراحل يتوجب إجلاء واقع بناء المسجد الأقصى.

أ – المسجد الأقصى

ابتداءً يقتضي التنويه أن المسجد الأقصى لم يكن مبنياً في عهد الرسول، لأنه بني في زمن عبد الملك بن مروان وابنه الوليد؛ وأن ما ورد في الآية الكريمة جاء باعتبار ما سيكون مسجداً، أي أن الرسول أُسري به إلى الموقع الذي سيصبح مسجداً. وهذا منهج قرآني اتبعه الله في تحديد موقعَي العبادة في مكة والقدس، لقيمتيهما الدينية في الإسلام كقبلتين متعاقبتين للمسلمين. فبناء الكعبة مر بثلاث مراحل بائنة الوضوح وهي:

(1) إعمار مكة بشرياً بإسكان النبي إبراهيم زوجته هاجر وابنه إسماعيل بجوار البيت الحرام، وتحديد وظيفة المدينة دينياً، كما في قوله: ﴿رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّـلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِـدَةً مِـنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْـهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون﴾‏[23]. فمكان الكعبة كان محدداً عند الله، فأوعز إلى النبي إبراهيم بإسكان ذريته بجوار المكان الذي حدده الله لبناء الكعبة والمسجد الحرام، وبين له الغرض من الإعمار وهو العبادة المعبَّر عنها بالصلاة.

(2) تحديد موقع الكعبة الذي كان في علم الله كما في قوله: ﴿وَإذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾‏[24]. أي حدد الله موقع البناء للنبي إبراهيم وبيّن شروط استعماله وهو العبادة المعبَّر عنها بالإيمان بالله وعدم الشرك به، ونظافة المكان وطهارته.

(3) بناء الكعبة بعد تحديد موقعها كما في قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّـكَ أَنـتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾‏[25]. إنهاء عملية الاستدلال بإقامة البناء لحسم قدسية المكان وتكريسه للعبادة.

وهذه المراحل الثلاث تنطبق على المسجد الأقصى وهي:

(أ) إن رحلة الإسراء تمت إلى المكان المحدد في علم الله مسجداً، والمسمى المسجد الأقصى. وليس الذي قيل عنه إنه من بناء النبيين داود وسليمان في بعض المصادر الإسلامية التي وظفت مزاعم الرواية اليهودية. كما أنه ليس الهيكل المزعوم الذي تروِّج له التوراة والمصادر الكتابية اليهودية. فلو كان موقع المسجد الأقصى هو موقع الهيكل المزعوم، لَمَ امتنع الله عن التنويه بذلك؛ كما فعل بالكعبة التي بناها النبي إبراهيم، ومورست فيها طقوس الديانة الحنيفية السمحاء دين النبي إبراهيم. ثم مارس فيها المشركون عبادتهم ونصبوا الأصنام في محيطها، المعروف بالمسجد الحرام. ثم خصصها الله للدين الإسلامي، بعد أن طهرها النبي محمد من الأصنام. وهذا يثبت أن موقع المسجد الأقصى مكان مخصص لإقامة مسجد للمسلمين سماه الله بالمسجد الأقصى.

(ب) استدلال الخليفة عمر بن الخطاب على موقع المسجد الأقصى سنة 15هـ/636م، بعد تحرير القدس صلحاً مع البطريرك صفرونيوس، وتنظيفه وتخصيصه للصلاة.

(ج) بناء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لقبة الصخرة سنة 72هـ/692م، ثم بناؤه للمسجد القبلي، المعروف بالمسجد الأقصى أيضاً، سنة 90 – 96هـ/709 – 715م، الذي أكمله ابنه الوليد.

واللافت للنظر أن موقع المسجد الأقصى كان فارغاً ويخلو من أي بناء أثناء رحلة الإسراء. واللافت أيضاً أن تحديد مكانَي العبادة: الكعبة والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، من قبل الله اقتصر على الديانة الإسلامية فقط، فلا يوجد تحديد لمباني العبادة في الديانتين اليهودية والمسيحية. فخيمة الاجتماع، المنصوص عليها في سفر الخروج بالتوراة وجدت في التيه، أي في لا مكان، لأنها لم تتحيز في مكان محدد، بل كانت تطوى وتنقل من مكان إلى آخر على مدى سنوات التيه الأربعين وبعد ذلك. كما أن الهيكل المزعوم لم يحدد له مكان، بل مزاعم بوجوده وتحيزه في أكثر من مكان. فلا دليل كتابياً أو مادياً أثرياً على وجوده. واليهود يعانون عقدة المكان، ولهذا السبب زعموا أن موقع المسجد الأقصى هو مكان الهيكل المزعوم.

هذا في ما يتعلق بالمسجد الأقصى وموقعه، أما في ما يتعلق بخلو المصادر السامية من ذكر السَبْيَيْن فإن الآيات الكريمة التي وضحت لبني إسرائيل مستقبلهم ومآلهم بسبب فسادهم وعصيانهم، ثم علوهم، ثم تَوَعّدُهُمْ إن لم يرتدعوا عن هذا الفساد؛ أي مراحل عقابهم المفتوحة في الرواية القرآنية فسأعرض لها في ما يلي من شرح وتحليل.

ب – مراحل عقاب اليهود في الرواية القرآنية

تعمد الرواية الكتابية اليهودية إلى تحديد التواريخ زمنياً، والمكان جغرافياً، والتعريف بالخصوم. وتغرق في التفاصيل والمبالغات لتعظيم الحدث. وهذا يسهل عملية دحضها بل نفيها لانفرادها بالحيثيات والتفاصيل؛ ولافتقارها إلى التأييد من المصادر التاريخية للحضارات المعنية بالحدث. فكما رأينا بقصة الخروج التي أهملتها المصادر التاريخية المصرية القديمة لكونها حدثاً عابراً. فإن قصة السَبْيَيْن لا نجد لها حضوراً في المصادر التاريخية الأشورية والبابلية المعنيين باحتلال القدس وتدميرها، وحرق الهيكل المزعوم، وسبي اليهود، كما تزعم الرواية الكتابية اليهودية. وهما حدثان تاريخيان، يجب أن لا تغفل أو تهمل المصادر التاريخية الأشورية والبابلية عن تسجيلهما وتوثيقهما لو كانا من فعل هاتين الدولتين، مهما كان حجمهما كبيراً أو صغيراً. وهذا يعني أن الرواية الكتابية اليهودية غير صحيحة لصمت المصادر المعنية بأحداث هذه الرواية عن تدوينها، أو مبالغ بهما في الرواية الكتابية اليهودية كما هو الحال في قصة الخروج.

هنا تأتي الرواية القرآنية التي تبدو أنها توافق الرواية الكتابية اليهودية في ظاهرها، وتوافق صمت المصادر التاريخية الأشورية والبابلية في موضوعها. فمن حيث الموافقة الظاهرية فالحدث، كما تذكره الآيات السابقة ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين…﴾؛ يتوافق مع الرواية الكتابية اليهودية التي تضمنت حدثين هما السبي الصغير والسبي الكبير. أما من حيث الموضوع كالتفاصيل والمبالغات في الرواية الكتابية اليهودية؛ فالرواية القرآنية تتوافق مع صمت المصادر الأشورية والبابلية؛ لأنها لم تحدد من سيقوم بحرب اليهود، ولم تحدد البلد الذي يقيم به اليهود جغرافياً (المكان) والذي تدور الحرب فيه، فتقول: ﴿فجاسوا خلال الديار…﴾، ولم تحدد الديار؛ ولا تصف ما حل باليهود نتيجة الحرب، «كدمار الهيكل المزعوم وسرقة أوانيه، وسبي اليهود»، كما تزعم الرواية الكتابية اليهودية‏[26]. والجدير بالذكر أن الرواية الكتابية اليهودية اكتفت بذكر السبي الصغير (الأشوري)، وركزت على السبي الكبير (البابلي) وبالغت في تعظيمه واختراع تفاصيل له، وربطه بالتاريخ الفارسي.

واللافت للنظر أن كثيراً من المفسرين والفقهاء المسلمين اجتهدوا في تفسير الآيات السابقة، فمنهم من أيد الرواية الكتابية اليهودية كما وردت في التوراة كالطبري في تفسيره‏[27] مع خلاف في الأسماء؛ إذ ذكرت التوراة أن الذي قام بالسبي الصغير هو الملك الأشوري سرجون الثاني، بينما ذكر الطبري أنه الملك الأشوري سنحاريب (704 – 681 ق.م). ومنهم من اجتهد ضمن الرواية القرآنية دون أن يعارض الرواية الكتابية اليهودية؛ كالرازي‏[28] في تفسيره، زعم أن نبوخذ نصر قام بالسبي الصغير، وأن جالوت قام بالسبي الكبير وأن طالوت (داود) مثل مرحلة «ثم رددنا لكم الكرة عليهم …». وهذا تأييد للرواية الكتابية اليهودية مع بعض الخلافات في التفسير. فجالوت خارج نطاق الرواية الكتابية اليهودية التي قصرت أحداثها على الملك الأشوري سرجون الثاني والملك البابلي نبوخذ نصر، أي أن السبي الصغير قام به الملك الأشوري سرجون الثاني، وليس الملك البابلي نبوخذ نصر الذي قام بالسبي الكبير، طبقاً للرواية اليهودية. كما أن السبي الصغير حصل بعد حكم النبي داود بنحو ثلاثة قرون، والكبير بعد خمسة قرون تقريباً، حسب مزاعم التوراة. فاجتهاد الرازي في تفسيره كان خطأً.

ومنهم من ذكرها نقـلاً عن رواية الطبري، وعارضها ولم يسلم بها، كالفقيه والمؤرخ والمفسر الدمشقي ابن كثير في تفسيره، إذ يقول: «ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه [في الرواية اليهودية] لجاز كتابته وروايته، والله أعلم»‏[29].

فالرواية القرآنية إذاً لم تؤكد الرواية الكتابية اليهودية للسبي في حيثياتها وتفاصيلها بل في العدد الذي قيدت عظمته بمرتين. وتركت أمر محاسبتهم ومعاقبتهم على فسادهم وعصيانهم مفتوحاً لانتقام ثالث، وربما رابع وخامس وسادس… إلخ. أي انتقام مفتوح، مشروط حدوثه بسلوكهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَإنْ عُدتُمْ عُدْنَا…﴾‏[30]. وهذا ما حصل لهم في حروبهم التي دونها التناخ، وكان آخرها ما قام به الإمبراطور الروماني تيطس (79 – 81م) الذي قاد حملة عسكرية في زمن حكم والده الإمبراطور فلافيوس فيسبسيانوس (69 – 79م)، واحتل القدس سنة 70م.

فهل يكون الحدثان اللذان ذكرتهما الرواية الكتابية اليهودية ضمن المدة المحصورة من دخولهم فلسطين وحتى هزيمتهم على يد تيطس سنة 70م؟ أم ما حصل لهم من عقاب بعد سنة 70م وحتى يومنا الحاضر؟ كما حصل في صدر الإسلام، حيث قام الرسول بإجلائهم من المدينة المنورة ومحيطها. وطبقاً للرواية القرآنية هل يكون ما حصل لهم في المدينة انتقاماً ثالثاً؟ وكيف نصنف ما حصل لهم في فرنسا من اضهاد وطرد، حيث طردوا 4 مرات بين سنة 1182 – 1322م!؟ وفي بريطانيا سنة 1290م!؟ والنمسا سنة 1421م!؟ وإسبانيا سنة 1492م!؟ وكيف نصنف ما حصل لهم في الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م)، المعروف بالهولوكوست، على يد الألماني هتلر؟ واللافت أنهم لم يكونوا في كل الأحداث السابقة، التي حصلت في أوروبا، أصحاب ديار محددة؛ كما أنهم لم يكونوا في فلسطين، ولم يكن لهم هيكل مزعوم. فهل نعتبر هذا انتقاماً وعقاباً رابعاً، وخامساً، وسادساً، وسابعاً… إلخ.

وكيف نفسر الانتقام والعقاب القادم الذي ينتظرهم في فلسطين، وهم يتوقعونه بين لحظة وأخرى، ويبذلون كل جهدهم لتفاديه. بل ربما يكون ما حصل من المقاومة الإسلامية اللبنانية (حزب الله) في سنة 2006م، ومن المقاومة الفلسطينية في غزة في سنة 2014 جزءاً من الانتقام المنتظر، حيث تمكنت الأخيرة من شل حركة الطيران المدني في فلسطين المحتلة، كما تمكنت كل من المقاومتين من تقييد حركة ما يقارب 2.000.000 يهودي داخل الملاجئ طوال فترة الحربين، وشل اقتصاد الكيان الصهيوني اليهودي طوال أيام الحرب.

وهنا لا نستطيع الجزم بتوافق الرواية القرآنية مع الرواية الكتابية اليهودية، لأن الأولى مفتوحة على كل الاحتمالات، بينما الثانية اقتصرت على حدثين تاريخيين؛ لم تؤيدهما المصادر التاريخية الأشورية والبابلية المعنية بالحدثين. وهذا ينطبق على الهولوكوست الذي بالغ اليهود في تضخيمه وتعظيمه، الأمر الذي دعا المفكر الفرنسي روجيه غارودي إلى تكذيبه ونفيه. وعليه ليس بالضرورة أن يكون لفظ مرَّتين في الرواية القرآنية يعني السبي الصغير والسبي الكبير. كما إننا لا نستطيع الجزم بأنهم قد علوا مرتين في الماضي حتى تتوافق الروايتان القرآنية والكتابية اليهودية. فهم الآن في حالة علو غير مسبوقة بتاريخهم، إن كان لهم تاريخ، فكيف نصنف هذا العلو، هل هو أول؟ أم ثانٍ؟ أم ثالث يشكل مرحلة «وإن عدتم عدنا»؟ أم ماذا؟

فالتوافق بين الروايتين يتعذر الإقرار به، لأن الرواية القرآنية مطلقة في الزمان، وغير مقيدة في المكان، ومفتوحة على كل الأحداث الماضية والمعاصرة والمستقبلية؛ كما أنها ليست معنية بالتاريخ كوقائع وأحداث، بل بفلسفة التاريخ: كدروس وعبر، وتفكر وتأمل، بأحوال غير المسلمين ليتعظ المسلمون بما حصل لغيرهم من الأمم والشعوب؛ فخلت من التواريخ الزمنية والتفاصيل الإنسانية والشواهد المكانية. فتركت الأحداث التاريخية مفتوحة لكل الاجتهادات.

بينما الرواية الكتابية اليهودية مقيدة في الزمان والمكان، ومرتبطة باليهود كمجموعة بشرية، وتنفرد بتسجيل وقائع وأحداث، وتفاصيل إنسانية، وشواهد مكانية مزعومة خاصة بهم؛ تفتقر إلى السند التاريخي، والحضور الجغرافي. كما بينت في المصادر المصرية القديمة والسامية المغيبة، التي لا تؤيد الرواية الكتابية اليهودية. كما أن الدليل المادي الأثري لم يوفر أي قدر من المصداقية للرواية الكتابية اليهودية؛ وعليه فإنه لا يمكن اعتمادها كرواية تاريخية. الأمر الذي ينفي كل ما تضمنته من أحداث: كدمار القدس، ودمار الهيكل المزعوم، وسبي وتشتيت اليهود. ويتوجب علينا كعرب ومسلمين أن نتخلص من حضور هذه الرواية في وجداننا الجمعي، وفي كتب التاريخ، وفي تفسير آيات القرآن الخاصة باليهود؛ لنتجنب بل لننفي تداعياتها الدينية والتاريخية والسياسية. وأن نعمل على تعظيم دور الدراسات والأبحاث التي تنفي الرواية الكتابية اليهودية التي أشرت لبعضها في بداية هذا البحث.

وسيتضح عدم التوافق بين الروايتين في عرضي للمصادر الفارسية والكلاسيكية اليونانية واللاتينية التي سأعرض لها تباعاً في ما يلي من شرح وتحليل.

3 – المصادر الفارسية

إن الرواية الكتابية اليهودية الخاصة بالسبْي البابلي تمتد إلى الدولة الفارسية التي قوضت الدولة البابلية. فتزعم أن الملك الفارسي كورش (560 – 529 ق.م.) الذي هزم بابل سنة 539 ق.م. سمح لليهود بالعودة إلى القدس سنة 535 ق.م. كما تزعم أنه سمح لهم ببناء الهيكل المزعوم (هيكل زربابل أو الهيكل الثاني)‏[31]. ثم تزعم الرواية الكتابية اليهودية أن خلافات حصلت بين اليهود وشكوا برسالة خطية إلى الملك الفارسي أرتحششتا أو أرتحشستا، وهي التسمية اليهودية للملك قمبيز بن كورش (529 – 522 ق.م.)، الذي استجاب للشكوى وأصدر أمراً خطياً بوقف بناء الهيكل المزعوم‏[32]، حسب مزاعم الرواية الكتابية اليهودية، علماً أن قمبيز كان مشغولاً بحربه مع مصر، طوال فترة حكمه، حيث احتلها ونصّب نفسه فرعوناً عليها.

ثم توالت الشكاوى مع الملك داريوس (522 – 486 ق.م.) من اليهود المعارضين لبناء الهيكل والراغبين ببنائه، وينتهي الأمر بأن أمر داريوس ببناء الهيكل المزعوم‏[33]، والذي اكتمل بناؤه على يد زربابل سنة 516 ق.م.، كما تزعم الرواية الكتابية اليهودية.

واللافت للنظر أن الرسائل المزعومة المتبادلة بين اليهود (المعارضين لبناء الهيكل والراغبين ببنائه) مع الفرس على مدى حكم ملوك الفرس الثلاثة السابق ذكرهم، لم تأتِ على ذكرها المصادر الفارسية، واقتصر ذكرها فقط على الرواية الكتابية اليهودية؛ لأن المصادر الغربية واليهودية لم تذكر أي مصدر فارسي يؤيد هذه الرواية. فلا يوجد إذاً في المصادر الفارسية ما يؤكد صحة هذه المزاعم. وهذا بدوره ينفيها جملة وتفصيـلاً؛ وينفي في نفس الوقت بناء ما يسمى هيكل زربابل أو الهيكل الثاني. بل ينفي قصة السبي البابلي برمته.

إن صمت المراجع التاريخية الغربية التي تتبنى مزاعم الرواية الكتابية اليهودية (مع بعض الاستثناءات التي أشرت إليها سابقاً) عن غيابها في المصادر الفارسية، يجب أن لا يثني المشتغلين العرب بتاريخ القدس عن توظيف هذا الغياب. فنفي مزاعم رواية المصادر الكتابية اليهودية بتوظيف الغياب المطلق لها في المصادر الفارسية، يجب أن يكون هدفاً ومنهجاً للمشتغلين العرب بتاريخ القدس، لأنه يؤكد عدم التوافق مع الرواية القرآنية، كما ينفي بناء الهيكل الثاني المزعوم. كما نفينا سابقاً بناء ما يسمى الهيكل الأول المزعوم في المصادر السامية، بعد أن قابلنا الرواية الكتابية اليهودية بالرواية القرآنية، وكما نفيناه بالأدلة الهندسية والمنطقية والدينية في كتابي الموسوم: الهوية المعمارية لمدينة القدس‏[34]؛ وسيتأكد صمت المصادر الفارسية عن الرواية اليهودية الخاصة بالسبي البابلي في المصادر الكلاسيكية اليونانية، التي ستكون موضوعنا التالي.

4 – المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية

إن المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية هي الوحيدة في تاريخ العالم القديم المدوَّنة في كتب. وقد قامت جامعة هارفرد بترجمة جميع هذه الكتب إلى اللغة الإنكليزية. وقد اطلعت عليها جميعاً ولم أجد بها أي إشارة إلى الرواية الكتابية اليهودية. بل إن أهم كتاب بهذه المصادر، وهو تاريخ هيرودوت (القرن الخامس ق.م.)، لا يأتي على ذكر اليهود نهائياً في تاريخه. واللافت للنظر أن هيرودوت أرَّخ للدولة الفارسية ولحروب الملوك: كورش وقمبيز وداريوس، الذين حكموا في الفترة من سنة 560 – 465 ق.م. وهي قريبة جداً من الفترة التي كتب هيرودوت فيها تاريخه وهي الفترة المنحصرة بين 450 – 420 ق.م‏[35]. فالفارق الزمني بين إذْن داريوس بالسماح لليهود ببناء هيكلهم المزعوم سنة 516 ق.م.، كما تزعم الرواية اليهودية؛ وبين بداية هيرودوت لكتابة تاريخه هو (516 – 450) هو 66 سنة. فلو كانت الرواية الكتابية اليهودية الخاصة بالسبي البابلي صحيحة، لذكرها هيرودوت في تاريخه، الذي عرض لسقوط بابل على يد الملك الفارسي كورش سنة 539 ق.م‏[36]. كما أنه، أي هيرودوت، دوَّن وصفاً مفصـلاً لمدينة بابل ولعادات أهلها‏[37]، فلو كان لليهود وجود في بابل في هذه الفترة أو ما سبقها لذكره هيرودوت. وبهذا نخلص إلى أن الرواية الكتابية اليهودية غير صحيحة، وأن الرواية القرآنية لا تتوافق معها كما بينت سابقاً في المصادر السامية. وعليه فإن دعاوى اليهود: بدمار القدس، وبسبيهم، وبوجود هيكل مزعوم دُمِرَ ثم أعيد بناؤه، غير صحيحة. فهذه الدعاوى كذبتها جميع المصادر السابقة وكذلك الرواية القرآنية التي سأكمل عرضي لها بعد أن أعرض للمصادر الرومانية.

5 – المصادر الرومانية

إن العلاقة اليهودية – الرومانية دونت في مصدرين رئيسيين وهما: المصدر الأول، تاريخ جوزيفيوس فلافيوس وهو يهودي رافق الإمبراطور الروماني تيطس فيسبسيانوس (79 – 81م) بعد أن انتصر على اليهود واحتل القدس سنة 70م أثناء حكم والده الإمبراطور فلافيوس فيسبسيانوس (69 – 79م). واليهود يعتبرون جوزيفيوس عميـلاً رومانياً. وقد كتب كتابين هما: حروب اليهود، وآثار اليهود. وزعم في كتابَيه أن تيطس دمر القدس ودمر الهيكل المزعوم وسرق الأواني المستعملة في الهيكل المزعوم. وقد قابلت روايته عن الهيكل المزعوم مع الروايات الأخرى وبينت تناقض هذه الروايات بعضها مع بعض ونفيت وجود الهيكل المزعوم في كتابي الموسوم: الهوية المعمارية لمدينة القدس.

أما المصدر الثاني، فهو قوس النصر الذي شيده الإمبراطور تيطس في روما وسجل عليه إنجازاته العسكرية التي لم تذكر شيئاً اسمه الهيكل؛ بل دونت رسومات للأواني المستعملة في تقديم القرابين، كما تذكر بعض المصادر الغربية. والمعروف أن الإمبراطور هدريان (117 – 138م) هو الذي خطط مدينة القدس وأسماها إيليا كابتولينا، وأقام في موقع الحرم الشريف معبداً للإله جوبيتر، ومنع اليهود من دخول القدس.

ثم اعترف البيزنطيون (الرومان) في زمن الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية وبقي الحكم البيزنطي حتى قام المسلمون بتحرير القدس وفلسطين منهم سنة 15هـ/636م، وقام بطريرك القدس صفرونيوس بتسليم القدس للخليفة عمر بن الخطاب سِلْماً، بموجب العهدة العمرية التي أنهت الوجود اليهودي، ومنعتهم من دخول القدس، بناء على طلب البطريرك صفرونيوس المدون في العهدة العمرية.

واللافت للنظر أن تاريخ جوزيفيوس يتوافق مع الرواية الكتابية اليهودية التي تتمحور حول الهيكل المزعوم وهذا ما تنفيه المصادر الرومانية.

مما سبق، يتضح أن الرواية الكتابية اليهودية تنفرد بتسجيل أحداث ووقائع تاريخية، واجتماعية، ودينية، لا وجود لها في المصادر التاريخية المعنية بهذه الأحداث كالمصادر التاريخية المصرية القديمة، والسامية (الأشورية والبابلية)، والفارسية، واليونانية، والرومانية؛ كما تعارضها بل تنفي بعضها الرواية القرآنية كما بينت سابقاً وكما سأبين في ما يلي من عرض وتحليل.

6 – الرواية القرآنية

بيّنت في ما سبق أن الرواية القرآنية لا تتوافق مع رواية المصادر الكتابية اليهودية الخاصة بالخروج وبالسبي البابلي. وسأبين في ما يلي من عرض وتحليل أن الرواية القرآنية لتاريخ اليهود تؤكد تحريف التوراة، وتحريف العبادة، وتنفي تفضيل اليهود عرقياً كما تزعم المصادر الكتابية اليهودية.

تمتاز الرواية القرآنية ليس فقط بمصداقيتها المطلقة، بل بأنها معلومة لعلماء اليهود، كما في الآية: ﴿وَإنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيل﴾‏[38]. فما اختلف عن الرواية القرآنية، المعلومة لعلماء بني إسرائيل، إذاً يكون تحريفاً مطلقاً، وهذا يقودنا إلى تحريف التوراة.

أ – تحريف التوراة

إن تحريف التوراة ورد صراحة وبوضوح لا يقبل اللبس، في القرآن كما في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا يَكْسِبُون﴾‏[39].

وكذلك في قوله: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾‏[40].

وكذلك في قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾‏[41].

فتحريف التوراة ليس اكتشافاً غربياً حديثاً من بعض المختصين باللاهوت اليهودي، بل قرآنياً إسلامياً منذ أكثر من 14 قرناً‏[42]. الأمر الذي يفرض على، بل يلزم، جميع المشتغلين العرب والمسلمين ليس فقط بتاريخ فلسطين والقدس بل بكل الشؤون اليهودية، أن يوظفوا الرواية القرآنية، وأن ينأوا بأنفسهم عن الرواية الكتابية اليهودية. وللأسف فإن أغلبية المشتغلين العرب والمسلمين لا يعون قيمة هذه الحقيقة، ولم يحسنوا توظيفها على ما فيها من غَنَاء.

فإذا كانت التوراة محرَّفة فإن كل ما تدعيه عن تاريخ فلسطين والقدس يكون محرَّفاً؛ فالرواية القرآنية يجب أن تكون ظاهرة الحضور، لكونها بائنة الدلالة، في نفي مزاعم الرواية الكتابية اليهودية. وعلى جميع المشتغلين العرب والمسلمين أن يوظفوا الرواية القرآنية في أعمالهم وأن لا يلتفتوا إلى مزاعم الرواية الكتابية اليهودية، لأن الرواية القرآنية هي العنصر الأقوى في دحض مزاعم الرواية الكتابية اليهودية. ولقد عرضت لرأي ابن كثير في بداية البحث الذي طالب بتوظيف الرواية القرآنية، وعدم توظيف الرواية الكتابية اليهودية واعتبرها من الإسرائيليات المسكوت عنها، وأنها خبط وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، كما سأبيِّن في ما يلي من عرض وتحليل.

ب – تحريف العبادة

تبيّن الرواية القرآنية أن طقوس العبادة التي مارسها اليهود هي من ابتداعهم وليست وحياً (مطلباً إلهياً) في الدين اليهودي. كما أن الرواية القرآنية، لا تذكر وجود هيكل. فطقوس العبادة اليهودية في الرواية القرآنية هي الصلاة ودفع الزكاة، وليس تقديم القرابين وجباية ضريبة الرؤوس، ومقدارها نصف شاقل عن كل يهودي بلغ 20 عاماً‏[43]، كما كان يفعل الكهنة في خيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم في ما بعد، فضـلاً عن أن هذه الطقوس لا تحتاج إلى هيكل، كما يتضح في قوله تعالى مخاطباً اليهود: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾‏[44].

وهذا يعني أن العبادة في الدين اليهودي ليست تقديم القرابين [كما مارسها كهنة اليهود منذ عصر النبي موسى وحتى سنة 70م عندما احتل الإمبراطور تيطس القدس. حيث تآمر معه الحاخامات ضد الكهنة وغيَّروا العبادة في الدين اليهودي من تقديم القرابين إلى قراءة المزامير، ومن تطبيق التوراة المحرَّفة (الوحي المزيَّف) إلى التلمود الذي كتبه الحاخامات]؛ بل الصلاة والزكاة بالمفهوم الإسلامي لهما، أي بالركوع والسجود والدعاء، ودفع الزكاة وليس أكل السحت وجباية الأموال. وأكد الله، مخاطباً اليهود، أن العبادة هي الصلاة، كما في الآيات التالية: ﴿‍‌وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾‏[45].

وكذلك في قوله: ﴿وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّـهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلَّا قَلِيلًا مِنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُون﴾‏[46].

والدليل على أن عبادة تقديم القرابين في الدين اليهودي لم تكن وحياً، أي مطلباً أو فرضاً إلهياً، بل مطلباً يهودياً كما ورد في قوله: ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾‏[47].

وكذلك في قوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾‏[48].

ويعود الحق ليؤكد أن العبادة في الدين اليهودي هي الصلاة والزكاة في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّـهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾‏[49].

وهذا يعني، مرة أخرى، أن العبادة في الدين اليهودي لا تحتاج إلى هيكل لتقديم القرابين. فهي إذاً عبادة محرفة.

ج – التفضيل المزعوم

أما التفضيل المزعوم الذي تروِّج له الرواية الكتابية اليهودية بأنه تفضيل عرقي مطلق؛ ليس إلا تفضيـلاً تكليفياً مرحلياً باختيارهم لأداء عمل محدد وهو حمل رسالة الدين اليهودي، وليس عرقياً بل انتقائياً، مقيداً ومرحلياً بحمل الرسالة، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾‏[50].

فتفسير الآية يوضح أن التفضيل هنا مقيد‏[51]، وليس مطلقاً كما يدعي اليهود، لأن الحق فضّلهم بأن اختارهم لحمل رسالة الدين اليهودي، فاحتكروا الدين، وأطلقوا التفضيل، واعتبروه تفضيـلاً خَلْقِياً عِرقياً وليس اختيارياً، انتقائياً، تكليفياً ومرحلياً لتنفيذ غرض محدد، هو حمل رسالة الدين اليهودي. والدليل على أن التفضيل اختياري انتقائي محصور في حمل رسالة الدين اليهودي، وليس عرقياً قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾‏[52].

فالتفضيل هنا بالعلم، أي بحمل رسالة الدين اليهودي باختيارهم من بين عباده المؤمنين لهذا الأمر. فتقييد التفضيل هنا وقصره على اختيارهم من بين عباده المؤمنين، يؤكد أن التفضيل ليس عرقياً كما يزعم اليهود. ويتضح، بل يتأكد هذا الأمر في الآية التالية: ﴿… وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّـهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُون﴾‏[53].

فكيف يكون هؤلاء الأذلاء المشردون والمغضوبون شعب الله المختار المفضل خَلْقِياً وعرقياً على الناس!؟ فالرواية القرآنية تنفي التفضيل العرقي في الرواية الكتابية اليهودية جملة وتفصيـلاً، وتحصره بتكليفهم حمل رسالة الدين اليهودي.

د – البقرة الصفراء (الحمراء)

إن ذبح البقرة الصفراء كما ورد في القرآن الكريم – ﴿وَإذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّـهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِيَ قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِيَ إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإنَّا إن شَاءَ اللَّـهُ لَمُهْتَدُونَ. قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّـهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾‏[54] – كان لمعرفة القاتل بضرب جثة المقتول بها لإحيائه، وليس قرباناً، أي طقساً للعبادة، كما هو الحال في طقس البقرة الحمراء عند اليهود، التي يقدمونها قرباناً في عيد الغفران، وهي طقس ديني مقتبس من الديانة المصرية القديمة. وهنا يؤكد القرآن أن العبادة لم تكن تقديم القرابين كما مارسوها تقليداً للديانات المصرية القديمة والكنعانية والسامية. كما يؤكد تغييرهم العبادة المفروضة عليهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُم مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ. وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ﴾‏[55].

فعصيانهم ليس جهـلاً، بل عن سابق علم ومعرفة بحقيقة دينهم، الذي لا علاقة له بعبادة العجل بل بعبادة الله، وليس تقديم القرابين بل الصلاة والزكاة، كما بينت سابقاً. وبهذا يتضح أن الرواية القرآنية تبين حقيقة الدين اليهودي كدين سماوي يرتكز على عبادة الله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. كما أن الرواية القرآنية تكشف تحريف اليهود لدينهم، وتبين عدم حاجتهم إلى الهيكل المزعوم، وتنفي مزاعمهم التاريخية بأنهم شعب الله المختار.

فالرواية القرآنية لا تتوافق مع الرواية الكتابية اليهودية، بل تنفي كل تفاصيلها ومبالغاتها. كما تجاهلت المصادر التاريخية المصرية القديمة والسامية واليونانية والفارسية الرواية الكتابية اليهودية. وهذا ينفي حضورهم في الجغرافيا ومن ثم في التاريخ، فلجأوا إلى تطويع علم الآثار لدعم روايتهم الملفقة كما بينت سابقاً.

8 – علم الآثار

إن علم الآثار لم يقدم أي دليل مادي أو وثائقي كتابي يؤيد مزاعم الرواية الكتابية اليهودية. على الرغم من المحاولات التي قام بها المؤرخون الغربيون واليهود لتطويع هذا العلم، ليتوافق مع الرواية الكتابية اليهودية؛ مع بعض الاستثناءات التي أشرت إليها في بداية البحث. كما في محاولات إيمانويل فلايكوفسكي المستميتة في كتابه عصور في فوضى[56]، لخلق توافق بين علم الآثار والرواية الكتابية اليهودية، التي عجزت بالمطلق عن تقديم أي دليل. وكذلك الحفريات التي قام بها الآثاريون الغربيون واليهود في القدس التي لم تسفر عن وجود أي دليل مادي يتوافق مع الرواية الكتابية اليهودية. الأمر الذي دعا الآثاري اليهودي مئير بن دوف إلى الإعلان عن انتهاء أعمال التنقيب في محيط الحرم الشريف (المسجد الأقصى) وعدم العثور على الهيكل المزعوم في القدس. أمام هذه الحقائق فإنه يتوجب على جميع المهتمين بتاريخ القدس توظيف علم الآثار لدحض الرواية الكتابية اليهودية ونفي مزاعمها بوجود الهيكل المزعوم وبحقهم التاريخي المزعوم في فلسطين والقدس.

9 – الأرشيف العثماني

إن الأرشيف العثماني من أغنى المصادر الحديثة في تاريخ فلسطين والقدس. وهو أرشيف موثق ومحفوظ في إسطنبول بتركيا، ويغطي الحقبة الزمنية من 1517 – 1917، أي يمتد على مدى 400 سنة. إلا أن توظيفه من قبل المشتغلين العرب والمسلمين بالتاريخ العام والسياسي لفلسطين محدود جداً جداً، وسطحي جداً جداً، وربما لا تتجاوز هذه المحاولات عدد أصابع اليدين. على النقيض من الدراسات الغربية واليهودية التي استغلت هذا الأرشيف ودرسته بعمق، وأقحمت الحضور اليهودي في فلسطين، والقدس على وجه التحديد، من خلال تزويرهم وتفسيرهم الخاص لبعض الوثائق، حتى أصبحت دراساتهم مرجعاً للدارسين والمهتمين العرب بتاريخ فلسطين والقدس. وهنا يتوجب على جامعة الدول العربية، والجامعات العربية أن تسهل الوصول إلى الأرشيف العثماني، وإلزام الباحثين بتوظيفه مباشرة وليس اقتباساً عن الدراسات الغربية واليهودية، مع توجيههم وحثهم على التخلص والتحرر من سلطة حضور الدراسات الغربية واليهودية في تشكيل وعيهم، وإملاء رؤيتها عليهم. إن سلطة الحضور التي تمليها الدراسات الغربية واليهودية هي المعيق الرئيس في تشكيل وعي تاريخي وسياسي عربي مستقل؛ فالتحرر منه لا يتم إلا بالإرادة والعودة إلى المصادر الأصلية ومنها الأرشيف العثماني، ودراسته بعمق وباستقلال تام عن الرؤى الغربية واليهودية – التي، للأسف، شكلت وما زالت تشكل وعي الدارسين والباحثين العرب في تاريخ فلسطين والقدس – وليس بالسطحية التي نلمسها اليوم عند معظم الدارسين، التي ستكون موضوعنا التالي.

10 – سطحية التعامل مع الوثائق التاريخية

إن أي متابع للدراسات الخاصة بالقدس، وأي مشارك في المؤتمرات، والندوات، واللقاءات، والمنشورات، الخاصة بالقدس يلمس مدى سطحية الدراسات والأبحاث المشاركة بهذه المؤتمرات. كما يلمس محدودية الخلفية التاريخية والثقافية لمعظم المشاركين. ولقد تجلى هذا الأمر في المؤتمرات التي عقدت بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية سنة 2009. فالأبحاث تفتقر إلى العمق المعرفي وإلى الرصانة المنهجية، ناهيك بعدم القدرة على توظيف المعلومة التاريخية لمصلحة قضية القدس، وبالتالي عدم القدرة على تكوين وجهة نظر عربية خالصة خاصة بالقدس.

والأمر المؤسف والمحزن أن بعض الهيئات والمنتديات والمؤسسات المعنية بالقدس تتصرف كمشيخات لا كمؤسسات همها الأول خدمة قضية القدس. فتعمد إلى إقصاء الكفاءات وتقريب المحاسيب. كما أن هذا البعض لا يزال يركز على دعوة الباحثين الأجانب لا العرب للمشاركة في المؤتمرات الخاصة بالقدس. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الخواء التاريخي والثقافي للقائمين على هذه المؤسسات، كما يدلل على عدم الثقة في النفس وسيطرة عقدة الخواجا عليهم.

أما عن الأخطاء والمغالطات التاريخية فحدث ولا حرج. وهذا أحد المشاركين في مؤتمر القدس عاصمة للثقافة العربية، وهو أستاذ تاريخ، أنكر العهدة العمرية، وادعى أنها وضعت لاحقاً ونسبت إلى عمر بن الخطاب. فلو كان لهذا المشارك أي حس تاريخي لما ردد هذا الزعم، ولتمسك بما هو مجمَع عليه، وهو أن العهدة من وضع عمر بن الخطاب؛ أو على الأقل لتمسك بالفكرة وليس بالسند التاريخي، وهو أن العهدة وضعت من عقل مسلم، سواء عمر بن الخطاب أو غيره، وتعبر عن رؤية إسلامية في التعامل مع غير المسلمين، قوامها احترام حرية عبادتهم وأمانهم على أنفسهم وممتلكاتهم.

ومشارك آخر ردد الرواية اليهودية التي تزعم أن السلطان العثماني سليم الأول (1512 – 1520م)، سمح لليهود بالتجمع والصلاة أمام حائط البراق. وهذا الزعم لا أساس له، ولا يوجد في الأرشيف العثماني ما يثبت صحته. وقد دحضت هذا الزعم في كتابي الموسوم: المركز التقليدي لمدينة القدس بين التواصل والتقويض‏[57].

ومن المغالطات المتداولة استعمال المفردات والتسميات اليهودية بدلاً من العربية لبعض الأماكن مثل: حائط «المبكى» بدلاً من حائط البراق؛ «والحي اليهودي أو حارة اليهود»، بدلاً من الحي الإسلامي الجنوبي أو حارة المغاربة. و«قوس ولسون» بدلاً من الجسر الأموي في الحائط الغربي للمسجد الأقصى الذي يربط القصور الأموية بالمسجد الأقصى، وغيرها الكثير، الأمر الذي يعزز حضور المزاعم اليهودية في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وهذا ما يحب تجنبه.

كما نجد سطحية المشاركين العرب في المؤتمرات المشتركة مع اليهود، ففي مؤتمر مستقبل القدس (The Future of Jerusalem) الذي عقد في القدس سنة 1993 نجد أن اليهود دفعوا بخيرة المختصين لديهم بالقانون الدولي. بينما لم نجد في الجانب الفلسطيني أي مختص بالقانون الدولي؛ كما أن اليهود كانوا مستعدين ومحضرين للمؤتمر بينما الفلسطينيون شاركوا بمفهوم الفزعة، أي من دون استعداد وتحضير. كما ترك الفلسطينيون أمر تحرير كتاب المؤتمر لليهود، وكعادتهم في الخداع والتضليل، نسب محرر الكتاب اليهودي إلى المشاركين الفلسطينيين أن القدس التي يتفاوضون عليها هي شرق وادي جهنم، أي أبو ديس لا القدس الشرقية (القدس داخل السور) المحتلة سنة 1967م.

كما حصل أيضاً في المؤتمر الخاص بتخطيط مدينة القدس، الذي عقد على دورتين: الأولى في القدس والثانية في إيطاليا، وأسفر عن كتاب بعنوان القدس الأخرى؛ حيث تبنى بعض المشاركين الفلسطينيين مشاريع التخطيط اليهودية‏[58]. واللافت أن محرر الكتاب اليهودي لجأ إلى الخداع السابق نفسه، بأن نسب إلى المشاركين العرب بأن القدس التي يتكلمون عليها هي شرق وادي جهنم، أي أبو ديس، وقد عرضت لهذا الكتاب وبينت خطورة هذه المشاريع على مدينة القدس في كتابي الموسوم: المركز التقليدي لمدينة القدس‏[59].

كما تزخر بعض المنشورات الخاصة بالقدس بالمغالطات التاريخية. ففي كتاب القدس في الضمير، الصادر عن منتدى الفكر العربي سنة 2012. يستشهد أحد المشاركين بخارطة القدس مركز العالم‏[60]، التي رسمها الفنان الألماني هنريش بونتك الذي رسمها سنة 1581م؛ وعرف عليها بأنها خارطة مأدبا الفسيفسائية التي عملت في القرن السادس الميلادي!؟ واللافت أن خارطة مأدبا الفسفسائية موجودة في مدينة مأدبا حتى وقتنا الحاضر.

والحقيقة أن سطحية التعامل مع تاريخ مدينة القدس أكبر من أن يتم حصره في هذا البحث. وللأسف أن هذه السطحية صفة ظاهرة في الدراسات الخاصة بالقدس، نأمل أن يتم تجاوزها.

 

قد يهمكم أيضاً  تساؤلات حول الرواية التاريخية المؤسسة للكيان اللبناني: هل وجد أمير اسمه فخر الدين المعني الأول؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #تاريخ #فلسطين #المصادر_الكتابية_اليهودية #تاريخ_القدس #تاريخ_فلسطين #الرواية_القرآنية_لتاريخ_فلسطين #الرواية_الرومانية_لتاريخ_فلسطين #اليهود #المصادر_التاريخية_المصرية #المصادر_التاريخية_الفارسية #الأرشيف_العثماني #دراسات