تمهيد:

نبحث في هذه الدراسة تطور سياسات الدول الكبرى ومواقفها تجاه الوحدة العربية، ونتناول في هذا السياق السياسات الخارجية لعدد من الدول الكبرى تجاه الموضوعات المتنوعة الخاصة بالوحدة العربية، نتناول العلاقات بين هذه الدول، وأنماط التفاعل في ما بينها، من تحالف وتعاون، وتنافس وصراع.

تنطلق الدراسة من عدة أسئلة، هي:

–  ما هي مواقف الدول الكبرى تجاه قضية الوحدة العربية؟ وما هي الأسباب أو العوامل التي تفسر هذا الموقف؟

– إلى أي مدى اتسق الموقف العلني للدولة تجاه قضايا الوحدة العربية، وحقيقة موقفها التي تكشف عنه الوثائق والدراسات الدبلوماسية لهذه الدولة؟

– ما هي عناصر الاستمرار والتغيُّر في مواقف هذه الدول، والعوامل أو الأسباب التي تفسر ذلك؟

– ما هي أنماط العلاقات والتفاعلات بين هذه الدول، ومدى اتفاقها أو تنافسها وصراعها في شأن هذا الأمر؟

وهكذا، يتمثل المجال الموضوعي لهذه الدراسة بعلاقة الدول الكبرى بقضية الوحدة العربية. ويقصد بالدول الكبرى في الدراسة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفياتي حتى تفككه عام 1991، وبدرجة أقل سوف تتم الإشارة إلى مواقف إيطاليا وألمانيا. وسنراعي في الدراسة أن هذه الدول ليست كيانات مصمتة أو ثابتة، بل تأخذ في الحسبان التغير في سياساتها نتيجة تغير الحزب الحاكم فيها، مثل حالة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وحالة حزبي المحافظين والعمال في بريطانيا، والتحول من الجمهورية الرابعة إلى الجمهورية الخامسة بقيادة ديغول في فرنسا، وسقوط النظام القيصري وانتصار الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي.

أما قضية الوحدة العربية، فتشير إلى المراحل المختلفة للدعوة إلى استقلال العرب واتحادهم، ابتداءً من الثورة العربية الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى والقضايا العربية في مؤتمر السلام بفرساي، ومروراً بتنامي الدعوات الوحدوية العربية في حقبة الثلاثينيات، ومشاريع الاتحاد العربي كمشروع الهلال الخصيب ومشروع الكتاب الأزرق، وإقامة جامعة الدول العربية بوصفها الكيان الرسمي الجامع للعرب والمُعبر عن تضامنهم، ومسألة كيفية تحقيق الأمن الجماعي والدفاع عن الوطن العربي (والشرق الأوسط)، وما إذا كان من خلال إبرام اتفاقيات مع دول الجوار الجغرافي غير العربية والدول الغربية، أم من خلال تفعيل نظام الأمن الجماعي في إطار الجامعة العربية، والاتحادات بين البلدان العربية التي نشأت في الخمسينيات والستينيات، والتي كان أبرزها الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية وإقامة الجمهورية العربية المتحدة في 1958، والانتقال من هدف الوحدة أو الاتحاد السياسي إلى هدف التضامن والتنسيق بين السياسات في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، مع وجود بعض المحاولات الاتحادية التي كان أنجحها دولة الإمارات العربية المتحدة ومجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ ثم وصولاً إلى قيام الوحدة الاندماجية بين شطري اليمن في مطلع التسعينيات.

تمتد الحقبة التي تغطيها الدراسة نحو قرن كامل يشمل المرحلة الممتدة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبداية اتصالات الحكومة البريطانية في كيفية استمالة العرب لدعم جهدها العسكري والثورة على الإمبراطورية العثمانية، حتى عام 2015.

أولاً: الإطار النظري: المدرسة الواقعية

تستند هذه الدراسة إلى مفاهيم المدرسة الواقعية في تحليل العلاقات الدولية، التي تعود جذورها إلى كتابات المؤرخ الإغريقي ثوسيديديس عن الحرب بين مدينتي أثينا وأسبرطة في القرن الرابع قبل الميلاد، ونيقولا مكيافيلي في كتابه الأمير الصادر عام 1517، الذي نصح فيه الحاكم باتباع سياسة واقعية ترتبط بالأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من خلال التحرر من القيم الأخلاقية والدينية الملزمة للبشر من غير الحكام، واتباع أي سلوك ضروري لبقاء الدولة وحمايتها. وفي القرن العشرين ظهرت كتابات مماثلة مثل كتاب المؤرخ البريطاني إدوارد كار عن أزمة العشرين عاماً 1919 – 1939، والمقال الشهير للدبلوماسي الأمريكي جورج كينان عن سياسة الاحتواء في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) في عددها الصادر في تموز/يوليو 1947.

وعلى المستوى العملي، يعتبر «أوتو فون بسمارك» مؤسس الوحدة الألمانية، من رواد المدرسة الواقعية، الذي تولى منصب المستشارية خلال الحقبة 1871 – 1890، والذي اتبع مجموعة من السياسات الواقعية، وقام بتغيير تحالفاته السياسية لتحقيق هدف الوحدة. على أن أهم اسمين يرتبطان بهذه المدرسة هما: هانز مورغنثاو أستاذ علم السياسة الأمريكي وكتابه السياسة بين الأمم الصادر عام 1948، والذي بلور فيه أفكار المدرسة الواقعية، وهنري كيسنجر الذي جمع بين التدريس والممارسة، وأصدر كتابه الضخم عن النظام العالمي عام 2015، والذي عرض فيه لتطور هذا النظام من منظور واقعي.

تنطلق هذه المدرسة من أن الفهم الصحيح لسياسات الدول في المجال الدولي وتفاعلاتها مع بعضها البعض، ينبغي أن يتأسس على رصد ومتابعة السلوك الفعلي لها، وما تتخذه من مواقف وإجراءات في الواقع، وليس على الشعارات التي ترفعها وخطابات مسؤوليها في المحافل الدولية. وعلى الرغم من تعدد الكتابات والآراء التي تنسب نفسها إلى الواقعية، وظهور ما سمي «الواقعية الجديدة»، فإنه يمكن القول إن هذه المدرسة تتأسس على عدد من المفاهيم المركزية، وهي:

1 – القوة (Power)

ترى المدرسة الواقعية أنه لما كان النظام الدولي يتسم بالطابع «الفوضوي»، أي أنه – خلافاً للوضع داخل الدولة – لا توجد سلطة آمرة تملك حق إصدار القانون، وفي حوزتها الآليات اللازمة لتنفيذه، والنظم الخاصة بحل النزاعات التي تثور بشأن تطبيقه، فعلى كل دولة أن تقوم بحماية كيانها والحفاظ على أمنها من خلال قوتها، وقوة الدول المتحالفة معها. ومؤدى ذلك أن المهمة الرئيسة لكل دولة هي الحصول على أكبر قدر من مصادر القوة للدفاع عن كيانها وأمنها في مواجهة المخاطر والتهديدات النابعة من الخارج، وعليها أن تقوم بذلك بمفردها وبواسطة الدخول في تحالفات مع دول أخرى.

بالطبع، كان أول تعبير عن القوة مع نشوء الدولة الحديثة هو القوة العسكرية، وتوسع هذا المفهوم تدريجياً ليدخل عوامل أخرى كالموارد الاقتصادية، وطبيعة القيادة السياسية أو النخبة الحاكمة، ومدى تماسك واستقرار النظام السياسي، وارتباط الشعب بأهدافه، ومدى تعبيره عن القيم السائدة في الثقافة السياسية للمجتمع. ثم تطور المفهوم وظهرت مصطلحات القوة الظاهرة والقوة الكامنة، والقوة الناعمة، والقوة الذكية، وركزت بحوث أخرى على التمييز بين مصادر القوة وقدرة النظام السياسي على توظيفها، أي التمييز بين امتلاك مقومات القوة والقدرة البشرية والمؤسسية على استخدامها وتوظيفها.

ومع الأخذ في الحسبان التطورات التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنشاء الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وما تلىها من تطورات، فإن جوهر مفهوم القوة يظل صحيحاً. يدل على ذلك سباق التسلح في العالم، الذي يعني رغبة أعداد كبيرة من الدول في زيادة قوتها العسكرية، واستخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية ضد كل من أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، ونشر واشنطن صواريخها في دول شرق أوروبا، وإعداد المناورات العسكرية المشتركة التي تُجرى بين الجيوش، والتدخل العسكري من كل حدب وصوب في سورية.

2 – المصلحة الوطنية (National Interest)

يشير هذا المفهوم إلى أن كل دولة توظف قوتها لحماية مصلحتها القومية، وأن أهداف السياسة الخارجية تحددها المصالح، كما يتم إدراكها من جانب النخبة أو القيادة السياسية. وتعبِّر عن ذلك جملة ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، الشهيرة، أن بريطانيا ليس لها أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون ولكن مصالح دائمة. ومؤدى ذلك أن تحالفات الدولة تتغير وفقاً لمصالحها، ويشهد على ذلك تغير التحالفات بين القوى الكبرى إبان الحرب العالمية الثانية. فلمدة، اتبعت الحكومة البريطانية سياسة المهادنة (Appeasement Policy) مع ألمانيا النازية، وذلك لتوقعها أن هتلر سوف يوجه هجومه العسكري ضد الاتحاد السوفياتي، وعندما أدركت بريطانيا والدول الغربية خطأ هذا التقدير، تحالفت مع الاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا. وعندما تغير الموقف في نهاية الحرب، وسيطرت القوات السوفياتية على شرق أوروبا، تحول الاتحاد السوفياتي إلى خصم، ونشبت الحرب الباردة واستمرت حتى عام 1991.

هناك اجتهادات متعددة في شأن عناصر المصلحة الوطنية ومستوياتها، فيميز بعضهم بين ثلاث مجموعات، هي: المصلحة الاستراتيجية العسكرية، والمصلحة السياسية التي ترتبط بالدور والمكانة الدولية كما تتمثل بالحفاظ على العقيدة السياسية والهوية الوطنية، والمصلحة الاقتصادية المرتبطة برفاهية الشعب والارتقاء بمستوى معيشته. ويميز آخرون في هذا المقام بين مصالح عليا وأساسية وأخرى ثانوية، وهناك مصالح مادية وأخرى معنوية. ومع الإقرار بأن الدول يمكن أن تكون لها مصالح معنوية أو أخلاقية مثل التضامن العقيدي والديني، وقد يظهر في بعض المراحل ما يمكن تسميته الدولة «الرسولية» أي الدولة صاحبة الرسالة، فإنه من الصحيح أيضاً، أنه عندما تتناقض المصالح المعنوية مع المصالح الاستراتيجية تكون الأولوية للثانية، وأن اتباع سياسات «رسولية» عادة ما يكون موقتاً، وفي مرحلة زمنية محدودة، إذ سرعان ما يصبح للاعتبارات الاستراتيجية والأمنية الأولوية.

إذا كان تحقيق الأمن هو المصلحة العليا للدولة، فإن مفهومه قد تغير من أمن الدولة إزاء التهديدات العسكرية النابعة من الخارج، إلى الأمن المجتمعي الذي يتضمن أبعاداً اقتصادية واجتماعية تشمل الرفاهية الاقتصادية، والاستقرار الاجتماعي، وصيانة الهوية والقيم الوطنية، إلى الأمن الإنساني الذي يركز على تمتع الأفراد بحقوقهم. وسعى أنصار المدرسة الواقعية في أشكالها الجديدة إلى استيعاب هذه المفاهيم ضمن أطرهم النظرية.

3 – الصراع (Conflict)

يذهب أنصار المدرسة الواقعية إلى أنه لما كانت المصالح الوطنية للدول تختلف وتتعارض، فإن هناك حتمية للصراع بينها، وأن جوهر العلاقات الدولية هو الصراع الذي يفصح عن نفسه، إما في التنافس من أجل الحصول على القوة والاستزادة منها، وإما في شكل السعي إلى بناء التحالفات مع دول أخرى. ففي الحالتين، فإن الهدف هو أن يكون لدى الدولة بقوتها وقوة حلفائها ما يحمي كيانها وأمنها. ويترتب على ذلك أن الصراع هو سمة أصيلة في العلاقات الدولية، وهو أمر طبيعي وضروري بسبب اختلاف المصالح بين الدول، ولا يعني التحالف انتفاء الاختلاف في وجهات النظر، وتوضح فصول الكتاب الكثير من مظاهر التنافس بين بريطانيا وفرنسا، وبين الولايات المتحدة، القوة الصاعدة في المنطقة، بعد الحرب العالمية الثانية، والدول الأوروبية.

وعبر التاريخ، كان للصراع بين الدول سبب آخر، وهو رغبتها في التوسع والسيطرة على بلدان وأقاليم أخرى، وهو ما أوجد ظاهرة الاستعمار، وتنافس الدول الأوروبية الاستعمارية على مناطق النفوذ، ما أدى إلى انعقاد مؤتمر برلين 1884 – 1885 لتقسيم أفريقيا. وتبدو أهمية هذه النقطة عند دراسة سياسات أغلب الدول الكبرى تجاه قضية الدول العربية، في أن هذه الدول كان لها مخططات وأهداف تسعى إلى فرض الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية على الوطن العربي، وهو ما يظهر جلياً في المراسلات بين وزارات الخارجية في العواصم الأوروبية ومفوضياتها الدبلوماسية في البلدان العربية. ينطبق ذلك أيضاً على الولايات المتحدة، إذ توضح هذه المراسلات سعي هذه الدول إلى بسط قوتها ونفوذها في هذا البلد العربي أو ذاك، ومنع الدول المتنافسة الأخرى من أن يكون لها موطئ قدم فيها.

ويبقى الصراع حقيقة جوهرية في النظام الدولي الراهن، وتتنوع أنماطه ما بين العسكرية والاقتصادية بين الدول، بما فيها الدول المتحالفة.

4 – توازن القوى (Balance of Power)

هو المفهوم الأثير لدى دعاة الواقعية، الذي يتحقق من خلاله السلام الدولي والأمن والاستقرار ومنع الحروب. ويُقصد بذلك وجود نظام تتعدد فيه القوى صاحبة التأثير بحيث لا تستطيع أي دولة بمفردها هزيمة الآخرين وفرض هيمنتها على النظام الدولي، أو قدرة أي تحالف بين عدد من الدول هزيمة التحالفات الأخرى، ويكون هناك دور متميز للدولة «ماسكة الميزان» التي تلقي بقوتها ضد الدولة أو التحالف الذي يسعى إلى تغيير التوازن الدولي، ومن ثم، تتم إدارة الصراع الدولي من خلال توازن القوى الذي يصون الوضع القائم، وكيان أطرافه من الدول.

هكذا، يصبح توازن القوى رادعاً للدول التي تسعى إلى تغيير الوضع القائم، إذ يكون من الصعب على هذه الدول أن تبدأ حرباً تدرك أنها سوف تنتهي حتماً بخسارتها.

ثانياً: تحولات النظام الدولي

يشير تعبير النظام الدولي إلى السمات العامة لأنماط العلاقات والتفاعلات بين الدول والفاعلين الرئيسيين فيه. وشهدت المرحلة التي يغطيها الكتاب تحولات جوهرية في شكل النظام الدولي وأطرافه وتفاعلاته، الأمر الذي أثّر في سياسات الدول الكبرى تجاه قضية الوحدة العربية. ويمكن تحديد أهم التحولات التي شهدها النظام في ما يلي:

1 – الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى التحرر الوطني والاستقلال

شهدت بدايات القرن الماضي هيمنة نظام دولي استعماري، مارست فيه الدول الكبرى الهيمنة على المناطق التي تقع تحت سيطرتها العسكرية، وبررت قواعد القانون الدولي وقتذاك، هذه الممارسات، ولم يكن حق تقرير المصير للشعوب من المبادئ التي قام عليها النظام. تغير هذا الوضع تدريجاً؛ ففي عام 1917 نجحت الثورة البلشفية، وأعلنت الحكومة الجديدة رفضها للدبلوماسية السرية، وكشفت عن المعاهدات الاستعمارية التي كانت الحكومة القيصرية قد أبرمتها مع الدول الغربية ومنها اتفاقية سايكس – بيكو، وعقب الحرب، انعقد مؤتمر السلام في فرساي، وطرح الرئيس وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر، التي كان منها حق تقرير المصير. ولكن ذلك لم يغير النظام الدولي بصورة جذرية، فاستمرت مستعمرات الدول الغربية في أفريقيا وآسيا من دون مساس، وتم تقنين وراثة أقاليم الدولة العثمانية المهزومة في إطار نظام الانتداب الذي أقامته عصبة الأمم.

تغير هذا النظام الدولي الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الأمم المتحدة، الذي اعترف ميثاقها بحق الشعوب في تقرير مصيرها وحصولها على الاستقلال، فنص نظام الوصاية على أن الهدف منه هو تهيئة الظروف المناسبة للوصول بالأقاليم المشمولة بالوصاية إلى الاستقلال. وفي نهاية الأربعينيات، حصل عدد من الدول على استقلاله، كان أهمها الهند وباكستان. ونجحت الثورة الصينية في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1949. وفي الخمسينيات، تم تصفية الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

انتهى الاستعمار بشكله التقليدي، ونشأ نوع جديد من الاستعمار يهدف إلى تحقيق هيمنة الدول الكبرى من خلال الأحلاف السياسية والعسكرية، وعلى الدول حديثة الاستقلال أن تختار بين تأييد المعسكر الغربي أو المعسكر الشرقي وفقاً للمبدأ الذي تبناه كل من الزعيم السوفياتي ستالين، ووزير الخارجية الأمريكي دالاس، أن «من ليس معي فهو ضدي». وبدأ فصل جديد من حركة التحرر الوطني كان أول رموزه انعقاد مؤتمر باندونغ في نيسان/أبريل 1955 ونشوء سياسة الحياد الإيجابي التي تطورت في ما بعد، لتصبح سياسة عدم الانحياز، ونضال الدول التي تبنتها من أجل ممارسة استقلالها الوطني في مجال الشؤون الخارجية.

ومن المفارقات اللافتة للنظر أن القرن الحادي والعشرين، يشهد إحياءً لتقاليد استعمارية كان الظن أنها انتهت مثل استخدام القوة العسكرية والحروب بالوكالة، وإقامة القواعد والتسهيلات العسكرية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت اسم «الترويج للديمقراطية»، وفرض قواعد ومعايير لسلوك الدول تحت اسم «المشروطية الاقتصادية» و«المشروطية السياسية» ومقتضيات الاندماج في السوق الدولية والعولمة.

2 – الانتقال من مرحلة النظام «الأوروبي» إلى نظام «دولي»

حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، كانت القارة الأوروبية هي مركز العالم، فمنها انطلقت حركة الكشوف الجغرافية والحملات العسكرية التي انتهت باستعمار أغلب أنحاء المعمورة، والتي شهدت التطورات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي أفضت إلى توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648 ونشوء الدولة الوطنية الحديثة. لذلك، فإن الحرب العالمية الأولى كانت أساساً بين دول أوروبية، وأسميت وقتها «الحرب الأوروبية العظمى». ولم يتغير هذا الوضع كثيراً بالمشاركة الأمريكية في مؤتمر فرساي، فسرعان ما صوت الكونغرس الأمريكي ضد الانضمام إلى عصبة الأمم.

تغير الوضع تدريجاً بظهور قوى دولية غير أوروبية، كان منها الولايات المتحدة التي تنامت مصالحها الاقتصادية والثقافية في العالم، وزاد اهتمامها بالبلاد العربية بسبب سعي الشركات الأمريكية إلى الحصول على امتيازات بالتنقيب عن النفط ودخول السلع الأمريكية إلى أسواق المنطقة، وجاءت مشاركتها في الحرب العالمية الثانية وقياداتها قوات الحلفاء، ثم استضافتها مؤتمر سان فرانسيسكو الذي وضع الأساس لنظام عالم ما بعد الحرب، ثم قيادتها للمعسكر الغربي وإنشاء حلف الأطلنطي وانخراطها في الحرب الباردة، بمثابة العنصر الحاسم في تغير طبيعة النظام الدولي. وكان منها أيضاً ازدياد دور الاتحاد السوفياتي والصين والهند، كأطراف دولية من خارج أوروبا الغربية. وأسهم استقلال أعداد كبيرة من الدول الآسيوية والأفريقية وانضمامها إلى الأمم المتحدة ليؤكد الطابع الدولي للنظام.

3 –
الانتقال من توازن القوى إلى القطبية الثنائية إلى الأحادية القطبية
إلى شكل جديد من توازن القوى

شهدت هذه المرحلة أيضاً، تحولات عميقة في بنية النظام الدولي وأنماط التفاعلات بداخله، فانتقل من نظام توازن القوى في بداية القرن العشرين إلى حالة القطبية الثنائية التي تمثلت بصراع الحرب الباردة بين دولتين ونظامين وحلفين، أي بين الولايات المتحدة قائدة المعسكر الرأسمالي والحلف الأطلنطي، والاتحاد السوفياتي زعيم منظومة الدول الاشتراكية وحلف وارسو.

تراجعت هذه الحرب نسبياً من نهاية الستينيات، وتم الاتفاق بين العملاقين على عدة مبادئ لتهدئة الوضع العالمي في ما سمي سياسة «الوفاق» الذي استمر مدة، حتى أعاد الرئيس رونالد ريغان إحياء الحرب الباردة وسباق التسلح وسياسته المعلنة للقضاء على ما أسماه «إمبراطورية الشر»، وهي الجولة التي أنهكت الاتحاد السوفياتي اقتصادياً وسياسياً، وأدت إلى خلق الظروف المناسبة لتفككه. وبسقوط الاتحاد السوفياتي، عاشت الولايات المتحدة في بحبوحة القوة العظمى الوحيدة، فأطلق جورج بوش الأب شعار «النظام الدولي الجديد» كعنوان لتلك المرحلة، ثم «العولمة» كإطار للعلاقات بين دول العالم. وفي الوقت نفسه، أدى النمو الاقتصادي المتسارع في الصين وعدد من الدول الآسيوية إلى تغيير الخريطة الجيواقتصادية للعالم.

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ازدادت المفارقة بين التفوق المطلق للولايات المتحدة في المجال العسكري، والتراجع النسبي لقدراتها الاقتصادية في مواجهة الصعود الصيني – الآسيوي، وتناقصت نسبة مشاركة الناتج المحلي الأمريكي نسبةً إلى الناتج المحلي بشكل محسوس. وتحدث الزعماء الأمريكيون صراحة عن ضرورة المشاركة في تحمل أعباء الدفاع، وكان دونالد ترامب أكثرهم صراحة في هذا الأمر.

ثالثاً: العالم كله ضد الوحدة العربية

استعير هذا العنوان من مقال مهم وملهم كتبه أحمد بهاء الدين في مجلة العربي‏‏[1]، وقد بدأه بقوله «إن هذه الدعوة التي نشأنا عليها قد نسيها الناس وطمستها كثبان الأيام»‏‏[2]. وكان جوهر تحليله أن الدول الكبرى تسعى عادة إلى الحفاظ على توازن القوى في ما بينها، وتعمل على الحؤول دون قيام دول كبرى جديدة تقاسمها النفوذ أو تنازعها الغنائم والمصالح.

واتصالاً بذلك، مثّل تاريخ سياسات الدول الكبرى تجاه قضية الوحدة أو الاتحاد العربي هو مسلسـلاً من الوعود الكاذبة والخداع، وتشجيع الخلافات بين القيادات والرؤساء العرب بحيث أصبحت النخب العربية أدوات لتنفيذ سياسات الدول الكبرى، والتآمر. واستخدم تعبير التآمر والمؤامرة بالمعنى العلمي الذي يُقصد به التباين بين ما تقوم دولة ما بإعلانه، وما بين ما تنفذه في الواقع، أي أنها تعد الأطراف العربية بشيء، وتقوم في الوقت نفسه بالتخطيط لتنفيذ شيء آخر.

ولعل من أوضح أمثلة ذلك التآمر الوعود البريطانية في مراسلات الحسين – مكماهون، والتآمر البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي لتدبير العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول/أكتوبر 1956، في الوقت الذي كانت لندن وباريس في مفاوضات مع الحكومة المصرية للوصول إلى حل سلمي لأزمة تأميم شركة قناة السويس، إضافة إلى المؤامرة التي دبرتها الاستخبارات الأمريكية للحؤول دون إتمام الوحدة المصرية – السورية في شباط/فبراير 1958، وذلك خلافاً مع الموقف الأمريكي المعلن. وعندما يتم كشف سرية الوثائق في الحقب التاريخية التالية، فسوف يجد الباحثون أمثلة أخرى للوعود الكاذبة والخداع والتآمر.

هكذا راوحت مواقف الدول الكبرى في التعامل مع الوحدة العربية ما بين استراتيجيات الضغوط والمواجهة، والاحتواء من خلال القبول والتأييد مع الإفراغ من المضمون، والإلحاق بسياقات إقليمية أوسع.

ويُثار هنا السؤال: لماذا اتخذت الدول الكبرى هذا الموقف؟ ويمكن في مجال الإجابة عن هذا السؤال طرح عدد من التفسيرات:

1 – إن الدول الكبرى تعمل على الحؤول دون ظهور دول كبرى أخرى. ينبع هذا الفهم من متابعة تطور سياسات الدول الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي قامت على أساس التنافس من أجل المصالح. وقد تضمن ذلك، معارضة القوى الكبرى في النظام الدولي قيام دول أو كيانات كبيرة أخرى، وحفاظها على التوازن الدولي القائم. فعندما أصبحت بريطانيا وفرنسا الدولتين الكبيرتين في أوروبا والعالم، لم تشجعا على قيام الوحدة الألمانية، ولم تنجح بروسيا في إتمام الوحدة الألمانية إلا بفضل تحالفات بسمارك التي استطاع بها الإفلات من القيد الأوروبي وإتمام الوحدة، ثم بزوغ ألمانيا الموحدة كمنافس على القوة والنفوذ، فقامت بالتقرب من الإمبراطورية العثمانية، وسعت إلى مد نفوذها الاستعماري.

ولم تكتفِ الدول الكبرى القائمة بذلك، بل سعت إلى تقطيع أوصال الدول الأخرى الكبرى المنافسة لها، مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى للإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية – المجرية، واقتطاع أقاليم من ألمانيا المهزومة لمصلحة دول أوروبية أخرى، وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية 1991، الذي حدث – وللغرابة – في العام نفسه الذي أيد فيه 77 بالمئة من المواطنين استمرار الاتحاد السوفياتي في استفتاء عام، تم تنظيمه لذلك الغرض، في آذار/مارس 1991‏‏[3].

لقد تبنت السياسة البريطانية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سياسة توازن القوى بين الدول الكبرى، بحيث لا تستطيع أي دولة منفردة أو تكتل من دولتين هزيمة الدول والتكتلات الأخرى. وفي حال نمو قوة إحدى الدول بشكل متزايد، فإن بريطانيا تقوم بالتحالف مع الدولة أو التكتل الآخر، بحيث يتحقق التوازن مرة أخرى. وهكذا، سعت بريطانيا إلى الحفاظ على الوضع القائم في أوروبا والعالم، ومنع تغييره.

2 – إن الدول الكبرى تسعى إلى الاحتفاظ بمصالحها والاستزادة منها. أشارت المراسلات الدبلوماسية البريطانية والأمريكية، في أكثر من مناسبة، إلى أن التعامل مع عدد من الدول الصغيرة أفضل كثيراً من التعامل مع دولة واحدة كبيرة، وأن القدرة على التأثير في الأولى يفوق الوضع في الثانية. ويفسر هذا المسار تنامي مصالح الدول الغربية السياسية والاقتصادية، وبخاصة بعد ظهور النفط.

كانت الدول الغربية محقة في سياساتها؛ فمنْ منها يرحب بقيام دولة في قلب العالم القديم تُشرف على عدد من أهم بحاره ومماره المائية تمتد من الخليج العربي ومضيق هرمز شرقاً، إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب والمحيط الهندي جنوباً، وقناة السويس، وتشمل الشاطئ الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط لتصل إلى المحيط الأطلسي، وما تمثّله هذه البحار والممار من طرق حيوية للتجارة الدولية، ويسكن في أراضيها أكبر احتياطي للنفط، الذي يمثل عصب التقدم الصناعي في العالم، ويشترك سكانها في لغة وهوية ثقافية جامعة تتجاوز التعددية الإثنية التي تشهدها بعض مجتمعاتها؟

زاد من خطورة دعوة الوحدة العربية أمران:

أولهما، أنها ارتبطت برفض الصهيونية وإسرائيل، وكان أول مؤتمر للقمة العربية في أنشاص 1946 يتعلق بهذه القضية. ورغم تراجع الاهتمام الفعلي بهذا الموضوع في القرن الحادي والعشرين، بسبب ظهور اهتمامات أخرى، كالإرهاب والعنف وتهديد كيان بعض البلدان العربية، فقد استمرت أهمية القضية الفلسطينية من الناحية المعنوية والأخلاقية، واستمر إيراد بند خاص بها في كل مؤتمر للقمة العربية، بوصفها أحد المفاتيح الأساسية لتحقيق السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. ومثَّل ذلك نقطة صدام مع الدول الغربية الكبرى التي تبنت إعلان بلفور، وضمنته في صك الانتداب على فلسطين، ودعمت قيام إسرائيل وسياساتها في المنطقة، منذ ذلك الحين وحتى كتابة هذه السطور في 2017.

أدى ذلك بالدول الكبرى الغربية إلى اتباع سياسة نفي صفة «العروبة» عن المنطقة، واعتبارها فسيفساء، أو «موزاييك» من الأديان والقوميات والإثنيات، والسعي إلى إقامة تنظيمات للتعاون العسكري والاقتصادي، تضم دولاً غير عربية، وتستبعد دولاً عربية.

ثانيهما، ارتباط دعوة الوحدة العربية بسياسات محاربة الاستعمار والتحرر الوطني، وسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز؛ فعندما تأسست جامعة الدول العربية كان أغلب البلدان العربية تحت السيطرة الغربية، وتبنّت الدعوة إلى استقلال هذه البلدان ودعم حركات التحرر فيها، وإثارة قضاياها في المحافل الدولية. واتخذت هذه الدعوة منحىً أكثر قوة وإيجابية مع تبلور السياسة المصرية في الخمسينيات، وحضور عبد الناصر مؤتمر باندونغ في نيسان/أبريل 1955، وإدراكه أن الدعوة العربية هي جزء من سياق تاريخي أكبر على المستوى العالمي، يرتبط بتحرر دول أفريقيا وآسيا. فارتبطت الحركة العربية برفض المشاركة في أحلاف غربية، وأصرت على أن الدفاع عن الوطن العربي يكون من داخله، وهو ما تبلّر في سياسات الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وجوهرها استقلالية القرار الوطني وحق الدول في السيطرة على ثرواتها، واستخدامها بما يحقق رفاهية شعوبها. وكان ذلك مصدراً مهماً للعداء مع الدول الغربية التي سيطرت على مصادر ثروات البلاد العربية.

وعلى العكس من ذلك، فإن الدول الكبرى شجعت إقامة الاتحادات التي تخدم مصالحها، كحالة الاتحاد العربي (الهاشمي) في 1958، وأيدت إقامة الاتحادات التي لا تمثل تهديداً، كإقامة دولة الإمارات العربية المتحدة في 1971 والوحدة اليمنية في 1990.

مؤدى ما تقدم، أن الدول الكبرى ليست من مصلحتها إقامة دولة أو كيان عربي قوي.

3 – إن الدول الكبرى تغير مواقفها في إطار التنافس الدولي في ما بينها؛ ففي حلبة التنافس الدولي، وتغير الأوزان النسبية أو حجم مصالح الدول الكبرى، تغيرت مواقف هذه الدول تجاه الدعوة إلى الاتحاد العربي. على سبيل المثال، موقف بريطانيا من محادثات إنشاء الجامعة العربية، فمع أن هذه المحادثات بدأت بتشجيع من وزير الخارجية إيدن، فإن لندن اعترضت على نتائج مباحثات الإسكندرية 1944، ودعت إلى تأجيل أي خطوات مقبلة، ونصحت بضرورة الابتعاد من القضية الفلسطينية والتركيز على التعاون الاقتصادي والثقافي، لا السياسي. أما تظاهُر ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، إبان الحرب العالمية الثانية، بالتعاطف مع الآمال العربية، فذلك في خدمة تنافسها مع دول الحلفاء.

كما أن تقلبات الموقف السوفياتي تجاه القضية الفلسطينية والحركة القومية العربية، يمكن فهمها في ضوء التنافس السوفياتي مع الولايات المتحدة والدول الغربية. وكذلك يمكن فهم موقف موسكو من التأييد القوي للرئيس عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة، بوصفه خطوة تساند حركة التحرر الوطني في العالم، إلى تأييد الانفصال ومعارضة الوحدة الثلاثية عام 1963 بحجة محاربة عبد الناصر للأحزاب الشيوعية العربية. من أمثلة ذلك أيضاً، تزايد الموقف الأمريكي المعارض للوحدة مع تصاعد وزن واشنطن السياسي ومصالحها الاقتصادية في البلاد العربية.

ويبدو أن ضيق «المسافة الاستراتيجية» بين الوطن العربي والدول الكبرى، جاء وبالاً على العرب، وأوجد حالة من التماس المباشر بين الوطن العربي والنظام العالمي السائد أو المهيمن في كل مرحلة تاريخية؛ وأن سمة التماس هذه مثّلت في القرن العشرين عنصراً تأسيسياً في نشأة الدول العربية الحديثة، وفي بناء مؤسسات النظام العربي، وفي تشكيل مسار العلاقات والتفاعلات بين أعضائه.

إن هذا التماس المباشر بين «الإقليمي التابع» و«العالمي المهيمن» فرض على أعضاء النظام العربي ومؤسساته التحرك في مسارات تضمن استمرار مصالح القوى الكبرى في المنطقة وتحول دون الخروج عنها، وأنه عندما انبعثت قوة عربية داخلية، سعت إلى فك الارتباط بين «الإقليمي» و«العالمي» أو إلى تغيير نمط التحالفات مع القوى الكبرى، فإن النظام العالمي تدخل بأساليب سياسية وعسكرية لوأد هذه القوة.

لذلك، فإن المنطقة العربية كانت ساحة للتنافس بين القوى الكبرى الحليفة منها (التنافس الفرنسي – البريطاني، والبريطاني – الأمريكي، والأمريكي – الفرنسي) والمتصارعة (بين ألمانيا وفرنسا في بداية القرن العشرين، والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أثناء مرحلة الحرب الباردة). ويدل على هذا التماس أن الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة، كانت مؤشراً أو بداية للتحولات على المستوى العالمي. على سبيل المثال، فإن العدوان الثلاثي على مصر 1956 وما تلاه من أحداث، أكد أفول نجم نفوذ بريطانيا وفرنسا في المنطقة، وإيذاناً بنهاية مستعمراتهما في أفريقيا. وكانت أخطار المواجهة بين القوتين العظميين في الستينيات، في شأن الصراع العربي – الإسرائيلي، عامـلاً مهماً في تبلور سياسة الوفاق بين العملاقين. كما أن حرب 1973 واندفاع السياسة المصرية في اتجاه الولايات المتحدة، كانت مؤشراً على تراجع الدور السوفياتي وعدم قدرة موسكو على ممارسة مهمات الدولة العظمى. وكانت حرب تحرير الكويت 1991 هي المناسبة التي ظهر في إثرها مفهوم «النظام الدولي الجديد».

هذا التماس بين النظام الإقليمي والنظام العالمي، له جذور تاريخية عميقة؛ فقد نشأت علاقة معقدة وملتبسة بين منطقتنا والنظام العالمي الذي هيمنت عليه الدول الأوروبية، كان الطرف العربي فيها أحياناً هو العنصر الفاعل الذي مثّل خطراً على أوروبا، وأحياناً أخرى لم تكتفِ الدول الأوربية باحتلال أو فرض نفوذها السياسي على أغلب أرجاء المنطقة العربية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، بل إنها اتبعت سياسة تقسيم بلاد المنطقة بحجة حماية الأقليات الدينية.

تظهر الوقائع دور الدول الكبرى في معارضة حركة الوحدة العربية، وتشجيع الولاءات الإثنية والطائفية، ومحاربة التجارب الوحدوية التي تبنت سياسات التحرر الوطني، ومباركة الاتحادات العربية التي فرَّغتها من مضمونها، وجعلتها تتحرك في إطار المصالح الغربية، وثبت ذلك على مدى قرن كامل.

لكن الإقرار بدور العوامل الخارجية في تعطيل الوحدة لا يُعفي النخب السياسية العربية من مسؤولية ما حدث؛ أحياناً بالتنافسات الصغيرة في ما بينهما حول ما تصورت أنها الزعامة والمكانة والنفوذ، وأحياناً أخرى، لأن هذه النخب شاركت في المعترك الدولي من دون فهم كامل لأهداف أطرافه وسياساتهم، إضافة إلى عدم التكافؤ الموضوعي بين الأطراف العربية والقوى الكبرى، وأحياناً أخرى أيضاً، دفع حرص هذه النخب على الاستمرار في السلطة إلى طلب الحماية لنظمها من الدول الكبرى، في مقابل رعاية مصالح هذه الدول في بلادها، ومرات كثيرة بالاندفاع وراء شعارات براقة غير ممكنة ولا يُوفر الواقع المعطيات اللازمة لتنفيذها. ومرات كثيرة أخرى، لتركيز هذه النخب على المشاعر الوطنية القُطرية على حساب العروبة.

الوحدة مهمة صعبة وعسيرة، ولكنها ليست مستحيلة.

 

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 463 في أيلول/سبتمبر 2017.

(**) علي الدين هلال: أستاذ العلوم السياسية، جامعة القاهرة، وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.

[1] انظر: مجلة العربي، العدد 220 (آذار/مارس 1977)، ص 6 – 13.

[2] المصدر نفسه، ص 6.

[3] قاطع هذا الاستفتاء ست جمهوريات من أصل 15 جمهورية، وهي: جمهوريات البلطيق الثلاث، وجورجيا، ومولدافيا، وأرمينيا.


علي الدين هلال

● أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وعضو المجلس الأعلى للثقافة، وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين في مجال العلوم السياسية - المجلس الأعلى للجامعات.
●  عضو مجلس الأمناء وعضو اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مركز ابن خلدون لدراسات التنمية.
● عضو مجلس إدارة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
● عضو في مجلس الشورى المصري (2007 - 2011).
● وزير الشباب (1999- 2004).
● عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة (1994- 1999).
● مدير مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة (1986 - 1994).
● رئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية (1988 - 1990).
● له عشرات المؤلفات الفردية أو الجماعية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز