أدرك الإنسان أن ما يموت لا يحيى، لكن يبدو أن هذا لا ينطبق على الظواهر الاجتماعية، فـ«الإقطاع» يعاود الظهور بعد مدة طويلة من الاعتقاد بموته، ودفنه في التاريخ. وبالطبع يبدو انبعاثه الثاني مُختلفًا هذه المرة: لا نرى فرسانًا يرتدون دروعًا لامعة، أو أتباعًا يحيّون أسيادهم، أو كنيسة كاثوليكية قوية تفرض العقيدة السائدة. ما نراه هو صورة جديدة من صور الأرستقراطية الأشد انحطاطًا يتطور في الولايات المتحدة وخارجها، حيث تميل الثروة في اقتصاد ما بعد الصناعة إلى أن تكون أكثر تركيزًا في أيدي قلة نووية، مجهرية، لا تُرى، وغيرها من أوصاف الظل، أكثر من أي وقت مضى. خضعت المجتمعات لتغيرات أكثر صرامة على مستوى الطبقات، وانعدمت فرص الترقي الاجتماعي لمعظم السكان. تكونت طبقة من قادة الفكر وصناع الرأي، يمكن أن نُطلق عليها «الكتبة»[1] براحة ضمير كاملة، تقدم الدعم الفكري للتسلسل الهرمي الناشئ. تغيب شمس نموذج الرأسمالية الليبرالية في جميع أنحاء العالم، مع بداية ليل الإقطاع الليبرالي الحديث.

يشير جويل كوتكين – أستاذ الدراسات الحضرية في جامعة تشابمان في أورانج، كاليفورنيا. والباحث في الاتجاهات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية – في كتابه الأخير الصادر بعنوان ظهور الإقطاعية الجديدة، مُحذرًا من أن العالم في طور الرجوع إلى العصور الوسطى، وهذه ليست رؤية يمينية ولا يسارية، ولا قضية  أيديولوجية أو حزبية – بحسب تعبيره – بل محاولة لتشخيص الاتجاهات التي تؤدي إلى مجتمع أكثر هرمية وأكثر ركودًا، بل إن العصور الوسطى الحديثة المُقبلين عليها أشد خطورة كونها تتولد مِن تقنيات عالية الدقة، وأوليغارشية تتحكم في المال والمعلومات وتنظم الهويات والثقافة، بل وتقوم ببناء مؤسسات سائلة لا تعرف قيمًا وطنية أو سيادية وتصبغها بالقداسة والعقائدية اللازمة التي قد تجعلها عصيّة على التجاوز أو الهدم أو حتى الإصلاح.

إن كتاب كوتكين قد يكون رسالة تحذير إلى الأغلبية العظمى من الناس، المحافظين والتقدميين على حد سواء؛ تحذير لكُل مَن لا يتطلعون إلى مستقبل يحدده الجمود الطبقي والتركيزات الهائلة من الثروة والسلطة. فالمستقبل الذي يظهر في الأفق ليس المستقبل الذي يرغب فيه أي عاقل لأي بلد أو لأولاده.

أولًا: الإحياء الإقطاعي

من الناحية التاريخية، لم يكن الإقطاع نظامًا موحدًا، وقد استمر لمدة أطول في بعض الأماكن أكثر من غيرها. ولكن يمكن رؤية بعض السمات البارزة في الهياكل الإقطاعية عبر أوروبا في العصور الوسطى: ترتيب هرمي قوي للمجتمع، وشبكة من الالتزامات الشخصية التي تربط المرؤوسين بالرؤساء، واستمرار الطبقات المغلقة أو «الطوائف»، ووضع سُخرة دائم للأغلبية العظمى من السكان. وسيطر القلة على الكثرة بالحق الطبيعي. كان الحُكم الإقطاعي أكثر لامركزية كثيرًا من الإمبراطورية الرومانية التي سبقته أو الدول القومية التي تلت ذلك، وكان يعتمد على العلاقات الشخصية أكثر من الرأسمالية الليبرالية أو الاشتراكية الدولتية. في العصر الإقطاعي، ساد نموذج ثابت للمجتمع المنظم، مدعومًا بأرثوذكسية إلزامية، في حال الدينامية والتنقل، وفي حالة ركود اقتصادي وديمغرافي[2]. ألا يُشبه هذا عصرنا؟

في النصف الثاني من القرن العشرين، كان الرخاء المتنامي مشتركًا على نطاق واسع في العالم المتقدم، مع وجود طبقة وسطى موسعة وطبقة عاملة متنقلة صعودًا – وهو أمر شوهد في عدد من البلدان النامية أيضًا. اليوم، تعود فوائد النمو الاقتصادي في معظم البلدان بصورة أساسية إلى الشريحة الأكثر ثراءً من السكان. ويشير أحد التقديرات التي يُستشهد بها على نطاق واسع إلى أن حصة الثروة العالمية التي يَحتفظ بها أعلى 0.1 بالمئة من سكان العالم زادت من 7 بالمئة في عام 1978 إلى 22 بالمئة في عام 2012 [3]. وتشير دراسة برلمانية بريطانية حديثة إلى أن هذا الاتجاه العالمي سيستمر؛ وبحلول عام 2030، من المتوقع أن تسيطر نسبة 1 بالمئة على ثلثي ثروة العالم[4].

تميل هذه الثروة إلى التوارث من جيل إلى آخر، وهو ما يخلق شيئًا يشبه الأرستقراطية المنغلقة. ربما لا يكون لها وضع مميز قانونيًا أو سلطة سياسية من طريق حق الميراث. لكن ثروات هذه الطبقة يمكن أن تشتري التأثير في الحكومات وفي الثقافة نفسها. وهكذا نرى الأوليغارشية الناشئة في البلدان التي يفترض أنها ديمقراطية، تبدو وكأنها أرستقراطية إقطاعية جديدة مُزيَّنة بدولة مركزية قوية.

كما في العصور الوسطى، فإن سلطة وامتياز هذه الأوليغارشية مدعومان من جانب نخبة معرفية مؤثرة، أو ما أسميه «الكتبة». صاغ المصطلح صموئيل تايلور كوليردج، الذي تصوَّر مجموعة من المثقفين العلمانيين يوجهون المجتمع بمعرفتهم، مع تضاؤل الدور الثقافي للكنيسة. «كتبة» اليوم هم الأشخاص الذين يسيطرون على الشبكة العالمية للمبدعين الثقافيين والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام وحتى الكثير مما تبقى من المؤسسات الدينية التقليدية. إنهم يتشاركون الكثير من المعتقدات مع الأوليغارشية – حول العولمة والبيئة، على سبيل المثال – وينشرونها في جميع أنحاء العالم على أنها أرثوذكسية علمانية. مثلهم كرجال الدين/الكتبة في العصور الوسطى يعملون كمنظم قوى للنخب الاقتصادية[5].

يتطابق الكتبة والأوليغارشية اليوم مع رجال الدين والنبلاء في العصور الوسطى – أو الطبقة الأولى والثانية، كما عُرِفت في فرنسا، حيث يقبع تحتها مجموعة أكبر مِن «العوام» في العصر الإقطاعي، أو ما عُرف بالطبقة الثالثة: أولئك الذين لم يتم سحقهم أو تكريمهم بحسب الرغبة. لكن اليوم، تتكون الطبقة الثالثة مما يمكن أن نُطلق عليه «اليومَنيين» – واليومَن مصطلح يطلق على التابع، أو المالك الزّراعي الصغير، أو خادم السيد الإقطاعي، وذلك أواخر العصور الوسطى في إنكلترا. وقد استُخدمَ هذا الاسم في القرن الخامس عشر الميلادي، لموظفي منازل النّبلاء، وصغار المُلاّك – وتنقسم إلى جزأين متميزين: الجزء الأول طبقة وسطى تمتلك ممتلكات، ولها روح استقلالية وتميل إلى الهجرة إلى الحضر والضواحي مثل نظيرتها الإنكليزية القديمة لكنها لا تمارس دورها الحكومي الحاسم نفسه حيث تم إقصاؤها من الأوليغارشية الجديدة، والجزء الثاني طبقة عاملة أصبحت أقرب إلى الأقنان في العصور الوسطى.

على الرغم من أن المجموعتين اللتين تمثلان الطبقة الثالثة تختلفان، إلا أنهما لا يزالان قادرين على توجيه تحدٍ للأوليغارشية وطبقة الكتبة، لأنهما لم تعودا هادئتين في مواجهة العولمة والتقدم التكنولوجي. نحن نرى ما يصفه أحد علماء الاجتماع بأنه «انشقاق الطبقة العاملة» عن الولاء التقليدي لليسار السياسي، إلى جانب الرفض المتزامن للرأسمالية العالمية وهيكل قيمها الكوزموبوليتانية[6].

وعلى الرغم من أن التحدي الذي يواجه الأوليغارشية يميل إلى أن يأتي من اليمين الشعبوي، إلا أن هناك قوى أخرى يمكن أن تهاجم من اتجاه آخر، ولا سيما العمال الأصغر سنًا والمجموعات الأقل ثراءً من النخب، الذين قد يمثلون معًا ما وصفه كاتب محافظ بأنه «جيش الزومبي من مناهضي الرأسمالية»[7]. وفي حين يبدو أن نظامًا إقطاعيًا جديدًا بدأ في الظهور، فإنه يُثير قوى مضادة تَعِد بأوقات مضطربة[8].

لا يتقدم التاريخ دائمًا إلى حالة أكثر تقدمًا أو استنارة، وانهيار الحضارة الكلاسيكية هو مثال على ذلك. كان لتلك الحضارة جوانبها القاسية والظالمة، مثل: الاستخدام المكثف للعبيد، ولكنها ولدت أيضًا دينامية ثقافية ومدنية واقتصادية انتشرت من الشرق الأدنى إلى إسبانيا وشمال أفريقيا وبريطانيا. ولقد أنتجت مجموعة من الفلسفة والقانون والأشكال المؤسسية التي أرست أساس الليبرالية الحديثة. لكن مع تفكك الحضارة الكلاسيكية – نتيجة مزيج من الخلل الوظيفي الداخلي والضغط الخارجي – شهدت أراضيها اضطرابًا سياسيًا، وتدهورًا ثقافيًا، وركودًا اقتصاديًا وديمغرافيًا[9].

امتدت عملية التدهور الثقافي على مدى قرون، ويمكننا تحديد موعد لنهاية الإمبراطورية الرومانية[10] في الغرب، حيث يتضح مسار الانحطاط بحلول القرن السادس أو السابع، مع زوال التعلم، وصعود التعصب الديني، وانهيار المدن وانهيار التجارة، والركود المالتوسي: كان عدد سكان أوروبا في عام 1000 هو نفسه تقريبًا كما كان قبل ألف عام[11].

لقد تلاشت الأنظمة الحضرية الوسطى النابضة بالحياة في السابق، وتقلصت طبقة الفلاحين من ملّاك الأراضي حيث دُمجت الأراضي الزراعية في إقطاعيات ضخمة. أصبحت العلاقات الطبقية أكثر صرامة في التسلسل الهرمي، مع وجود طبقة نبلاء وراثية ورجال دين أقوياء في القمة. غالبًا ما تنافست هذه الطبقات الحاكمة وتقاتلت فيما بينها، لكنها كانت تتمتع بامتياز واضح مقارنة بمعظم السكان، الذين سيحتملون الحياة كأقنان لا يملكون أرضًا. كانت الرؤية المثالية للمجتمع ثابتة، ولم يكن الهدف إيجاد مجالات جديدة للحرث، وليس للابتكار أو النمو، ولكن بدلاً من ذلك للحفاظ على التوازن داخل نظام ثابت إلى حد كبير[12].

في الألفية الثانية، بدأت الأسواق والبلدات في النمو مرة أخرى، ونشأت النقابات الحرفية، وتسارعت الفلسفة والتعلم. كانت الطبقة الثالثة في طريقها إلى النمو: سواء من أصحاب الحيازات الصغيرة في الريف أو البرجوازية المتعلمة والمزدهرة في المدن النامية. مع الازدهار فقدت الكنيسة الكاثوليكية والنبلاء سلطتهم تدريجًا. وتطور نظام قائم على الأسواق الحرة والقيم الليبرالية والإيمان بالتقدم في أوروبا وانتشر في أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا[13].

مثل كل الهياكل الاجتماعية، جلب النظام الليبرالي مظالمه الخاصة. للأسف، تم إحياء العبودية وامتدت إلى الأراضي المستعمرة حديثًا. إضافة إلى ذلك، استبدلت الثورة الصناعية الصناعات المنزلية بالمصانع وأنشأت بروليتاريا حضرية فقيرة تعيش على حافة الكفاف. ولكن خلال القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الحياة أفضل بصورة ملموسة حتى بالنسبة إلى معظم الطبقة العاملة، واستمرت الطبقات الوسطى في الازدهار والتوسع. دخلت بعض الإجراءات الحكومية حيز التنفيذ – على سبيل المثال، دعم ملكية المنازل، وبناء بنية تحتية جديدة، والسماح للنقابات العمالية. أدى ربط مثل هذه السياسات بمحركات النمو الاقتصادي إلى تعزيز حركة جماهيرية للثراء، وهو الإنجاز الأول للرأسمالية الليبرالية[14].

على الرغم من أن الرأسمالية الليبرالية ولّدت الكثير من التحديات الاجتماعية والسياسية والبيئية، فقد حررت مئات الملايين من العبودية المنتشرة والقسوة الراسخة والأنظمة المتقلبة التي هيمنت على معظم التاريخ. لقد تحسنت الظروف المادية للحياة إلى حدٍ كبير، ليس في أوروبا وأمريكا فقط ولكن في جميع أنحاء العالم. في الأعوام الخمسمئة حتى نحو عام 1700، كان نصيب الفرد من الناتج الاقتصادي ثابتًا، أي أن الشخص ذي الدخل المتوسط في عام 1700 لم يكن أفضل حالًا، من الناحية الاقتصادية، من الشخص العادي في عام 1200. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، زاد الإنتاج الاقتصادي على نحو ملحوظ؛ ولا سيما في الغرب إذ تسارع النمو بعد عام 1940 وامتد إلى بقية العالم[15].

ثانيًا: ثَني «قوس التاريخ»

غذَّت الرأسمالية الليبرالية الهيمنة الغربية أولاً، ثم الصعود الاقتصادي للدول الأخرى أيضًا. أدى الازدهار الاقتصادي الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية وامتد إلى أجزاء كبيرة من العالم مع انهيار الشيوعية إلى تعزيز الثقة في شأن المستقبل العالمي. وبدا أن مفتاح زيادة الرخاء في أيدينا. تم تبني المفاهيم المتفائلة حول «قوس التاريخ» الذي ينحني بلا هوادة لتحقيق رخاء أكبر وعدالة اجتماعية على كل من اليمين واليسار – على سبيل المثال – من جانب الرئيس جورج دبليو بوش والرئيس باراك أوباما (الأول جمهوري، والثاني ديمقراطي)[16].

ابتداءً من السبعينيات، أخذ القوس في الانحناء إلى الخلف في المناطق التي ولدت الرأسمالية والديمقراطية الحديثة (أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية). بدأ الحراك التصاعدي للطبقات الوسطى والعاملة في التعثر، بينما ارتفعت ثروات الطبقات العليا أكثر فأكثر. واستمرت الاقتصادات في النمو، ولكن معظم الفوائد حصدها الأثرياء – أعلى 1 بالمئة ولا سيما أعلى 0.1 بالمئة – بينما خسرت الطبقات الوسطى[17].

في الحقبة 1945-1973، استحوذ أعلى 1 بالمئة في أمريكا على 4.9 بالمئة فقط من إجمالي نمو الدخل في الولايات المتحدة، ولكن في العقدين التاليين، التهم أغنى 1 بالمئة أغلبية النمو في الولايات المتحدة[18]. إن الثروة المجمّعة لأغنى أربعمئة أمريكي تتجاوز الآن إجمالي ثروة 185 مليونًا من مواطنيهم[19]. وفي البلدان الأوروبية، من خلال سياسات الرفاهية الاشتراكية، تدفع الطبقة الوسطى العليا ضرائب عالية جدًا بينما يجد الأغنياء طرائق لإخفاء دخلهم بصورة كافية للحفاظ على هيمنتهم بل وزيادتها. والمثير للدهشة أنه في البلدان ذات التوجهات التقدمية، مثل فنلندا، تتركز ملكية الأسهم أكثر فأكثر بين أغنى الناس مقارنة بالولايات المتحدة[20].

الاتجاه ليس مجرد اتجاه غربي. في الصين، الاشتراكية اسمًا، على سبيل المثال، يمتلك أعلى 1 بالمئة من السكان نحو ثلث ثروة البلاد، ونحو 1300 فرد يمتلكون نحو 20 بالمئة. منذ عام 1978، تضاعف مُعامل عدم المساواة في توزيع الثروة بالصين، ثلاث مرات[21]. على الصعيد العالمي، فاحشو الثراء هم أرستقراطية ناشئة. أقل من مئة ملياردير معًا يمتلكون الآن ما يصل إلى نصف أصول العالم، وهي النسبة نفسها التي يمتلكها نحو أربعمئة شخص قبل أكثر من خمس سنوات قليلًا[22].

إن تركيز الثروة واضح أيضًا في ملكية العقارات. في الولايات المتحدة، نمت نسبة الأراضي التي يملكها أكبر مئة مالك للأراضي الخاصة بنسبة تقارب 50 بالمئة بين عامي 2007 و2017. في عام 2007، امتلكت هذه المجموعة ما مجموعه 27 مليون فدان من الأراضي، أي ما يعادل مساحة مين ونيوهامشر مجتمعتين. بعد عقد من الزمان، امتلك أكبر مئة من ملّاك الأراضي 40.2 مليون فدان، أي أكثر من مساحة نيو إنغلاند[23] بأكملها. في جزء كبير من الغرب الأمريكي، أنشأ المليارديرات عقارات شاسعة يخشى كُثُر أن تجعل بقية السكان المحليين فقراء بلا الأرض[24].

أصبحت ملكية الأراضي في أوروبا أيضًا أكثر تركيزًا في أيدٍ أقل. في بريطانيا العظمى، حيث ارتفعت أسعار الأراضي أكثر فأكثر خلال العقد الماضي، يمتلك أقل من 1 بالمئة من السكان نصف الأرض. ويتم توحيد الأراضي الزراعية في القارة في حيازات أكبر، بينما تقع العقارات الحضرية في أيدي عدد صغير من مالكي الشركات والأثرياء[25].

في الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها منذ مدّة طويلة على أنها أرض الفرص العظيمة، تراجعت فرصة انتقال أصحاب الدخل من الطبقة المتوسطة إلى أعلى الدرجات في سلَّم الأرباح بنحو 20 بالمئة منذ أوائل الثمانينيات[26]. وفي الدول الست والثلاثين الأكثر ثراءً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أخذ المواطنون الأغنى حصة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي الوطني، وأصبحت الطبقة الوسطى أصغر. إن الكثير من الطبقة الوسطى العالمية مثقلة بالديون، ويرجع ذلك أساسًا إلى ارتفاع تكاليف الإسكان، وتشير لها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية[27] بـ«أنها تبدو بصورة متزايدة وكأنها قارب في مياه متجمدة». فمعدلات تملّك المساكن راكدة أو تنخفض في العالم العالي الدخل، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا وأستراليا[28].

لقد خدمت عولمة الاقتصاد مصالح الطبقات العليا ولكن ليس البقية. على سبيل المثال، كلف تحول الإنتاج إلى الصين وحدها أكثر من نصف مليون وظيفة تصنيع من بريطانيا العظمى، التي كانت ذات يوم قوة صناعية، وما يقدَّر بنحو 3.4 مليون وظيفة من الولايات المتحدة[29]. قد يشير الاقتصاديون إلى نمو إجمالي أفضل وأسعار أقل للمستهلكين، لكن معظم الناس لا يعيشون في «المجموع». إنهم يعيشون في واقعهم الفردي، الذي أصبح في كثير من الحالات أكثر كآبة حتى مع تحسن الاقتصاد بوجه عام[30].

في عالم يزداد تشعبًا، ومجتمعات النخب المحاطة بفقراء المدن، والمدن الصغيرة التي تتلاشى وتصبح معوزة. كتب كريستوف غيلوي، الجغرافي اليساري، أن العولمة «أعادت إحياء قلاع فرنسا في العصور الوسطى»[31]. ففي مدن القلعة في اليابان أو المدن المحاطة بأسوار في إيطاليا في العصور الوسطى، فإن بعض الأماكن المختارة هي جيوب امتياز، بينما الأماكن الأقل جاذبية تسكنها الطبقات الخاضعة حديثًا[32].

ثالثًا: القوة الجديدة للكتبة

مثلما تقاسمت النخب الدينية السلطة مع النبلاء في العصر الإقطاعي، تكمن الصلة بين الكتبة والأوليغارشية في صميم الإقطاعية الجديدة. غالبًا ما يذهب هذان الفصيلان إلى المدارس نفسها ويعيشان في أحياء مماثلة في مدن مثل نيويورك أو سان فرانسيسكو أو لندن. بوجه عام، يتشاركان في رؤية مشتركة للعالم وهما حليفان في معظم القضايا، على الرغم من وجود صراعات عرضية، كما كان هناك بين النبلاء ورجال الدين في العصور الوسطى. لكن، بالتأكيد، لدى الطرفين وجهات نظر متوافقة حول العولمة، وقيمة أوراق الاعتماد، وسلطة الخبراء[33].

يتم تمكين رابط القوة هذا من خلال التقنيات التي كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تحمل وعودًا كبيرة للديمقراطية الشعبية وصنع القرار، ولكنها أصبحت أدوات للمراقبة وتوطيد السلطة. حتى مع انتشار المدونات، وهو ما يعطي مظهر الديمقراطية المعلوماتية، فإن مجموعة صغيرة من الشركات – تعتمد في الأغلب على الساحل الغربي للولايات المتحدة – تمارس سيطرة مشددة على تدفق المعلومات وشكل الثقافة. لا يرتدي نُبلاؤنا الجدد الدروع الذهبية والتيجان المرصَّعة، لكن بدلاً من ذلك يديرون حياتنا، ومستقبلنا في الجينز الممزق والتيشرتات[34]. هذه النخب التكنوقراطية هي التجسيد في القرن الحادي والعشرين لما وصفه دانيال بيل بأنه «كهنوت جديد للسلطة»[35] على أساس الخبرة العلمية[36].

سوف يدور مستقبل السياسة، في البلدان ذات الدخل المرتفع على الأقل، حول قدرة المناطق المهيمنة على ضمان خضوع الطبقة الثالثة. كما كانت الحال في العصور الوسطى، يتطلب هذا فرض أرثوذكسية يمكنها تطبيع وتبرير بنية طبقية جامدة. حيث تم تبرير سلطة النبلاء في النظام الإقطاعي من خلال الدين والعُرف، التي باركتها الكنيسة. غالبًا ما يدَّعي الكتبة الحداثيون أن العلم هو أساس مذاهبهم ويصفون أوراق الاعتماد الأكاديمية على أنها مفتاح المكانة والسلطة. إنهم يسعون إلى استبدال القيم البرجوازية لتقرير المصير، والأسرة، والمجتمع، والأمة بأفكار «تقدمية» حول العولمة، والاستدامة البيئية، وإعادة تحديد أدوار الجنسين، وسلطة الخبراء[37].

رابعًا: فقدان الإيمان بالديمقراطية

إحدى نتائج الاتجاهات الاقتصادية الحالية هو التشاؤم المتزايد في جميع أنحاء العالم العالي الدخل، حيث يعتقد نصف الأوروبيين أن الأجيال المقبلة ستعاني ظروفًا اقتصادية أسوأ مما عانته، وفقًا لمركز بيو للأبحاث. في فرنسا، يسود الرأي المتشائم بنسبة سبعة إلى واحد. كما لوحظ اتجاه تشاؤمي في المجتمعات الأكثر تفاؤلاً عادةً في أستراليا (64 بالمئة)، وكندا (67 بالمئة)، والولايات المتحدة (57 بالمئة). بوجه عام، وجد مركز بيو أن 56 بالمئة من المقيمين في الاقتصادات المتقدمة يعتقدون أن الأسوأ قادم لأطفالهم[38].

كما يتزايد التشاؤم في شرق آسيا، التي كانت المحرك الاقتصادي للعصر الحالي. في اليابان، يتوقع ثلاثة أرباع الذين شملهم الاستطلاع أن تكون الأمور أسوأ بالنسبة إلى الجيل المقبل، ويسود هذا التوقع أيضًا في بلدان ناجحة مثل تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية[39]. الكثير من الشباب في الصين لديهم أسباب للتشاؤم: في عام 2017، دخل ثمانية ملايين خريج جامعي سوق العمل ليجدوا أنهم لا يستطيعون الحصول إلا على رواتب ربما كانوا ليحصلوا عليها بالذهاب إلى عمل في مصنع مباشرة بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية[40].

علامة أخرى على التشاؤم هي انخفاض معدلات المواليد، ولا سيما في البلدان ذات الدخل المرتفع. في أوروبا واليابان، وحتى في الولايات المتحدة التي كانت خصبة نسبيًا في يوم من الأيام، تقترب معدلات الخصوبة من أدنى مستوياتها التاريخية، على الرغم من أن الشابات يصرّحن عن رغبتهن في إنجاب المزيد من الأطفال[41]. هذا الركود الديمغرافي، وهو ارتداد آخر للعصور الوسطى، له تفسيرات مختلفة، بما في ذلك المستويات العالية من مشاركة المرأة في القوى العاملة والرغبة في مزيد من وقت الفراغ. الأسباب الأخرى اقتصادية، بما في ذلك النقص في الإسكان العائلي بأسعار معقولة. قامت الرأسمالية الليبرالية في أوجها ببناء مساحات شاسعة من المساكن الميسورة التكلفة للطبقات المتوسطة والعاملة المتنقلة، لكن الإقطاع الجديد يخلق عالماً يستطيع فيه عدد أقل وأقل من الناس امتلاك منازل[42].

أدى اتجاه التوقعات المتناقصة إلى إضعاف الدعم للرأسمالية الليبرالية حتى في البلدان الديمقراطية بقوة، وبخاصة بين الشباب[43]، أكثر كثيرًا من الأجيال الأكبر سنًا، فهم يفقدون الثقة بالديمقراطية، ليس في الولايات المتحدة فقط ولكن في السويد وأستراليا وبريطانيا العظمى وهولندا ونيوزيلندا أيضًا. الأشخاص الذين ولدوا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي هم أقل معارضة بشدة لمثل هذه التأكيدات غير الديمقراطية للسلطة، مثل الانقلاب العسكري، من أولئك الذين ولدوا في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي[44].

يوجد اليوم تحول عن الليبرالية الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. يعمل القادة الاستبداديون على تعزيز سلطتهم في البلدان التي كانت تبدو في السابق على طريق التحرر – شي جين بينغ في الصين، وفلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب أردوغان في تركيا. في البلدان الأكثر ديمقراطية، يمكننا أن نرى توقًا جديدًا لرجل قوي – مثل دونالد ترامب المنمق والفظّ في كثير من الأحيان، إضافة إلى نظرائه في أوروبا، وبعضهم أكثر استبدادًا وظيفيًا. كثير من الناس الذين يفقدون الثقة في آفاق الحرية يبحثون عن حامية أبوية بدلاً من ذلك. غالبًا ما ينهض القادة الاستبداديون من خلال استحضار أمجاد الماضي المتخيَّلة وإذكاء الاستياء القديم والجديد. في نهاية الحرب الباردة، بدا العالم وكأنه على عتبة «قوس» طبيعي نحو مستقبل أكثر ديمقراطية[45].

خامسًا: تمرُّد الفلاحين الجُدد

لم يمر النظام الإقطاعي بلا صدامات في العصور الوسطى، فقد كانت هناك انتفاضات فلاحية بصورة دورية، يقودها أحيانًا منشقون دينيون. هل يمكن أن نرى نوعًا من الانتفاضة من داخل السلطة الثالثة اليوم؟ لا يزال في إمكان النظام العام الحديث أن يقاوم، لكن طبقة «الأقنان» الآخذة في التوسع، من دون ملكية أو حصة في النظام، قد تكون أكثر خطورة كثيرًا على الأنظمة المهيمنة[46].

يشعر الكثيرون في الطبقة الثالثة اليوم مثل ثوار عام 1789، بالاشمئزاز من نفاق الطبقات العليا وفسادها. في أوقات ما قبل الثورة، دعا الأرستقراطيون الفرنسيون وكبار رجال الدين إلى الصدقة المسيحية بينما كانوا ينغمسون في الشراهة والمغامرات الجنسية والإنفاق الباذخ. اليوم، يرى الكثير من الطبقات المتوسطة والعاملة المتعثرة أن الأثرياء يظهرون تقواهم البيئية من خلال الانغماس في السياسات الخضر، والاهتمام بانبعاثات الكربون أكثر من اهتمامهم بحياة الناس ومطالبهم الفعلية، في حين أن هذه السياسات «المستنيرة» تفرض تكاليف طاقة وإسكان عالية بصورة غير عادية على الأقل ثراءً[47].

تستجيب العناصر المنفردة من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة بما يمكن تشبيهه بتمرد الفلاحين الحديث. يمكن رؤية ذلك في سلسلة من الأصوات الغاضبة والاحتجاجات ضد السياسات التي يتبناها الكتبة والأوليغارشية، في شأن تغيُّر المناخ والتجارة العالمية والهجرة. تم التعبير عن هذا الغضب في انتخاب الرئيس ترامب، ثم خسارته التي أدت إلى شرخ عميق في الولايات المتحدة، واقتحام لمبنى الكابيتال هول، وتداعيات لم تتبين كُل آثارها بعد. وفي دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي صعود الأحزاب الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا[48].

ربما لا يوجد مكان يتجلى فيه التمرد أكثر مما هو عليه في فرنسا: أغلبية واضحة من الفرنسيين يعتقدون أن العولمة تهديد، بينما يرى معظم المديرين التنفيذيين، وكثير منهم تعلموا في مدارس النخبة، أنها «فرصة»[49]. لكن ظهر صدى لعام 1789، حيث تظاهرات ما يسمى «السترات الصفر» في شتاء 2018 – 2019 [50].

سادسًا: هل المستقبل الإقطاعي حتمي؟

إن العودة إلى الإقطاع ليست حتمية بالضرورة. لتغيير المسار الذي نسير فيه، نحتاج أولاً إلى فهم ما يحدث والاعتراف به. نحن نمتلك المزايا التي جلبتها قرون من الرأسمالية الليبرالية والبحث الفكري الحر. لدينا معرفة بالعصر الإقطاعي الماضي وما حققته الرأسمالية الديمقراطية. يجب ألّا نكون مثل الفرخة التي تشوى ببطء وتنكر مصيرها![51].

سيتطلب عكس الانزلاق إلى نظام إقطاعي جديد تطوير نموذج سياسي جديد. إن المقاربة «التقدمية» الحالية لـ «العدالة الاجتماعية»، مع ارتباطها بحكومة مركزية قوية، لن تؤدي إلا إلى تقوية الكتبة من خلال منح المزيد من السلطة لفئة «الخبراء». ومن ناحية أخرى، قد تعزز أصولية أتباع السوق، الذين يرفضون الاعتراف بمخاطر سلطة الأوليغارشية والضرر الذي يلحق بالطبقة الوسطى والعاملة وتمثل مسارًا سياسيًا يهدد قابلية الرأسمالية نفسها للحياة. ويدرك بعض رجال الأعمال البارزين الآن المشكلة ويبحثون عن طرائق لمعالجتها، ولكن هناك وعي أو قلق أقل كثيرًا بين أيديولوجيي اليمين على فكرة السوق نفسها[52].

هناك حاجة إلى منظور جديد، ولكن لا يمكن أن يظهر إلا عندما يتم الاعتراف على نطاق واسع بواقع الإقطاع الجديد الناشئ وفهم مخاطره. لا يزال هناك وقت لتحدي هذا التهديد للقيم الليبرالية. كتب الروائي السوفياتي فاسيلي غروسمان[53]: «قد يقود المرءَ القدرُ، لكن يمكن للمرء رفض أن يتبعه». ولن يكون المسار المستقبلي للتاريخ حتميًا أبدًا إذا احتفظنا بالإرادة لتشكيله[54].

 

قد يهمكم أيضاً  الوطن العربي ومواجهة الفقر: من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولمة الاقتصادية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الرأسالمية #الليبرالية #العولمة #تركز_الثروة #الإقطاعيون_الجدد #الإقطاع_الجديد #العدالة_الإجتماعية #زيادة_معدلات_الفقر #الفقر