كيف يمكن تجسيد مشروع النهضة العربية، الذي كان هدف جمال عبد الناصر؟ إن الرجل قائد تاريخي. وعلى وجه اليقين إن دوره هو أضخم دور عربي في القرن العشرين. تكفي الإشارة إلى أن «دليل المشاهير العالمي»، المعتمد في مجاله، عندما وضع قائمة أهم مئة شخصية في العالم، على امتداد القرن العشرين كله، كان جمال عبد الناصر هو الشخصية العربية الوحيدة فيها. لذلك نعتقد أن ساطع الحصري كان موفّقاً كل التوفيق في وصفه «جمال» عبد الناصر بأنه «رجل اتّسعت همّته لآمال أمته»! وهو وصف بالغ الدقّة، ويستحقّ الكثير من التأمّل.
إن الحقيقة التي أدركها جمال عبد الناصر، وأعطاها جهده وحياته، هي نفسها الحقيقة التي تجلّت في كل الرسالات الكبرى، ولدى كل الرجال العظام الذين تصدّوا لمهمات التاريخ وتحدّياته، وجوهرها هو الرقيّ بالإنسان والعمران، وتحقيق العدل والكرامة، وفتح أبواب الأمل متّسعة باستمرار، أمام أجيال تتصاعد تطلّعاتها وهمّمها بالتقدّم والاستنارة والحرية.
أولاً: تجديد المشروع القومي العربي
لقد انطوى المشروع القومي العربي لثورة 23 يوليو عام 1952على حلول صحيحة، في عصرها، لمواجهة منظومة ضخمة ومعقدة من المشكلات والتحديات، وقطعت الأمة العربية شوطاً كبيراً في مواجهتها. لكن الثورة تعثّرت بالانفصال عام 1961، ثم انتكست بالهزيمة عام 1967، ثم توقّفت بوفاة القائد عام 1970. هنا انتزع «معسكر الثورة المضادّة» زمام المبادرة، بل لقد اجترأ على وضع «الثورة» ذاتها في قفص الاتهام، وتولّى محاكمتها، وإصدار الحكم عليها، وشرع من ثم في بناء مشروعه «الثوري المضادّ»، في مشهد من أكثر مشاهد التاريخ العربي المعاصر غرابةً وفجوراً. هكذا عادت المشكلات الكبرى التي واجهتها الثورة تطرح نفسها من جديد، وهي المشكلات التي يجسدها «مربع حديدي» شرس من التخلّف والتبعية والتجزئة وإسرائيل.
ينبغي أن يتركز السؤال الجوهري اليوم حول الثوابت والمتغيّرات في ثورة 23 يوليو. من ثم فإن المراجعة النقدية الأصيلة للتجربة تمثل ضرورة لعملية فرز تستخلص الثوابت المبدئية، وتعزلها عن المواقف الظرفية والطارئة، التي استدعتها تطورات «الثورة»، وضروراتها الداخلية والخارجية، وتحدد الجوانب التي تعبّر عن الخط الاستراتيجي للثورة، الذي يبلور المشروع القومي العربي، ويهدف إلى النهضة، في صيغة صحيحة تاريخياً وفكرياً، وممكنة عملياً وموضوعياً.
لذلك، لا بدّ من التمييز بين روح المشروع القومي للثورة وفلسفته وتوجّهاته – من ناحية، وسياساته وقراراته وآلياته – من ناحية أخرى. إن أهمّ ما اتّسم به هذا المشروع هو هدفه التاريخي؛ الذي يتلخّص في «تعظيم الاستقلال وتقليص الاستغلال»، وطنياً وقومياً وعالمياً. إن روح المشروع وفلسفته وتوجّهاته لا تزال صالحة، بل وتمثّل ضرورة ملحّة، إذا كان لمصر والوطن العربي أن ينهضا من جديد، وأن يخرجا من مستنقع التردّي والمآزق الحالية. أما السياسات والقرارات والآليات، فلا ينبغي، وربما لا يمكن، بعثها من جديد. وحتى إذا كان ذلك القائد العملاق لا يزال في قيد الحياة؛ فأغلب الظنّ أنه كان سيستجيب لهذه المتغيّرات بوجه مغاير تماماً؛ هذه الاستجابة لا بدّ أنها كانت ستنصبّ على السياسات والقرارات والآليات، وليس على روح المشروع وفلسفته وتوجّهاته.
إن هذا الموقف ليس نوعاً من السلفية التاريخية، ولا هو نظرة بالحنين والشجن إلى الماضي، مهما كان مجيداً وعظيماً، بل هو محاولة لفهم الحاضر، والتطلّع إلى المستقبل، بالاستفادة من تجربة ثورة 23 يوليو. من هنا ضرورة المراجعة النقدية الأصيلة والصحيحة لتلك التجربة. المراجعة التي تلتزم بالمبادئ، لكنها تعطي نفسها أوسع مجالات الحرية في مناقشة التطبيق؛ لأن تجديد التجربة لا يمكن أن يتمّ إلّا من طريق إعادة تقييمها، إذا كان محتماً تجاوز حديث الذكريات، والحنين والشجن، وإذا أرادت استعادة قوة اندفاعها في الحاضر، وتأهيل نفسها للمستقبل.
يجسد المشروع القومي العربي الذي بلوره جمال عبد الناصر، في حقيقته، التطلع الثوري ناحية «النهضة العربية»، باعتبارها، بحق، أعلى مراحل الثورة، فكيف تمكن الاستفادة من هذا المشروع، وتجديده، في ضوء المتغيرات الجذرية المتسارعة الخطي، على كل المستويات؟
يجمع بين «المشروع»، المطلوب اليوم، ومشروع النهضة العربية الحديث، الذي انطلق في القرن التاسع عشر، واستأنف نفسه في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، جامعٌ مشترك هو: إرادة النهضة؛ وهي عملية مركبة يتداخل فيها المخزون الروحي والحضاري، مع التراكم المعرفي والثقافي، مع الوعي العميق بمسار حركة التاريخ وقوانينها، مع الاستعداد للتقدم والرغبة فيه. وهي اليوم متوافرة كإمكانية لدى قطاع حيّ كبير من الأمة العربية، وتحتاج إلى استنهاض. وهي ترتبط بتعميم ثقافة النهضة داخل الأمة، لإخراج المشروع من رؤية النخبة إلى ثقافة جماهيرية.
إن المشروع القومي العربي، وهو مشروع تاريخي طويل الأمد، يجب أن يدرك حاجته الدائمة إلى التجدد في ضوء المتغيرات الداخلية والخارجية، وإلى الانفتاح على كل تطور يأتي به الفكر أو تبرزه التجربة. من ثم؛ يلزم تأكيد أن هذا المشروع ليس معلقاً في الفراغ النظري المجرد، إنما هو – في بداية الأمر ونهايته – يواجه واقعاً محدداً بهدف تغييره تغييراً ثورياً جذرياً.
ثانياً: تحديات عالم متغير
إن التحدي التاريخي الذي تطرحه تجربة جمال عبد الناصر يدور حول إمكان الاستفادة من خبراته في صنع المستقبل؟ فإذا تركنا جانباً تحديات الإمبريالية العالمية وإسرائيل، واستراتيجيات الدول الكبرى، وانصرفنا إلى التحديات المستجدة، التي أفرزها الوضع العربي، فلا بد من تأكيد أن هناك مجموعة مشكلات حقيقية وخطيرة برزت منذ رحيله، وهي مشكلات نظرية وعملية من صميم الواقع العربي. مشكلات تتطلب المعالجة.. نعم، لكن معالجتها الصحيحة تتطلب مراجعة كثير من المنطلقات الفكرية والعملية التي ارتكز عليها المشروع القومي منذ بداية تبلوره مع ثورة 23 يوليو، لا شك في أن هذه المشكلات هي من صميم مجتمعاتنا وأوضاعنا الفكرية، والعوامل الخارجية لم تخلقها خلقاً، إنما تستخدمها في التفتيت والحصار والتحريض، وزعزعة الاستقرار.
فمن ناحية أولى؛ لا بدّ من أن نسلّم أننا أمام خيارين: أولهما، أن المشروع القومي الذي جسّده جمال عبد الناصر استجابة صحيحة في عصرها لمطالب الثوابت في الوطن العربي، وأنه قد يكون قابـلاً للتكرار في مصادفة تاريخية يصعب التحكّم فيها؛ وثانيهما، أن هذا المشروع له شأن آخر؛ وهو أنه قابل للاستمرار، وهنا تصبح أمامنا ضرورة أنه قابل للنقد، أي قابل للتجديد.
علينا الاختيار، وعندما نواجه عملية الاختيار فإن معنى ذلك مواجهة حقائق عصر مستجدّ، بل حقائق عالم جديد بما تفرزه من تحديات ومشكلات: أولها، كيف يمكن حشد الجماهير وراء مشروع ناصري جديد إذا لم يكن المشروع الناصري الأصلي قادراً على إعادة طرح نفسه في ظروف متغيّرة؟ لأنه لا يستطيع طرح نفسه إلّا بتجديدها، ولا يستطيع تجديدها إلّا من خلال تقييمها تقييماً منصفاً وأميناً، في ضوء ظروف عصرها وتحدياته؟ وثانيها، كيف يمكن الوصول إلى الجماهير في مواقعها، وهذه الجماهير لم تعد تتجمّع في المصانع والمزارع، لكنها هناك في الحجرات المعزولة، وأمام أجهزة التلفزيون، والفضائيات، حيث الإنسان وحده أمام الشاشة؟ وكيفية الوصول إلى الشاشة، وهي ملك السلطة ورجال الأعمال؟ وثالثها، كيف يمكن تجميع المدخّرات الضرورية للتنمية في «العصر المالي» الذي يكتسح العالم، ويتحرّك فيه ترليونات الدولارات كل يوم، في عمليات تحويل العملة، وهو عصر جرف المدخّرات العربية، ووضع الاقتصاد العربي كله في حال رهن لسنوات قادمة؟ ورابعها، كيف يمكن اقتحام عوالم التنمية من جديد في ظلّ سيطرة الدول الثماني الكبرى، والشركات متعدّدة الجنسية والعابرة للقارات، والمنظمات الاقتصادية العالمية؟ وخامسها، كيف يمكن تدعيم الوحدة الوطنية في الدول العربية في ظروف عقائدية وطائفية وعرقية غطّت التناقضات الرئيسية للأمة مع أعدائها بتناقضات ثانوية، تقتتل فيها الأمة مع بعضها؟ وكيف يمكن تجميع طاقات الأمة على إرادة واحدة، في ظلّ أوضاع تكُرس القطرية؟ وسادسها، كيف يمكن لهذه الأمة أن تحميَ نفسها، في حين أن معظم قياداتها لم تحدّد مَنْ هو عدوها؟ وكيف يمكن لها أن تصون أمنها، ومصالحها ومبادئها، وسط عالم بهذا الخلل الجسيم في موازين القوة فيه، إقليمياً وعالمياً؟ ثم إن معظم قياداتها العسكرية تعرف عن أسواق السلاح أكثر مما تعرف عن الأمن القومي؟ وتعرف عن البورصة أكثر مما تعرف عن التخطيط؟ وسابعها، كيف تستطيع الأمة أن تعيش ثورات الفضاء، والطاقة النووية، والتكنولوجيا، والاتصالات، وهناك من يشدّها إلى ظلمات وتهويمات مشوّشة تهاجم العقل العربي، وفي الصميم؟ وثامنها، أيّ الأجيال عليه أن يتقدّم، وبأيّ أسلوب يكون الشرح، وبأيّ حجج يكون الإقناع، وبأيّ منطق تكون إعادة الحشد والتنظيم؟ وهذه ضمانة لا بد منها لمواجهة ما تقدم.
من ناحية ثانية؛ هناك طائفة من المشكلات التي تتجسم فيها قضايا الحاضر وتحديات المستقبل، مشكلات بنيوية وفكرية واجتماعية في مقدمتها مشكلات ثلاث: أولاها، التطرف الديني؛ وثانيتها، التعصب الطائفي؛ وثالثتها، الأقليات الإثنية. إن هذه المشكلات تتحدى المشروع القومي في ماهيته ووجوده، ذلك لأن المشروع إنما يكون قومياً لأن من شأنه أن يحتوي هذه المشكلات الثلاث، فكيف تجب مواجهتها: هل بالرجوع إلى المشروع القومي للثورة في الستينيات، وهي المرحلة التي شهدت ذروة قوته وازدهاره؟ أم أن الأمر يتطلب إعادة النظر في هذا المشروع، وتحديد ما يجب تعديله أو إضافته؟ صحيح أن البلدان العربية لا تعاني هذه المشكلات الثلاث بالدرجة نفسها، ولا بالصورة نفسها، لكن صحيح أيضاً أنها كلها تعاني اليوم، كما عانت بالأمس، أهم العوامل التي فعلت فعلها في انبعاث هذه المشكلات، أي غياب الديمقراطية. من هنا ضرورة تأكيدها في صلب المشروع القومي؛ ذلك لأنه من دون الديمقراطية، ومن دون التعبير الديمقراطي الحر، من خلال صحافة حرة، وأحزاب متعددة، وانتخابات نزيهة، ومؤسسات دستورية منضبطة، لا يمكن احتواء هذه المشكلات الثلاث احتواءً سلمياً وصحيحاً. لا شك في أن الديمقراطية السياسية، الليبرالية الغربية، في مجتمع متخلف لا يمكن أن تكون نزيهة تماماً، على الأقل في لحظات التحول الكبرى، لكن لا شك أيضاً في أن النضال من أجل الديمقراطية هو أسلم طريق لاحتواء جميع أنواع التعصب احتواءً عصرياً وصحيحاً، لأنه لا سبيل إلى تحقيق الوحدة الوطنية داخل أي بلد يعاني هذه المشكلات سوى طريقين لا ثالث لهما: إما طريق الديمقراطية وإما طريق الدكتاتورية؛ ولكلٍ عيوب، فلننظر أي عيوب نختار: عيوب الديمقراطية أم عيوب الدكتاتورية؟
الديمقراطية السياسية إذاً في الظرف الراهن هي ضرورة وطنية، لكنها ضرورة قومية أيضاً؛ ذلك أنه ليس هناك من طريق لتحقيق الوحدة العربية غير طريقين: طريق القوة، وطريق الإرادة الحرة، وإذا كان طريق القوة معروفاً وهو الجيش، فإن طريق الإرادة الحرة معروف كذلك: إنه التعبير الديمقراطي الحر؛ إنه المؤسسات المستقلة التي يمارَس فيها هذا التعبير بصورة دستورية. ليس هناك من سبيل غير الديمقراطية السياسية، التي تعطي الكلمة لمن يطلبها بالتناوب، أو على الأقل تقوم على هذا المبدأ، وليس هناك من سبيل غير التضامن والوحدة، القائمين على الإرادة الحرة، لمواجهة الهيمنة العالمية والإقليمية جماعياً، أي في إطار نضال قومي تحرري وتقدمي.
ومن ناحية ثالثة، فإن الدولة القطْرية أصبحت حقيقة قائمة وهي تدافع عن وجودها بكل الوسائل، ولا شك في أنها تجد، وستجد، في الوضع الدولي القائم ما يحمي وجودها، ويمنع ذوبانها؛ اللهم إلّا إذا جاء ذلك من داخلها، أي بقرار صلب وعنيد من القوى الوطنية فيها. فهل يحصل هذا قريباً؟ لكن هناك حقيقة عربية أخرى خطيرة حالياً، وستزداد خطورتها استفحالاً في المستقبل. هذه الحقيقة هي أن الدولة القطرية قد أصبحت عبئاً على نفسها، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، نفطية أو غير نفطية. إنها أصبحت مهددة في وجودها لا من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضاً، مهددة بتفاقم مسألة الأمن القومي، في ثلاثية الحياة: الغذاء والماء والطاقة، التي لا يقوى، ولن يقوى، الأمن البوليسي على قمعها أو تأجيلها. هنا لا بد من الإشارة إلى انعكاساتها الخطرة والمؤكدة وهي تزايد حدة التناقضات الاجتماعية، بما يجعل هدف العدالة الاجتماعية بعيد المنال، ويخلق بالتالي شحنة هائلة من الغضب قابلة للانفجار في أي لحظة، وخصوصاً أن الحكومات العربية ستلجأ – في محاولتها تغطية هذه التناقضات – إلى المزيد من تقليص الهامش المحدود لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والحؤول دون تكامل المجتمع المدني ومؤسساته، بما يجعل الشكوك تتزايد حول مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي، أو المستقبل العربي من دون ديمقراطية.
ومن ناحية رابعة؛ فإن كل ما تقدم يقودنا إلى أهم المشكلات الحقيقية التي وقفت، وستقف حجر عثرة، أمام حركة الوحدة العربية، وهي مشكلة عدم تكامل المجتمع المدني إجمالاً – من ناحية، والتفوق الساحق للدولة، الذي جرى تعزيزه بكل منجزات التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة في مجالات الأمن والإعلام، تجاه المجتمع المدني – من ناحية أخرى.
إن موضوع الوحدة العربية يندرج في صميم موضوع تكوين «الجماعة الوطنية والقومية». ويمكن القول إن ذلك التكوين يبنى أساساً على عنصرين: يتعلق أولهما بالبنية الإقليمية للدولة؛ بينما ينصرف ثانيهما إلى البنية الاجتماعية لهذه الدولة، أي بنية السلطة وممارستها. ولا شك في أن البنية الإقليمية للدولة تعكس مباشرة بنية السلطة الاجتماعية القائمة فيها.
ولقد شهد الوطن العربي، على المستويين الفكري والحركي، تركيزاً على الجانب الأول من مسألة تكوين الجماعة الوطنية، أي جانب التوحيد الإقليمي. وتجاهل إلى حد كبير مناقشة طبيعة السلطة القائمة، أو التي يمكن أن تقوم، كأساس دافع أو جاذب لهذه الوحدة، اللهم باستثناء ترداد شعارات الدولة التقدمية والسلطة الاشتراكية… وسواها. وهي شعارات كان فحواها الحقيقي، في بعض الحالات، التغطية على مشكلة بنية السلطة الاجتماعية والسياسية وتحريم طرحها.
ولأن التيارات القومية لم تستطع أن تدرك هذه العلاقة العميقة بين بنية السلطة وطبيعة الدولة القومية التي كانت تطالب بها، فقد ركزت جهودها، في إطار بناء مفهوم الوحدة العربية، على مفهوم جوهري هو «الهوية العربية»، كما لو أن الوحدة تنبع شرعياً وعملياً من هذه الهوية. وإذا كانت الهوية شرطاً ضرورياً لوجود دولة قومية، فهي ليست شرطاً كافياً. إنها أحد المعطيات التاريخية والموضعية، وما يجعلها تستخدم في اتجاه أو آخر هو إرادة الشعوب، ووعيها لقوانين التاريخ والصراعات الدولية، وإدراكها كذلك لإمكاناتها ودورها وأهدافها ومصالحها.
ثالثاً: بناء النهضة
تكشف متابعة التاريخ أن النهضة ليست مرحلة حتمية في حياة البشر، ولا هي مرحلة نهائية يتم تحقيقها والعيش في إطارها مرة واحدة وإلى الأبد. من ثم فإن إيقاف حال التداعي والتخلف، وبعث الروح في النهضة العربية، رهن بشروط ذاتية وموضوعية، ما يقتضي تسليط الضوء على عوامل القوة وعوامل الضعف في التجربة القومية العربية، واستشراف المستقبل والتهيؤ له، من خلال بلورة مشروع للنهضة، والدعوة إليه، والمشاركة بالفعل في تجسيده.
فضـلاً عن ذلك، فإن مشروع النهضة العربية، هو مشروع أفكار أكثر منه مشروع بنود، مشروع توجهات عامة أكثر منه مشروع قرارات محددة. من ثم فإن تجسيد المشروع وإنجازه، في مواجهة واقع محدد – زماناً ومكاناً – يقتضي تحليل عدة عناصر متشابكة ومتكاملة؛ بخاصة عناصر أربعة: أولها، الأهداف، وثانيها، المبادئ، وثالثها، الأولويات، ورابعها، المؤسسات.
1 – الأهداف
إن التجربة التاريخية التي قادها جمال عبد الناصر تنطلق من أن هناك مطالب ستة دار حولها النضال العربي، منذ عصر النهضة الحديثة في القرنين الماضيين، وقد تناولها جميعاً جمال عبد الناصر في أحاديثه وكتاباته، وعبّرت عنها الوثائق الأساسية للثورة، وقطعت شوطاً بعيداً في إنجاز معظمها. وهذه المطالب التي تؤسس «المشروع القومي العربي» الجديد هي:
أ – الديمقراطية، في مواجهة الاستبداد والفساد؛
ب – الوحدة العربية، في مواجهة التجزئة بكل أشكالها القطرية والطائفية والقبلية؛
ج – التنمية المستقلّة، في مواجهة التخلّف، والتبعية؛
د – العدالة الاجتماعية، في مواجهة الاستغلال الداخلي والخارجي؛
هـ – الاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية الإقليمية والدولية؛
د – التجدّد الحضاري، في مواجهة تجمّد التراث من الداخل، والمسخ الثقافي من الخارج.
إن هذه الأهداف الستة تكوّن في ما بينها مشروعاً قومياً، متّسقاً منطقياً، وملهماً جماهيرياً، وهو يصلح أساساً، لا فقط من أجل بناء إجماع عربي جديد، لكنه يعتبر ضرورياً للخروج من حال التردّي التي عجزت كل الدول العربية عن الخروج منها. من هذا المنطلق تحديداً يجب تأكيد أن ما مثّله جمال عبد الناصر، وعبّر عنه، وقاد اندفاعه، ليس في حال حصار، لأن تيّار التاريخ معه. كما أن الثوابت التي استجاب لها لا تزال قائمة، واستجابته لها كانت صحيحة في عصره، وكثير منها صحيح، حتى بعد عصره، لأن الجماهير العريضة معها، وبالتالي فإن باب المستقبل مفتوح أمامها، من دون تصوّر حتميات قدرية تستطيع أن تحقّق نفسها آلياً. فإرادة الأمة هي وحدها التي تصنع المستقبل. وهذه هي أبرز ملامح ثورته وتجربته، ومنها تكتسب شرعيتها وجدارتها!
2 – المبادئ
إن عملية بناء إجماع عربي جديد، حول مشروع النهضة العربية، تلتزم بالضرورة مجموعة من المبادئ التي تتسق مع توجهات ذلك المشروع وأهدافه وغاياته العليا. وهنا ترد بخاصة ثلاثة مبادئ: أولها، إرادة النهوض؛ وثانيها، خبرة النهوض (ثلاثية النهوض: التراكم – التكامل – الشمول)؛ وثالثها، فلسفة النهوض (فساد المقايضة).
أ – إرادة النهوض
لقد تكررت الإشارة مراراً إلى أهمية الإرادة السياسية لتجسيد مشروع النهضة العربية. يضاف هنا أن الأمر يتعلق بالدقة بإرادة النهوض، وليس مجرد الإرادة السياسية. إن إرادة النهوض شرط ضروري لتجسيد أي مشروع نهضوي، وإن لم تكن شرطاً كافياً، حيث ينبغي أن تتكامل مع شروط أخرى. وتتأكد أهمية الإرادة كشرط ضروري للنهوض، إذا ما تذكرنا أن الصراعات التاريخية هي صراع إرادات. بل إن القوة التي تعوزها الإرادة سرعان ما تتراجع وتتآكل، بينما الإرادة قادرة على تجميع القوى، وتعظيم دورها، وتحويلها إلى عنصر فاعل في حسم الصراع لمصلحتها.
وللعرب في تجاربهم الحديثة – رغم كل الهزائم – مؤشرات بارزة على دور الإرادة في صنع انتصارات، سواء كانت سياسية (معارك الاستقلال الوطني والوحدة المصرية – السورية)، أو عسكرية (حرب 1973 والمقاومة اللبنانية والفلسطينية)، أو اقتصادية وعلمية (في خطط التنمية المصرية والعراقية بعد الثورة). صحيح أن الكثير من هذه الانتصارات لم يكتب له الاستمرار طويـلاً، بفعل غياب عوامل أخرى، لكنها دليل نهضة في النهاية، إذ تؤشر إلى أمرين: أولهما، أهمية توافر الإرادة في أي مشروع للنهوض؛ وثانيهما، قابلية مجتمعاتنا ودولنا لتحقيق قفزات مهمة على طريق النهوض. إن بلورة إرادة النهوض في الأمة، وتسليحها بمقومات اختراق الجمود القائم، تكاد تكون المهمة الرئيسية الأولى من أجل تجسيد مشروع النهضة العربية . ويلاحظ هنا عدة عناصر:
(1) أن إرادة النهوض تحتاج إلى أن تقترن بتحليل عميق لحال الأمة، وبرؤية استراتيجية لصورتها المستقبلية، هكذا فهي مدعوة إلى التخلص من ظاهرتين طبعتا الفكر العربي في العقود الأخيرة: الأولى هي التهويل بما يؤدي إلى الغرق في سلبيات الواقع الراهن؛ والثانية هي التهوين بما يؤدي إلى المغالاة في تمجيد الإيجابيات إلى درجة لا تسمح برؤية أية سلبيات.
(2) أن إرادة النهوض تحتاج إلى تكتل قوى النهوض في الأمة، بغض النظر عن مواقعها السياسية، ومنابتها الأيديولوجية. ولا شك في أن نجاح هذه التعبئة يتطلب أول ما يتطلب سيادة لغة الحوار بين قوى النهوض وتياراتها ورموزها، ما يؤدي إلى إثراء مشروع النهضة بتجارب متفاوتة فكرية وعلمية مرّت بهذا المشروع، في أجواء التنوع الذي تزخر به مجتمعاتنا.
ب – خبرة النهوض
تكشف خبرات النهوض عبر التاريخ، وفي مختلف الأمم والدول، أن النهضة تقوم على ثلاثية مترابطة: التراكم – التكامل – الشمول، التي يمكن تسميتها ثلاثية النهوض، والتي تعطي في حال توافرها زخماً لكل تطور أو تقدم، بما تنطوي عليه من دلالات غزيرة في كل اتجاه.
(1) التراكم: هو هرم التقدم الشامخ، يرتفع معه البناء لبنة لبنة، وتتداخل فيه التجارب تجربة تجربة، فيه تتحرر التفاصيل من الشياطين التي تسكنها، ومعه يتحقق التواصل بين الأجيال كما بين الأفكار، بين الأقطار كما بين الجماعات، بحيث لا توضع خبرة ولا فكرة بوجه أخرى، ولا قطر أو جماعة في تنافر مع قطر آخر أو جماعة أخرى، بحيث تبرز الضمانات بوجه تكرار الأخطاء.
(2) التكامل: إذا كان التراكم هو تحقيق التواصل على المستوى الرأسي وفي الأفق التاريخي، فإن التكامل هو تحقيق التواصل على المستوى الأفقي، بحيث يشمل أفكاراً وطاقات وعناصر إنتاج، وأدواراً ومهمات في آن معاً. التكامل هو تلاقي الجهود والأدوار والأفكار في مرحلة معينة، أما التراكم فهو تلاقي خبرات الأجيال وأفكارها في كل المراحل. في ظل التكامل تخرج نظرتنا، كما الممارسة، من مرض الأحادية الفتاك، أحادية الفكر، أحادية التنظيم، أحادية الفرد، وكلها عيوب لا تنحصر سلبياتها في قصور الرؤية، بل في حرمان المجتمع من طاقات كبرى لا تتحملها هذه الأحادية، بل ومنح الأعداء فرصاً نادرة في شحن التناقضات، وفي تحويل النيات الصادقة إلى طاقات مدمرة.
(3) الشمول: كل حديث في مشروع نهضوي عربي يعني – حكماً – حديثاً في منظومة شاملة من أهداف النهضة، أو التي يشكل إنجازها تحقيقاً لعملية النهضة، لا مجال في هذا «المشروع» لأهداف جزئية، أو لأهداف منفصلة عن بعضها، وإلا ما كان المشروع مشروعاً، ولا نهضوياً.
إن الإمساك بثلاثية النهوض (التراكم، والتكامل، والشمول) هذه يقودنا إلى حل الكثير من الإشكاليات القائمة في حياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا تناقض في ظلها بين «الثنائيات» الشهيرة على الساحة العربية، من نحو «الأصالة والمعاصرة»؛ «القطري والقومي»؛ و«العروبة والإسلام». بل إن الإمساك بهذه الثلاثية يبرز أهمية الديمقراطية كطريق للنهوض. مع ملاحظة أن الديمقراطية ذاتها – مثل غيرها من أهداف مشروع النهضة – لا تتحقق بمجرد الدعوة إليها، وملء الدنيا صخباً وضجيجاً في سبيلها، بل هي تحتاج أيضاً إلى ثلاثية التراكم والتكامل والشمول، لأنها تبدأ أساساً من فكرة قبول الآخر واحترام رأيه وتفهمه والأخذ بإيجابياته، أي عبر تراكم الخبرات المشتركة معه، كما عبر التكامل والشمول، أي عبر ثلاثية النهوض أيضاً.
ج – فلسفة النهوض
لم يكن العرب يوماً – منذ «يقظتهم» الحديثة قبل قرن ونصف القرن – أمام ترف الاختيار لأهداف بعينها ضد أهداف أخرى فرضت نفسها عليهم. وهم اليوم أبعد كثيراً من ترف الاختيار ذاك بعد أن حاصرتهم الضغوط من كل جانب: ضغوط التخلف، والفقر، والتجزئة، والاحتلال، والاستبداد، والتبعية، والحرب الأهلية الفكرية… وسواها، وفرضت عليهم مواجهة معضلاتها مجتمعة. أخطأوا في الماضي حين تخيلوا أن مواجهتها ممكنة بعزل الواحدة منها عن الأخرى، أو عمدوا إلى إيلاء الأهمية لبعضها على حساب آخر، ثم اكتشفوا متأخرين مقدار ما دفعوه ثمناً للعمل بفرضية المقاربة الانتقائية لأهداف النهضة، وقد يكررون الخطأ نفسه إن استمروا في العمل بالرؤية السياسية ذاتها، ولم يستفيدوا من تجارب التاريخ: تاريخ تجربتهم النهضوية الموؤودة.
والخلاصة أنه حين يكون مطلوباً من مشروع النهضة العربية أن يكون شامـلاً غير منتقص أو مجتزأ، على غرار ما كان عليه مشروعا النهضة في القرنين الماضيين، فالمفهوم من ذلك أن لا تكون العلاقة الحاكمة لعناصره وأهدافه علاقة مساومة أو مقايضة بينها.. فهذا المبدأ وحده هو الذي يعطي ثلاثية النهوض (التراكم، والتكامل، والشمول) قوتها الدافعة.
3 – الأولويات
يُلاحظ أن كل مشروع يقتضي العمل بمبدأ الأولويات، بخاصة حينما يكون في طور انطلاقته الأولى، يفرض ذلك أمرين أساسيين: الأول، الموارد المتاحة التي لا تكون مكتملة – عادة – لحظة البداية؛ والثاني، التفاوت في درجة ضغط الحاجات الموضوعية المباشرة، حيث تفرض حاجة – أو حاجات – بعينها نفسها أكثر من غيرها في كل لحظة من لحظات تطور المشروع، وتستدعى حكماً الإجابة عنها فوراً، أي قبل غيرها.
ويمكن القول، من منطلق نظري صرف، أنه لا وجود لأولويات في عملية تكوين مشروع نهضة عربية، فالأهداف فيه سواء، لأنها تترابط ترابطاً غير قابل للتجزئة. غير أن الواقع يحكم بحقائق مختلفة عن الحقائق النظرية. لا شك في أن السعي لتحقيق الترابط العضوي الشامل بين أهداف ذلك المشروع سيظل مطلباً مثالياً يستنهض الإرادة ويراود الممارسة، غير أن الوصول إلى هذا المطلب ليس حتمية آلية بالضرورة، بل الأرجح أن تفاوتاً في التطور بين حركة النضال من أجل الديمقراطية والوحدة، والتجدد الحضاري… إلخ، سيكون آلية حاكمة لمسار عملية بناء مشروع النهضة العربية. معنى ذلك أن تجارب بناء النهضة تؤكد استحالة قيام مشهد بناء نهضوي كامل دفعة واحدة. مع ذلك، إذا كانت الآلية الحاكمة في تجارب التاريخ الحديث هي «التدرج»، فإنه ينبغي التأكيد هنا أن التدرج لا يقوم بفعل فاعل – الإرادة – بل حصيلة موضوعية لتطور البنى الاجتماعية، وتراكمات التجربة السياسية، ومستوى تطور الأفكار والمؤسسات والحركات، فضـلاً عن نوع الحاجات والمطالب التي تفرض نفسها على المجتمعات وعلى قواها الحية.
لا يعني ما تقدم بأي حال تصور معاكس لمشروع النهضة العربية يقوم على الانفصال والتعاقب بين أهدافه، بل يعني تبني منهج تاريخي وواقعي لكيفية تجسيده. فهذا المشروع يؤخذ كله أو يترك كله، ولا مقايضة تجوز بين عناصره وأهدافه. بل لقد آن الأوان لكف يد هذه المقايضة في الوعي السياسي العربي، ولإعادة فهم التراكم والتكامل بين أهداف النهضة على نحو جدلي صحيح.
في ضوء ما تقدم، ربما يكون من الأصوب أن تعتمد عملية تجسيد مشروع النهضة العربية منطق التحرك في تنفيذ الأهداف وفق مبدأ التزامن وليس مبدأ التعاقب، سواء لترابطها وتوافقها، أو لأنه لا يمكن تصور أن نصرف الجهد في تحقيق هدف بعينه بالكامل، ثم ننتقل إلى ما بعده، وهكذا. ومع ذلك، فإن اعتماد مبدأ التزامن – لا مبدأ التعاقب – في السعي لتحقيق أولاها أهداف المشروع ينبغي أن يضع في اعتباره ثلاث ملاحظات جديرة بالاعتبار:
الملاحظة الأولى: أن ظرفاً خاصاً قد يستدعي تركيزاً محدداً – ومؤقتاً – على هدف دون غيره، مثل الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي يمكن أن تتفاقم آثاره على النحو الذي يستدعي مواجهة عاجلة، ترتبط بهدف الاستقلال الوطني والقومي.
الملاحظة الثانية: أن التحرك نحو تجسيد مشروع النهضة العربية ينطلق من واقع قطري. ومن المعروف أن الأقطار العربية يمكن أن يكون لها أولويات مختلفة بحسب ظروفها، وهناك سوابق في هذا الصدد من خبرة الوحدة الأوروبية، وكذلك من خبرة النضال القومي العربي المعاصر.
الملاحظة الثالثة: أن قوى غير رسمية يمكن بل يجب أن تقوم بدور فاعل في محاولة تجسيد مشروع النهضة في الواقع العربي، وهذه بالذات قد تكون قدرتها على السعي في إنجاز أهداف المشروع متفاوتة؛ فبينما تستطيع النخب الفكرية أن تتحرك بقوة في اتجاه الدعوة إلى المشروع – بصفة عامة، وإنجاز هدف التجدد الحضاري – بصفة خاصة، فإن هذه النخب ذاتها لا يمكنها سوى أن تضغط على دوائر صنع القرار باتجاه القرارات المطلوبة من أجل تحقيق باقي الأهداف.
من ناحية أخرى، ينبغي استكشاف احتمالات التوافق أو التنافر بين عناصر المشروع، وكيفية التعامل مع هذه الاحتمالات، بما يعزز فرص التوافق، ويحيِّد قدر الإمكان الآثار السلبية للتنافر. على سبيل المثال ثمة حالين يمكن أن يحدث فيهما تنافر بين هذه الأهداف: الأولى، عن العلاقة بين الوحدة والديمقراطية، والثانية، عن العلاقة بين الوحدة والعدالة الاجتماعية.
على سبيل المثال، فإن النهضة العربية في الخمسينيات والستينيات تضمنت تجارب غنية في هذا الصدد: فقد قيل – مثـلاً – إن قرارات تموز/يوليو الاشتراكية كانت ضمن أسباب الانفصال عام 1961. كما أنه لا شك في أن السياسة الثورية التي التزمها جمال عبد الناصر باتجاه تغيير النظام العربي قد اصطدمت بمقاومة من الدول العربية المحافظة، ما ولد صراعاً عربياً – عربياً حاداً، كانت له أبعاده الدولية، الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى سياسة التضامن العربي، بالدعوة إلى القمة العربية في عام 1963، لمواجهة أخطار تحويل إسرائيل لمجرى نهر الأردن. وقد تعثرت هذه السياسة حيناً لتعود بقوة بعد هزيمة 1967. أي أن مقتضيات الأمن القومي العربي، وتحقيق الاستقلال الوطني والقومي، قد تعارضت مع متطلبات تغيير النظام العربي من داخله.
4 – المؤسسات
تعتبر عملية بناء المؤسسات – في الدولة وفي المجتمع – من أكثر الأبعاد أهمية في تجسيد أي مشروع نهضة وضمان استمراره. لكن ما يوازي بناء المؤسسات في أهميته هو أن يسود العقل المؤسسي، والممارسة المؤسسية في كل المؤسسات في الدولة والمجتمع. وهذا البعد لا يلغي دور الأفراد أو القادة، لكنه لا يقف عندهم، هو يعظم مبادراتهم ويقيها من الأهواء ويحصنها من الفردية. والمؤسسات تبدأ في المجتمع لتستمر في الدولة؛ بتعبير أكثر دقة: لتستمر بها الدولة. ومن المستحيل أن تقوم المؤسسات في الدولة وتتطور إذا لم يواكبها نمو مؤسسات في المجتمع ذات وزن وتأثير. وليس مصادفة أن مجتمعاتنا العربية، التي شهدت محاولات من أجهزة الدولة لإلغاء مؤسسات المجتمع أو تقييدها، سرعان ما شهدت ضعفاً للدولة ذاتها وتراجعاً في مهماتها، بل وتهديداً لكيانها ذاته بمشروعات التقسيم والتفتيت. وليس أدل على ذلك من أن تجربة النهضة العربية بقيادة جمال عبد الناصر قد انتكست؛ لأن خبرة القيادة الكاريزمية لم تتجسد في مؤسسات تضمن استمرار التجربة، وتحصينها من عوامل الانتكاس. كذلك فإن تجربة الوحدة والانفصال قد أكدت بدورها أننا خسرنا دولة الوحدة يوم عجزنا عن بناء مؤسسات العمل الوحدوي. وفي الأقطار العربية التي تشهد أنماطاً من العنف الأهلي ليس من الصعب أن نلاحظ أن تغييب مؤسسات العمل الديمقراطي كان التربة التي نمت فيها كل نوازع العنف والتطرف. إننا نعيش عصر إضعاف الدولة والمجتمع معاً، بفعل انتشار آليات العولمة، التي تسعى إلى إلغاء سيادة الدول لمصلحة الشركات، وإلغاء الخصائص القومية للمجتمعات لمصلحة هويات مصطنعة، هي آليات تستخدم أجهزة الدولة لقهر المجتمع، وتستفيد من ضعف المجتمع لتذويب أجهزة الدولة ومرافقها.
إن فكرة العمل المؤسسي المتراكم تجمع بين تقاليد الديمقراطية وقواعد التنمية في آن معاً، وتحقق التواصل بين تجارب الماضي وهموم الحاضر وتطلعات المستقبل، كما تنمّي التفاعل بين مبادرة الفرد وقوة الجماعة، وتحقق بالتالي الانتقال من النمو الكمي المتدرج إلى الطفرة النوعية المطلوبة، بما يكفل التوافق بين روح الإبداع المنطلقة وبين صرامة المنهجية المنظمة.
خاتمة
إذا كانت الاستراتيجية – دائماً – هي مفاضلة بين خيارات، فإنه ينبغي أن يوضع في الحسبان أن استراتيجية تجسيد مشروع النهضة العربية تنطلق من أزمة عميقة تهدد الأمة العربية في مستقبلها ذاته، وليس في مجرد خياراتها. إن السنين الخمسين الأخيرة قد استهلكت مرحلة من حياة الأمة، ولم يعد باقياً لدى هذه المرحلة ما تعطيه للمستقبل. ومع ذلك فليس هناك من المؤشرات ما يمكن أن يعلن مجيء مرحلة جديدة، بعد انقضاء مرحلة قديمة. بل ربما كان العكس هو الصحيح، لأن تلك المرحلة التي استهلكت نفسها في نصف القرن الأخير لا تزال مصممة – من أجل استمرار بقائها – على أن تستهلك الأمة نفسها، كي تضمن امتداد عمرها في القرن الجديد. لكن من المؤكد أن الأمم أكبر من المراحل في حياتها، لأن الأمم باقية والمراحل عابرة.
ويمكن القول إن مواقع الأمل الحقيقي، في نشأة ونمو مرحلة جديدة، هي نفسها تلك المواقع الطبيعية لقوى المجتمع المدني ومؤسساته الأصلية – وليست المصنوعة – التي كانت دائماً حاضنة التجديد في حياة الأمة، وكانت – قبل التنظيمات السياسية – محيطاً واسعاً ولدت ونشأت فيه كل عوامل النهوض والتقدم، وهي في هذا العصر تجد نفسها في كل بلد عربي، على تواصل فعّال وخلّاق مع مثيلات لها على امتداد رقعة الوطن العربي، وعلى اتصال حر بحركة دنياها الواسعة، وفوق ذلك تجد نفسها مدعومة ومعززة بثورة في وسائل الاتصال والمعلومات تصنع ظاهرة جديدة تماماً، وغير مسبوقة في التاريخ الاجتماعي والسياسي للأوطان، ولما حولها إلى آخر المدى.
فهل نخبة النهضة جاهزة؟ لا شك في أن تجسيد مشروع النهضة العربية يحتاج إلى توليد نخبة ملتزمة بالنهضة. تكمن أهمية هذه «المسألة» في المنظور المقارن:
ففي زمن الوحدة: سقطت دولة الوحدة المصرية – السورية، لأن عملية التوحيد جرت من دون وحدويين حقيقيين!
وفي زمن الاشتراكية: انهارت التجربة الاشتراكية العربية، لأن التطبيق الاشتراكي جرى من دون اشتراكيين حقيقيين!
وهذا هو شأن مشروع النهضة العربية، حيث لا أمل في نهضة حقيقية من دون نهضويين حقيقيين!.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 479.
(**) مجدي حماد: رئيس مجلس أمناء الجامعة اللبنانية الدولية.
البريد الإلكتروني: magdy.hammad@hotmail.com
مجدي حماد
■ حاز الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسة في جامعة القاهرة 1980.
■ درّس في عدد من الجامعات والمعاهد المصريه، وهو يعمل" منذ عام 2001 أستاذاً في الجامحة اللبنانية الدولية (لبنان)، وهو رئيس مجلس أمنائها منذ عام 2010، وكان رئيساً لها وعضواً في مجلس أمنائها في أعوام 2002-2010.
■ له عدد كبير من المؤلفات في السياسة والعلاقات الدولية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.