وجدتُ نفسي في الأسابيع الأخيرة أمضي وقتاً طويلاً في التفكير في الاستراتيجيا الجهادية لدى تنظيم القاعدة وكيفية مقارنتها باستراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. كتبتُ في وقت سابق من هذا الشهر عن إمكانية أن يزيد أمد بقاء مذهب القاعدة الجهادي على أمد مذهب تنظيم الدولة؛ وكتبت في الأسبوع الفائت عن حقيقة أن القضاء على الأيديولوجيات أصعب من القضاء على الأفراد، مركّزاً على وَقْع مقتل ناصر الوحيشي، أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، على التنظيم وعلى الحركة الجهادية العالمية ككلّ.

ولو تجاوزنا تأثير قادة من أمثال الوحيشي، هناك نواحٍ أخرى للاستراتيجيا التي سيكون لها تأثير في الحرب خدمة للروح الجهادية. أنا أتحدث على التحديد عن ناحيتي الزمان والمكان، إذْ إن كلاً من تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة يسعى إلى إقامة خلافة عالمية، لكنهما يختلفان اختلافاً كلّياً في كيفية تحقيق هذه الغاية والوقت اللازم لتحقيقها.

يجادل تنظيم القاعدة بأن إقامة الخلافة لن تتمّ ما لم تُهزَم الولاياتُ المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بحيث يتوقّفون عن التدخّل في بلاد المسلمين – إما لفقدان القدرة أو فقدان الرغبة. وفي سبيل ذلك يعتمد التنظيم مقاربة حرب طويلة تؤكّد ضرورة مهاجمة الولايات المتحدة، «العدو البعيد» قبل التركيز على الإطاحة بالحكومات المحلّية. وبالمقابل، يسلك تنظيمُ الدولة الإسلامية مساراً معاكساً بتبنّيه مقاربة «لِمَ الانتظار» الأكثر إلحاحاً، ويركّز مجهوده على الاستيلاء على الأرض مباشرة والاحتفاظ بها وفرض حكمه عليها. تستند هذه الاستراتيجيا إلى القدرة على استخدام الأرض التي يتم الاستيلاء عليها وتوظيف مواردها في مواصلة التوسّع. تعلّل هذه المقاربةُ المباشرة قرارَ تنظيم الدولة الإعلان السريع عن إقامة دولة الخلافة في بداية رمضان في العام الماضي عقب استيلائه على مساحات شاسعة في العراق وسورية. ورسالة التنظيم إلى العالم الإسلامي هي أن الخلافة هنا والآن، وما من قوة في العالم يمكنها وقف توسّعها العنيد.

سعت منظمات جهادية عديدة إلى إقامة كيانات سياسية إسلامية منذ سقوط إمارة طالبان في أفغانستان، آخرها محاولة تنظيم الدولة (وهي محاولته الثانية). وإلى الآن كان مصير كل من هذه المحاولات الفشل، وكان التدخّل العسكري الغربي في كل حالة عاملاً حاسماً في سقوط الكيانات الجهادية، وهذا يشمل محاولة طالبان – وسيؤدّي الدورَ ذاته مجدداً في إسقاط ما يسمى خلافة تنظيم الدولة.

أولاً: الكيانات الجهادية الحديثة

أعلن لفيف من الجماعات الجهادية بقيادة القاعدة إقامة دولةٍ إسلامية في العراق في سنة 2006. بل إنهم سمَّوها الدولة الإسلامية في العراق. ومع أن هذه الجماعة طغت على نواة تنظيم القاعدة في البداية باستقطابها المقاتلين الأجانب والتمويل الخارجي والدعاية، فقد أدّت استراتيجيةُ الاندفاع الأمريكية في العراق ومجموعات الصحوة في الأنبار إلى إصابة تلك الجماعة بالوهن الشديد. وما إن حلت سنة 2010 حتى فقدت الجماعةُ قدراتها السابقة بمقتل أبي عمر البغدادي وأبي أيوب المصري، وكانا قائدَي الجماعة، بغارتين أمريكيتين. غير أن انسحاب القوّات الأمريكية من العراق والسياسات الطائفية التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي أعادت الحياة إلى الجماعة، وساعدتها الحربُ الأهلية في سوريا على استعادة قوتها والتوسّع إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

وفيما كان اليمن يتخبّط في أزمة أحدثت انشقاقاً بين وحداته العسكرية في سنة 2011، انتهز تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الفرصة التي أتاحتها الفوضى واستولى على كميات ضخمة من الأسلحة وبسط نفوذه على مساحات واسعة في جنوب اليمن. غير أن القوّات اليمنية تمكّنت بفضل المعلومات الاستخبارية والتدريب الأمريكي (وبعض المساندة الجوّية) من استعادة أغلب الأراضي التي سقطت في يد التنظيم.

سنحت فرصة فريدة للاطّلاع على أفكار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خلال تلك المرحلة عقب العثور على رسائل بعث بها الوحيشي إلى أبي مصعب عبد الودود، أمير القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. تقاسم الوحيشي في تلك الرسائل، التي عثر عليها الصحافي روكميني كاليماشي في مدينة تِمبوكتو في جمهورية مالي، مع عبد الودود، بعض الدروس التي تعلّمها الأول – والأخطاء التي ارتكبها تنظيمه – كي لا يكرّرها عبد الودود وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وبحسب إحدى هذه الرسائل، عانت مجموعة الوحيشي في سنة 2012 خسائر كبيرة في الرجال والمعدات والأموال بما تجاوز مكاسب المجموعة في سنة 2011. كما أن بروز تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ومستوى نشاطه العملاني أفقده عدداً من قادته المهمّين في غارات أمريكية جوّية، منهم أنور العولقي وسمير خان.

شرح الوحيشي في رسائل أخرى أسباب تعمّد تنظيمه عدم إعلان إقامة إمارة في جنوبيّ اليمن: «ما إن استولينا على المناطق حتى نصحتنا القيادة العليا بعدم إعلان إقامة إمارة أو دولة إسلامية لأسباب عدة: لن نتمكن أولاً من التعامل مع الناس من منطلق كوننا دولة لأننا لن نقدر على تلبية كل حاجاتهم، وذلك عائد أساساً إلى ضعف دولتنا. والسبب الثاني مخافة الفشل إذا ما تآمر العالم علينا. إذا حصل ذلك ربما ييأس الناس ويعتقدون أن الجهاد عديم الجدوى».

وشجّع عبد الودود أيضاً على الامتناع عن إعلان إقامة كيان إسلامي، لكنّ نصيحته لاقت آذاناً صمّاء، إذْ إن الجهاديين المنتسبين إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أعلنوا بُعَيد ذلك إقامة دولة إسلامية اسمها أزواد في شمال مالي في نيسان /أبريل 2012. لكنّ التدخّل الفرنسي في مالي في كانون الثاني/يناير 2013 طرد الجهاديين في غضون وقت وجيز من الأراضي التي احتلّوها وأنهى دولةَ أزواد الجهادية التي لم تعمّر طويلاً.

أجهض ائتلافٌ دولي أيضاً محاولاتٍ سابقة لإقامة كيان سياسي في الصومال. كما أن جماعة بوكو حرام، التي باتت تسمّي نفسها ولاية السودان الغربي عقب مبايعتها تنظيمَ الدولة الإسلامية، خسرت في الشهور الأخيرة معظم الأراضي التي كانت قد استولت عليها في شمال نيجيريا.

سيطر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على أراضٍ أخرى في سنة 2015 عندما غرق اليمن في الفوضى، فاستولى في نيسان/أبريل على المُكَلاّ، خامس كبرى المدن اليمنية وعاصمة محافظة حضرموت. وفي هذه الأثناء، تخوض جماعات جهادية في ليبيا، مثل أنصار الشريعة ومجلس شورى المجاهدين وتنظيم الدولة في ثلاث ولايات ليبية، معارك مع القوى العلمانية والوطنية والقبلية من أجل السيطرة على البلاد.

ولا ننسى بالطبع سيطرة تنظيم الدولة على أجزاء واسعة من العراق وسورية في السنة الفائتة وإعلانه إقامة الخلافة هناك من جديد. لكنّ العنف المسرحي والدموي الذي اعتمده التنظيم قاد إلى تشكيل الائتلاف الذي أطلق حملة جوّية لا تزال تستهدفه منذ أيلول/سبتمبر 2014. وقد فقد التنظيم منذ ذلك الحين جلّ زخمه الاستراتيجي بالإضافة إلى جزء كبير من بنيته الأساسية الاقتصادية وكثيراً من أسلحته وأفراده. وخسر التنظيم أيضاً السيطرة على مناطق واسعة في العراق وسورية، مثل مدن تكريت وكوباني، وتل أبيض مؤخراً. لكن قابل ذلك استيلاءُ التنظيم على مدينة الرمادي في العراق وعلى مدينة تدمر في سورية برغم استمرار الحملة الجوّية الدولية على التنظيم وتعرّضه لهجمات من قبل مجموعات محلية عاملة على الأرض.

ثانياً: استراتيجية بن لادن

لعبت الولايات المتحدة والغرب دوراً حاسماً في سقوط كيانات جهادية حديثة في العراق واليمن والصومال. من المؤكد أن هذه الحقيقة لم تشكّل مفاجأة لأسامة بن لادن الذي عاش ليشهد تلك الحوادث. نبّه ابن لادن منذ حملته العلنية لإقامة دولة الخلافة وإعلانه في سنة 1996 «الجهاد على الأمريكان المحتلّين لبلاد الحرمين» إلى وجوب طرد الولايات المتحدة من المنطقة ليتسنّى إحراز تقدّم. تطرّق بن لادن إلى طريقة إسهام أنشطة حزب الله في لبنان في طرد القوّات الأمريكية والفرنسية من بلاد الشام، وهو ما أفسح المجال للحزب ليصبح جهة فاعلة قوّية في المنطقة. ولذلك سعى بن لادن إلى تكرار ذلك النجاح في مناطق أخرى.

تلك كانت رؤية استراتيجية تمسّك بها بن لادن حتى وفاته. ففي رسالة بعث بها إلى مساعده عطيّه عبد الرحمن – والتي يرجَّح أن تاريخها يعود إلى وقت قريب من آذار/مارس أو نيسان/أبريل 2011 بناء على الحوادث التي جرى التطرّق إليها – طلب من عطيه إرسال رسالة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ليوعز إليه بالتركيز على مهاجمة السفارات وشركات النفط الأمريكية عوضاً عن مهاجمة القوّات الأمنية المحلّية. أراد ابن لادن أيضاً تحذير فرع التنظيم هناك من أخطار إعلان إقامة دولة خلافة قبل الأوان:

يجب أن نؤكد أهمية التوقيت في إقامة الدولة الإسلامية. علينا أن ندرك أن التخطيط لإقامة الدولة يبدأ مع استنفاد القوة المؤثرة الرئيسة التي فرضت الحصار على حكومة حماس، والتي أطاحت بالإمارة الإسلامية في أفغانستان والعراق على الرغم من حقيقة أن هذه القوة كانت قد تعرّضت للاستنزاف. يجب أ لّا ننسى أن هذه القوة الرئيسية لا تزال تملك القدرة على حصار أي دولة إسلامية، وأن الحصار ربما يحمل الناس على الإطاحة بحكوماتهم المنتخبة.

فهم بن لادن أنه إذا كانت الولايات المتحدة تجد صعوبة في التعامل مع كيانات عابرة وغامضة، فهي متفوّقة في مهاجمة كيان واضح المعالم يمكنها التعرّف إليه وتحديد مكانه. وإعلان كيان إسلامي ومحاولة الاحتفاظ بأرض وحكمها تحوّل المنظمةَ تلقائياً إلى هدف ثابت تستطيع الولاياتُ المتحدة وحلفاؤها تركيز قوّتهم المنيعة عليه.

غير أن معرفة هذه الحقيقة لم تجعل تنظيم القاعدة عصياً على مصيدة المكان. لطالما احتاجت نواة القاعدة إلى ملاذ آمن لتعمل بفاعلية، مثل السودان وأفغانستان في عهد طالبان. والافتقار إلى ملاذ مناسب حدّ من عمليات التنظيم منذ غزو أفغانستان. وتحدثت تقارير عن إرسال نواة القاعدة مجموعة من الناشطين من المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان إلى سورية لمحاولة إقامة قاعدة هناك – وتسمَّى مجموعة خرسان. لكنّ تلك المجموعة تلقّت بعضاً من أولى الضربات الجوّية الأمريكية في سورية في أيلول/سبتمبر 2014. الواضح أن لامتلاك عنوان عيوبه.

ليس مفاجئاً بالكامل أيضاً أن يخسر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ثلاثة من قادته الكبار في المُكلاّ منذ استيلائه على المدينة في نيسان/أبريل. لم تمنع خسارة اثنين من كبار القاعدة الوحيشي، أمير القاعدة في جزيرة العرب، من زيارة المدينة لسبب مجهول – ولا بدّ أنه سبب مهم ليتقدّم على الهواجس الأمنية. وبالعودة إلى الرسالة التي بعث بها بن لادن إلى عطية عبد الرحمن، طلب إليه بنُ لادن «أن يبعث برسالة إلى الإخوة في اليمن يوعز إليهم فيها بتطبيق إجراءات أمنية وتجنب التنقّل إلّا عند الضرورة القصوى».

عرف بن لادن أن السيطرة على الأرض فخّ خطر ما لم تُهزَم الولايات المتحدة وحلفاؤها في منطقة معيّنة. غير أن جماعات منتسبة إلى القاعدة خاطرت في أوقات معيّنة بكشف وجودها في أراضٍ متنازع عليها.

ثالثاً: التطوّر النهائي

عندما انشقّ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عن القاعدة وأعلن إقامة دولة خلافة في منطقة محدّدة، جعل التنظيمُ نفسَه هدفاً ثابتاً من جديد. السبب أن إيديولوجيته ومزاعمه تعمل على ربطه بقطعة أرض معيّنة. لكنه تكبّد خسائر فادحة في آخر مرّة أظهر فيها جرأة بالغة، ولم ينجُ إلّا بالانسحاب من بعض المناطق، وهو ما قلّص بروزه الإجمالي وألجأه إلى إطلاق حملة ثورية وإرهابية متدنّية الشدّة. في الحقيقة، كان لشيوخ العشائر السنّية في العراق دور كبير في استمرار بقاء التنظيم لعدم ثقتهم بحكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ولذلك سعوا إلى المحافظة على وجود جهادي يكون أداة تُستخدَم ضدّ الطائفية الشيعية. لكنّ السماح لتنظيم الدولة بالبقاء في العراق عمل يندم عليه شيوخ العشائر الآن أشدّ الندم.

وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما بسبب سياسة إدارته تجاه تنظيم الدولة الإسلامية، أُوقف تمدد التنظيم وهو يندحر الآن. لكن هناك من سيزعم بأن احتواء التنظيم لم يحصل وهو ما تجلّى في انتشار الجماعات والفصائل الجهادية القائمة التي أعلنت مبايعتها لتنظيم الدولة. لكن ثق بأن هذه الفروع تفتقر إلى موارد نواة تنظيم الدولة وقيادتها، وأنها لم تكتسب أي قدرة كانت مفتقرة إليها. الجماعات هي نفسها وقدراتها باقية على حالها، ولم يتغيّر غير أسمائها وربما القليل من فلسفاتها العملانية والإعلامية.

ربما سينقضي بعض الوقت، لكنّ سلاح الجوّ الأمريكي المقرون بقوى محلّية تعمل على الأرض ستقضي على تنظيم الدولة في النهاية كما قُضي على طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق من قبل. لقد استغرق شلّ قدرات تنظيم القاعدة آخر مرّة سبع سنوات مع استخدام قوات برّية أمريكية. والراجح أن تستغرق المهمّة سنوات كثيرة هذه المرّة – لا سيما مع عدم وجود قوة حليفة على الأرض يمكن التعويل عليها في سورية. لكن ما من شكّ في أن الخناق سيضيق على التنظيم شيئاً فشيئاً على الأرض مع استمرار توجيه الضربات الجوّية الدقيقة إليه.

لذلك، سينتهج تنظيمُ الدولة آخر الأمر الاستراتيجيةَ ذاتها التي انتهجتها طالبان وحركة الشباب وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. سيتخلّى التنظيم عن الأراضي التي استولى عليها للعودة إلى حملة ثورية وإرهابية عديمة الشكل متدنّية الشدّة. وهذا بالطبع هو التحوّل الاستراتيجي ذاته الذي قام به التنظيم في سنة 2010. ولو لم يفعل ذلك، ما كان له وجود اليوم. إذا لم يقلع تنظيم الدولة عن موقفه الراهن، وإذا قرر التشبّث بأرضه والدفاع عن خلافته حتى النهاية، فسوف يُقضى عليه.

 

قد يهمكم ايضاً  دور المرأة في التنظيمات الجهادية: القاعدة وداعش أنموذجاً