مقدمة:

في خضم الصراع الدائر بين بريطانيا والدولة المهدية بهدف إسقاط الأخيرة وإعادة احتلال السودان، عمل الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني على استغلال الوضع طمعًا في توسيع حدوده على حساب حدود السودان، فبعث في 15 نيسان/أبريل 1891 تعميمًا إلى رؤساء الدول الأوروبية حدد فيه ما زعم أنها الحدود الفعلية لإمبراطوريته وكذلك ما عدّه منطقة نفوذه. وورد في التعميم أن الحدود الشمالية الغربية للحبشة تمتد من بلدة تومات الواقعة عند ملتقى نهري ستيت وعطبرة إلى كركوج على النيل الأزرق وتشمل مديرية القضارف. وأعلن منليك عن عزمه استعادة حدوده القديمة التي تمتد غربًا حتى الخرطوم وجنوبًا حتى بحيرة فكتوريا. من هنا تتضح المطامع الإثيوبية في أراضي شرق السودان (ولاية القضارف).

يتطرق هذا البحث إلى مفهوم علم الجيوبوليتيك (علم سياسة الأرض) وهو علم يفسر حالة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة، الذي يقود بدوره إلى مفهوم الاحتلال الذي يعني سيطرة دولة على أراضي دولةٍ أُخرى أو جزءٍ منها، ومن ثم الوقوف على الأسباب الجذرية للاحتلال. أخيرًا، يتطرق البحث إلى الحلول المقترحة مع الإسقاط على حالة منطقة الفشقة محاطة بالأنهار داخل الأراضي السودانية من كل الجوانب باستثناء خط الحدود المشترك مع إثيوبيا، وهذا ما يفرض عليها العزلة التامة عن الأراضي السودانية المتاخمة لها خلال موسم فيضان هذه الأنهار. هذا فضلًا عن كونها تتميز بهطول الأمطار الغزيرة في فصل الخريف وبإنتاجها الوفير. هذا الموقع يغري الإثيوبيين للاعتداء عليها متى ما شاءوا، إذ لا يقف أمامهم أي مانع يحول بينهم وبين الاستفادة من هذه الأراضي الخصبة؛ فهي أراضٍ متاخمة تمامًا لأراضيهم،  وبالتالي كل موسم يأتي مزارعون من الأمهرة الذين يعتقدون اعتقادًا راسخًا أن هذه أراضيهم[2]، وأنهم لن يتركوها حتى ولو تخلى عنها الإمبرطور منليك الثاني في وقت ما، وتدعمهم في ذلك عصابات «ولجاييت» التي تسمى الأمهرية شفتا، ليزرعوا الأراضي السودانية المعترف بها دوليًا وإثيوبيًا. و«الشفتا» عصابات معروفة منذ أمد طويل ينظمها أفراد من شعب ولجاييت (مظلة شعوب)، يستعين بهم الأمهرة من أجل الحماية نظير مبلغ مالي.

أولًا: الإطار المنهجي والنظري للبحث

 

1 – الإطار المنهجي للبحث

موضوع البحث شرق السودان والمطامع الإثيوبية (دراسة حالة منطقة الفشقة). حدود البحث المكانية (ولاية القضارف – منطقة الفشقة)، أما الزمانية فتمتد من نيسان/أبريل 1891 إلى كانون الأول/ديسمبر2021. وتتمثل إشكالية البحث بمطامع إثيوبيا في أراضي شرق السودان عامة وولاية القضارف خاصة وذلك منذ 1957. ينطلق البحث من عدة أسئلة، هي: هل يعَدّ تدخل إثيوبيا في منطقة الفشقة السودانية احتلالًا؟ وهل لإثيوبيا مطامع حقيقية في أراضي شرق السودان؟ ما دقة المعلومات المطروحة من البحوث والدراسات العلمية لتوضيح حالة الاحتلال التي تتعرض لها منطقة الفشقة من جانب إثيوبيا، ومــدى القدرة على توضيح هذه المعلومات بوصفها أداة تبين حقيقة احتلال إثيوبيا لأراضٍ سودانية؟ ما الحــــلول التي تعيد للسودان أراضيه وتضع حدًا للمطامع الإثيوبية في أراضي الفشقة وغيرها من الأراضي السودانية؟

يعتمد البحث المنهج الوصــفي الذي يقوم على وصف الحقائق باتباع أسلوب علمي وموضوعي دقيق، والمنهج الوظيفي الذي يتناول مدى مطامع إثيوبيا في أراضي شرق السودان (ولاية القضارف) وبخاصة منطقة الفشقة الخصبة.

واستخد البحث تقنيات القراءة المنظمة للوقائع اليومية، الرسائل العلمية والدراسات المتعلقة بموضوع البحث، الملاحظة الهادفة، الخبرة العلمية، الاستشارة.

ينطلق البحث من عدة فرضيات أيضًا، هي: 1- ثمة مطامع إثيوبية واضحة في أراضي شرق السودان (ولاية القضارف – منطقة الفشقة)؛ 2- انشغال الساسة السودانيين في الحكومات السودانية المتعاقبة بالتصارع فيما بينهم، وهو ما أثر سلبًا في حسم ملف الحدود مع إثيوبيا، الأمر الذي ساهم بصورة فعّالة في تلكؤ إثيوبيا وتهرّبها من عملية ترسيم الحدود بينها وبين السودان بصورة قاطعة ونهائية. 3- انشغال الجيش السوداني بخوضه نزاعًا أكبر وأخطر على أمن السودان القومي في جنوب السودان منذ قبيل الاستقلال، إلى جانب نشوب مشكلة دارفور التي عقّدت مشاكل السودان الداخلية وبخاصة بعد تدويلها مثلما دوّلت مشكلة الجنوب من قبل حتى فُصل، كل هذا جعل من الحدود الشرقية وبخاصة منطقة الفشقة الخصبة لقمة سائغة لدى إثيوبيا لتتمدد فيها كما تشاء. 4-  ضعف البينة التحتية في ولاية القضارف بعامة ومنطقة الفشقة بخاصة أسهم بصورة كبيرة في عدم ربط المنطقة بالداخل وبالتالي جعلها عرضة للمطامع الإثيوبية.

2 – الإطار النظري

مفهوم الجيوبوليتيك (علم سياسة الأرض): الجيوبوليتيك هـو علم دراسة تأثير الأرض (برّها وبحرها ومرتفعاتها وجوفها وثرواتها وموقعها) في السـياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميزات وفق منظور مستقبلي، وفي معناه البسيط هو «علم سياسة الأرض» أي دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة. ويتداخل هذا المفهوم مع مضمون علم الجغرافيا السياسية الذي يُعنى بدراسة تأثير الجغرافيا (الخصائص الطبيعية والبشرية) في السياسة[3]. يمثل علم الجيوبوليتيك ضمير الدولة وطموحاتها وحاجاتها ومصالحها في المستقبل، وكيفية حمايتها والمحافظة عليها، فهو بالتالي مفتاح السياسة القومية. من هنا يكون توصيف الدولة لنقاط قوتها وضعفها «جغرافيا سياسية». أما رؤيتها المستقبلية وآمالها وحاجاتها ومصالحها حتى التي تتعدى حدودها، فهذا هو علم (الجيوبوليتيك) الذي يمثل النظرة إلى المصالح القومية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

مفهوم الاحتلال: إنَّ كلمة الاحتلال، مأخوذةٌ في اللغة العربية، من الفعل احتلَّ؛ حيثُ يُقال احتلّ المكانَ؛ بمعنى حلَّه، نزَل به، وأخذه، واستولى عليه قهرًا[4]، ويُعرّف الاحتلال اصطلاحًا بأنّه سيطرةُ دولةٍ مُعينة على جميع أراضي دولةٍ أُخرى أو جزءٍ منها، خلال غزوٍ أو حرب أو بعد انتهاء تلك الحرب[5]. ويتخذ الاحتلال صورًا، أو مآرب مُعيّنة كالاحتلال الاقتصاديّ وهو استيلاء دولة ما، على موارد دولةٍ أخرى بطريقةٍ غير مشروعة[6].

أدبيات البحث (الدرسات السابقة): دراسة مشابهة لموضوع البحث «الاحتلال الإثيوبي لأراضي الفشقة السودانية» للدكتورة إكرام محمد صالح حامد دقاش أستاذ مساعد بكلية العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية، جامعة الزعيم الأزهري، السودان – تموز/يوليو 2007).

الهدف من الدراسة: إيجاد إطار نظري متكامل للبعد التاريخي للمطامع الإثيوبية في أرض الفشقة، وذلك من خلال محورين، محور سياسي وهذا يعتمد على كسب الوقت بالتفاوض الذي ينتهي دائمًا إلى الإبقاء على الوضع الراهن ثم القيام بمزيد من عمليات التوطين وتملُّك الأرض يتبع ذلك عمل منظم لطمس هوية المواطنين السودانيين على الحدود لتحويلهم إلى مواطنين إثيوبيين في مرحلة لاحقة أو طردهم والتمهيد لذلك بمحاولات إدخال القوانين الإثيوبية للمنطقة. يقوم المحور الأول على تخريب اقتصاد السودان من طريق تشجيع تهريب البضائع السودانية إلى داخل إثيوبيا. أما المحور الثاني فهو عسكري يعتمد على فكرة التوسع بالقوة حتى يمكن الوصول إلى الحد الطبيعي وهو نهر عطبرة.

نتائج الدراسة: إن أفضل المعالجات بالنسبة إلى السودان في مسألة أراضي الفشقة المهددة من جانب إثيوبيا هو إقرار الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات الموروثة على ما بها من ملاحظات وقصور تفاديًا للمشاكل التي يثيرها عدم الإقرار، وأن حدود السودان المترامية تمثل عائقًا كبيرًا بالنسبة إليه، وأن السودان حريص على أن لا يدخل في مشاكل حدودية مع جيرانه لأنه يجاور تسع دول (قبل انفصال جنوب السودان كدولة)، وأن عامل الحدود غير وارد في علاقة السودان بجيرانه إلا في الحرب والنزوح. لقد تولد لدى السودان موقف مبدئي بإقرار الاتفاقيات واعتماد أسلوب التفاوض والتحاور. ومن أسلم الطرق لحل النزاعات الحدودية هي البحث في المبادئ والنقاط التي يعتمد عليها الخصم والبحث عن ردود خاصة بها.

ثانيًا: الخلفية التاريخية

في 15 نيسان/أبريل 1891 بعث الإمبراطور منليك الثاني تعميمًا إلى رؤساء الدول الأوروبية حدد فيه الحدود الفعلية لإمبراطوريته وكذلك ما عدّه منطقة نفوذه. ورد في التعميم أن الحدود الشمالية الغربية للحبشة تمتد من بلدة تومات الواقعة عند ملتقى نهرَي ستيت وعطبرة إلى كركوج على النيل الأزرق وتشمل مديرية القضارف. وأعلن منليك عن عزمه استعادة حدوده القديمة التي تمتد غربًا حتى الخرطوم وجنوبًا حتى بحيرة فكتوريا. ويبدو أن تعميم منليك لم يصل إلى الملكة فكتوريا ولم تعلم به الحكومة البريطانية التي كانت تسعى جاهدة لإسقاط الدولة المهدية وإعادة استعمار السودان إلا إبان بعثة سير رينيل رود في عام 1897 للتباحث مع منليك حول بعض المسائل، ولكن لوحظ أنه عندما أبلغ ممثل بريطانيا في الحبشة جون هارنغتون منليك في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1898 بأن القوات البريطانية – المصرية قد احتلت مدينتي القضارف والروصيرص. لم يأبه منليك لاحتلال القضارف ولكنه استشاط غضبًا لاحتلال الروصيرص بسبب موقعها الاستراتيجي على النيل الأزرق. وبعد سقوط السودان واحتلال بريطانيا بمساعدة مصر للسودان تحت مظلة «الحكم الثنائي الإنكليزي – المصري»[7] بدأت المفاوضات لتحديد الحدود بين السودان والحبشة في 15 نيسان/أبريل 1899 بين منليك وجون هارنغتون، وكان يؤازر الإمبراطور مستشاره السويسري المحنك المهندس ألفرد إيلق. وسبق أن أُبلِغَت الحكومة المصرية بأنه في سبيل الحصول على ضمانات في شأن مياه بحيرة تانا والنيل الأزرق، فسيكون من الضروري تقديم تنازلات معقولة في الأراضي لمنليك في مقابل الحصول منه على الضمانات المطلوبة. في الوقت نفسه كانت التعليمات الصادرة لهارنغتون تقضي بألّا يقبل أية مطالبات من منليك في وادي النيل وتحديدًا في الغرب والشمال الغربي لأنه يخضع لسيطرة خديوي مصر، وأن يؤكد لمنليك هيمنة بريطانيا في مصر والسودان.

وفي مستهل المفاوضات تمسك منليك بالحدود التي نص عليها تعميمه إلى رؤساء الدول الأوروبية. ودفع بأنه طالما أن بريطانيا لم تعترض عليه فإن ذلك يعني أنها قد قبلته «لأن السكوت يعني الموافقة». وردَّ هارنغتون بأن بلاده لا تعترف بالتعميم ولا بالحدود التي نص عليها. وأضاف أنه لا يكفي أن يذكر منليك أن حدوده هي كذا وكذا، لأن القاعدة في أفريقيا هي الاستيلاء الفعّال. ويبدو أن هارنغتون كان يشير إلى ما اتُفِق عليه في مؤتمر برلين في 26 شباط/فبراير 1890. وقد تراجع منليك عن التعميم ولكنه طفق يجادل بما عدّه حقوقه التاريخية. أمام تصلب موقف هارنغتون أبدى منليك استعداده للتفاوض. أثمرث المفاوضات عن الاقتراح الذي قدمه منليك في 26 أيار/مايو 1899. وجد هذا الاقتراح قبولًا حسنًا لدى هارنغتون ولكنه عُلِّق بإتمام الاتفاق مع الحكومة الإيطالية بشأن الجزء الشمالي للحدود لأنه يمس منطقة النفوذ المخصصة لإيطاليا وفقاً للبروتوكول الإنكليزي – الإيطالي المبرم في 15 نيسان/أبريل 1891. تم رسم خط الحدود الذي اقترحه منليك على خريطة (خريطة اسكلتون) للحبشة والبلدان المجاورة، بحيث يبدأ خط الحدود في تدلك في الشمال ويسير في اتجـاه الجنوب إلى التقاء الستيت ومايتيب بحيث يشمل في السودان كل إقليم قبيلة الحمران. وأما في منطقة الكداوي فقد تُرك مسار خط الحدود مفتوحًا إلى أن يتم التيقن عما إذا كانت هذه المنطقة تقع بصفة رئيسة إلى الشرق أو الغرب من الخط الموضح على الخريطة. في منــطقة القـــلابات سارت الحدود إلى الشرق من هذه المنطقة لتتركها كلها في السودان. لكن منليك كان تواقًا بشدة إلى أن يحصل على مدينة المتمة ذات الأهمية الاستراتيجية والتجارية، فناشد هارنغتون لاعتبارات عاطفية أن يُبقي على علمه مرفوعًا في المتمة. وطلب من هارنغتون إبلاغ حكومته بأنه لأجل اعتبارات الصداقة يود الاحتفاظ بالمتـــمة لارتباطه هو شخصيًا وكذلك شعبه بالمتمة لأنه يوجد بها مسيحيون، وقتل فيها الملك يوحنا[8] وأريقت فيها دماء شعبه. لذلك وافقت الحكومة البريطانية على تقسيم المتمة إلى قسمين: بحيث يبقى الجزء الواقع شرق خور أبو نخرة في الحبشة ويبقى القـــسم الغربي في السودان. وأما في جنوب المتمة فقد تبع الخط الحدود الشرقية لقبائل الضبانيه ودار سوماتي، بينما ترك في الحبشة أراضي قبائل القبا والقمز واحتفظ للسودان بمنطقتي فامكا وفازوغلي.

وكانت بني شنقول مصدر قلق واهتمام لمنليك. وقد ردّت الوثائق البريطانية ذلك إلى موارد الذهب الموجودة فيها وموقعها الاستراتيجي المهيمن على النيل الأزرق. رفض هارنغتون الاعتراف للحبشة بأي حقوق في بني شنقول. ولكنه في نهاية الأمر أبدى استــعداده للوصول إلى ترتيب ما يرضي رغبات منليك. وأخـــيرًا تم الاتــفاق على أن تُترك بني شنقول للحبشة. وفي مقابل ذلك تُمنَح امتيازات التنقيب عن الذهب في بني شنقول للشركات البريطانية.

ينبغي التنويه هنا إلى أن خط الحدود من النقطة التي تقاطع فيها حدود ولاية النيل الأزرق الجنوبية الحدود الإثيوبية وحتى بحيرة رودلف قد أصبح يمثل الآن الحدود بين إثيوبيا وجمهورية جنوب السودان. تم إفراغ خط الحدود الذي تمخض عن تفاوض هارنغتون مع الإمبراطور منليك الثاني في مسودة اتفاقية. وقد وصفت هذه المسودة في مادتها الأولى بالتفصيل الحدود بين السودان وإثيوبيا من تدلك في الشمال، وجنوبًا إلى خط عرض 6 درجة شمال حيث تبدأ الحدود بين إثيوبيا والمحميات البريطانية في شرق أفريقيا وأوغندا.

لم يتم توقيع المسودة بسبب تدخل سيكوديكولا ممثل إيطاليا في أديس أبابا في آذار/مارس 1901 لدى منليك بأن اتفاقية الحدود المزمعة بين السودان وإثيوبيا التي تبدأ من تدلك تتعارض مع اتفاقية أبرمها هو مع منليك في 10 تموز/يوليو 1900 لتحديد الحدود بين إثيوبيا وإريتريا وهي تنص أيضًا على أن الحدود بين البلدين هي تومات – تدلك – ماريب – مونا. ولكن تبين لاحقًا أنه عندما سجل المبعوث الإيطالي سيكوديكولا اعتراضه على مسار خط الحدود المقترح بين السودان وإثيوبيا لم يكن يعلم أن حكومته قد تنازلت للسودان عن كل الإقليم الواقع غربي الخط من تدلك إلى تقاطع ستيت- مايتيب وذلك بموجب مذكرات تم تبادلها في 6 /26 كانون الأول/ديسمبر 1899 في روما بين لورد كري السفير البريطاني في إيطاليا، ووزير خارجية إيطاليا فيسكونتي – فنوستا. بعد فشل توقيع مسودة 1901 أُدخلت بعض التعديلات على الخط الذي نُص عليه في المسودة. فقد تعدَّل موقع نقطة بداية خط الحدود وفقًا للتنازلات المتبادلة بمقتضى الإعلان السري في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1901 بين إيطاليا وبريطانيا. فأصبحت نقطة التقاء خور أم حجر مع نهر ستيت هي نقطة البداية بعد أن وافق الإمبراطور منليك على التنازلات. كذلك أدخلت بعض التعديلات على قطاع الحدود الواقع بين القلابات وجبل كرمك وذلك بعد بعثة المسح التي كلف بها الطرفان ميجر قوين. كما سحب منليك اعتراضه على استمرار بقاء قيسان في الجانب السوداني من الحدود.

خلاصة القول، إن الحدود التي أوصى بها ميجر قوين في قطاع القلابات – الكرمك قد قبلها الأمبراطور منليك وضُمنت في الخريطة المرفقة باتفاقية 15 أيار/مايو 1902 لتحديد الحدود بين السودان وإثيوبيا والتي قام بتوقيعها الإمبراطور منليك وهارنغتون. وقد أوضحت الاتفاقية في المادة 1 أن الحدود المتفق عليها بين الحكومتين ستكون الخط المعلم باللون الأحمر في الخريطة المرفقة بالاتفاقية من خور أم حجر إلى القلابات إلى النيل الأزرق، وأنهار بارو، وبيبور، وأكوبو، إلى مليلي، ومن ثم إلى تقاطع خط عرض 6 درجات شمال مع خط طول 35 درجة شرق غرينتش. ونصت المادة 2 على أن الحدود المحددة في المادة 1 ستؤشرها على الأرض لجنة حدود مشتركة يعينها الطرفان ويخطران رعاياهما بهذه الحدود بعد تحديدها. ونصت الفقرة الثالثة من المادة 5 من النص الإنكليزي للاتفاقية والفقرة نفسها من الترجمة الإنكليزية للنص الأمهري على أن تصبح الاتفاقية نافذة حالما يُخطر الإمبراطور منليك بتصديق ملك بريطانيا إدوارد السابع على الاتفاقية. وبموجب تعليمات وزير الخارجية البريطاني لورد لانسداون بتاريخ 28 آب/أغسطس 1902، سلم هارنغتون بنفسه تصديق ملك بريطانيا للاتفاقية للإمبراطور منليك في 28 تشرين الأول/اكتوبر 1902 وأصبحت الاتفاقية نافذة من ذلك التاريخ. وبتاريخ 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1902 أبلغ هارنغتون وزير خارجيته لورد لانسداون بأن تصديق الملك إدوارد السابع على الاتفاقية قد سُلم بحسب الأصول إلى الإمبراطور منليك في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1902 وأنه حصل كذلك على ختم الإمبراطور على نسخة الخريطة المذكورة في المادة 1من الاتفاقية.

تخطيط قوين للحدود 1903: سبق الذكر أن المادة 2 من اتفاقية 15 أيار/مايو 1902 تــقضي بأن تقـــوم بتـــأشير الحدود لجنة مشتركة يعينها الطرفان. ولـــكن في واقع الأمــر فإن ميجر قوين هو الذي قام بالتخطيط منفردًا بالنيابة عن كل من إثيوبيا والسودان. وقد صدر اقتراح تعديل المادة 2 من الإمبراطور منليك. فخلال مقابلة أبلغ منليك هارنغتون بأنه ليس لديه أحد «قادر على فهم خريطة» لتعيينه في لجنة الحدود المشتركة. ولكن إذا قام ميجر قوين الذي يثق به «بوضع علامات حدود ويوضح الحدود للزعماء المحليين» فإنه يوافق على هذا المسار، وسيصدر أوامر لكل الزعماء على طول الحدود لاحترام الخط الذي يؤشره ميجر قوين. سعدت الحكومة البريطانية باقتراح منليك وطلب كرومر من هارنغتون أن ينقل لمنليك أن حكومة صاحب الجلالة تقدر عاليًا الثقة التي وضعها في ضابط بريطاني. إن تخويل منليك لميجر قوين وصلاحياته قد وردت في الخطاب الذي بعث به منليك إلى الزعماء المحليين: «إن حامل هذا الخطاب هو ميجر قوين الذي ينتمي إلى الحكومة البريطانية. ونحن أرسلناه إليكم ليوضح لكم الحدود بين إثيوبيا والسودان. لذلك أرسلوا فورًا شخصًا مهمًا ليشاهد الحدود التي يوضحها له بعد أن تُوضح لكم لا تعبروها والآخرون لن يعبروها. لاحقًا سأرسل شخصًا يعرف الخريطة للتحقق». وقد صدر هذا الخطاب باللغة الأمهرية في أديس علم (مدينة في وسط إثيوبيا) بتاريخ 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1902.

تنفيذًا لخطاب منليك أرسل الزعماء المحليون في المناطق الحدودية ممثلين لمقابلة ميجر قوين ليوضح لهم الحدود التي تم تخطيطها. وقد أشاد قوين بروح الممثلين في تنفيذ الأوامر التي تلقوها من منليك والتي وصفها قوين بأنها كانت أوامر صارمة وصريحة. كما أشاد بالتزامهم بالمواعيد. أرفق ميجر قوين في تقريره عن تخطيط الحدود قائمة بأسماء الممثلين الذين رافقوه، وتُبين كذلك الزعيم الذي يتبعونه وقطاع الحدود الذي وضح لهم تحسبًا لأي مسألة قد تنشأ في المستقبل. في 18 تشرين الثاني نوفمبر 1903 وبناء على تعليمات وزير الخارجية لورد لانسداون، سلم كلارك القائم بالأعمال البريطاني في أديس أبابا الإمبراطور منليك نسخة من تقرير ميجر قوين عن تخطيط الحدود والخريطة المصاحبة له[9].

ثالثًا: عرض الوضع العام لموضوع البحث

تحاذي إثيوبيا أربع ولايات سودانية، هي القضارف وسنار وكسلا والنيل الأزرق، على مسافة 744 كيلومترًا، ويمتد شريط الحدود بين ولاية القضارف وإقليمَي تيغراي وأمهرة الإثيوبيين، نحو 265 كيلومتر.

هذه الحدود الممتدة ظلت مهددة بمطامع إثيوبيا التي سعت وتسعى جاهدة للتمدد ما وراءها منذ عام 1891، يوم بعث الإمبراطور منليك الثاني تعميمًا إلى رؤساء الدول الأوروبية حدد فيه الحدود الفعلية لإمبراطوريته التي تمتد من بلدة تومات الواقعة عند ملتقى نهري ستيت وعطبرة إلى كركوج على النيل الأزرق وتشمل مديرية القضارف، وأعلن عن عزمه استعادة حدوده القديمة التي تمتد غربًا حتى الخرطوم وجنوبًا حتى بحيرة فكتوريا.

تعود مسألة الحدود بين السودان وإثيوبيا إلى أكثر من 120 عامًا، وذلك عندما أتمت بريطانيا احتلالها للسودان، وبدأت في ترسيم حدوده مع جيرانه[10]. في ذلك الوقت مثلت إثيوبيا (حقبة الإمبراطورية الأمهرية منذ منليك الثاني عام 1882 وحتى هيلاسلاسي عام 1974) طرفاً أصيلًا في التسويات الأوروبية التي صاغت الخارطة السياسية الجغرافية لدول القرن الأفريقي، الأمر الذي جعل إثيوبيا تصف نفسها حليفة الغرب وقلعته المسيحية في أفريقيا، وتدعمها في ذلك المنظمات الكنسية العالمية التي هدفها محاربة الإسلام وحصاره والقضاء عليه. كانت النظرة الغربية للسودان أنه يستطيع التأثير في المجتمعات من حوله، وهذا يفسر الاهتمام بما يدور في السودان لكي لا تمتد ظلاله على من حوله علمًا بأن عدد المسلمين في إثيوبيا يمثل أكثر من نصف عدد سكانها.

هذه النظرة الغربية إلى إثيوبيا، بوصفها المرتكز الاستراتيجي للغرب في منطقة القرن الأفريقي كلها، ظهرت جلية في الموازنات السياسية التي قام بها البريطانيون، الذين يمكن القول إنهم صاغوا الاتفاقيات بصورة فيها تعاطف كبير مع إثيوبيا. رغم ذلك قبل السودان بتلك الاتفاقيات التي تتهرب من التزام إثيوبيا بحجج واهية تكذّبها الوثائق، وذلك بسبب نياتها التوسعية، وبخاصة أنها تعاني عددًا من المشاكل الداخلية، فمساحتها تعادل نصف مساحة السودان، وعدد سكانها هو ضعفا عدد سكان السودان وأنها عبارة عن هضبة مقابل السهول المنبسطة والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة في السودان إلى جانب مواجهتها موجات الجفاف والتصحر وقلة الإنتاج الزراعي.

إذًا، الدعم الـغربي لإثيوبيا والمشاكل التي تعانيها في الداخل عزز مطامعها في أراضي السودان من خلال انتهاج علم الجيوبوليتيك، علم دراسة تأثير الأرض في السـياسة في مقابل مسعى السياسة لتغيير الأبعاد الجغرافية للدولة بالبحث عن الحاجات التي تتطلبها لتنمو حتى ولو كان وراء حدودها، وذلك تلبية لطموحاتها وحاجاتها ومصالحها. بالطبع تتبنّى إثيوبيا هذه السياسة التوسعية، وهو سبب مشكلتها مع السودان رغم اعترافها باتفاقية 15 أيار/مايو 1902 بين الحكومة البريطانية والإمبراطور منليك الثاني التي حددت الحدود ورقيًا وبالوصف العام في المادة 1 من الاتفاقية، التي أصبحت نافذة منذ 28 تشرين الأول/أكتوبر 1902، ومنذ ذلك التاريخ البعيد وإلى اليوم لا تزال اتفاقية عام 1902 لتحديد الحدود، صحيحة ونافذة. لم يحدث في التاريخ البعيد أو القريب أن طعنت إثيوبيا في صحة أو نفاذ هذه الاتفاقية، بل أكدت التزامها بهذه الاتفاقية في تموز/يوليو – آب/أغسطس 1955، وفي حزيران/يونيو 1957، وفي تموز/يوليو 1972، ومن ثم من خلال تأليف لجنة ترسيم الحدود بين البلدين في عام 1973 [11]، التي قامت بعمل كل الإجراءات الفنية اللازمة، ووضعت جدولًا لعملها. ولكن تم تجميدها بسبب مماطلة إثيوبيا حتى جاءت فترة حكم مليس زيناوي في 1991 لتبدأ المحادثات حول الترسيم مرة أخرى. لكنها أيضًا، وتحت ذريعة أنها حكومة ثورة جديدة ولا يتوافر لديها متخصصون في مجال الحدود المشتركة، ظلت تعتذر لمدة 10 سنوات، إلى أن وافقت أخيرًا في عام 2001، وأكملت اللجنة كل الإجراءات المكتبية والهندسية، وكل ما يتعلق بالخرائط وعلامات الحدود وأنواعها وأماكنها، ثم اختتمت بعمل مسح ميداني لعلامات الحدود الموجودة، الذي يسمى «عملية تأكيد الحدود»، وتم التأكيد بالفعل وفقاً لبروتوكول 1903، كما تم اعتماده بواسطة اللجنة السياسية المشتركة بين البلدين في 2001. ولكن للأسف ظل الحال كما هو بسبب عودة إثيوبيا ثانية إلى المماطلة والتسويف[12].

لا يخفى على المطلع أن بريطانيا قدمت تنازلات كبيرة عن مناطق سودانية كثيرة لمصلحة إثيوبيا، منها إقليم بني شنقول المتاخم لولاية النيل الأرزق، ومنطقة المتمة المحاذية لنقطة تلاقي حدود ولاية سنار وولاية القضارف إلى جانب مثلث تاية، وجزيرة الدود، وحمراية الرهد جنوب القلابات الذي يشهد وجودًا متكررًا للمزارعين الإثيوبيين المحميين بالميليشيات المسلحة في كل موسم. كما لم تسلم منطقتا أم بريقة في ولاية كسلا، ومنطقة دبلو الكيلو 15 الواقعة في ولاية القضارف، والمحاذيتان لإقليم التيغرى الإثيوبي أيضًا من المطامع الإثيوبية.

رابعًا: حالة منطقة الفشقة

 

1 – منطقة الفشقة

هي تلك المنطقة المتاخمة للحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا، التي تحد شمالًا بنهر ستيت وجنوبًا بنهر عطبرة وشرقًا بإثيوبيا، وهي لفظة محلية اشتقت من وضع المنطقة الطبيعي إذ يقصد بالفشقة الأراضي التي تقع بين عوازل طبيعية (مائية) كالأنهار والخيران والمجاري وتبلغ مساحتها 251 كلم2، وتنقسم إلى قسمين: الفشقة الكبرى، ويحدها شمالًا نهر ستيت وجنوبًا بحر باسلام وجنوب غرب نهر عطبرة وشرقًا الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا، أرضها طينية مسطحة صالحة للزراعة في مجملها. الفشقة الصغرى، هي المنطقة التي يحدها شمالًا بحر باسلام وجنوب غرب نهر عطبرة وشرقًا الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا ويتخللها الكثير من الجبال والخيران. هذا الوضع الانعزالي للمنطقة بسبب إحاطتها بالأنهار من كل الجوانب باستثناء خط الحدود المشترك مع إثيوبيا حتم عليها العزلة التامة عن الأراضي السودانية المتاخمة لها خلال موسم فيضان هذه الأنهار، فضلًا عن كونها تتميز بخصوبة أرضها وأمطارها الغزيرة في فصل الخريف. ويمثل موقعها هذا إغراءً للإثيوبيين للاعتداء عليها متى ما شاءوا، إذ لا يقف أمامهم أي مانع أو عازل يحول بينهم وبين الاستفادة من هذه الأراضي الخصبة.

لقد اعـــترفت إثيـوبيا اعترافًا قانونيًا باتفاقية الحدود لعام 1902 وبروتوكول الحدود لعام 1903، واتفاقية عام 1972 بأن منطقة الفشقة أرض سودانية. وتم بموجب ذلك توضيح الحدود على الطبيعة لتكون معلمًا طبيعيًا بين السودان وإثيوبيا في تلك المنطقة. من علامة الحدود الواقعة في الضفة اليمنى من خور القاش جنوب جبل قالا ثم إلى جبل أبو قمل ثم تلال البرك حيث وضعت علامة حدود في وسط صخرة ثم إلى جبل كورتيب ثم إلى جذع شجرة وسط حجارة وصخور ثم إلى جبل ثوار، وبالقرب من شجرة هجليج وضعت صورة من بروتوكول الحدود لسنة 1903 وعلامة، وكذلك وضعت علامة للحدود وصورة من بروتوكول الحدود سنة 1903 في صخرة عالية في الضفة اليمنى من نهر ستيت حيث يتقاطع خور الرويان مع نهر ستيت[13].

2 – بداية المشكلة

يبلغ طول الحدود الدولية (ولاية القضارف وإقليم الأمهرة) المشتركة بين الجانبين السوداني والإثيوبي نحو 265 كلم، ويقدر حجم الأراضي الزراعية المعتدى عليها من الإثيوبيين بنحو مليون فدان في منطقة الفشقة وما جاورها جنوبًا في كل من القلابات وتايه حتى جبل دقلاش[14].

إن التعدي الإثيوبي على الأرض السودانية في منطقة الفشقة لم يظهر بصورته الواضحة التي يستشف منها نية الاستحواذ على الأرض إلا بعد خروج البريطانيين من السودان، فكان أول دخول إلى أرض الفشقة بدأ بتسلل للمزارعين الإثيوبيين للزراعة في الأراضي الواقعة ما بين جبل اللكدي وشجرة الكوكة وحتى حمداييت، وذلك في عام 1957، وكان عددهم قد بلغ 7 مزارعين زرعوا في مساحة ثلاثة آلاف فدان في منطقة الفشقة الكبرى بجبل اللكدي، وقد حاولت سلطات الإدارة الأهلية في المنطقة المعنية تحصيل العشور منهم لكنهم رفضوا ونقلوا ذلك إلى المسؤولين الإثيوبيين، إلى أن تم عقد اجتماع مشترك بين المسؤولين في البلدين، اعترف فيه الإثيوبيون بالزراعة داخل الأراضي السودانية وطلبوا إعفاء المزارعين الإثيوبيين من دفع العشور بحجة أن ما قاموا به من زراعة كان قليلًا وبطريقة بدائية ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق، غير أن المزارعين الإثيوبيين عادوا ثانية في العام التالي 1958 بآليات واستعدادات كاملة للزراعة في المنطقة الواقعة بين نهري ستيت وباسلام التابعة لمجلس ريفي شمال القضارف السابق الذي كانت تتبعه له منطقة الفشقة، متجاهلين اتفاقيات الحدود بين البلدين. وبين عامي 1964 و1967 بلغ عدد المزارعين الإثيوبيين المتسللين 27 مزراعًا في مسلحة 33 ألف فدان، أما في السنوات ما بين 1972 و1991 فبلغ العدد 52 مزارعًا في مساحة قدرها 84,500 فدان. وفي عام 2004 وحسب إحصائية رسمية مشتركة بين البلدين، بلغ عدد المزراعين الإثيوبيين في الأراضي السودانية 1956 مزراعًا، يستغلون مساحة قدرها 754 ألف فدان[15]، وقد بلغت مساحة المشاريع الزراعية التي أقامها المزارعون الإثيوبيون حتى عام 2020 أكثر من مليون فدان في منطقة الفشقة وما جاورها جنوبًا، هذا فضلًا عن إزالتهم لبعض معالم الحدود التقليدية التي كانت موجودة. إلى جانب الاعتداءات الإثيوبية المتكررة على منطقة الفشقة من قتل للموطنين العزّل ونهب محاصيلهم ومواشيهم وممتلكاتهم بهدف ترويعهم وطردهم من الأرض، رغم نفي السلطات الإثيوبية المتكررة التي تزعم فيها أنها دائمًا ما تبلغ مواطنيها بعدم الزراعة في تلك الأراضي على أساس أنها أراضٍ سودانية. لكن حقيقة الأمر غير ذلك والدليل إقامة أكثر 20 معسكر ومستوطنة داخل أراضي الفشقة[16]، محمية بميليشيات إثيوبية يساندها الجيش الإثيوبي الذي دائمًا ما يتخفي خلف هذه الميليشيات، إلى جانب تزويد السلطات الإثيوبية هذه المستوطنات بالخدمات والبنية التحتية بما فيها الطرق المعبّدة، وبهذه المطامع الواضحة، ومنذ عام 1995، استغل مزارعون إثيوبيون تحت حماية ميليشياتهم المسلحة نحو مليوني فدان من أراضي الفشقة الشديدة الخصوبة، وساعدهم على ذلك انعزال الفشقتين الصغرى والكبرى عن بقية السودان بسبب أنهار عطبرة وباسلام وستيت الموسمية، وانفتاح المنطقة على إثيوبيا بلا عوازل طبيعية بسطوا سيطرتهم عليها لأكثر من 25 سنة مستغلين انشغال السودان بمشاكله الداخلية، ولكن بعد سقوط نظام عمر البشير في نيسان/أبريل 2019 وتوقيع سلام جوبا مع عدد من الحركات المسلحة السودانية في تشرين الأول/أكتوبر2020، التفت الجيش السوداني إلى الحدود الشرقية وأعاد انتشاره في منطقة الفشقة التي حررها بنسبة 95 بالمئة ولم تتبقَ سوى منطقتين بمقدوره استعادتهما عسكريًا، لكن السودان يطالب إثيوبيا بإخلائهما من طريق الحوار الدبلوماسي والسياسي تقديرًا للعلاقات الأزلية التي تربط البلدين والشعبين[17].

خامسًا: استنتاجات وتوصيات

 

1 – الاستنتاجات

1 – واضــح جدًا أن المـــوازنات الـــسياسية التي كـــــان ينتهجها البريطانيون جـــعلتهم متعاطفين مع إثيوبيا على حساب السودان في مسألة الحدود بين الدولتين، ورغم ذلك تطمع إثيوبيا في المزيد.

2 – طول حدود السودان مع إثيوبيا عبارة عن خطوط وهمية تمر عبر مناطق كاشفة لا تحددها معالم طبيعية واضحة، وهو ما يسهل التسلل من خلالها، إلى جانب ضعف السيطرة عليها وحمايتها بسبب غياب البنية التحية كالطرق التي تسهل عملية ربط هذه المناطق الحدودية بالـــداخل، الأمر الذي ترتب عليه تمادى المطامع الإثيوبية في أراضي

شرق السودان عامة وولاية القضارف خاصة.

3 – الإنفجار السكاني وقلة الموارد والفقر التي تعانيها إثيوبيا جعلها منذ بداية الاحتكاكات على أرض الفشقة تضع موضوع الحصول عليها أولوية في سياسة كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ عام 1957.

4 – تساهل السلطات السودانية ومواطنيها في التعاطي مع مسألة الحدود، ولعل ذلك يستشف من محاولة سلطات الإدارة الأهلية في المنطقة المعنية تحصيل العشور من الإثيوبيين في أول تسلل لهم كمزارعين يزرعون في داخل الأراضي السودانية عام 1957 الأمر الذي أشعرهم بأنهم أصحاب حق، فعادوا بكثافة في العام التالي، أما تساهل المواطنين القاطنين في المنطقة يتمثل بمسألة إيجارات الأراضي للإثيوبيين التي ربما أغلبها لم يخضع للقوانين الواضحة التي تحكم عملية التعامل مع الأجنبي. كل هذا ساعد في عملية تمدد المزارعيين الإثيوبيين في داخل أراضي الفشقة وهم يدفعهم الأمل في امتلاك هذه الاراضي كاملة يومًا ما.

5 – مساحة السودان الشاسعة، موارده الكبيرة، ثرواتها الطائلة غير مستغلة، وعدد سكانه القليل نسبيًا مقارنة بإمكاناته، وموقعه الجغرافي في محيط إقليمي يعاني الانفجار السكاني (مصر وإثيوبيا) وقلة الموارد والفقر (إثيوبيا، وإريتريا، وتشاد)، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي الذي سببه إشغال الساسة السودانيين في كل الحقب منذ الاستقلال في 1956 بالصراعات السياسية بينهم، بعيدًا من قضايا البلاد وهموم مواطنيها، وعلى رأس هذه القضايا حماية الحدود المتـرامية، كل هذا جعل السودان عرضة لأطماع جيرانه الذين من بينهم إثيوبيا التي تعمل على ابتلاع منطقة الفشقة.

2 – التوصيات

1 – أن تلتزم إثيوبيا باتفاقية عام 1902 لتحديد الحدود التي لم يحدث في التاريخ البعيد أو القريب أن طعنت في صحتها أو نفاذها، بل أكدت التزامها بها في تموز/يوليو – آب/أغسطس 1955م، وفي حزيران/يونيو 1957، وفي تموز/يوليو 1972. ويكون ذلك تأكيدًا منها أنها ليست لها مطامع في أراضي السودان.

2 – أن تلتزم إثيوبيا بالانسحاب من منطقة الفشقة ما دامت معترفة بسودانيتها، وأن لا تقف حجر عثرة في وجه الجيش السوداني الذي يلاحق عصابات الشفتا (التي هي نفسها تقر بأنهم خارجون عن القانون) وأن تعدّ ذلك حقًا مشروعًا لحماية السيادة الوطنية للدولة السودانية، بأن يكون لها الحق في القضاء على المسلحين الذين يتـجاوزون الحدود مدججين بالسلاح، وبطرق غير قانونية. لأن هذه العصابات أقلقت مضجع المواطنين السودانيين على الحدود.

3 – أما السودان فعليه أن يتصدى قانونًا للمزارعين السودانيين الذين يؤجرون الأراضي للإثيوبيين وينكرون ذلك، ويحملهم المسؤولية القانونية والأخلاقية لأنهم يمثلون خطرًا داهمًا على الأمن القومي للبلاد، وتضع الحكومة إجراءات قانونية صارمة تلزم كل مؤجر لأرضه أن يحصل على ترخيص مسبق، ويوثق عقد الإيجار لدى السلطة القضائية أو لدى محامٍ وموثِق معتمد، الأمر الذي يضمن حقوق الطرفين (السوداني والإثيوبي) ويقلل من النزاعات، بل يجعلها قانونية تقضي فيها المحاكم، لكن هذا يكون بعد خروج الوجود الإثيوبي بصورة كامـلة وعودة الفشقة كــمنطقة سودانية.

خلاصة

1 – على السودان أيضًا العمل على ربط المناطق الحدودية بطرق معبدة وبخاصة في منطقة الفشقة التي تعزلها الأنهار في فصل الخريف (ويبدو أن الجيش السوداني قد قطع شوطًا في ذلك) إلى جانب إقامة قرى دفاعية بوجود مواطنين ومزارعين سودانيين يدافعون عن أنفسهم، إلى جانب ممارستهم للزراعة بصورة مستمرة بصورة تمكنهم من السيطرة على هذه الأراضي.

2 – يظل أفـــضل المعـــــالجات بالنسبة إلى السودان هو إقرار الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات الموروثة على ما فيها من ملاحظات وقصور تفاديًا للمشاكل التي يثيرها عدم الإقرار.

خاتمة

إن مطامع إثيوبيا في أراضي شرق السودان توكده الوقائع على الأرض من خلال تسلل مواطنيها (مزارعين) إلى منطقة الفشقة وغيرها من المناطق الحدودية بعد خروج الإنكليز من السودان، وهو ما يدل على نيتها في ربط اتفاقية عام 1902 بالاستعمار البريطاني الذي كان قائمًا في السودان آنذاك، وقد بدأت تنكر التزاماتها تجاه هذه الاتفاقية من ذلك الحين، ولكن بالدليل لم تشهد أروقة منظمة الوحدة الأفريقية أو منظمة الأمم المتحدة أي شكوى أو اعتراض إثيوبي على هذه الاتفاقية لأي سبب من الأسباب أو أي شكوى تتهم فيها السودان بالاستيلاء على أرض إثيوبية. كما أن السودان ظل قبل وبعد الاستقلال يمارس سلطاته الإدارية على مناطق حدوده الشرقية بما فيها منطقة الفشقة إلى جانب إجراءات الانتخابات للمجالس البرلمانية والمحلية من دون أي اعتراض من إثيوبيا. كل ذلك يؤكد عدم وجود أي سند قانوني لدى إثيوبيا يمكنها أن تعتبره حجة لها في أي ادعاء بحق مشروع لها في أرض الفشقة أو غيرها من أراضي شرق السودان.

إن سيـــاسة الــــسودان القــائمة على حل المنازعات الحدودية عبر التفاوض وبالطرق السلمية استطاعت أن تحافظ ولسنين طويلة على الحدود الشرقية من دون حدوث مواجهات عسكرية فيها تضاعف من مشاكل السودان الذي يعاني عدم الاستقرار السياسي. غير أن هذه السياسة ولأسباب مقدرة جدًا كانت تؤدي في كل مرة إلى تكريس بقاء الأمر على ما هو عليه. وبالطبع استفادت من هذه السياسة الأنظمة الإثيوبية المتعاقبة التي ظلت تهدف من وراء ذلك في كل مرة كسب مســـــاحة جديدة من الأرض ومساحة جديدة من الزمن تمكنها من ادعاء الحق التاريخي في الأرض.

ختامًا إن علاقة إثيوبيا بالسودان يفترض أن تكون أكثر عمقًا من علاقاتها بأي دولة أخرى وبذات القدر بالنسبة إلى السودان، لأنها علاقة بين سكان المرتفعات والسهول، علاقة تاريخية أزلية ممتدة، ينبغى أن لا تفسدها المطامع السياسية من خلال التوسع على حساب الغير. وعلى هذا الأساس فإن الأهمية المتبادلة للدولتين السودان وإثيوبيا يجب أن تكون ذات طابع تعاوني تكاملي وليس مطمعًا عدائيًا.

 

قد يهمكم أيضاً  النزاع الحدودي الإثيوبي-السوداني… دوافع التصعيد ومآلاته

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأزمة_الحدودية_بين_السودان_وإثيوبيا #منطقة_الفشقة #الفشقة_في_السودان #الأزمة_السودانية_الإثيوبية #أزمة_الحدود_السودانية_الإثيوبية #شرق_السودان #المطامع_الإثيوبية_في_السودان