مقدمة:

في عام 1993 كنت طالباً سنة ثانية في التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، وكنت قد سجلت مادة تاريخ لبنان الحديث مع المؤرخ كمال صليبي الذي كان قد ذاع صيته كأحد المؤرخين النقديين. وأذكر أنه كان قد صدمنا حين شكك في الرواية التاريخية السائدة عن لبنان وعن حقيقة شخصية الأمير فخر الدين الثاني ملمِّحاً إلى أن الرواية التي تقول بأنه كان أميراً على لبنان بالوراثة أمر غير صحيح؛ وخصوصاً بعدما شكك بهوية جد الأمير فخر الدين الثاني، الذي تقول الرواية الرسمية إن اسمه كان فخر الدين الأول وإنه كان حاكماً على إمارة جبل لبنان. في السنة التالية أذكر أنني كنت قد سجلت مادة تاريخ الدولة العثمانية مع الدكتور عبد الرحيم أبو حسين الذي كان قد نشر كتاباً قيِّماً جداً حول نظام الالتزام الضريبي في الدولة العثمانية، مشيراً إلى أن فخر الدين المعني الثاني كان ملتزماً ضريبياً ولم يكن أميراً على إمارة اسمها إمارة جبل لبنان. هذا دفعني إلى أن أتحرى هذا الأمر عبر مراجعة الرواية الرسمية حول تاريخ جبل لبنان والبحث في المصادر الأساسية التي ارتبطت بتاريخ لبنان في القرن السادس عشر في محاولة لتحري أساس الرواية حول تاريخ الأمير فخر الدين المعني الأول وحقيقة لقائه بالسلطان سليم الأول سلطان بني عثمان الذي فتح البلاد العربية وضمّها إلى حكم الدولة العثمانية.

وللحقيقة فإن الحديث عن فخر الدين المعني الأول يرتبط بالدرجة الأولى بتدعيم صورة الأمير فخر الدين المعني الثاني بغية تمييزه عن بقية أقرانه من الأمراء اللبنانيين. فوفقاً للرواية التاريخية السائدة فإن الأمير فخر الدين المعني الثاني كان أميراً على إمارة جبل لبنان وقد ورث الإمارة عن والده قرقماز الذي ورثها بدوره عن والده الأمير فخر الدين المعني الأول الذي نال هذا الحق من السلطان سليم الأول بعد فوزه على المماليك في معركة مرج دابق في العام 1516.

أولاً: فخر الدين في أعمال المؤرخين

1 – عيسى إسكندر المعلوف

كان المؤرخ عيسى إسكندر المعلوف من أهم المؤرخين المعاصرين الذين ساهموا في ترسيخ الرواية السائدة عن الأمير فخر الدين المعني الثاني؛ إذ إنه كان أول لبناني يكتب سيرة الأمير الذاتية على نحوٍ كافٍ ووافٍ ناسباً إياه إلى الأمير فخر الدين الأول. وقد نشر المعلوف كتابه عن الأمير فخر الدين الثاني في عام 1935. ولهذا التاريخ دلالة كبيرة، إذ إنه ترافق مع عملية بناء الدولة – الأمة في لبنان في ظل الانتداب الفرنسي. وكان الجنرال غورو قد أعلن قيام دولة لبنان الكبير في أيلول/سبتمبر 1920 بعد ضم البقاع وعكار والجنوب وبيروت وطرابلس وصيدا إلى متصرفية جبل لبنان. وكانت عدة فئات تعارض قيام دولة لبنان الكبير وتطالب بالانضمام إلى سورية وتشكك في تاريخية الكيان اللبناني. وبذلك فإن التركيز على مركزية شخصية الأمير فخر الدين المعني الثاني كان الكيان اللبناني يعطيه أهمية خاصة؛ إذ إنه كان الأمير الوحيد في جبل لبنان الذي تمكن من مد نفوذه على الأراضي اللبنانية، إضافة إلى مناطق شاسعة من سورية وفلسطين والأردن المعاصرة. إلا أن المعاصرين للأمير فخر الدين المعني الثاني، مثل الشيخ أحمد الخالدي الصفدي وبعض الرحالة الإيطاليين، لم يكتبوا إلا عن المرحلة الممتدة من عام 1610 حتى عام 1623، وهي الحقبة التي شملت علاقات الأمير فخر الدين مع توسكانة وغيرها من المدن الإيطالية‏[1]. إلا أن أحداً ممن عاصروه لم يكتب عن الحقبة التي سبقت أو تلت تلك المرحلة.

قد يكون تركيز المؤرخين اللبنانيين، ومن ضمنهم المعلوف، على شخصية الأمير فخر الدين هو علاقاته مع توسكانة وتنسيقه معها لمجهود مشترك ضد الدولة العثمانية لإخراجها من بلاد الشام. وقد قدَّم الخوري بولس قرألي إسهاماً كبيراً في هذا الشأن، بحيث توجه في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى إيطاليا وزار توسكانة وعدداً آخر من المدن الإيطالية وجمع أرشيفاً قيماً عن مراسلات الأمير فخر الدين مع دوق توسكانة وغيرها من حكام المدن الإيطالية خلال النصف الأول من القرن السابع عشر ونشر كتاباً بعنوان فخر الدين المعني الثاني حاكم لبنان ودولة توسكانة، كما نشر كتاباً آخر عن الأمير فخر الدين المعني الثاني استند فيه إلى الأرشيف الذي جمعه من توسكانة، كذلك إلى عدد من المؤرخين، أبرزهم المعلوف الذي يتوافق معه كلياً حول تصويره الأمير فخر الدين؛ بينما يتميز كتابه بالرد على الرحالة الإيطاليين الذين انتقدوا الأمير فخر الدين المعني الثاني وهاجموه‏[2].

وبالعودة إلى المعلوف فإنه يعتمد على عدد كبير من المؤرخين الذين عاصروا الأمير فخر الدين المعني الثاني وسبقوه ولحقوه. ويذكر موقعة مرج دابق في العام 1516 بين السلطان سليم الأول العثماني والسلطان قانصوه الغوري المملوكي وما تلاها من هزيمة المماليك واحتلال العثمانيين لحلب ودمشق ومن ثم مصر. ويضيف أنه: «كان في مقدمة المقاتلين مع السلطان سليم الأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف والأمير جمال الدين التنوخي اليمني حاكم الغرب والأمير عساف التركماني حاكم كسروان وغيرهم من أمراء البر»‏[3].

ثم يذكر المعلوف أن السلطان سليم الأول حين وصل إلى دمشق استقدم إليه أمراء لبنان الذين حاربوا معه فذهبوا إليه ما عدا التنوخيين والقيسيين وكان رأس الذاهبين إليه الأمير فخر الدين المعني لا الأمير قرقماز كما ذكر البطرك الدويهي، كما أجمع المؤرخون‏[4]. ويثير هذا المقطع جدلاً في عدة نقاط. أولاً، إذا كان فخر الدين وغيره من الأمراء قد قاتلوا فعـلاً إلى جانب سليم الأول، لماذا انتظر هذا حتى وصل إلى دمشق ليلتقيهم بنفسه؟ ثانياً، إذا كان الأمير جمال الدين التنوخي قد قاتل إلى جانب السلطان سليم، فلماذا استثنى هذا السلطان الأمير جمال الدين التنوخي من الوفد الذي التقاه في دمشق؟ والأهم من ذلك من هم المؤرخون الذين اعتمد عليهم المعلوف لنفي رواية البطريرك الدويهي في أن أميراً اسمه قرقماز بن معن، لا أميراً هو فخر الدين، هو من التقى السلطان سليم، من دون ذكر مقاتلة الأمراء اللبنانيين إلى جانب العثمانيين؟

ويذكر المعلوف نص الخطبة التي يقول إن فخر الدين ألقاها بحضرة السلطان سليم ونصها:

«اللهم أدم دوام من اخترته لملكك وجعلته خليفة عهدك. وسلطته على عبادك وأرضك. وقلدته زمام سنتك وفرضك. ناصر الشريعة النيِّرة الغراء وقائد الأمة الطاهرة الظاهرة سيدنا وولي نعمتنا أمير المؤمنين،… إلخ»‏[5].

ووفقاً لرواية المعلوف فإن السلطان سليم سُر كثيراً بهذه الخطبة وثبَّت الأمير فخر الدين في حكم الشوف. وهذا يطرح عدة تساؤلات. أولاً، إذا عُدَّت الخطبة شديدة البلاغة فلماذا لم تصبح جزءاً من التراث الأدبي الذي يدرَّس في فن الخطبة كما هو الحال مع خطبة الجهاد للإمام علي أو خطب الحجاج بن يوسف الثقفي أو زياد بن أبيه؟ ثانياً، كيف للسلطان سليم الذي لم يكن يتقن اللغة العربية أن يطرب لخطبة فصيحة؟ وحتى إذا قام مترجم بترجمة نص الخطبة، هل قام بترجمتها بنفس الدقة والفصاحة وهو الأمر غير الهيِّن؟ وثالثاً، يذكر المعلوف أن السلطان سليم ثبت الأمير فخر الدين على الشوف وهذا بحد ذاته ينفي أن يكون في ذلك الوقت إمارة اسمها إمارة جبل لبنان وأميرها فخر الدين المعني الأول.

ثم يذكر المعلوف نسب المعنيين فيقول إنه في سنة 1175 ميلادية مات الأمير يونس بن معن فخلفه ولده الأمير يوسف الذي مات عن ولده الأمير سيف الدين الذي خلفه الأمير عبد الله ومن بعده الأمير علي فالأمير محمد فسعد الدين فعثمان الذي ولد الأمير أحمد ومن ثم ملحم، وكان كل منهم وحيداً لوالده يخلفه في الحكم‏[6]. ويضيف المعلوف أن آخرهم الأمير ملحم ابن الأمير أحمد ترك ولدين هما الأمير يوسف والأمير عثمان، وأما يوسف فكان عقيماً وأما عثمان فتوفي في العام 1507 فخلفه ولده الأمير فخر الدين الأول الذي توفي في العام 1544 فخلفه ابنه قرقماز والد فخر الدين المعني الثاني‏[7].

هنا يطرح السؤال، على من استند المعلوف في روايته عن فخر الدين المعني الأول وربطه بفخر الدين المعني الثاني؟ وما هي الأسباب التي حدته على الاستناد إلى من استند إليه ونقض رواية البطريرك الدويهي؟

يلاحظ هنا تطابق رواية المؤرخ المعلوف مع رواية الأمير حيدر الشهابي، الذي كان كتاب التاريخ الذي ألفه قد طبع في القاهرة في عام 1900، وهو ما يذكره المعلوف في حواشيه في الصفحة 25 وفي عدد آخر كبير من الصفحات، والذي كان أسد رستم وفؤاد إفرام البستاني قد حققا الأجزاء المرتبطة بتاريخ الأمراء الشهابيين وصولاً إلى الأمير بشير الثاني.

2 – الأمير حيدر الشهابي

هنا لا بد من مراجعة التاريخ الذي كتبه الأمير حيدر الشهابي بطريقة نقدية عبر التعريف به وبدوره وفي أي ظروف كتب تاريخه. هو حيدر بن أحمد الشهابي وقد ولد في العام 1761 ووالده هو الأمير أحمد بن حيدر الشهابي وقد حكم إمارة جبل لبنان بالشراكة مع أخيه منصور، وهما ولدا الأمير حيدر الشهابي ابن ابنة الأمير أحمد المعني الذي انتهت بموته السلالة المعنية وخلفته السلالة الشهابية. وقد كتب الأمير حيدر بن أحمد الشهابي كتاب التاريخ في الحقبة الممتدة حتى العام 1821، علماً أنه كان قد دخل في خدمة ابن عمه الأمير بشير الثاني الشهابي وبالتالي فإن هنالك عدة ملاحظات ترتبط بالطريقة التي قارب بها الأمير حيدر كتابته التاريخ. أولاً، لقد كتب الشهابي تاريخه في ظل حكم ابن عمه بشير الذي كان يواجه تحديات من جانب باقي الإقطاع ومن بعض الولاة العثمانيين، الأمر الذي أدى إلى عزله مراراً عن ولايته ودفعه إلى اعتماد المناورات والدسائس في سبيل استعادة حكمه. ثانياً، بلغ الأمير بشير درجة من القوة لم يسبقه إليها إلا الأمير فخر الدين الثاني، وبالتالي فلقد كان هنالك إسقاط من قبل المؤرخ الشهابي لإمارة ابن عمه على التاريخ السابق فقام بإسقاطه على حالة الأمير فخر الدين المعني الثاني وحتى الأمير فخر الدين المعني الأول. ثالثاً، كان المؤرخ الشهابي حفيداً للأمير حيدر الشهابي الذي كان طفـلاً حين توفي جده الأمير أحمد المعني، وبالتالي فقد اختار المقاطعجية في الجبل بن أخت الأمير أحمد بن معن بشير شهاب ليكون أميراً، إلا أن والي صيدا تدخل لتسمية الطفل حيدر على أن يكون بشير وصياً إلى حين بلوغ حيدر سن الرشد. وقد توفي بشير الأول بطريقة غامضة ما يطرح تساؤلات حول الطريقة التي سمي بها حيدر أميراً خلفاً لجده المعني وطبيعة الصراعات داخل الأسرة الشهابية التي ميّزت حكم آل شهاب طوال قرن ونصف القرن من الزمن وكان الصراع دموياً في كثير من الأحيان.

ويذكر الشهابي أنه عندما وقعت معركة مرج دابق وقف فخر الدين أمير الشوف موقف المترقب، وبعدما انقلب جانبردي الغزالي وخير بك إلى جانب السلطان سليم انقلب معهما الأمير فخر الدين فانهزم المماليك وانتصر العثمانيون‏[8]. وللحقيقة فإن هنالك ثغراً في هذه الرواية، إذ إن جانبردي الغزالي لم ينقلب على المماليك في معركة مرج دابق بل انضم إلى السلطان سليم بعد احتلال هذا الأخير لمصر في عام 1517. ويشير المؤرخ ابن أياس إلى أن جانبردي الغزالي قاتل العثمانيين في غزة أثناء توجههم إلى القاهرة وانهزم أمامهم ثم قاتلهم في معركة الريدانية‏[9]. إضافة إلى أن رواية الأمير حيدر نفسه تقول بأن اللقاء بين أمراء الغرب والسلطان سليم جرى بالشام. ولو أن فخر الدين مال إليه خلال معركة مرج دابق لكان التقاه في حلب وشكره على فضله. لكن لماذا يهتم الشهابي بإظهار فضل فخر الدين على العثمانيين؟ لا شك في أن هذا يأتي في سياق تمييزه عن الآخرين، إذ إنه يشير إلى لقاء فخر الدين مع السلطان سليم وإلقائه خطبته المذكورة آنفاً وأن السلطان سر بها كثيراً وثبته على إمارته. وهنا يضيف الشدياق أن السلطان سليم أطلق عليه لقب سلطان البر وحين أراد أمراء لبنانيون آخرون الدخول على السلطان رفض‏[10]. وفي هذا رغبة من الشهابي في تمييز فخر الدين من غيره من أمراء الغرب وإعطائه الأولوية عليهم. لكن لماذا رغب الشهابي في تمييز فخر الدين المعني الأول؟ الجواب بسيط، ففي إعطاء حكم فخر الدين المعني الأول مشروعية، يعطى حكم حفيده فخر الدين المعني الثاني مشروعية، وعند ذلك يصبح حكم آل شهاب مشروعاً بالاستناد إلى الرواية التي ينقلها الشهابي نفسه عن انتقال الحكم إلى الشهابيين. ويقول إنه في عام 1109 هجري الموافق 1697 ميلادي توفي الأمير أحمد المعني دون عقب ذكر فتنادى أعيان الجبل واختاروا أمير راشيا بشير خلفاً له لأنه كان ابن اخت الأمير أحمد المعني‏[11].

إلا أن الشهابي يضيف أن والي صيدا مصطفى باشا الذي كان قد أبلغ الأستانة بتولية بشير شهاب أميراً على الجبل، نقل بعدها إلى مصر وحل محله أرسلان باشا المطرجي، فحضر من الدولة العلية فرمان وفيه أن الأمير حيدر الشهابي هو الذي يجب أن يكون أميراً على الجبل نظراً إلى أنه أحق بالوراثة كونه ابن بنت الأمير أحمد معن. ويضيف الشهابي أن صدور الفرمان كان بواسطة الأمير حسين بن الأمير فخر الدين المعني الذي كان يعيش في الأستانة منذ نفيه ووالده وأخوته من الجبل‏[12]. وبهذا يكون الأمير حيدر الشهابي قد ثبَّت شرعية حكم جده على حساب بشير شهاب، وهو ما قد يكون له أثر في تفضيل شرعية حكم بشير الثاني على حساب منافسيه من داخل الأسرة، وخصوصاً أن المؤرخ الشهابي كان يميل إلى بشير الثاني. وينقل المعلوف هذه الرواية حرفياً عن الأمير الشهابي‏[13]، من دون نقد أو تدقيق. وفقاً للمعلوف ولد الأمير حسين في عام 1607، وبالتالي فإنه لو عمَّر حتى عام 1697 لكان عمره تسعين عاماً. هنا تطرح عدة تساؤلات. أولاً، إذا كان الأمير حسين قد ولد في العام 1607 فاحتمال أن يبقى حياً حتى التسعين من عمره هو احتمال ضعيف، وخصوصاً في تلك العصور حين كان معدل الأعمار لا يتجاوز أربعين عاماً، وكان قلائل هم الذين يبلغون السبعين أو الثمانين من العمر، فكيف الحال لمن يمكن أن يبلغوا التسعين من عمرهم. ثانياً، حتى لو بلغ التسعين من عمره هل كان الأمير حسين ابن معن بكامل قواه العقلية والبدنية حتى يتدخل بتفضيل والٍ على آخر في جبل لبنان؟ ثالثاً، إذا كان الأمير حسين حياً في العام 1697 كيف لم يرد ذكر عن تواصله مع أمراء الجبل قبل ذلك التاريخ؟ هذه التساؤلات تثبت أن الأمير حيدر الشهابي ركَّب تاريخاً بناءً على أحداث غير متماسكة بغية إعطاء مشروعية لحكم فرع الأمير حيدر من آل شهاب وإعطاء مشروعية لحكم الأمير بشير الشهابي في مواجهة منافسيه، وأن المعلوف وغيره من المؤرخين الذين سبقوه مثل الشيخ طنوس الشدياق في كتاب تاريخ الأعيان‏[14]، قد أخذوا عنه بالدرجة الأولى من دون نقد أو تحليل للمادة التي قدمها الأمير المؤرخ. وقد تواتر المؤرخون الذين أتوا بعد المعلوف على نقل الرواية التي قدمها هو وقبله الشيخ طنوس الشدياق نقـلاً عن الأمير حيدر الشهابي، فكان كتاب ميشال شبلي عن الأمير فخر الدين المعني الثاني‏[15]، وتاريخ لبنان لفيليب حتي‏[16]، وغيره من كتب التاريخ التي كررت رواية الشهابي وبنت عليه مقاربتها لتاريخ لبنان.

3 – إهمال الدويهي وابن سباط!

في بناء الرواية المرتبطة بفخر الدين المعني الأول يُطرح السؤال: لماذا اعتمد المعلوف وغير المعلوف من مؤرخي القرن التاسع عشر والقرن العشرين على الأمير حيدر الشهابي وأهملوا المؤرخين الذين سبقوه وأبرزهم البطريرك أسطفان الدويهي الذي عاش خلال القرن السابع عشر وسكن حقبة في بلدة مجدل المعوش حيث كان مقر الأمير أحمد ابن معن آخر أمراء المعنيين، أو المؤرخ ابن سباط الذي عاش خلال المرحلة الانتقالية لجبل لبنان من الحكم المملوكي إلى الحكم العثماني؟

الجدير ذكره أن البطريرك أسطفان الدويهي ولد في إهدن عام 1630 وفقد والده وهو في سن الثالثة، وقد درس في مدرسة القرية قبل أن يرسله البطريرك جرجس عميرة إلى روما لإكمال دراسته في المدرسة المارونية التي كانت قد تأسست من جانب البابا في عام 1585. وقد عاد الدويهي إلى لبنان في عام 1655 وتدرج في السلك الكهنوتي حتى أصبح أسقفاً عن قبرص في عام 1668 وزائراً بطريركياً عن مناطق الجبة والزاوية وعكار. وفي العام 1670 أصبح الدويهي بطريركاً للموارنة خلفاً للبطريرك المتوفي جرجس السبعلي. وبقي في هذا المنصب حتى وفاته في عام 1704. وما ميز حياته هو أنه أقام خمس سنوات في دير مار مارون في مجدل المعوش في الشوف من العام 1680 إلى العام 1685، وبالتالي يكون قد عاصر وعاش بالقرب من الأميرين ملحم المعني وابنه أحمد، إذ كانت مجدل المعوش هي قاعدة حكمهما لمنطقة الشوف. وبالتالي فإن البطريرك الدويهي كان أقرب إلى المعنيين وعاصر آخر حكامهم، وبالتالي كان أدرى من الشهابي بتاريخ هذه الأسرة التي كان من أبرز شخصياتها فخر الدين المعني الثاني الذي نفي من لبنان في عام 1633 حين كان الدويهي لا يزال طفـلاً. وقد ألف الدويهي عدداً كبيراً من المؤلفات الدينية والتاريخية ومنها تاريخ الأزمنة وتاريخ الطائفة المارونية.

ويذكر البطريرك أسطفان الدويهي في كتابه تاريخ الأزمنة أنه في عام 1505 هاجم نايب الشام ومعه عسكر جوان بك الإفرنجي داودار البقاع، فقتل الأخير عند جسر كامد اللوز ومعه 300 من عسكره، ثم جمع نائب دمشق عسكره وبنيته التوجه بنفسه إلى البقاع على رأس حملة تأديبية، إلا أنه توفي قبل بدئه الحملة، فتم تعيين سيباي الأشرفي بنيابة دمشق، فما لبث أن ألقى القبض على الأمير فخر الدين عثمان بن معن، أمير الأشواف من أعمال صيدا والذي توفي لاحقاً‏[17]. ويشير الدويهي إلى أنه في عام 1510 حصل ظلم شديد بحق الناس، ما دفع بكثير من الموارنة إلى التوجه إلى قبرص، إلا أنهم عوملوا بقسوة هناك من جانب حكام الجزيرة المسيحيين، فتدخل البطريرك الماروني وأرسل رسالة إلى البابا ليون العاشر حتى يتوسط للموارنة لدى البندقية التي كانت تملك جزيرة قبرص‏[18]. ويضيف الدويهي أنه في عام 1511 توفي الأمير يونس بن معن، من دون ذكر ما إذا كان يونس هذا هو ابن فخر الدين عثمان‏[19]. ثم يشير إلى بعثة أرسلها البطريرك الماروني إلى روما للقاء البابا ليون العاشر وشرح وضع الموارنة وما عانوه من ظلم من جراء تمسكهم بأهداب الدين المسيحي القويم‏[20]. ويشير إلى أن هذه البعثة تكررت في عام 1515 وفيها اطلع البابا على ما عاناه الموارنة «على يد أصحاب البدع»، ما جعل «قلب البابا يمتلىء فرحاً» ويطمئن إلى أن وضع المسيحيين الشرقيين بخير‏[21]. بعد ذلك يتحدث الدويهي عن معركة مرج دابق وانتصار السلطان سليم الأول العثماني على السلطان قانصوه الغوري سلطان المماليك في مصر وما تلاه من احتلاله لحلب وحماه وحمص والشام وصولاً إلى احتلاله مصر. ثم يضيف قائلاً إنه:

«على إثر الانتصارات التي حققها السلطان سليم منذ معركة مرج دابق، واتساع نفوذه في مصر وبلاد الشام، هبّ أمراء المناطق إلى التقرب منه وإعلان ولائهم له، ومنهم أمراء لبنان، فولى الأمير قرقماز ابن يوسف ابن معن على بلاد الشوف، والأمير جمال الدين اليمني على بلاد الغرب، والأمير عساف على كسروان وبلاد جبيل. أما أمراء الغرب التنوخيون فلم يجرؤوا على مقابلة السلطان لأنهم كانوا من حزب الشراكسة»‏[22].

إذاً بحسب الدويهي فإن الأمير المعني الذي التقى السلطان سليم هو الأمير قرقماز المعني لا فخر الدين، وهو لا يشير إلى صلة قرابة مع الأمير يونس الذي توفي شاباً في عام 1511 أو الأمير فخر الدين عثمان الذي توفي في عام 1506. هنا نلاحظ أن ما ذكره البطريرك الدويهي يتطابق مع ما ذكره المؤرخ ابن سباط في شهادته عن تلك المرحلة ما يدل على أن الدويهي استند إلى ابن سباط في بنائه للأحداث. إضافة إلى ذلك، فالدويهي يشير إلى أن الامير فخر الدين المعني الثاني هو ابن الامير قرقماز الذي مات اختناقاً في عام 1585 نتيجة الحملة العثمانية على جبل لبنان، لكنه لا يذكر ما إذا كان قرقماز هذا هو نفسه قرقماز الذي التقى السلطان سليم في عام 1516 وخصوصاً أن سبعة عقود تفصل ما بين الحدثين، والأرجح أن يكون قرقماز أبو فخر الدين المعني الثاني والمتوفي في عام 1585 غير قرقماز الذي التقى في عام 1516 السلطان سليم وفقاً للبطريرك الدويهي.

4 – ابن سباط

بناءً على ما تقدم ينبغي العودة إلى تاريخ المؤرخ حمزة بن أحمد بن سباط وتحري ما ورد فيه، وخصوصاً أن ابن سباط كان من الأمراء التنوخيين أقرباء المعنيين، وبالتالي فهو أعلم بأحوالهم، إضافة إلى كونه عاصرهم وعاصر معركة مرج دابق، وبالتالي فهو أقدر من غيره على أن يكون قد نقل الأحداث التي جرت وانتقال بلاد الشام، ومن ضمنها جبل لبنان، من الحكم المملوكي إلى الحكم العثماني. ووفقاً لابن سباط فإنه يذكر عدداً من الأمراء الذين تلقبوا بلقب فخر الدين إلى أن يصل إلى الأمير صالح بن الحسين الكبير ومن أولاده الأمير بدر الدين موسى بن صالح بن الحسين، وهو الرابع من أولاده، أما ابنه الخامس فهو الأمير يحيى بن صالح وهو والد الأمير صالح بن يحيى الذي كتب كتاب تاريخ بيروت الشهير، وله أخ أكبر هو الأمير فخر الدين عثمان‏[23]. ويذكر ابن سباط أن من أولاد الأمير فخر الدين عثمان الأمير سيف الدين يحيى وكان يبلغ من العمر سبع سنوات حين توفي أبوه الأمير فخر الدين‏[24].

وفي مقطع آخر يذكر ابن سباط أنه في ذي الحجة من عام 911 هجري الموافق أيار/مايو 1506 ميلادي تولى الأمير سيباي الأشرفي نيابة دمشق وما لبث أن ألقى القبض على الأمير فخر الدين عثمان بن معن‏[25]. ثم يذكر ابن سباط أنه في ربيع الآخر من عام 912 هجري الموافق أيلول/سبتمبر 1506 ميلادي توفي الأمير فخر الدين عثمان بن معن أمير الأشواف من أعمال صيدا‏[26]. وقد يكون الأمير فخر الدين عثمان قد توفي في السجن، وهو ما لا يذكره ابن سباط، إلا أنه لا يذكر طريقة دفنه كما يقوم بذلك في موقع آخر حين يتحدث عن الأمير يونس بن معن.

بعد ذلك يتحدث ابن سباط عن وفاة الأمير يونس بن معن أمير الأشواف في عام 917 هجري الموافق 1511 ميلادي، ويقول إن يوم دفنه كان يوماً عظيماً لأنه «كان شاباً ذات حظوة وسطوة ووقار»‏[27]. ولا يذكر ابن سباط ما إذا كان يونس هذا هو ابن فخر الدين عثمان بن معن، إلا أن ذلك قد يكون محتمـلاً، وخصوصاً أنه يقول إن يونس هذا قد توفي وهو شاب. ثم يقفز ابن سباط إلى عام 922 هجري الموافق 1516 ميلادي ويتحدث عن معركة مرج دابق فيقول:

«خرج الملك الأشرف قانصوه الغوري بخاصة عسكره والقواد والجند والخليفة والقضاة الأكابر، ووصل إلى دمشق ولم ينزل في القلعة، ثم توجه إلى حلب ونزل بمرج دابق لما سمع أن الملك المظفر سليم شاه ابن عثمان ملك الروم تحرك نحو الأطراف، والظاهر أنه قاصد ديار الشرق ومعاملة إسماعيل شاه ملك المشرق، فظهر الأشرف خاصة العسكر، ولم يجمع عساكره، وأنه يسعى في الصلح بين الممالك، ولم يكن في نيته حرب، وأنه يكاتب ملك الشرق الصوفي»‏[28].

ثم يصف ابن سباط معركة مرج دابق وكيف أغمي على السلطان قانصوه الغوري وسقط عن حصانه فانكسر عسكره وقتل نايب دمشق سيباي الأشرفي ونايب طرابلس ونايب صفد، وغيرهم. وتملك السلطان العثماني سليم شاه حلب وقلعتها وحماة وحمص ودمشق بلا حرب ولا قتال‏[29]. ويواصل ابن سباط وصفه لحملة السلطان سليم لاحتلال مصر وكيف تم له ذلك‏[30]. ثم يذكر ابن سباط كيف ولى السلطان سليم الأمير خير بك حكم الديار المصرية وولى جانبردي الغزالي ولاية الشام وصفد وغزة والقدس والكرك‏[31]. ويصف ابن سباط السلطان سليم بأنه «ملك الملك المظفر سليم شاه ملك البرين والبحرين والحرمين الشريفين وديار ربيعة وغيرها»‏[32]. وهو لا يتحدث عن أي لقاء تم بين الأمراء في الشوف والغرب والسلطان سليم ولا عن خطاب ألقاه أمير اسمه فخر الدين بحضرة السلطان سليم كان من نتيجته إغداق هذا الأخير لقب سلطان البر عليه. ولو حدث ذلك لكان ابن سباط أول من ذكر ذلك، وخصوصاً أنه من الأمراء التنوخيين الذين يمتون بصلة لآل معن. بل إن المعنيين قد يكونون فرعاً من التنوخيين.

5 – ابن أياس وابن يحيى وابن القلاعي

وبما أن روايتَي كل من البطريرك الدويهي وابن سباط لم تشيرا إلى وجود أمير اسمه فخر الدين قاتل إلى جانب السلطان سليم والتقاه وألقى خطبة عصماء كما يقول الشهابي والشدياق والمعلوف، فلقد تم تحري مؤرخ آخر عاصر الأحداث، وهو المؤرخ المصري ابن أياس. ويقول ابن أياس إنه بعد فوز السلطان سليم بمعركة الريدانية خطبت الخطبة باسمه وتمت ترجمتها له ونصها كما يلي:

«وانصر اللهم السلطان ابن السلطان مالك البرين والبحرين وكاسر الجيشين وسلطان العراقين الملك المظفر سليم شاه اللهم انصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبيناً يا مالك الدنيا والآخرة يا رب العالمين»‏[33].

وهو يذكر أحد الأمراء الجراكسة فخر الدين بن عوض الذي كان دخل بخدمة خير بك الذي ولّاه السلطان سليم نيابة مصر بعد احتلالها، ولا يذكر أن فخر الدين هذا من الشوف أو أنه التقى السلطان سليم‏[34]. كما يذكر تولية سيباي الأشرفي نيابة دمشق بعد ثورة على حاكمها السابق من دون ذكر فخر الدين عثمان أو أي أمير معني آخر‏[35]. كما أنه لا يذكر واقعة تشير من قريب أو بعيد إلى لقاء بين السلطان سليم وأمراء من جبل لبنان.

إضافة إلى ذلك، فبعد مراجعة لتاريخ المؤرخ صالح بن يحيى صاحب تاريخ بيروت، لم يرد ذكر لأي أمير اسمه فخر الدين المعني، علماً أن تاريخ بيروت ينتهي في أواخر القرن الخامس عشر ولا يشمل الفترة التي شهدت الصراع العثماني – المملوكي‏[36]. كذلك فإن زجليات ابن القلاعي لا تشير إلى أحداث عام 1516، وخصوصاً أنه توفي قبيل حصول الأحداث في قبرص‏[37].

6 – الملاح ونقد الرواية السائدة

بناء على ما تقدم نجد تناقضاً كبيراً بين الرواية الرسمية التي اعتمدت في تاريخ لبنان والتي ترى أن فخر الدين المعني الأول هو الجد المباشر للأمير فخر الدين المعني الثاني وفقاً للشهابي وكل من نقل عنه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وبين روايات المؤرخين الذين كانوا أقرب إلى الحدث ورووا أحداث القرنين السادس عشر والسابع عشر والذين غيِّبت شهادتهم من دون أي مبرر منطقي من جانب من اعتمدوا الرواية الرسمية. والغريب في ذلك أن كل من أرَّخوا لتاريخ لبنان اعتمدوا هذه الرواية واعتبروها من المسلّمات من دون أي نقد أو تجريح حتى قام المؤرخ كمال صليبي والمؤرخ عبد الرحيم أبو حسين بإلقاء ظلال الشك حول الحقيقة التاريخية لشخصية فخر الدين المعني الأول. إلا أن أحداً منهما لم يقم بدراسة مفصلة ومستقلة حول من كان فخر الدين المعني الأول، حتى قام عبد الله الملاح بإجراء بحث حول هذا الموضوع ونشره في كتيب في عام 2004. إلا أن هذا الكتيب لم يجد رواجاً كبيراً. ويحلل الملاح في كتيبه، الذي لا يتجاوز 55 صفحة من الحجم الصغير، كتب المؤرخين الذين تناولوا شخصية فخر الدين المعني الأول. وينتقد الملاح كـلاً من الأمير حيدر الشهابي والشدياق والمعلوف ويشير إلى بعض الوقائع التي تتناقض مع الواقع، مثل نسب فخر الدين المعني الثاني واستحالة أن يكون فخر الدين المعني الأول الذي توفي في عام 1542 جداً لفخر الدين المعني الثاني الذي ولد في عام 1572‏[38]. ثم يذكر الملاح فخر الدين المعني الأول كما ورد في تاريخ الأزمنة على أنه فخر الدين عثمان المتوفي في عام 1506‏[39]. ثم ينتقل إلى ذكر فخر الدين كما ورد في الشهابي وكيف حمى آل سيفا في العام 1528 ثم كيف توفي في العام 1542‏[40]. وينتقل بعدها إلى ذكر فخر الدين كما ورد في كتاب الأعيان للشدياق‏[41]، قبل أن ينتقل إلى استنتاجاته بنقض ما أورده الشهابي بالاستناد إلى البطريرك الدويهي الذي يقارنه بابن سباط ويستنتج أن الدويهي أخذ عنه‏[42]. ويذكر أن فخر الدين المعني الثاني حين حضر أمام السلطان مراد الرابع الذي أراد معاقبته، لم يذكر له أنه ينتسب إلى فخر الدين المعني الأول الذي كان له فضل على السلطان سليم جد مراد الرابع كما ذكر.

لقد مثّلت دراسة الملاح أول محاولة للكشف عن الغموض الذي يكتنف شخصية فخر الدين المعني الأول. إلا أن هنالك ثغراً في مقاربة الملاح. أولاً هو لم يقم بالاستفاضة في مراجعة كتاب ابن سباط واكتفى بمراجعة الحقبة المرتبطة بأحداث العقد الذي سبق عام 1516 ومعركة مرج دابق وما تلاها. وقد اعتمد في نقده لرواية فخر الدين المعني الأول على ثلاثة مؤرخين هم الدويهي والشدياق والشهابي. إضافة إلى ذلك، فهو لم يحاول معرفة السبب الذي حدا الشهابي على اعتبار أن فخر الدين شخصية كانت حاضرة في التاريخ وأنه هو الذي التقى السلطان سليم لكنه لم يذكر السبب الذي حدا الشهابي على القيام بذلك والذي جعله يهمل رواية الدويهي أن قرقماز هو الذي التقى السلطان سليم. كذلك، فهو لم يعتبر أن الشدياق قد أخذ عن الشهابي وبالتالي فإنه بنقد الشهابي ينقد الشدياق أيضاً. أضف أن الملّاح كان يمكنه أن يعزز دراسته بمراجعة ابن أياس على نحوٍ كافٍ ووافٍ، إلا أننا نجده يذكره لماماً كما يذكر غيره من المؤرخين عرضاً. لكن تبقى دراسته ذات قيمة كبيرة، وخصوصاً أنها كانت الدراسة الأولى التي أجريت حول شخصية الأمير فخر الدين الأول، الذي لم يذكر في السابق إلا لتسنيد الرواية السائدة عن فخر الدين المعني الثاني وكأنه مجرد ظل له.

ولو تعمَّق الملاح في مراجعة ابن سباط على الأقل في ذكره أحداث القرن الخامس عشر لكان وجد تعدداً في الأشخاص الذين أُطلق عليهم اسم فخر الدين. إضافة إلى ذلك فإن ابن سباط يذكر الاسم مقترناً باسم آخر كفخر الدين عثمان، أو، على سبيل المثال، حين يتحدث عن أحد الأمراء واسمه زين الدين صالح وأولاده، نجده يذكر أن من أولاد زين الدين صالح بن الحسين الأمير علاي الدين علي بن صالح بن الحسين‏[43]. إذاً نرى أنه قال إن الأمير علاي الدين علي هو ابن صالح وليس ابن زين الدين. وبالتالي فإن الاسم العلم للأمير زين الدين صالح بن الحسين هو صالح، وما زين الدين إلا لقب درج على تبنيه أو اعتماده الأمراء الإقطاعيون الذين يتولون مناصب من الدولة. وبالتالي يكون اسم ابن صالح هو علي وليس علاي الدين. لكننا نجد في نفس الصفحة أن ابن سباط يعود وينسب ابن أمير آخر إلى أبيه معتمداً ما يفترض أن يكون لقباً مضافاً إليه اسم العلم مثل الأمير بدر الدين حسن بن علاي الدين علي بن صالح‏[44]. لكن هذا الالتباس يتوضح في مثال آخر حين يقوم ابن سباط بالتحدث عن الأمير فخر الدين عثمان، أخي الأمير صالح بن يحيى صاحب كتاب بيروت فيقول إن فخر الدين عثمان أولد الأمير يحيى بن عثمان بن يحيى بن صالح وتوفي أبوه وله من العمر سبع سنوات‏[45]. وبالتالي نجده يقول إن يحيى هذا هو ابن عثمان وليس ابن فخر الدين، ما يدل على أن فخر الدين هو لقب. وما قد يزيل الغموض هو المقارنة مع حال السلطان صلاح الدين الأيوبي الشهير. فلقد كان اسمه الحقيقي هو يوسف أما صلاح الدين فلقد كان اللقب الذي اشتهر به بعدما أصبح سلطاناً ذائع الصيت على مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاء من السودان وليبيا والعراق. بناء على ذلك هل كان فخر الدين لقباً للأمير الذي قابل السلطان سليم وهو الأمير قرقماز؟

ثانياً: بين فخر الدين الأول وفخر الدين الثاني

بحصيلة دراستنا التي أجريناها، نستنتج أن المؤرخين الذين عاصروا أحداث القرن السادس عشر ومعركة مرج دابق، كابن سباط والقلاعي وابن أياس، لم يذكروا شيئاً عن أمير اسمه فخر الدين المعني أمير الشوف ولقائه السلطان سليم قبيل معركة مرج دابق أو خلالها أو بعدها. كذلك الأمر مع المؤرخ الدويهي، الذي عايش آخر الأمراء المعنيين في النصف الثاني من القرن السابع عشر وكان أقرب إلى أحداث القرن السادس عشر من الشهابي الذي كتب تاريخه في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لذا، كان من الأجدر الاعتماد على الدويهي في نقل الأحداث، وخصوصاً أنه نقل عن ابن سباط الذي عايش أحداث القرن السادس عشر. إضافة إلى ذلك فإن الشهابي كان يهمه إعطاء مشروعية لحكم أسرته وخصوصاً أنها ترتبط بالمعنيين بالدم؛ وبالتالي فإن مشروعية الحكم الشهابي تعتبر امتداداً لمشروعية الحكم المعني. لذلك كان من مصلحة الشهابي، الذي كتب خلال القرن التاسع عشر، في وقت كان ابن عمه حاكم الجبل الأمير بشير الثاني يعتمد في تعيينه على الإرادة السلطانية العلية، أن يستمد شرعية هذا الحكم من العثمانيين عبر اختلاق قصة لقاء فخر الدين المعني الأول مع السلطان سليم وقتاله إلى جانبه.

لكن لماذا كان على هذه الشخصية المختلقة أن يكون اسمها فخر الدين؟ الأرجح أن يستند ذلك إلى محورية شخصية الأمير المعني الثاني الذي حكم الجبل في أوائل القرن السابع عشر والذي انتقل حكم الجبل منه إلى ابن أخيه فالأمير أحمد المعني الذي خلفه ابن ابنته الأمير حيدر الشهابي. وكان كثر ممن عاصروا الأمير فخر الدين الثاني وكتبوا عنه، مثل الشيخ أحمد بن محمد الخالدي الصفدي وعدد آخر من الرحالة الإيطاليين الذين وفدوا إلى جبل لبنان نتيجة العلاقة التجارية التي جمعت بينه وبين المدن الإيطالية. والملاحظ أن جميع من عاصروه كتبوا عن المرحلة بعد العام 1610 إلى العام 1624 حين كان الصفدي مستشاراً للأمير فخر الدين وحين كان المعني قد أقام علاقات تجارية مع توسكانا وغيرها من المدن الإيطالية، ما حفز الرحالة الإيطاليين على التعرف إلى هذا الأمير وبلاده. لكن فخر الدين كان قد بدأ حكمه قبل ذلك التاريخ بعشرين عاماً إلا أنها تبقى غامضة في كتابات المعاصرين له. فيذكر الصفدي فقط أن الأمير هو فخر الدين بن قرقماز‏[46]. ولا يذكر الصفدي أن هذا الأمير هو الثاني. كذلك هو يذكره على أنه كان والياً على صفد لا أميراً على جبل لبنان‏[47]. وإذا كان فخر الدين هو لقب، وهو الأرجح على عادة الذين كانوا يتولون مناصب عسكرية وحكومية، فماذا كان اسمه الأول الذي أطلقه عليه أهله عند ميلاده؟ لم يذكر الصفدي في كتابه عن الأمير فخر الدين المعني الثاني إلا أن اسمه فخر الدين بن قرقماز. وكان الأمير يعاني شكوك الدولة العثمانية تجاهه، وخصوصاً أنه كان يتعاون مع دولة توسكانا الإيطالية ومع الإسبان ضد الدولة العثمانية. ويتحدث الدويهي عن أن فخر الدين هو ابن قرقماز، وقد يكون بنى ذلك على رواية الصفدي، كما يتحدث عن أمير اسمه قرقماز هو الذي التقى السلطان سليم في عام 1516، لكنه لا يذكر أن قرقماز هذا هو نفسه قرقماز أبو فخر الدين الثاني الذي مات في عام 1585، وهذا احتمال ضعيف للفارق الزمني الكبير بين أحداث عام 1516 و1585. وقد يكون الشهابي، وهو يحاول بناء مشروعية الحكم الشهابي بالاستناد إلى مشروعية الحكم المعني قد بنى على رواية الدويهي أن فخر الدين هو ابن قرقماز، وأن أميراً معنياً التقى السلطان سليم بناء على ذكر الدويهي أن أميراً اسمه قرقماز بن معن التقى السلطان سليم. وبما أن الفارق الزمني بين الحدثين كبير فلقد رأى الشهابي أن من التقى السلطان سليم يجب أن يكون جد الأمير فخر الدين المعني الثاني، وبما أنه على عادة أهل المنطقة العربية بتسمية البكر على اسم جده، وبما أن المعني الثاني لم يُعرف إلا باسم فخر الدين، فقد يكون الشهابي اجتهد من عنده واعتبر أن الجد يجب أن يكون فخر الدين، وخصوصاً أن الشهابي نفسه لم يكن مؤرخاً ولم يتدرب على أساليب النقل العملي السليم للأحداث. وقد يكون استفاد من حديث ابن سباط والدويهي عن أمير اسمه فخر الدين عثمان من دون الالتفات إلى حقيقة أنهما ذكرا أن فخر الدين عثمان هذا مات في عام 1506 وبالتالي فلم يمكن أن يلتقي السلطان سليم في عام 1516.

خلاصة

إذاً، مصلحة الشهابي جلية في خلق قصة فخر الدين المعني الأول كوسيلة لتشريع حكم المعني الثاني وبالنتيجة الأسرة المعنية وخليفتها الأسرة الشهابية. ومن الطبيعي أيضاً أن ينقل الشدياق وغيره من المؤرخين المعاصرين للشهابي عنه تاريخه. لكن لماذا قام المعلوف الذي كتب في الثلاثينيات من القرن الماضي عن الأمير فخر الدين المعني الأول بالاستناد إلى رواية الشهابي واختار نقض رواية الدويهي المستندة إلى رواية ابن سباط؟ أعتقد أن الجواب يكمن في أن المعلوف كتب خلال الثلاثينيات في الوقت الذي كانت النخب اللبنانية تقوم بخلق الدولة الأمة في لبنان. وكانت هذه الدولة الأمة ملزمة بالاستناد إلى مشروعية وجودها التاريخية على إمارة جبل لبنان التي بلغت أوجها في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبما أن مشروعية حكم المير بشير استندت إلى مشروعية الحكم الشهابي المستند بدوره إلى مشروعية الحكم المعني وأبرز أمرائه الأمير فخر الدين المعني الثاني، فلقد كان لزاماً على المعلوف وغيره من مؤرخي لبنان في النصف الأول من القرن العشرين، وخلال عهد الاستقلال، أن يعتمدوا رواية الأمير حيدر الشهابي وأن يتنكروا لرواية البطريرك الدويهي الذي استند إلى ابن سباط. وبالتالي، كان لزاماً أن يكون هنالك فخر الدين أول لتبرير مشروعية حكم فخر الدين ثانٍ يعطي المشروعية للحكم الشهابي الذي تستند إليه مشروعية الكيان اللبناني. لكن البحث التاريخي يشكك بوجود فخر الدين أول ما يطرح تساؤلات عن ما إذا كان الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي برز في النصف الأول من القرن السابع عشر. وبطرح ذلك تطرح تساؤلات عن حقيقة العلاقة بين الأسرة المعنية والأسرة الشهابية وبالتالي مشروعية الكيان اللبناني التي استندت إليهما. وهذا يحتم إعادة النظر بالهوية التاريخية التي استند إليها الكيان اللبناني والتي لم تلقَ إجماعاً من قبل اللبنانيين. وقد يكون للتناقض في الرواية التاريخية المستندة إلى شخصية هي أقرب إلى الأسطورة هي فخر الدين الأول دور في ذلك

 

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 467.

(**)جمال واكيم: أستاذ في الجامعة اللبنانية.

البريد الإلكتروني: jamal1.wakim1@gmail.com

[1] أحمد بن محمد الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، عني بضبطه ونشره وتعليق حواشيه ووضع مقدمته وفهارسه أسد رستم وفؤاد إفرام البستاني (بيروت: المكتبة البولسية، 1985).

[2] انظر: بولس قرألي، «فخر الدين المعني الثاني حاكم لبنان: إدارته وسياسته، 1590 – 1635،» المجلة البطريركية، العدد 10 (شباط/فبراير – أيار/مايو 1935).

[3] عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، نصوص ودروس؛ 31 (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1965)، ص 23.

[4] المصدر نفسه، ص 24.

[5] المصدر نفسه، ص 24.

[6] المصدر نفسه، ص 40.

[7] المصدر نفسه، ص 40.

[8] حيدر الشهابي (الأمير)، تاريخ الأمير حيدر الشهابي (بيروت: دار الآثار، 1980)، ص 560.

[9] أبو البركات محمد بن أحمد بن أياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج 5، ص 130.

[10] الشهابي، المصدر نفسه، ص 560.

[11] حيدر الشهابي (الأمير)، لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، عُني بضبطه ونشره وتعليق حواشيه ووضع مقدمته وفهارسه أسد رستم وفؤاد إفرام البستاني (بيروت: المكتبة البولسية، 1984)، ص 3.

[12] المصدر نفسه، ص 4.

[13] المعلوف، تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، ص 42.

[14] طنوس بن يوسف الشدياق، كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، تحقيق فؤاد إفرام البستاني (بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1970).

[15] Michel Chebli, Fakhredine II Maan- Prince du Liban (Beyrouth: Imprimerie Catholique, 1946).

[16] فيليب حتي، تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصرنا الحاضر (بيروت: دار الثقافة، 1959).

[17] إسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، تحقيق بطرس فهد (بيروت: مطابع الكريم الحديثة، 1976)، الفصل 11.

[18] المصدر نفسه، الفصل 11.

[19] المصدر نفسه.

[20] المصدر نفسه.

[21] المصدر نفسه.

[22] المصدر نفسه.

[23] حمزة بن أحمد بن عمر المعروف بابن سباط، صدق الأخبار: تاريخ ابن سباط، عني به وحقّقه عمر عبد السلام تدمري، 2 ج (طرابلس: جروس بريس، 1993)، ج 2، ص 836.

[24] المصدر نفسه، ج 2، ص 837.

[25] المصدر نفسه، ج 2، ص 930 – 931.

[26] المصدر نفسه، ج 2، ص 931.

[27] المصدر نفسه، ج 2، ص 934 – 935.

[28] المصدر نفسه، ج 2، ص 935.

[29] المصدر نفسه، ج 2، ص 936.

[30] المصدر نفسه، ج 2، ص 937 – 938.

[31] المصدر نفسه، ج 2، ص 939.

[32] المصدر نفسه، ج 2، ص 939.

[33] ابن أياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ص 148.

[34] المصدر نفسه، ص 223.

[35] المصدر نفسه، ج 4، ص 89 – 90.

[36] صالح بن يحيى، تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب، تدقيق لويس شيخو (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1937).

[37] جبرائيل اللحفدي بن القلاعي، زجليات ابن القلاعي، دراسة تحقيق بطرس الجميل، أصول ومراجع تاريخية؛ 2 (بيروت: دار لحد خاطر للطباعة والنشر، 1982).

[38] عبد الله الملاح، فخر الدين المعني الأول: حقيقة أم أسطورة؟، 1516 (بيروت: [المؤلف]، 2004)، ص 13 – 14.

[39] المصدر نفسه، ص 19.

[40] المصدر نفسه، ص 25 – 28.

[41] المصدر نفسه، ص 32 – 38.

[42] المصدر نفسه، ص 39 – 45.

[43] ابن سباط، صدق الأخبار: تاريخ ابن سباط، ج 2، ص 835.

[44] المصدر نفسه، ج 2، ص 835.

[45] المصدر نفسه، ج 2، ص 837.

[46] الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، ص 2.

[47] المصدر نفسه، ص 2.


جمال واكيم

أستاذ في الجامعة اللبنانية، ومدير تحرير مجلة شؤون عربية معاصرة في مركز دراسات الوحدة العربية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز