مقدمة:
يركّز هذا البحث على الترابط الاقتصادي المتزايد بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. لا بدّ من فهم أهمية التحوّل الجاري في التجارة العالمية لدول مجلس التعاون التجاري، والتأثيرات المحتملة التي يرجَّح أن تنشأ عنه، في سياق الخليج والبيئتين الشرق الأوسطية والعربية الأوسع مدى.
إنّ للبيئات الواسعة أهمّية لا جدال فيها بالنسبة إلى الصين بصفتها قوّة عالمية لها مصالح اقتصادية. ولا بدّ في علاقات الصين الاقتصادية والسياسية مع أيّ دولة أو كتلة اقتصادية أن يُؤخذ في الاعتبار أثر تبلور تلك العلاقة في العلاقات الإقليمية الأخرى – وفي استراتيجياتها العالمية. لذلك، تهتمّ الصين بالخليج ككلّ (أي أنّ هذا يشمل إيران والعراق بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي)، وهي تنتهج سياسة ترمي إلى المحافظة على علاقات وثيقة وودّية مع دول الخليج قاطبة. مجلس التعاون الخليجي مهمّ، لكنّ إيران (على الخصوص) مهمّة أيضاً وكذلك العراق. فهاتان الدولتان تُمدّان الصين أيضاً بكمّيات ضخمة من النفط. ولا ننسى أهمّية علاقات الصين الاقتصادية بدول عربية أخرى، وبتركيا وإسرائيل، وإن لم تكن ترقى إلى مستوى أهمّية علاقاتها بدول مجلس التعاون.
زد على ذلك أنّه لبحث آفاق تطوير علاقة اقتصادية، ينبغي أن يُؤخذ في الاعتبار عوامل سياسية واستراتيجية إضافة إلى العوامل الاقتصادية المحضة. قد تكون المصالحُ الاقتصادية هي من قرّب مجلسَ التعاون إلى الصين أصـلاً، لكنّها تطوّرت لترقى إلى مستوى مشاركة سياسية أوثق وذات بُعد استراتيجي متعاظم. والراجح، كما يشير هذا التقرير، أنّه سيكون للأبعاد السياسية والاستراتيجية لهذه العلاقة أهمية متعاظمة في المستقبل على صعيد كيفية تطوّر العلاقة الاقتصادية.
بناء على ما تقدّم، ينبغي تقييم علاقة مجلس التعاون الخليجي بالصين ضمن إطار يراعي سياسات الصين في المنطقة ككلّ، حيث تشكّل العوامل السياسية والاستراتيجية جزءاً من التحليل. سنجادل في هذا التقرير بأنّ في استطاعة مجلس التعاون تطوير علاقة بالصين ليتبوّأ مكانة أهمّ في النظامَين العالميَّين الاقتصادي والسياسي. لم يتّضح بعد إن كان ذلك ما يريده مجلس التعاون أو ينشده، لكنّ المؤشّرات الحالية لا توحي بذلك. وهذا يعني إمكان إضاعة الفرص المتاحة. بل إنّه سيكون للإخفاق في هذا الصدد تأثير سلبي في الوطن العربي أجمع.
سنبدأ في الصفحات التالية تبيان طبيعة التحوّل الذي طرأ على علاقات الخليج الاقتصادية الخارجية وأهمّيته ومداه، مشدّداً على رجحان أن يكون ميـلاً طويل الأجل وليس تطوّراً عرَضياً أو قصير الأجل. ثمّ يعاين السبُل التي تمكّن دول الخليج من الانتفاع من هذا الميل على الصعيدين السياسي والاستراتيجي. في هذا الصدد، تكتسي شبكات الاتّصال الجاري تطويرها في شتّى أرجاء آسيا (الطرق، سكك الحديد، خطوط الأنابيب، نظم الاتّصالات، وغيرها) أهمّية فائقة. هذه الشبكات موصولة بمجموعة مؤسّسات (تغطّي التعاون البنيوي التحتي والمالي، بالإضافة إلى الانخراط في التنسيق السياسي والاستراتيجي)، وهي بمثابة ركيزة مميّزة وذات أهمّية متعاظمة للسياسات العالمية. وستمكّن المشاركة في هذه المؤسّسات دول الخليج من تعزيز أدوارها عالمياً، وربّما تفتح مسارات أيضاً تمكّنها من تحمّل مسؤولية سدّ حاجاتها الأمنية الخاصّة في الخليج.
أولاً: النمط المتغيّر لمصالح الخليج الاقتصادية
سنتعرض الآن الأدلّة التي تشير إلى طبيعة ومدى إعادة توجّه علاقات الخليج الاقتصادية العالمية. تدلّ المعطيات على أنّ العملية تأخذ منحى طويل الأجل وهي ليست حصيلة عرَضية لعوامل قصيرة الأجل.
إنّ تحديد الناحية التي ستوجد فيها المصالح الاقتصادية الأساسية لمنطقة الخليج في المستقبل ليس عملية مباشرة. صحيح أنّ الأرقام المتّصلة بالتجارة هي المؤشّر الأساس، لكنّ دراسة أيّ مجموعة متتالية من الأرقام بشأن التوجّه التجاري من سنة إلى أخرى (مهما تباعدت السنوات) قد تُفضي إلى نتائج مشوَّهة. ذلك أنّه من المحتّم أن تتأثّر الأرقامُ السنوية للتبادلات التجارية لأيّ دولة بعينها بالتطوّرات الحاصلة في تلك السنة. بالنسبة إلى دول الخليج، تتأثّر هذه الأرقام بصفقات السلاح الضخمة التي تُبرَم في سنة معيّنة (التي تُعتبر عنصراً رئيساً في التجارة الأمريكية – السعودية خصوصاً)، وبعوامل بيئية (مثل موجة التسونامي التي سبّبت كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، فزادت اعتماد البلاد على النفط المستورَد)، وأزمات مالية (كان لها تأثير كبير في تجارة الخليج مع الغرب، ولا سيّما في السنتين 2009 و2010). يمكن فهم التوجّهات الأساسية على النحو الأمثل باعتماد منظور طويل الأجل يعتمد «عيّنة سنوات» متعدّدة ضمن الحقبة المختارة، وباختيار طائفة من نقاط البداية النهاية المختلفة عند حساب النسب المئوية والزيادات الإجمالية؛ وهذه هي المقاربة المعتمدة في هذا التقرير.
تعاين الفقرة (1) من المبحث الأول المدّةَ الزمنية الواقعة بين سنتي 1990 و2013، حيث تتركّز زيادات النسب المئوية في المدّة الواقعة بين سنتي 2005 و2013. سنعلّل أسباب اختيار تلك السنويات. وتغطّي الفقرة (2) من المبحث الثاني الاتّجاه الأحدث للأرقام التجارية وذلك لسنة 2015 (أرقام جمعها الباحث بناء على بيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي في بداية أيار/مايو 2016)، مع إجراء مقارنة بين تلك الأرقام وإحصاءات سنة 2011. وأودّ الإشارة إلى أن المادّة المستعرَضة في الفقرة (1) من المبحث الأول نشرها الباحث سابقاً[1]، بينما مادّة الفقرة (2) من المبحث الثالث حديثة.
1 – الاتجاهات المتغيّرة لتجارة الخليج (1990 – 2013)
يبيّن الجدول بيانات عن كيفية تغيّر اتّجاه تجارة الخليج بين سنة 1990، عندما كان للصين والهند دور هامشي نسبياً في تجارة الخليج، وسنة 2013 حين وطّدت الصين نفسها لأوّل مرّة بصفة الشريك التجاري الأوّل لدول الخليج الثماني مجتمعة[2]، بينما حلّت تجارة الهند في المرتبة الثالثة. تُظهر أرقام سنة 2014 زيادة تقدّم الصين ببلوغ الحجم الكلّي لتجارة الصين 255.5 مليار دولار وحجم تجارة الاتّحاد الأوروبي 227.3 مليار دولار[3]. يمكن التعمّق في فهم دلالة هذا التطوّر باعتماد منظور أبعد مدى من الناحية التاريخية. فعلى مدى القرنين اللذَين سبقا سنة 2013، كانت تبادلات الخليج التجارية الخارجية مع شبكات التجارة الغربية أساساً – سواء عبر صلات مباشرة بأوروبا وأمريكا الشمالية أم من عبر الهند قبل أن تنال شبه القارّة الهندية استقلالها.
الجدول الرقم (1)
نمو تجارة الخليج مع الشركاء الرئيسيين (الواردات والصادرات مجتمعة) (1990 – 2013)
(بمليارات الدولارات)
1990 | 2000 | 2005 | 2008 | 2009 | 2012 | 2013 | |
الصين | 1.3 | 11.8 | 44.9 | 121.4 | 93.4 | 203.5 | 224.4 |
الهند | 4.4 | 6.6 | 21.4 | 119.3 | 87.9 | 186.5 | 183.9 |
اليابان | 33.5 | 52 | 103.8 | 176.1 | 103.7 | 181.3 | 171.6 |
كوريا الجنوبية | 6.1 | 25.6 | 53.4 | 109.7 | 71.9 | 142.4 | 136.1 |
الاتّحاد الأوروبي | 59.9 | 66.7 | 142.5 | 212 | 156 | 207.4 | 216.2 |
الولايات المتّحدة الأمريكية | 19.1 | 33.9 | 66 | 124.8 | 71.2 | 143.7 | 137.2 |
المصدر: International Monetary Fund [IMF], Direction of Trade Statistics, 1990‑2013.
أعدّ الباحثُ الحسابات بناء على الأرقام التي أتيحت في أيار/مايو 2014.
يمكن تقدير سرعة التحوّل في التدفّقات التجارية ومداه بالنظر إلى معدّلات زيادة التبادلات التجارية لكل دولة. ليس هناك جدوى من اعتماد سنة 1990 نقطة بداية لهذا التحوّل، لأنّ الصين والهند كانتا لا تزالان عند مستويات متدنّية نسبياً للتطوّر الاقتصادي، بحيث لم تكن تبادلاتهما التجارية صالحة للمقارنة بالتبادلات التجارية لاقتصادات الدول المتقدّمة. لذلك اعتمدنا سنة 2002 نقطة بداية، لأنّ الدولتين انخرطتا بالكامل حينئذٍ في التجارة العالمية كدولتين تتّجهان نحو التصنيع بسرعة بناءً على ترتيبات تجارية حرّة. كلتا الدولتين كانت، بحلول تلك المرحلة، عضواً في منظّمة التجارة العالمية – وكذلك بلدان مجلس التعاون الخليجي.
تُظهر الأرقام الواردة في الجدول الرقم (2) أنّ معدّلات زيادة نمو التبادلات التجارية للهند والصين مع بلدان الخليج بين سنتي 2005 و2013 كانت أكبر كثيراً من معدّلات زيادة التبادلات التجارية لشركاء الخليج التجاريين الرئيسيين، وبخاصّة الولايات المتّحدة واليابان والاتّحاد الأوروبي. ومن بين سائر الدول الصناعية، زاد معدّل تجارة كوريا الجنوبية مع الخليج قليـلاً على معدّلات الدول الأخرى. لا يكتسي تقدّمُ الهند على الصين، ولو بدا كبيراً، أهمّية خاصّة في الواقع. سببه أنّ الهند انطلقت من قاعدة أدنى، حين لم تكن عملية التصنيع والتطوير والمشاركة في التجارة العالمية في الهند قد بلغت المستوى الذي بلغته الصين.
الجدول الرقم (2)
معدّلات نمو التبادلات التجارية مع الخليج (الشركاء الرئيسيون) (2005 – 2013)
البلد | الهند | الصين | الاتّحاد الأوروبي | كوريا الجنوبية | الولايات المتّحدة الأمريكية | اليابان |
النسبة المئوية | 759.30 | 399.80 | 51 | 154.90 | 107.90 | 65.30 |
المصدر: International Monetary Fund [IMF], Direction of Trade Statistics, 1990‑2013.
أعدّ الباحثُ الحسابات بناء على الأرقام التي أتيحت في أيار/مايو 2014.
يُزعَم أحياناً أنّ معدّل التبادل التجاري المرتفع والمتعاظم بين الصين (والهند) ودول الخليج يعكس ببساطة حاجة الاقتصاد الصيني المتنامية إلى نفط الخليج. إذا كانت واردات النفط والغاز الطبيعي المسيَّل تشكّل بالتأكيد جزءاً معتبراً من تجارة الصين مع الخليج، الواقع أنّ العلاقة متوازنة إلى حدّ بعيد. وكما يظهر في الجدول الرقم (3)، بلغت نسبة الواردات إلى الصادرات في هذه التبادلات 60 إلى 40 بالمئة تقريباً. ومن بين شركاء الخليج التجاريين الرئيسيين، الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة فقط حازا نسبة أكبر في مجال الصادرات. زد على ذلك أنّ الواردات الصينية من الخليج لا تقتصر على النفط والغاز، إذْ إنّ البتروكيميائيات تشكّل نسبة متنامية منها.
الجدول الرقم (3)
النسب المئوية للواردات إلى الصادرات في المبادلات التجارية لشركاء الخليج الرئيسيين (2013)
الصين | الهند | اليابان | كوريا الجنوبية | الاتّحاد الأوروبي | الولايات المتّحدة | |
الواردات من الخليج | 60.3 | 67.1 | 83.9 | 80.5 | 36.2 | 55 |
الصادرات إلى الخليج | 39.7 | 32.9 | 16.1 | 19.5 | 63.8 | 45 |
المصدر: International Monetary Fund [IMF], Direction of Trade Statistics, 1990‑2013.
أعدّ الباحثُ الحسابات بناء على الأرقام التي أتيحت في أيار/مايو 2014.
إذا استبعدنا إيران والعراق من المشهد التجاري، سنجد أنّ الاتّحاد الأوروبي بقي أكبر شريك تجاري لبلدان مجلس التعاون الخليجي في سنة 2013، لكنّ معدّلات نموّ التبادل التجاري الراهنة – وأرجحية تزايد حجم واردات الصين والهند من النفط والغاز الطبيعي المسيَّل والبتروكيميائيات المستورَدة من الخليج – تشير إلى أنّ حجم التبادل التجاري الصيني سيتجاوز حجم التبادل التجاري للاتّحاد الأوروبي بحلول سنة 2020. وفي هذا الصدد، جاء في تقرير أعدّته وحدةُ الاستخبارات الاقتصادية في سنة 2014 عن التطوّرات التجارية المرجَّحة لدى مجلس التعاون الخليجي:
بحلول سنة 2020، ستستحوذ الصين على معظم صادرات مجلس التعاون الخليجي بقيمة تناهز 160 مليار دولار… وستهيمن الصين أيضاً على سوق الواردات، بتصديرها سلعاً بنحو 135 مليار دولار إلى الخليج، أي نحو مثلي صادرات سنة 2013. إنّ تزايد نصيب الصين من صادرات مجلس التعاون الخليجي يتناسب مع صعودها الاقتصادي، إذْ زاد النموّ إلى ثلاثة أمثاله منذ سنة 2001 وبلغ 12 بالمئة في سنة 2013، وهو يشكّل الآن 14 بالمئة من واردات مجلس التعاون. كما أنّ وتيرة نموّ مبادلات مجلس التعاون التجارية مع الصين بين سنتي 2010 و2013 فاقت وتيرة نموّ مبادلاته التجارية مع أيّ من شركائه التجاريين الرئيسيين، وذلك بمعدّل 30 بالمئة للصادرات و17 بالمئة للواردات[4].
بل لا تزال الصين في الوقت الحالي، الشريكَ الأكبر لسلطنة عُمان، ولا تفصلها مسافة كبيرة عن الاتّحاد الأوروبي في التجارة مع السعودية.
2 – التحوّلات في اتجاه تجارة الخليج، 2015
سيبدو للوهلة الأولى أنّ بعض النتائج المستخلَصة من الأرقام التي تغطّي السنوات لغاية 2013 تقوّضها أو تدحضها أحدثُ الأرقام المتّصلة بالتدفّقات التجارية السنوية بحسب البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي في بداية شهر أيار/مايو 2016. ذلك أنّ تلك الأرقام تُظهر عودة المجموعة الأوروبية إلى احتلال موقع الشريك التجاري الأول للخليج في سنة 2015 (مع المحافظة أيضاً على تقدّمها الكبير في التبادلات التجارية لمجلس التعاون الخليجي). لكن إذا اعتمدنا المنظور التاريخي الطويل الأجل الذي تقدّم الحديث عنه في مستهلّ الفقرة (2)، فسيبدو للوهلة الأولى كما لو أنّ التاريخ سار في الاتجاه المعاكس. بيد أنّ الحقيقة أشدّ تعقيداً.
ينبغي وضع الأرقام العائدة إلى سنة 2015 في منظور التغيّرات العارمة التي طرأت على قيمة تجارة الخليج في السنتين الأخيرتين، والتي نشأت بدرجة كبيرة عن انخفاض أسعار النفط. المقارنة هنا بين سنة 2011 (حين تلاشى التأثير الفوري للأزمة المالية العالمية في التدفّقات التجارية الغربية) وسنة 2015 (التي شهدت التأثير الكامل لانخفاض أسعار النفط في اقتصادات الخليج) تقدّم بعض الرؤى حيال الأرقام «المفاجِئة» العائدة إلى سنة 2015. يمكننا أن نرى في الصفّ الأخير في الجدول الرقم (4) أنّ تجارة الخليج مع باقي أنحاء العالم تراجعت بنسبة 14.5 بالمئة في هذه المدّة (وهو انخفاض كبير). والدول التي يعتمد جلُّ تجارتها مع الخليج على وارداتها من نفطه شهدت عموماً أكبر نسب التراجع في قيمة تبادلات الخليج التجارية. وهذا يفسّر تراجع تجارة كوريا الجنوبية واليابان بقيمة فاقت تراجع قيمة التبادلات التجارية لأيّ من شركاء الخليج التجاريين الرئيسيين الآخرين، وهو ما يتجلّى في الجدول الرقم (4). بالمقابل، شهدت قيمة تجارة المجموعة الأوروبية مع الخليج، التي تشكّل صادراتُ الاتّحاد الأوروبي نحو ثلثيها، انخفاضاً أكثر اعتدالاً.
الجدول الرقم (4)
تجارة الخليج في سنة 2015 مقارنة بسنة 2011
(القيم بمليارات الدولارات)
2011 | 2015 | التغيّر المئوي | |
الصين | 192.96 | 191.14 | −0.9 |
الهند | 171.37 | 129.75 | −24.3 |
اليابان | 180.64 | 101.23 | −44.0 |
كوريا الجنوبية | 140.84 | 89.55 | −36.4 |
الاتّحاد الأوروبي | 239.27 | 199.58 | −16.6 |
الولايات المتّحدة | 119.29 | 92.99 | −22.1 |
روسيا | 5.34 | 5.81 | +8.8 |
تركيا | 36.35 | 32.99 | −9.2 |
إيران (و7 دول أخرى) | 32.8 | 38.35 | +20.0 |
العالم بأسره | 1567.55 | 1340.35 | −14.5 |
المصدر: International Monetary Fund [IMF], Direction of Trade Statistics, 1990‑2013.
أعدّ الباحثُ الحسابات بناء على الأرقام التي أتيحت في أيار/مايو 2016.
لدى النظر إلى الصين من منظور الأرقام الواردة في الجدول الرقم (4)، نجد أنّ تراجع الصين إلى المركز الثاني في ترتيب شركاء الخليج التجاريين في سنة 2015 ليس مفاجئاً. ومع أنّه لا يعطي سبباً لإعادة تقييم التوقّعات حيال تعاظم قوة الصين الاقتصادية وحضورها في منطقة الخليج، فهو يُضفي صدقية على هذه التوقعات. هذا ما يتّضح من العمود الأخير في الجدول الرقم (4) حيث تقارَن معدّلاتُ الزيادة في التبادلات التجارية للشركاء الرئيسيين بين سنتي 2011 و2015. تبرز الصين بصفة الشريك التجاري الذي شهدت تجارته أقلّ تراجع (في الحقيقة، بصعوبة طرأ تراجع أصـلاً) خلال هذه المدّة حين شهدت اقتصادات الخليج تغييرات جوهرية.
في الواقع، تعطي أرقام التبادلات التجارية لسنة 2015 عدداً من المؤشّرات على ترسّخ حضور الصين الاقتصادي القويّ في الخليج. فقد زادت صادرات الصين إلى الخليج بين سنتي 2011 و2015 من 65.43 مليار دولار إلى 93.77 مليار دولار، وهي زيادة بلغت 42.5 بالمئة. وفي المقابل، زادت صادرات المجموعة الأوروبية بمقدار 12 بالمئة فقط خلال هذه المدّة. وفي سنة 2015، حقّقت صادرات الصين إلى الخليج ووارداتها منه قدراً من التوازن، إذ شكّلت الصادرات 49.1 بالمئة من إجمالي الصادرات، في حين شكّلت الواردات 50.1 بالمئة. زد على ذلك أنّ الصين عزّزت موقعها مقارنة بدول آسيوية أخرى بين سنتي 2011 و2015. ومع أنّه بدا أنّ الهند (وهي أقوى المنافسين الآسيويين للصين) تردم الهوّة مع الصين بين سنتي 2008 و2013، لم تشكّل التبادلاتُ التجارية الهندية مع الخليج غير ثلث التبادلات التجارية الصينية تقريباً (انظر الجدول الرقم (4)).
وفي ما يختصّ بتجارة مجلس التعاون الخليجي تحديداً، احتفظت الصين بالمركز الثاني في ترتيب الشركاء التجاريين الرئيسيين لمجلس التعاون في سنة 2015، بعيدة من الاتّحاد الأوروبي بنحو 30 مليار دولار. وكما هي الحال في سياق الخليج الأعمّ، عزّزت الصين تقدّمها على الشركاء التجاريين الرئيسيين الآخرين.
يجادل البعض بأنّ أرقام التبادلات التجارية وحدها لا تكفي لإعطاء صورة حقيقية للمتانة الفعلية لعلاقة اقتصادية ولأهمّيتها، وأنّ علاقات الصين الاقتصادية بالخليج ربما لا تكون على ذلك القدر من الأهمّية الذي تشي به أرقامُ التبادلات التجارية. فالأبعاد الأوسع مدى، مثل طبيعة التبادل التجاري، ومدى التدفّقات والعقود الاستثمارية، تستحقّ الاعتبار. مثال ذلك، عندما ننظر من زاوية الصين، لا تشكّل تبادلات الصين التجارية مع الخليج غير نسبة مئوية ضئيلة جداً – أقلّ من 5 بالمئة قليـلاً من إجمالي التبادلات التجارية الصينية. بالتالي، إذا كانت التجارة مهمّة لاقتصادات الخليج، فإنّ أهمّيتها تتضاءل في المنظور الصيني أمام مجمل تجارة الصين مع دول ومناطق أخرى. لكنّ نحو 35 بالمئة من إجمالي تبادلات الصين التجارية مع الخليج عبارة عن وارداتها من نفط الخليج الذي لا غنى عنه لدفع عجلة نموّ الاقتصاد الصيني. وهناك تقديرات تشير إلى أنّ الصين ستكون المسؤولة عن نحو 43 بالمئة من الزيادة في استهلاك العالم من النفط في العقد المقبل[5]. أضف إلى ذلك أنّ التجارة مع الخليج تشكّل نحو 70 بالمئة من إجمالي تجارتها مع الوطن العربي. علاوة على ما تقدّم، نلاحظ أنّ قيمة تجارة الخليج مع الصين أكبر كثيراً من قيمة تجارة الصين مع اقتصادات (غير عربية) مهمّة أخرى في المنطقة. ففي سنة 2015، بلغت تجارة الصين مع إسرائيل 11.42 مليار دولار، ومع تركيا 21.57 مليار دولار. ويتبيّن أنّ تجارة الصين مع إسرائيل أصغر حجماً كثيراً من تجارة الصين مع السعودية أو الإمارات أو عُمان أو الكويت أو العراق أو إيران كلّ على حدة، وأنّ تجارة الصين مع تركيا أصغر حجماً من تجارة الصين مع السعودية أو الإمارات أو إيران كلّ على حدة. لذلك، يتبيّن أنّ مصلحة الصين الاقتصادية في هذه المنطقة الحيوية استراتيجياً محصورة بالخليج إلى حدّ بعيد. ومن الأمور المُهمّة الأخرى أنّ التجارة الصينية موزَّعة على جميع بلدان الخليج، وليست محصورة في أيّ دولة بعينها. وهذه تختلف من هذه الناحية اختلافاً كبيراً عن التبادلات التجارية بين الولايات المتّحدة والخليج، التي تستأثر السعودية لوحدها بنصفها تقريباً.
أضف إلى ذلك أنّ الشركات الصينية فازت بعقود لمشاريع إنشائية كبرى في المنطقة في السنين الأخيرة، مثل مشروع «قطار الحرمين السريع» ذي الحساسية الثقافية، ومصنع «وعد الشمال» للفوسفات في السعودية. وأدلى سفير الصين لدى المملكة بتصريح في سنة 2013 تحدّث فيه عن وجود 140 شركة صينية يعمل جلّها في قطاعات الإنشاء والاتّصالات والبنية الأساسية والبتروكيميائيات. وصرّح بأنّ قيمة هذه المشاريع تناهز 18 مليار دولار[6]. كما ظهرت تأثيرات التدفّقات الاستثمارية في كِلا الاتجاهين (من مجلس التعاون الخليجي إلى الصين وعلى العكس)، علماً بأنّ جلّها خُصّص لقطاع البتروكيميائيات. لكنّ النتائج لا تزال ضبابية حتى الساعة لطول آجال المفاوضات وعدم تحقيقها نتائج إيجابية دائماً.
حصرنا الحديث أعلاه بتجارة الصين واستثماراتها وعقودها، وذلك عائد أساساً لكونها تشكّل أوضح نمط للتطوّر والتغيّر. لكن يمكن استعراض نقاط مشابهة أخرى بشأن تجارة الهند واستثماراتها وعقودها. بل إنّ حضور الهند الاقتصادي أقوى في مجالات معيّنة، وهو ما يتجلّى في حضورها البشري في المنطقة (حيث يقيم نحو 8 ملايين هندي هناك) وفي صلاتها التاريخية.
بالتالي، يظهر بجلاء المدى والأهمية الإجمالية لإعادة التوجّه الاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي في السنين الأخيرة. الأمر الذي ينبغي التحقّق منه بعد ذلك تحديد إن كان ذلك يوفّر أساساً منطقياً لتعاون إقليمي في الخليج أم لا. سنفترض في المبحث الثاني إمكان إيجاد مثل هذا الأساس المنطقي في التطوّرات الجارية حالياً على صعيد البنية الأساسية في أوراسيا وحوالى المحيط الهندي، وتحديداً في الفرص التي يمكن أن تتيحها هذه التطوّرات لمنطقة الخليج ليصبح متكامـلاً مع شبكات الاتّصالات، ومع الشبكات الاقتصادية والسياسية الآخذة في التطوّر في المنطقة. سيقتضي ذلك، من مجلس التعاون الخليجي على الأقل، بناء علاقة تعاونية مع إيران – على صعيد التنسيق في مجال البنية الأساسية والمجال الاقتصادي في البداية، ليتوَّج بتطوير أبعاد أمنية في النهاية. إنّها بعبارة أخرى الوسيلة لظهور مجموعة أمنية إلى حيّز الوجود.
ثانياً: تطوير الصلات البنيوية التحتية والاقتصادية والسياسية
بما أنّ كثيراً من الدينامية الحاصلة في تغيّر القوى الاقتصادية العالمية (التي تشكّل تجارةُ الخليج جزءاً منها) معزوّة إلى الصين، حري بنا التركيز على السبل الحيوية لارتباط دور الصين الاقتصادي بإعادة هيكلة النظام العالمي على نطاق واسع. لذلك، سنشدّد في هذا المقام على طريقة تطوير الصين شبكات جديدة للترابط البنيوي التحتي والاقتصادي والسياسي، مع تركيز على البرّ الأوروبي والآسيوي. يكتسي المشروع (حزام واحد – طريق واحد) أهمية خاصّة في هذه الناحية، لذلك سنركّز عليه هنا، لكنّه ليس سوى جزء من التطوّر الإجمالي. يتكوّن هذا المشروع من مجموعة مؤسّسات وأطر عمل مكرّسة للتعاون الاستراتيجي والسياسي. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ خطط الصين لزيادة الترابط في المنطقة الآسيوية ليست وحيدة، فلدى الهند مخطّطات ضخمة تسعى لتنفيذها، والراجح أنّها ستكون مُهمّة في تطوّر النظام العالمي. يتجلّى في هذه المخطّطات أيضاً وجود مؤسّسات وأطر عمل للتعاون. بل إنّ لروسيا أهمّية معتبرة في ما يختصّ تطوير الشبكات.
ينبغي فهم خطط الصين المتعلّقة بالبنية الأساسية والاتّصالات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في سياق الاستراتيجيات العالمية الإجمالية التي تنتهجها الصين. تنشط هذه الاستراتيجيات على مستويات متنوّعة، أحدها بروز اهتمام بالمحافظة على علاقات سالكة مع الولايات المتّحدة، مع الإقرار بأنّ مصالح الصين (الاقتصادية والسياسية) ستتضرّر إذا وقعت مواجهة بينها وبين القوّة العظمى الوحيدة في العالم. ويقال إنّه يتعيّن على الصين أن تتفادى الأخطاء التي ارتكبتها ألمانيا واليابان في ثلاثينيات القرن الماضي، ويتعيّن أن تبحث عن دور عالمي ليس من خلال مواجهة هياكل القوّة الراهنة ولكن بدمج الصين في نظام القوى والنفوذ العالمي. لا يقتصر النظام الأخير على الولايات المتّحدة وحلفائها، إذ يوجد كذلك شبكة مؤسّسات (صندوق النقد الدولي، هيئات الأمم المتّحدة، البنك الدولي، وما إلى ذلك) يمارَس النفوذ وربّما يُتحكَّم بالتطوّرات العالمية من خلالها.
على مستوى آخر، تسعى السياسات الصينية لبناء شبكات تنسيق وتعاون بديلة، تستطيع الصين من خلالها الاضطلاع بدور بارز إن لم يكن مهيمناً. أحد المقوّمات الأساسية في هذا المجال كتلة البريكس (المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) و«منظّمة شنغهاي للتعاون» (التي تقرّب الصين وروسيا من دول آسيا الوسطى السوفياتية سابقاً، وقد انضمّت إليها الهند وباكستان الآن). تضمّ هذه المؤسّسات بدورها طائفة واسعة من اللجان الحكومية والمجتمعية والمؤسّساتية الدولية ومنتديات لتبادل المعلومات، والسعي لتبنّي مواقف مشتركة من القضايا العالمية، واقتراح إجراءات لتعزيز التفاعل الاقتصادي والتخطيط وتطبيق استراتيجيات ترمي إلى إصلاح الإدارة المالية العالمية. ففي حالة البريكس مثـلاً، لا يقتصر النشاط على عقد قمم سنوية تجمع رؤساء الحكومات، بل يتعدّى ذلك ليشمل لقاءات منتظمة لوزراء المالية، والتجارة، والصحة، والعلوم والتكنولوجيا، والزراعة. وهناك «منتدى مالي» يجمع رؤساء أكبر مصارف التنمية في دول البريكس؛ و«مجموعة اتّصال لقضايا الاقتصاد والتجارة»؛ و«منتدى تجاري» (حكومي) و«مجلس تجاري» (قطاع خاصّ)، و«منتدى أكاديمي» يجمع أكبر المعاهد الأكاديمية، وتجمّع لـ «كبار الممثّلين المسؤولين عن الأمن»، حيث يتم تبادل المعلومات والآراء حول «الأمن السيبرنيطيقي، ومكافحة الإرهاب، وأمن النقل، والأزمات الإقليمية».
حظي تكتّلُ البريكس (وكذلك منظّمة شنغهاي للتعاون) بدعاية ضعيفة نسبياً في العالم الغربي، وربّما يعود ذلك إلى أنّه لم يعد في مقدور بعض الدول الأعضاء فيه (ولا سيَّما البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا) أن تتباهى بمعدّلات النمو الكبيرة التي نعمت بها عندما صاغ الخبيرُ الاقتصادي جيم أونيل من مجموعة غولدمان ساكس عبارةَ «بريك» في سنة 2001. لكنّ تكتّل البريكس، الذي تأسّس تحت اسم «بريك» في البداية سنة 2009، لم يكن يوماً مجرّد تجمّع لدول تنعم بمعدلات نموّ مرتفعة. فمن البداية، وعلى نحو متزايد في السنين التالية، كان لأنشطته وغاياته أبعاد سياسية واقتصادية متشابكة. ويمكننا ملاحظة مؤشّر عملي على كيفية توسّع نطاق التنسيق على مرّ السنين في طول وتفاصيل البيانات/التصريحات الختامية التي تتبع لقاءات القمم السنوية. فبعد القمّة الأولى في يكاترينبورغ (في روسيا) في سنة 2009، تألّف البيانُ الختامي من نحو صفحتين. وعقب القمّة السابعة التي انعقدت في أوفا (في روسيا) في سنة 2015، تألّف البيان الصادر عن القمّة من 43 صفحة. اللافت للنظر أنّ اجتماعات القمم السنوية لدول البريكس ومنظّمة شنغهاي للتعاون في سنة 2015 جاءت مترابطة، وعُقدت بالتتابع مع شيء من التشديد على التداخل بين المنظّمتين. بالتالي، فإنّ اهتمامات منظّمة شنغهاي للتعاون ذات الصلة بالأمن تتكامل بشكل متزايد مع اهتمامات البريكس. تضطلع الصين بدور حيوي في هاتين المنظّمتين، ولا ريب في أنّ دورها ازداد قوّة خلال مدّة وجودهما. في الحقيقة، تشكّل الصين أكثر من نصف الناتج المحلّي الإجمالي لدول البريكس مجتمعة. ففي سنة 2013، جاءت قيم الناتج المحلّي الإجمالي للدول الخمس على النحو التالي: 8.25 ترليون دولار للصين، و2.43 ترليون دولار للبرازيل، و1.95 ترليون دولار لروسيا والهند، و27.3 مليار دولار لجنوب أفريقيا. تشكّل هذه الدول الخمس 43 بالمئة من السكان في العالم، واستحوذت على 21 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي في سنة 2013، وعُزي إليها أكثر من نصف النمو الاقتصادي العالمي خلال المدّة منذ سنة 2008.
بالإضافة إلى المؤسّسات المنضوية في تلك الهيئات التي شُكّلت لتعزيز التعاون والتنمية (مثل مصرف التنمية الجديد التابع لبريكس واتّفاق احتياطي الطوارئ)، شكّلت الحكومةُ الصينية مؤسّساتِها وبرامجَها الخاصّة لبناء علاقات تعاونية في قلب شبكتها الحديثة النشأة، في شرق وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى. هناك مؤسّسة رئيسة في هذا المجال وهي البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، والبرامج الرئيسة هي برامج المشروع «حزام واحد – طريق واحد» الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين. تسعى البرامج الأخيرة لبناء شبكات اتّصال برّية وبحرية، من خلال استثمار مبالغ ضخمة في البنية الأساسية، التي يمكن للصين من خلالها أن تتفاعل وتندمج في المنطقة الأوراسية عموماً.
سنركّز الآن على المشروع «حزام واحد – طريق واحد» تحديداً، الذي يشكّل عنصراً أساساً في استراتيجية الصين العالمية، وربّما يكون له أهمّية خاصّة في منطقة الخليج. لا تكتفي برامج المشروع بتغطية بناء الطرق، وسكك الحديد، وخطوط الأنابيب، ونظم الاتّصالات، ومنشآت الموانئ الأساسية وغيرها، ولكن تشمل بناء البنية الأساسية الصناعية والمالية اللازمة لتنمية فاعلة في دول آسيا الوسطى (خصوصاً). هذه التنمية ليست لازمة لاقتصادات بلدان آسيا الوسطى لتكوين شركاء إقليميين فاعلين للصين وحسب، بل ولضمان استقرار سياسي طويل الأجل في المنطقة. ذلك أنّ النظم غير المستقرّة في دول سكّانها معرّضون للتطرّف السياسي والديني، هو بمنزلة تهديد لاتّصالات الصين غرباً وربّما تُشعل توتّرات إثنية داخل الصين – مع ما لذلك من أثر سلبي في تماسك النظام السياسي الصيني. وهذا المنطق يسري على منطقة الشرق الأوسط بقدر ما يسري على آسيا الوسطى.
إنّ نطاق ما يجري تطويره في سياق المشروع «حزام واحد – طريق واحد» مدهش، والواضح أنّه سيؤثّر في الأنماط المستقبلية للتفاعلات والتنمية الاقتصادية في مختلف أرجاء آسيا، مع ما يرافق ذلك من مضامين للدول الأفريقية أيضاً. ومع أنّ الإعلان عن المشروع جرى في أيلول/سبتمبر، فقد أُحرز تقدّم كبير في تخطيط – والبدء في بعض الحالات بتنفيذ – البنية الأساسية اللازمة. إنّ مواقع الشرايين الرئيسة للمشروع ليست واضحة دائماً، أو إنّها حُدّدت عن عمد على نحو غير دقيق ليتسنّى تقييم ردود الفعل الإقليمية. لكنّ الخريطة المبيّنة في الشكل الرقم (1) نشرتها وكالة الأنباء الحكومية الصينية شينخوا في آذار/مارس، وبالتالي يمكن اعتبار أنّها تمثّل وجهة النظر الرسمية.
الشكل الرقم (1)
مشروع «حزام واحد – طريق واحد»
(الحزام الاقتصادي لطريق الحرير) وطريق الحرير البحري
المصدر: صادرة عن وكالة الأنباء شينخوا – بكين.
من الناحية العملية، يلاحَظ أنّ مدى الترابط البنيوي التحتي الذي تبنيه الحكومة الصينية أوسع انتشاراً كثيراً مما تشي به الخريطة. فالمسارات البرّية للمشروع «حزام واحد – طريق واحد» متّصلة بمخطّطات برّية ومخطّطات سكك حديد أخرى (مزمعة أو قيد التنفيذ)، وهي تربط الصين بالمناطق المجاورة لها، مثل الممرّ الاقتصادي الصيني – الباكستاني (الذي يبدأ بمنطقة كسينْجيانغ الصينية وينتهي بميناء غوادار الباكستاني)[7]، وخط سكك الحديد كونْمينغ – سنغافورة (الذي يبدأ بمقاطعة يونان الصينية ويمرّ بجنوب شرق آسيا وينتهي في سنغافورة)[8]، والممرّ الاقتصادي الذي يربط بنغلادش بالصين والهند وميانْمار (الذي يبدأ بكونْمينغ وينتهي في كولْكاتا)[9]. والراجح وجود وصلة «طريق شمالي» عالي السرعة يصل بكين بموسكو.
في الظاهر، يبدو أنّ بلدان مجلس التعاون الخليجي في موقع ممتاز لتشكّل جزءاً من الشبكات وأطر العمل التي تقودها الصين والتي يجري تطويرها في شتى أنحاء أوراسيا وعبر المحيط الهندي. وسبق أن تحدّثنا في المبحث الأول عن التبادلات التجارية الكبيرة أصـلاً، التي تتميّز بدرجة عالية من الاعتماد المتبادل بين مجلس التعاون الخليجي والصين. إنّ محاولة إبرام اتّفاقية تجارة حرّة بين الجانبين (تضاف إلى 15 اتّفاقية تجارة حرّة أبرمتها الصين أصـلاً مع دول في العالم قاطبة) مؤشّر على أنّ مجلس التعاون والصين راغبان في زيادة تعزيز علاقاتهما. الأمر المهمّ الآخر في هذا المجال «الشِّراكات الاستراتيجية» التي عقدتها الصين مع ثلاث دول في مجلس التعاون، وهي السعودية والإمارات وقطر.
لكن من الناحية العملية، تشير خريطة وكالة الأنباء شينخوا التي أعدنا عرضها في الشكل الرقم (1) إلى أنّ منطقة الخليج ليست متصوَّرة عنصراً بالضرورة في تطوير شبكة الاتّصالات. في الواقع، الخطوط/الطرق المبيّنة في الخريطة لا تعبر الخليج (وإن كانت تمرّ عبر شمال طهران فعـلاً). وهذا ينطبق على المسارات البرّية والمسارات البحرية[10]. المفترض أنّ السبب عدم وجود وسيلة حالياً لتمرير قنوات الاتّصال هذه عبر الخليج: العلاقات العدائية بين الدول المحيطة بالخليج (ولا سيّما بين السعودية وإيران) تجعل ذلك أمراً مستحيـلاً. ذلك أنّ بناء شبكات اتصالات برّية رئيسة عابرة للدول (تجمع في هذه الحالة نقاط وصل برّية ونقاط سكك حديد، إضافة إلى خطوط أنابيب للنفط والغاز) يستلزم تنسيقاً وتعاوناً وثيقاً بين الحكومات المعنيّة. وبالنظر إلى العلاقات الصدامية بين المملكة وإيران خصوصاً، لا يوجد أساس لتخطيط تعاوني، أو إدارة مشتركة، أو حتّى حوار عملي. وإذا كانت تتوافر أدلّة كثيرة على متانة العلاقات بين الصين ودول الخليج، على شكل تبادلات تجارية متزايدة وعدد من اتّفاقات «الشِّراكة الاستراتيجية»، فإنّ الخطوة الرئيسة نحو ضمّ منطقة الخليج إلى الشبكة المتكاملة للترابط عبر الآسيوي لم تُتَّخَذ ولن يتسنّى اتّخاذها في الوقت الحالي.
تُظهر خريطة شينخوا أيضاً أنّ الممار البحرية الرئيسة لطريق الحرير البحري تلتفّ بالمثل حول الخليج، وإن كانت تمرّ عبر البحر الأحمر. الممرّ الرئيس الممتدّ شرقاً من الصين يعبر المحيط الهندي ويتّجه مباشرة نحو ميناءَي لامو ومومباس الكينيَّين. وهذا بالطبع يعكس الحقائق الجارية، وهي أنّ الصين تستثمر مبالغ طائلة في الموانئ الكينية، حيث تبني المنشآت التي ستخدم أسواق منطقة شرق أفريقيا ككلّ. ويُتوقَّع استثمار المزيد في البنية الأساسية (بتمويل من الحكومة الكينية أساساً، لكن مع بعض المشاركة الصينية)، والهدف تأمين منفذ سهل إلى الأسواق الإقليمية. أهمّ هذه الاستثمارات «لابسيت»، وهو مشروع يشمل سكك حديد، ونظم طرق وخطوط أنابيب تصل المنشآت الساحلية الجديدة في لامو بشمال كينيا، وإثيوبيا وجنوب السودان، مكمّلة خطوط الاتّصال التي تبدأ بمومباسا وتمرّ بنيروبي وتنتهي في أوغندا. وإذا كانت هناك شركات صينية استخدمت مجلس التعاون الخليجي في الماضي (دبي خصوصاً) كنقطة انطلاق لأنشطتها في المحيط الهندي الغربي، لن تعود هناك حاجة تُذكر إلى هذه النقطة في المستقبل. وستكون الصين قادرة أيضاً على استخدام ميناء غوادار بباكستان لشحن البضائع في منطقة المحيط الهندي الغربي، من دون أن تحتاج السفن إلى دخول الخليج.
إن التهميش المحتمل لمجلس التعاون الخليجي في المبادرة «حزام واحد – طريق واحد» لا يضرّ التجارة على المدى القصير. لا شكّ في أنّ كلّاً من الصين ومجلس التعاون سيبقى مهمّاً للآخر على الصعيد الاقتصادي بصرف النظر عمّا يحصل لشبكات الاتّصال الأوسع نطاقاً. والسبب أنّ تبادلاتهما التجارية الراهنة معتمدة بدرجة كبيرة على الممار البحرية، ويمكن أن تواصل عملها كما في السابق. ولدى الطرفين مصلحة قوية في استمرار علاقاتهما. في الحقيقة، طرأت زيادة كبيرة في الشهرين اللذَين سبقا إعداد هذا التقرير على عدد الاتّفاقيات الثنائية المتّصلة بتجارة الصين مع دول الخليج (وبخاصّة مع السعودية).
بيد أنّ آفاق تطوير العلاقات ستتأثّر بشدّة إذا لم يصبح مجلسُ التعاون الخليجي جزءاً من شبكة التطوير. ولكي يضع مجلس التعاون نفسه في صلب التطوّرات الحديثة التي تعمل على تغيير طبيعة وشكل العلاقات عبر آسيا، ينبغي أن يكون جزءاً مكمّلاً للشبكة، وأن تكون له مشاركة كاملة في المؤسّسات التي تبرز، مثل بنك التنمية الجديد التابع للبريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية. أمّا إيران، المنتفعة من مزيّتها الجغرافية (لقربها من آسيا الوسطى)، فقد هيّأت نفسها أصـلاً لتنتفع من هذه العلاقات الدولية الجديدة: إنّها تتهيّأ لتصبح عضواً في منظّمة شنغهاي للتعاون، وهي رحّبت بضمّها إلى المشروع «حزام واحد – طريق واحد». ويُتوقّع أن تزيد التبادلات التجارية بين إيران والصين عشرة أضعاف، بحسب ما أُعلن في نهاية زيارة أجراها مؤخّراً الرئيس شي جينْبينغ لطهران، وذلك بحلول سنة 2020[11].
ثالثاً: ربط البُعْد الآسيوي للنظام العالمي الناشئ بالقضايا الأمنية في الخليج
الواضح أنّه ليس لدى القوى الآسيوية (الهند واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، وليس الصين فقط) مصلحة كبيرة عموماً في الانجرار إلى دور عسكري/بحري نشط في صون أمن الخليج. لا شكّ في أنّها ربّما تكون مستعدّة لتقديم معدّات عسكرية، وهو الأمر الذي فعلته في الماضي بالفعل، لكن يُعتبَر الدور الذي مارسته الولاياتُ المتّحدة في المنطقة في السنين الأخيرة مثيراً للإشكاليات عموماً، غالباً ما كان يهدّد بإيجاد مشكلات أمنية بقدر ما كان يوفّر الأمن. وستكون الأولوية لدى هذه الدول (وهو ما عبّرت عنه الحكومتان الصينية والهندية على الأقلّ) لنظام أمني إقليمي للخليج، قائم على تعاون بين دول الخليج الثماني، عوضاً من أيّ شيء يتمّ تنسيقه من خارج المنطقة.
في ما يختصّ بالمسألة الأخيرة، ربّما يوفّر الترابط عبر – الآسيوي المتزايد حافزاً مادّياً لعلاقات متطوّرة بين دول الخليج، وبالتالي يضع الأساس لمبادرة صينية (أو صينية – هندية) للترويج لإطار عمل أمني إقليمي تعاوني يعمّ منطقة الخليج. بعبارة أخرى، إذا كانت المواجهة بين السعودية وإيران تجعل اقتراحَ نقطة اتّصال بين المشروع «حزام واحد – طريق واحد» ومجلس التعاون الخليجي عسيراً على المدى القصير، يمكن لهذا المشروع (والمؤسّسات والمشاريع المحيطة به) أن يتيح الفرصة الحاسمة أيضاً لجذب دول الخليج إلى علاقة قائمة على مزيد من التعاون على المديين المتوسط والطويل. يمكن أن تجني إيران ومجلس التعاون على السواء منافع جمّة إذا أمكن ربط مجلس التعاون بالمشروع «حزام واحد – طريق واحد» عبر إيران. وستكون الصين والهند، اللتان تتمتّعان بعلاقات طيبة مع كلّ من السعودية وإيران ولديهما مصالح على المحكّ، في وضع جيّد لإطلاق حوار وتأطيره. مثل هذا الحوار لن يقتصر على حلّ النزاعات القائمة، بل سيشمل تصوّر إيجاد إطار عمل إقليمي يمكن من خلاله تسوية الخلافات بين دول الخليج عوضاً من تسويتها باللجوء إلى قوى عسكرية خارجية.
ربّما لا يبدو السيناريو المذكور آنفاً واقعياً فيما تشهد منطقة الخليج تنافساً حادّاً وصراع «حرب باردة». غير أنّ الحاجة إلى إيجاد أساس لعلاقات بين دول الخليج باتت واضحة أكثر من أيّ وقت مضى. وربّما يكون تقديمُ أسباب عملانية للدول الإقليمية لتتعاون فيما بينها خطوةً أولى لإيجاد طريق للسير قدُماً. وشبكة الترابط عبر – الآسيوي المتنامية تتيح مثل هذه الفرصة، مع مزيّة إضافية متمثّلة بفتح نافذة لدول مجلس التعاون الخليجي كي تعزّز دورها في السياسات العالمية.
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 460.
في الأصل أوراق هذا الملف قدّمت إلى «ندوة العلاقات العربية – الصينية» التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع معهد دراسات الشرق الأوسط، جامعة شنغهاي للدراسات الدولية – الصين، في بيروت بتاريخ 21 – 22 شباط/فبراير 2017.
(**) تيم نيبلوك: بروفيسور في جامعة إكستر – بريطانيا
البريد الإلكتروني: t.c.niblock@ex.ac.uk
[1] Tim, Niblock «Strategic Economic Relationships and Strategic Openings in the Gulf,» in: Steve Hook and Tim Niblock, The United States and the Gulf: Shifting Pressures, Strategies and Alignments (Berlin: Gerlach Press, 2015), pp. 8‑9.
[2] ينبغي الإقرار هنا بوجود قضية معقّدة في الأرقام الواردة هنا. فقد جُمعت في أيار/مايو 2014 على أساس الإحصاءات السنوية التي يُصدرها صندوق النقد الدولي في شهر أيار/مايو من كل عام وتغطّي التدفّقات التجارية السنوية في السنة السابقة. لكن مع مرور الوقت، يُدخل صندوق النقد الدولي بعض التعديلات على أرقام التدفّقات التجارية بناء على معلومات محدَّثة حصل عليها، تعكس أيضاً بعض التغيّرات في أسعار الصرف وغيرها. ونشير إلى أنّ أحدث الأرقام الصادرة عن صندوق النقد الدولي عن التدفّقات التجارية في سنة 2013، التي صدرت في مستهلّ شهر أيار/مايو، تُظهر أنّ الاتّحاد الأوروبي تقدّم على الصين بفارق بسيط جداً في تبادلاته التجارية مع الخليج في سنة 2013. لكنّ أرقام سنة 2016، الخاصّة بالتدفّقات التجارية لسنة 2014، تشير إلى أنّ حجم تجارة الصين مع الخليج كانت أكبر كثيراً من حجم تجارة الاتّحاد الأوروبي معه في سنة 2014. لذلك، لا شكّ في صعود الصين، بحلول سنة 2014 على الأقل، إلى المركز الأول.
[3] International Monetary Fund [IMF], Direction of Trade Statistics (Washington: IMF, 2016).
[4] المصدر نفسه، ص 9.
[5] «BP Energy Outlook 2035, Country and Regional Insights – China» (London: BP, 2015).
[6] الشرق الأوسط، 20/11/2013.
[7] انظر: «China-Pakistan Economic Corridor,» Daily Times (Pakistan), 6/12/2015, <http://www.dailytimes.com.pk/opinion/06-Dec-2015/the-china-pakistan-economic-corridor>.
[8] انظر: «Singapore to Kunming by High Speed Train,» The Malay Times, 29/10/2014, <http://www.themalaymailonline.com/travel/article/singapore-to-kunming-by-high-speed-rail-in-10-hours-video>.
[9] انظر «China, India Fast-Track BCIM Economic Corridor,» The Hindu, 26/6/2015, <http://www.thehindu.com/news/national/china-india-fasttrack-bcim-economic-corridor-project/article7355496.ece>.
[10] يتجلّى منطق المسارات المبيّنة بأبهى صوره في حالة المسارات البرّية، طالما أنّ طرق الاتّصال المارّة بشمال إيران لا تشكّل أيّ مشكلة – هناك احتمال بإقامة وصلة تنتهي بدول مجلس التعاون الخليجي، لكنّ العملية صعبة. لكنّ الممارّ البحرية لطريق الحرير البحري تلتفّ بالمثل حول الخليج، وإن كانت تمرّ عبر البحر الأحمر. المسار الشرقي الرئيس الممتدّ من الصين يعبر المحيط الهندي ويتوجّه مباشرة نحو ميناءَي لامو ومومباسا الكينيَّين. وهذا يعكس بالطبع الحقائق الراهنة.
[11] «Iran and China Agree Closer Ties After Sanctions Ease,» BBC News, 23 January 2016, <http://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-35390779>.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.
مقالات ذات صلة
1 Comment
Add comment إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
بارك الله فيكم ..