مقدمة:

بعد مرور عدة أسابيع على بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، لا يبدو أن مجريات الأمور تجري وفق ما تهواه روسيا من وراء قرارها شن الحرب على أوكرانيا. فقد تكبدت روسيا خسائر كبيرة خلال الأسابيع الأولى من بداية حربها على أوكرانيا، وهي خسائر مرشحة للارتفاع أكثر مع طول الحرب وامتدادها.

أحدثت الحرب ردة فعل غربية غير مسبوقة، لم تكن القيادة الروسية تتوقعها، بحيث توحدت الدول الأوروبية في التنديد بالحرب الروسية على أوكرانيا، وفي فرض عقوبات صارمة ستكون لها نتائج وخيمة على الاقتصاد الروسي، كما بدت روسيا شبه معزولة دوليًا، بعد قرار الجمعية العامة مطالبتها بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وتشديدها على وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها. كما برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة وقائدة وحامية للغرب، إضافة إلى إعادة جزء من صدقية المجمع الاستخباراتي الأمريكي بعد تأكد توقعاته بقرب الحرب الروسية على أوكرانيا.

ترجع أسباب الأزمة الأوكرانية لسنوات مضت، وهي من تبعات النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، نتيجة عدم التعاطي الغربي إيجابًا مع تخوفات روسيا الأمنية وعلى رأسها تمدد حلف شمال الأطلسي نحو حدودها الغربية، بعد التعهدات التي قُدمت لروسيا بعدم توسع الحلف شرقًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

يحمّل المفكر الواقعي جون ميرشايمر الغرب المسؤولية الرئيسة عن الأزمة، وذلك بسبب نقضه لتفاهمات ما بعد الحرب الباردة، وعدم تفهم المخاوف الأمنية الروسية. ومنبع الخوف الروسي يكمن في ثلاث قضايا أساسية: توسيع حلف الشمال الأطلسي شرقًا؛ توسيع الاتحاد الأوروبي بضم أوروبا الشرقية؛ ودعم الغرب للموجات الديمقراطية في شرق أوروبا. هذه الإجراءات كان من شأنها نقل أوكرانيا من المحور الروسي إلى المحور الغربي. لذلك “لا ينبغي التفاجؤ من الإجراءات التي قام بها بوتين، فالغرب ينتقل إلى الفناء الخلفي لروسيا ويهدد مصالحها الاستراتيجية”[1].

إذا كان جون ميرشايمر يحمّل الغرب المسؤولية الرئيسية عن الأزمة الأوكرانية، إلا أنه كان يعتقد أن بوتين لن يقوم باحتلال أوكرانيا، وأنه أذكى من القيام بعمل يُضعف روسيا، فإذا أراد الغرب “إضعاف روسيا فينبغي عليه تشجيع بوتين على احتلال أوكرانيا”[2].

بإقدام بوتين على شن حرب على أوكرانيا يكون قد أقدم على ارتكاب خطأ استراتيجي، فسواء تمكن من احتلال أوكرانيا أو عجز عن ذلك، إلا أن تبعات الغزو ستكون مكلفة على روسيا. قوّض الغزو الروسي مجموعة من الأهداف التي عملت عليها روسيا خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها توتير العلاقات الأوروبية الأمريكية، والأوروبية الأوروبية، بحيث أسهمت الحرب في تعزيز تلك العلاقات، وفي وحدة الصف الغربي في التعاطي مع الحرب الروسية على أوكرانيا.

أولًا: تأكيد توقعات المجمع الاستخباراتي الأمريكي

تعرضت صورة وصدقية أجهزة الاستخبارات الأمريكية لأضرار كبيرة منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، حين تبين كذب تلك الأجهزة بخصوص امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وهو العذر الذي قدمته الولايات المتحدة لتبرير غزوها للعراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين. وكذا فشل المجمع الاستخباراتي الأمريكي في قراءة تبعات إسقاط صدام حسين وتفكيك نظام البعث على الوجود الأمريكي في العراق، وعلى المصالح الأمريكية في المنطقة، وخدمة خصوم الولايات المتحدة الدوليين كالصين وروسيا، والإقليميين كإيران.

وجاء الانسحاب الأمريكي المتسرع من أفغانستان وسقوط الحكومة الأفغانية بشكل سريع أمام حركة طالبان صيف 2021، ليزيد من منسوب الشك في قدرة الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية على حسن قراءة الواقع وتقديم معطيات وتحليلات ذات صدقية، بعد أن كانت الإدارة الأمريكية تتوقع قدرة الحكومة الأفغانية على الصمود في وجه حركة طالبان لعدة أشهر، واستبعاد إمكان سقوطها بعد أيام فقط من الانسحاب الأمريكي.

غير أن الأمر اختلف مع قضية الحرب الروسية على أوكرانيا، بحيث عزز التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا صدقية التحذيرات والتوقعات الأمريكية بقرب التدخل العسكري الروسي. فحتى أيام معدودة قبل وقوع التدخل العسكري الروسي كانت القيادة الروسية، بل حتى دول غربية، وجزء معتبر من الرأي العام والمجتمع المدني يشكك في التوقعات الأمريكية بقرب الغزو الروسي لأوكرانيا.

وبهذا يكون الرئيس فلاديمير بوتين بقراره شن الحرب على أوكرانيا، بعد أن كان يكذّب ويستهزئ من التوقعات الأمريكية، قد قدّم خدمة كبرى للمجمع الاستخباراتي الأمريكي، وأعاد له جزءًا من صدقية فقدها أمام الرأي العام الدولي منذ سنوات، كما أكد حقيقة وجود اختراق استخباراتي أمريكي لمستويات معينة في النظام الروسي، ويؤكد إلى حد ما صحة الأخبار الأمريكية حول سحب الإدارة الأمريكية لجاسوس أمريكي كان قادرًا على الوصول إلى الرئيس الروسي بوتين[3].

ثانيًا: تعزيز العلاقات الأورو-أطلسية

بعد نهاية الحرب الباردة برزت ثلاث أطروحات في التعاطي مع القارة الأوروبية، أطروحة أوروبا الأطلسية، وأطروحة أوروبا-الأوروبية، والأطروحة الروسية[4]. تعبّر الأطروحة الأولى عن الولايات المتحدة والتي ترى باستمرار التأثير والنفوذ الأمريكيين، وتقويض أي توجه للتقارب بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. في حين تعبّر الثانية عن توجه أوروبي تقوده ألمانيا وفرنسا بالخصوص، وتسعى هذه الأطروحة لقيام حزام للأمن والتعاون حول أوروبا عبر توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل أكبر عدد من الدول الأوروبية، وهو ما يسمح بالتأثير في سياسة تلك الدول، وجعلها متوافقة مع توجهات وأهداف ومبادئ الاتحاد الأوروبي. أما الأطروحة الروسية فتدافع عن تأسيس أوروبا الكبرى المؤلفة من دول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي، وهو ما يتيح لروسيا دورًا أساسيًا في مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

عانت العلاقات الأمريكية- الأوروبية توترًا واختلافًا في الرؤى على نحوٍ كبير خلال السنوات الماضية. هذا التوتر أثر في وحدة الموقف الغربي من بعض القضايا الخارجية، والمثال الأبرز هو الموقف من الغزو الأمريكي للعراق، حيث بلغت درجة التناقض بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية المؤثرة مستوى كبيرًا، إلى درجة إعلان فرنسا عن إمكان لجوئها لحق النقض في مجلس الأمن ضد أي قرار يجيز التدخل العسكري في العراق، وإعلان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عن إمكان ذهابه شخصيًا لحضور جلسة مجلس الأمن الدولي والتصويت برفض مشروع القرار الأمريكي-البريطاني. وهو ما دفع إدارة الرئيس جورج بوش الإبن للإعلان عن “فشل الدبلوماسية” وتأسيس “حلف الراغبين”.

أسهم الغزو الأمريكي للعراق دون قرار من مجلس الأمن الدولي، وفي ظل رفض دولي للغزو الأمريكي في إحداث شرخ كبير في العلاقات الأمريكية- الأوروبية، شرخ وصفه فرانسيس فوكوياما بالتحول التكتوني، و”بالصدع الذي لن يشفى بسهولة في المستقبل”[5].

خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب وصلت العلاقات الأمريكية- الأوروبية مرحلة متقدمة من التوتر والاختلاف في السياسة الخارجية، توترٌ انعكس على الموقف من دور حلف شمال الأطلسي بتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بكون الحلف دخل مرحلة “الموت الدماغي”، داعيًا إلى ضرورة تقليل الأوروبيين الاعتماد على الولايات المتحدة والعمل على تحقيق “الاستقلال الاستراتيجي”[6]. بيد أن ألمانيا، من جانبها، رفضت تصريحات ماكرون حول حلف شمال الأطلسي، وهاجم الرئيس ترامب الرئيس الفرنسي، واصفًا تصريحاته “بالبغيضة بدرجة كبيرة جدًا بشكل أساسي بالنسبة للدول 28” معتبرًا تلك التصريحات “خطيرة ومهينة”[7].

شهد حلف شمال الأطلسي كذلك خلافات كبيرة بين الأمريكيين خصوصًا خلال إدارة ترامب، وبين عدد من الدول الأعضاء في الحلف ولا سيما ألمانيا حول زيادة نسبة ميزانية الدفاع لتصل إلى 2 بالمئة من الناتج الإجمالي، وهو الأمر الذي دائمًا ما رفضت ألمانيا الاستجابة له.

بخصوص العلاقات الأوروبية مع روسيا تجلت حدة الاختلاف الأوروبي-الأوروبي والأوروبي- الأمريكي حول خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” المفروض فيه نقل 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا من روسيا إلى ألمانيا، وهو الخط الذي ترفضه الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية في مقدمتها فرنسا وأوكرانيا وبولندا، وهو ما دفع ترامب لفرض عقوبات على ذلك الخط من أجل تعطيله.

شكل تعزيز العلاقات الأمريكية- الأوروبية، وتجاوز الأضرار التي خلفتها إدارة ترامب، هدفًا محوريًا لإدارة بايدن، الذي انتقد هو وفريقه – حتى قبل انتخابه – طريقة تعامل ترامب مع الحلفاء الأوروبيين[8]. غير أن قرار أستراليا التخلي عن صفقة لتصنيع غواصات مع فرنسا بقيمة 65 مليار دولار لمصلحة منح صفقة تصنيع غواصات للولايات المتحدة وبريطانيا بموجب الشراكة الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ المعروفة بمبادرة أوكوس الموقعة بين أميركا وبريطانيا وأستراليا، خلّف غضبًا فرنسيًا غير مسبوق إلى درجة استدعاء سفيريها في واشنطن وكانبيرا، ووصف ما قامت به الولايات المتحدة وأستراليا بطعنة في الخلف وخيانة لفرنسا[9].

لكن الحرب الروسية على أوكرانيا قدمت خدمة كبرى للإدارة الأمريكية الحالية التي كانت تواجه مصاعب وعراقيل في إصلاح العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وإصلاح مخلفات الرئيس ترمب.

فبسبب الحرب الروسية- الأوكرانية انتعشت الاطروحة الأوروأطلسية، واستعادت الولايات المتحدة مكانتها كدولة حامية لأوروبا ضد التهديدات الروسية. مكانةٌ تعززت مع مسارعة الولايات المتحدة لإرسال تعزيزات عسكرية إلى دول أورويا الشرقية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وإعلان الرئيس الأمريكي بايدن أن الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من الأراضي التابعة لحلف شمال الأطلسي.

كان التطور الأبرز هو الموقف الألماني الذي شهد تحولًا استراتيجيًا في التوجهات السياسية الدفاعية، بإعلان المستشار الألماني أولاف شولتس عن تخصيص أزيد من 113 مليار دولار للقطاع الدفاعي، بما يجعل النسبة المخصصة للدفاع تتجاوز 2 بالمئة من مجمل النتائج الإجمالي، وهو الهدف الذي أقره حلف شمال الأطلسي قبل سنوات، وكان سببًا للخلاف بين ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. موقف لم يقتصر على المستشار الألماني المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بل تعدّاه إلى حزب الخضر الذي يتبنى سياسية صارمة ضد تصدير الأسلحة، وضد زيادة النفقات المخصصة للدفاع، بحيث عبّرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك المنتمية لحزب الخضر عن أسباب تغير الموقف من تصدير الأسلحة ومن زيادة نفقات الدفاع بالقول بأن ألمانيا مضطرة إلى “التخلي عن نوع خاص وفريد من ضبط النفس على صعيد السياستين الخارجية والأمنية.. إذا تغيّر عالمنا يجب أن تتغيّر سياستنا”[10].

وبعد أن كانت ألمانيا متحفظة عن التوقعات الأمريكية بقرب الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعد أن كانت تنتهج سياسة أقرب للحياد في الصراع بين روسيا وأوكرانيا وترفض تزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية، انقلبت مواقفها رأسًا على عقب بعد بداية الحرب، بإعلانها عن إرسال شحنات أسلحة لأوكرانيا شملت ألف صاروخ مضاد للدبابات، و500 صاروخ أرض جو من نوع “ستينغر”. كما أعلنت ألمانيا مباشرة بعد قرار روسيا الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانيسك تعليق خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2، ما يمثل خسارة اقتصادية كبيرة لروسيا التي استثمرت رفقة بعض شركات الطاقة العالمية أزيد من 11 مليار دولار في المشروع[11]، كما يعدّ تعليق ألمانيا خط أنابيب الغاز نورد ستريم2 انتصارًا للموقف الأمريكي- الأوروبي الرافض للمشروع، بوصفه خطرًا جيوستراتيجيًا على أوروبا، وزيادة للنفوذ الروسي في أوروبا.

وعوض أن تحقق روسيا من تدخلها العسكري ردع عدد من الدول المحاذية لروسيا من الانضمام لحلف شمال الأطلسي، فقد يتحقق العكس، فبالرغم من التحذير الروسي لفنلندا والسويد من الانضمام لحلف شمال الأطلسي، إلا أن رئيس فنلندا، سولي نينيستو، أعلن عن تغير في الموقف الفنلندي من مسألة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وبأن مسألة الانضمام إلى الحلف باتت مطروحة، كما قامت فنلندا في خطوة غير مسبوقة بتسليم 2500 بندقية هجومية و150 ألف قطعة ذخيرة و1500 قاذفة صواريخ لأوكرانيا، ووصفت رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين الخطوة بالقرار التاريخي[12]. ولا يقتصر الموقف الفنلندي من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي على الموقف الرسمي، بل إن الموقف الرسمي هو تعبير عن تغير في موقف الرأي العام من الانضمام للحلف، بحيث أظهر استطلاع للرأي أجرته القناة العمومية الفنلندية YLE إنه لأول مرة يؤيد أكثر من نصف الفنلنديين الانضمام إلى الحلف، وقد كانت الحرب الروسية- الأوكرانية السبب الرئيس لتغير المزاج الشعبي من مسألة الانضمام، ذلك أن استطلاع الرأي انطلق يومًا واحدًا قبل بداية الحرب[13].

تنبع أهمية التحول في الموقف الفنلندي في كون فنلندا تملك أطول حدود لدولة بالاتحاد الأوروبي مع روسيا (1340 كيلومترًا)، وبكونها دولة محايدة طوال الحقبة السابقة، كما يعبر الموقف الفنلندي عن تنامي مشاعر الخوف الشعبي من روسيا وتهديداتها.

وهكذا كانت للحرب الروسية- الأوكرانية تداعيات عكسية على الأهداف الاستراتيجية التي كانت تسعى إليها روسيا بالنسبة إلى العلاقات الأوروبية- الأمريكية، وإلى مسألة توسيع حلف شمال الأطلسي، بحيث أدت تلك الحرب إلى توثيق العلاقات الأمريكية- الأوروبية وإلى تزايد دعوات الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بوصفه رادعًا وحاميًا أمام التهديدات الروسية.

  • تعزيز العلاقات الأوروبية-الأوروبية

عانى الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية انقسامات كبيرة بين أعضائه، انقسامات أثرت بشدة في قوة الاتحاد ومكانته وصورته في العالم كنموذج ناجح ومثال تسعى الاتحادات الإقليمية والجهوية لتقليده. وقد بلغ مستوى الضرر حدًا غير مسبوق بانسحاب بريطانيا من الاتحاد، وتزايد قوة اليمين الرافض لشكل الاتحاد، والمُطالب بالانسحاب منه.

أدّت روسيا دورًا كبيرًا في تعزيز الخطاب الرافض للاتحاد الأوروبي، عبر دعمها واحتضانها لقوى اليمين واليسار الرافض للاتحاد، وحتى عندما ضمت روسيا جزيرة القرم الأوكرانية سنة 2014 برز انقسام كبير في الرأي العام الأوروبي حول التعاطي مع الملف وحول العلاقات مع روسيا؛ انقسامٌ تجلى كذلك في مواقف دول الاتحاد الأوروبي وقادتها.

في آذار/مارس 2014 أظهر استطلاع للرأي أن نحو ثلث الألمان والفرنسيين عارض فرض عقوبات تجارية على روسيا، كما أظهر استطلاع للرأي أجرته مجلة دير شبيغل الألمانية أن 55 بالمئة من الألمان كان لديهم تعاطف كبير أو جزئي مع آراء بوتين حول روسية جزيرة القرم[14].

في فرنسا عبر 80 بالمئة من الفرنسيين بحسب استطلاع للرأي لصحيفة لاتربيون في كانون الثاني/يناير 2015 عن كون العلاقات مع روسيا تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي، كما دافع نصف الفرنسيين في استطلاع للرأي في كانون الأول/ديسمببر 2014 عن الرؤية الروسية بخصوص جزيرة القرم بوصفها في المقام الأول مجالًا للمصالح السياسية والاقتصادية لروسيا، في حين رأى 19 بالمئة فقط بأنها أولًا وقبل كل شيء مجالًا للمصالح الاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي[15].

حظيت روسيا بنفوذ متزايد في بعض دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصًا المجر، حيث توطدت علاقات قيادة البلدين أكثر فأكثر إلى درجة أصبحت مثار غضب وسخط من قبل الاتحاد الأوروبي، بسبب التصرفات والقرارات التي أقدم عليها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، من قبيل الاتفاق مع روسيا على نقل الغاز الطبيعي إلى المجر عبر خط أنابيب الغاز المسيل التركي عوض خط الغاز الأوكراني، وهي الحادثة التي أدت إلى استدعاء متبادل للسفراء بين أوكرانيا والمجر[16]. كما اعتبر عدد من السياسيين الأوروبيين الزيارة التي قام بها رئيس وزراء المجر إلى روسيا في شباط/فبراير الماضي، بمثابة دعم لسياسات بوتين وشقًا للصف الأوروبي في التعاطي مع روسيا[17].

غير أن الحرب الروسية على أوكرانيا كان لها تأثير عكسي في العلاقات الأوروبية -الأوروبية، على خلاف ما كانت تهدف إليه روسيا. فقد أظهر التعاطي الأوروبي مع الحرب الروسية على أوكرانيا عن وحدة في الموقف، وعن سرعة رد الفعل في إدانة الحرب، والمسارعة في فرض عقوبات أوروبية موحدة على روسيا. وكان اللافت هو الانقلاب في المواقف من قبل قادة كانوا مقربين من بوتين مثل رئيس وزراء المجر، الذي أعلن دعم طلب انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ودعمه لإصدار عقوبات صارمة ضد روسيا بعد حربها على أوكرانيا[18]. كما أعلن كثير من الدول الأوروبية إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليونان وفنلندا والتشيك والنرويج.

وقد أظهر تصويت البرلمان الأوروبي على قرار يدين الحرب الروسية على أوكرانيا ويدعو لفرض عقوبات صارمة على روسيا عن تحول في موقف بعض القوى السياسية الأوروبية التي كانت تدافع عن العلاقة مع روسيا وتتفهم مطالبها، وهو ما يعكسه التصويت في البرلمان الأوروبي، فمن أصل 705 أعضاء صوّت لمصلحة القرار 637 عضوًا في حين لم يعارضه إلا 13 عضوًا وامتناع 26 عضوًا[19].

كما أظهر التصويت في الجمعية العامة على قرار يطالب روسيا بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا فورًا ويرفض انتهاك سيادتها، إجماعًا أوروبيًا على رفض الممارسات الروسية، وهو رفض لم يقتصر على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بل شمل الأغلبية الساحقة للدول الأوروبية باستثناء روسيا وبلاروسيا اللتين صوتتا ضد القرار وأرمينيا التي امتنعت عن التصويت، وكان لافتًا تصويت كل دول البلقان لمصلحة القرار، بالرغم من العلاقات التاريخية القوية التي تجمع روسيا ببعض دوله مثل صربيا[20].

خاتمة

كان بإمكان روسيا الضغط للحصول على الضمانات الغربية بشأن مخاوفها الأمنية، والعمل على جعل أوكرانيا بلدًا محايدًا، من دون اللجوء إلى خيار الحرب، وهو الأمر الذي من شأنه تعقيد مهمة روسيا، ودفع أوكرانيا أكثر للمطالبة بالانضمام لحلف شمال الأطلسي، ومعها دول كانت دائمًا محايدة مثل فنلندا والسويد، ودفع الدول الأوروبية لتعزيز ارتباطها بالولايات المتحدة كسبيل للحماية من التهديدات الروسية.

وبعد مرور عدة أسابيع على بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن مستقبل الأزمة مفتوح على خيارات متعددة.

  • الاحتلال الروسي لأوكرانيا: وهو خيار ممكن بالنظر للفرق الشاسع في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، لكن تحققه سيتطلب كثيرًا من الخسائر البشرية من الجانبين، وستكون تكلفته كبيرة جدًا على روسيا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، في ظل العقوبات الصارمة وغير المسبوقة التي تم وسيتم فرضها على روسيا، وفي ظل رفض أوروبي موحد للحرب الروسية، ورفض دولي كبير للتحركات الروسية.
  • تقسيم أوكرانيا: إلى شرق موالٍ لروسيا وغرب موالٍ للغرب، وهو أمر أصبح شبه واقع مع دعم روسيا للانفصاليين في الشرق الأوكراني، واعترافها باستقلال جمهوريتيدونيتسك ولوغانيسك، والعمل من أجل تمديد سيطرة الانفصاليين غربًا وجنوبًا وشمالًا، ومنع أي ارتباط أوكراني بالبحر في حالة تمت السيطرة على مدينة أوديسا وصولًا إلى الحدود مع مولدوفيا. وهذا الخيار سيكون مرفوضًا من قبل الأوكرانيين وكذلك الغرب الداعم لهم، وسيجعل روسيا عرضة لاستمرار العقوبات الغربية ولمقاومة عسكرية على الميدان.
  • حياد أوكرانيا: كان المطلب الرئيس لروسيا، وسبب الأزمة منذ سنة 2014، لكنه أصبح خيارًا صعبًا مع اندلاع الحرب، ومع تزايد التعاطف الغربي مع أوكرانيا، وارتفاع حدة الغضب الشعبي الأوكراني تجاه روسيا، كما أن الغرب خصوصًا الولايات المتحدة لن تقبله، فهي تريد استغلال الحرب وإطالة أمدها لاستنزاف روسيا؛ وهنا قد يطرح الانضمام للاتحاد الأوروبي في مقابل التخلي عن فكرة الانضمام لحلف شمال الأطلسي كصيغة للتسوية بين الأطراف، مع حل مشكلة جزيرة القرم، التي لن تتخلى عنها روسيا.

 

قد يهمكم أيضاً  المواجهة الروسية-الأطلسية في أوكرانيا

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأزمة_الروسية_الأوكرانية #المواجهة_الروسية_الأطلسية #بوتين #زيلينكسي #الحرب_على_أوكرانيا #الحرب_الروسية_الأوكرانية #الناتو #حلف_شمال_الأطلسي #العلاقات_الأوروبية_الأوروبية #العلاقات_الأميركية_الأوروربية  #الحرب_الروسية_على_أوكرانيا