بدأ وليد غلمية عمله الموسيقي بالتلحين في دائرة الموسيقى الشعبية التي انتشرت في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق انطلاقاً من اعتقاده أن هذه المنطقة العربية تتسم بملامح موسيقية مشتركة. وكان من الأوائل الذين عملوا على إيجاد معادلة في العمل المسرحي تقوم على ثلاثة عناصر هي: 3/1 للمادة الموسيقية و3/1 للحوار و3/1 للغناء محاولاً باتجاه توازن ما. ومنذ أواسط الستينيات كان له الدور الأساسي في إيجاد المسرح الموسيقي في لبنان الذي تجسّد بمسرح الفينيسيا، بالإضافة إلى أنه كتب دراسات وقام بأبحاث حول الموسيقى العربية في لبنان وسوريا والعراق وبعض بلدان المغرب العربي كتونس وليبيا.

منذ السبعينيات، اهتم بالتأليف الموسيقي السمفوني، فوضع أول سمفونية عربية اعتمدت المادة الموسيقية العربية (الأنغام..) فكانت أعمال «القادسية» و«المتنبي» و«اليرموك» و«الشهيد» و«المواكب»، كما كانت له مساهماته في وضع موسيقى البرنامج حيث كتب «مرايا الحنين» و«مرجعيون» و«بيروت».

ساهم في إنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية التي يقودها حالياً ويشرف عليها، والأوركسترا الوطنية للموسيقى الشرق ـ عربية أيضاً.

تصدر له قريباً سمفونية جديدة بعنوان «المجد».

هنا حوار معه يستعرض تجربته الموسيقية وآراءه ومواقفه بالنسبة إلى العطاءات الموسيقية والغنائية العربية واللبنانية:

 إذا نظرت إلى الخريطة العربية من الناحية الموسيقية، فما هي العناصر المشتركة التي تجدها وتعطي بجدارة اسم الموسيقى العربية؟

غلمية: هناك ثلاثة عناصر مجتمعة تحت عنوان واحد هو الكلام. والعناصر الثلاثة هي النص الشعري، والنص اللحني، والنص الإيقاعي، المشترك هو: من الأطلسي إلى العراق هناك متعة كبرى للنص الكلامي. ويكاد هذا النص يكون هو الخطة رقم واحد في العمل الموسيقي الغنائي. وهنا استعمل تعبير موسيقي بتحفظ. نحن نرث الغناء. واللحن الذي نعمل عليه ونعتبره فولكلورياً نسلخه عن الكلمة. والكلام الذي أتحدث عنه هو كلام اللغة الفصحى، لأن العامية هي لغة الفولكلور. وهناك ألحان فولكلورية جزائرية أو مغربية لا تروق للمستمع في المشرق العربي، كما أن هناك ألحاناً من المشرق العربي قد لا تروق للمستمع في المغرب العربي أو اليمن أو غيرهما. غير أن الشيء الذي يجتمع حوله الجميع، أعني جميع العرب، هو النص الكلامي الفصيح الملحن.

الشيء المشترك الثاني هو الميلوديا. فنحن شعوب نستمتع كثيراً باللحن. أي عدم إشراك أي شيء آخر مع اللحن. فهذه الشعوب تحب الميلوديا. ولذلك تجد أن القصيدة الملحنة كانوا يغنونها على العود، ثم زادوا القانون، ثم آلات أخرى، ومن ثم ولدت الأوركسترا المؤلفة من حوالى ستين شخصاً. وكلهم يعزفون ويغنون الشيء نفسه، وتتناوب الآلات على تأدية اللحن نفسه، إذاً اللحن أساسي جداً.

الشيء الثالث هو الإيقاع. إلا أنه يشترك أحياناً مع العنصرين المذكورين، وأحياناً أخرى ينشق عنهما. وبكلام موسيقي ما نقصده هو آلات الإيقاع، أو القرع.

 

 هل توضح ما تقوله؟

غلمية: كل الغناء العربي تقريباً يتضمن الغناء الظاهر، ولذلك نجد في الموسيقى العربية تنوعاً كبيراً في آلات الإيقاع. فعندنا الدف والطبلة والرق وغيرها. وعندما نتوجه إلى الخليج أو إلى المغرب العربي تنضاف آلات إيقاعية أخرى. ولهذا يلعب الإيقاع دوراً كبيراً في الموسيقى العربية. والمستمع العربي ينفعل بالإيقاعات ويعبّر عن ذلك بهز جسمه كله أو أجزاء منه. وتجدر الإشارة إلى أن الإيقاع ينفرد أحياناً في الإنشاد الديني، فنسمع آلات القرع منفردة.

 

 تتحدث عن آلات القرع. ألا يمكن أن تحدد الأغنية العربية ذات الطابع الإيقاعي، بمعنى أنها في أي منطقة تنتشر أكثر من الأخرى؟

غلمية: ما ذكرته يصيب الأغنية في الخليج العربي بشكل خاص، والجزء الأكبر من الغناء العربي المغاربي خصوصاً في «الحضرات الدينية». وأريد التأكيد أخيراً على أن العناصر الثلاثة التي ذكرتها ترتبط عميقاً بالفكر الفلسفي الإسلامي. فهناك رؤية إسلامية عظيمة تحيّد ولا أعرف لماذا. وهذه الرؤية انعكست حتماً على العملية الإبداعية وغيرها.

 

 ذكرت أن عناصر إبداعية تحيّد. هل تستطيع ذكرها ولماذا؟

غلمية: الموسيقى والرقص. وهما إبداعان قدَّما للغرب مفاتيح الولوج إلى التعبير الفني في أوسع حدوده. لا يجوز أن يتم القفز فوق إبداعات عربية مهمة لأنها تشكل جزءاً أساسياً من علوم العرب وثقافتهم وفنونهم.

 

 إذاً العناصر التي ذكرتها تجمع، والفولكلور لا يجمع.

غلمية: نعم.

 

 هل يعني كلامك أنه ليس هناك فولكلور عربي واحد؟

غلمية: نعم. هناك فولكلورات عربية. وهي لا تجتمع لهجة وإيقاعاً وحركة.

 

 علام هذا التفريق؟

غلمية: لأن البيئات العربية تختلف من حيث أبعادها الاقتصادية والجغرافية.. ولنأخذ لبنان مثلاً واضحاً. فولكلور البقاع يختلف عن فولكلور الجبل، كما عن فولكلور الجنوب وهكذا.

 

 ما هي العناصر غير الإسلامية في الموسيقى العربية؟

غلمية: هناك الحضارة التي جاءت بعد بابل وآشور بالإضافة إلى الحضارات السريانية والآشورية. فكلها حضارات لـم تمت، إذ انها كانت موجودة في المشرق العربي ولها أهميتها وتأثيرها وتجذراتها. وعندما ظهر السيد المسيح، تكلم الآرامية. وأشير إلى أن بلادنا المشرقية عرفت عبادة الإله «مرقود» التي كانت تحدث مع مهرجانات احتفالية تخللتها الموسيقى. وخلاصة القول إنه كانت حضارات قديمة جاء الإسلام فتركها وامتص أفضل ما فيها وصهره في شخصيته ومفاهيمه، ومن ثم ظهرت الحضارة العربية التي تحتضن المسلم والمسيحي والعبراني…

 

 ذكرت الأدونيسيات في جبيل وعبادة «مرقود» في بعض مناطق الجبل، وكذلك إينانا وتيموزي وغلغامش في بلاد ما بين النهرين، في هذا الضوء هل تذكر أشياء مشابهة في المغرب العربي؟

غلمية: لا شيء مشابهاً في المغرب العربي.

 

 والسبب؟

غلمية: عندما احتل العرب شمالي أفريقيا سيطروا على شعوب متخلفة.

 

 ليس من المعقول أن تكون هذه الشعوب لا تملك عناصر تعبير أو وسائل تعبيرها عن حياتها.

غلمية: المغرب العربي فيه الكثير من الإيقاعات والألحان الآتية من أفريقيا، لكن عظمة الموسيقى والإيقاع اللذين حملهما العرب إلى شمالي أفريقيا طغت على العناصر المحلية. وعندما تصل إلى حدود المغرب مع جيرانها تشعر وكأنك تنتقل إلى عالـم مختلف. وأثناء دراستي عن الموسيقى الليبية وجدت التأثير الأفريقي في الإيقاع خصوصاً في منطقة فزَّان. وحين تتوجه إلى طرابلس الغرب وبنغازي تجد شيئاً مختلفاً إلى حد بعيد. أما تونس فوضعها مميز. فأرضها تكاد تكون كلها على الساحل. وما قصدت قوله أن عمقها الصحراوي محدود. ولذلك كانت البلد الأول الذي استقبل الموشح الذي وصل إلى هناك.

 

 هل نستطيع الكلام عن أشكال موسيقية عربية، وما هي؟

غلمية: ليس هناك أشكال موسيقية عربية. إذ ان الموجود هو مجرد أشكال غنائية، والأشكال الموسيقية جاءت في فترات متأخرة، فالسماعي واللونغا والبشرف ليست أشكالاً عربية. اللونغا أساسه يوناني، والأتراك نقلوه عن اليونان، والعرب بدورهم نقلوه عن الأتراك. والبشر قالب تركي. العرب لـم ينتجوا في الواقع قوالب موسيقية. أما تصنيفها عربية أو غير عربية فموضوع آخر. وتجدر الإشارة إلى أن هناك علاقة وطيدة بين الترتيل القرآني والغناء الطربي.

 

 ألا يوجد حالة موسيقية، أو مظهر موسيقي عربي؟

غلمية: التقاسيم هي الموروث الحقيقي للحالة الموسيقية. وهي تقوم على آلة موسيقية تعزف أو تقسّم وليس على الصوت البشري.

 

 والموّال؟

غلمية: هو اشتقاق حر في التنغيم. وأي موسيقي يستطيع إدخال النص الكلامي في الموّال. والموّال يختلف عموماً باختلاف البيئة والجغرافيا. فهناك موّال مصري، وآخر بغدادي بالإضافة إلى الموّال الساحلي والجبلي. ولذلك، لا أستطيع الجزم بأن الموّال شكل موسيقي عربي، إنما أقول انه شكل فولكلوري.

 

 ما هو تأثير غناء الأربعينيات على الموسيقى في لبنان، وكيف يقوّم وليد غلمية هذا الإرث؟

غلمية: كان لبنان في فترة الأربعينيات من القرن الماضي يقلّد مصر غنائياً إلى أن ظهر نجيب الشلفون الذي اشتغل على لغة قريبة من الفصحى. وجاء متري المُر في ألحانه الكنسية البيزنطية. وبعد ذلك ظهر نقولا المنّي الذي يعتبر الملحن الأول للقرّادي (نوع من الأزجال). والزجل، كما هو معروف، إيقاع سرياني يرافق السجع العربي.

 

 لماذا التفاتتك الخاصة إلى نقولا المنّي؟

غلمية: لأنه شخصية موسيقية تميزت بإدخال الزجل في الموسيقى. وهو مرحلة انتقالية. وقد لعب من جاء بعده من الشعراء أمثال ميشال طراد وسعيد عقل وأسعد سابا وأسعد السبعلي وعبد الجليل وهبي دوراً مهماً من خلال عطائهم الشعري المميز. فهؤلاء تخطوا الزجل. ورغم هذا ظل اللبناني يستمع إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد. كانت الأغنية قبل نقولا المنّي دون كورال، فجاء واستعمل الكورال محرراً الأغنية من اللازمة التي كانت فسحة ضرورية للمغني يستريح فيها ويريح صوته. هذا ما تجاوزه المنّي.

 من المعروف أن إذاعة الشرق الأدنى احتضنت ملحنين عرباً وأطلقتهم. فماذا تبنت ولماذا؟

غلمية: تبنت هذه الإذاعة كل جديد خاصة نقولا المنّي وسامي الصيداوي وعفيف رضوان وفيلمون وهبي وزكي ناصيف وعاصي ومنصور رحباني، ومن ثم وديع الصافي الذي خطّ تياراً جديداً.

 

كيف خطّ وديع الصافي تياراً جديداً؟

غلمية: كان الملحنون يلحنون لأصواتٍ ذات مدى محدود جداً. ومع ظهور وديع الصافي بصوته الاستثنائي اضطر الملحنون أن يضعوا ألحاناً لهذا الصوت الكبير. وفي رأيي كل أغاني وديع الصافي عملاقة من حيث الاقتدار الصوتي، بالإضافة إلى أنه لخص في صوته الترتيل القرآني واستوعب الترتيل السرياني والأنغام البيزنطية في إطار حبكة أتقنت شيئين: جودة التنفس، واتقان اللفظ، ولذلك أحبه العرب جميعاً.

 

 فلنعد إلى إذاعة الشرق الأدنى ودورها!

غلمية: كل ما قدمته الشرق الأدنى، أو معظمه كان لبنانياً.

 

 الجانب الفلسطيني يحتل جزءاً كبيراً من اهتمام الشرق الأدنى.

غلمية: ما تقوله صحيح إلى حد ما خصوصاً إذا ذكرنا حليم الرومي وأنطوان زابيطا ورياض البندك. وملاحظتي الأساسية هنا، أنهم عندما جاؤوا من فلسطين حملوا معهم الذكاء والمهارة في العزف. وأذكر هنا من العازفين الفلسطينيين المهمين السلفيتي وأزموز وجورج أبيض.

 

 لماذا هذا التقدم والمهارة للعازف الفلسطيني؟

غلمية: المناخ الانفتاحي في فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني كان هو السبب الأهم على ما أعتقد.

 

 أين تضع مهرجانات بعلبك الدولية في سياق تطور الأغنية والموسيقى والمسرح الغنائي في لبنان؟

غلمية: مهرجانات بعلبك الدولية كرّست بشكل مغاير الجديد.

 

هناك ملحنون برزوا وساهموا في تلحين أغانٍ انتشرت في الخمسينيات والستينيات لـم تشر إليهم.

غلمية: أذكر بهاء الدين الرواس وخالد أبو النصر.. لكن هذا النوع لـم يترك أثراً يذكر.

 

 أين تضع فيلمون وهبي في هذه الخريطة؟

غلمية: فيلمون وهبي هو الملحن الوحيد في لبنان الذي أدخل الطرب إلى الأغنية. وهنا أهمية موهبته العفوية، ولا بد من الإشارة إلى أن الأغنية في لبنان نقلت إلى كثير من البلدان العربية نموذجها. ولهذا برزت محاولات تريد التجديد في سوريا أو العراق أو غيرهما. والفضل الأساسي في هذه النقطة يعود إلى مهرجانات بعلبك الدولية وما قُدم على مسرحها.

 

 ألا تعتقد أن مهرجانات بعلبك الدولية كانت العامل الأساسي في انطلاق المسرح الغنائي في لبنان؟

غلمية: بالنسبة إلي كل ما يسمى بالمسرح الغنائي اللبناني هو اسكتشات. لقد نقلنا الأوبريت الغربية مترجمة، وهي انتقلت من الإذاعة إلى المسرح بصورة اسكتشات. وبالطبع أضيف إليها العنصر الراقص (الدبكة). وقد أدت هذه الحركة إلى حراك فني واسع دفع بالبعض إلى التلحين والكتابة الفنية للمسرح، وبالبعض الآخر إلى الكتابة الموسيقية بالإضافة إلى إتقان الفنون المساعدة.

 

 هناك وجهة نظر تقول إن المسرح الغنائي انطلق من مهرجانات بعلبك الدولية، ما هو رأيك؟

غلمية: هذا الأمر ليس صحيحاً. والمسرح الغنائي انطلق من الكنائس حيث الكورس والمفرّد الأول والثاني والثالث…

 

 ما تقوله ينطلق من الناحية البصرية وليس من ناحية العناصر التي تشكل المسرح الغنائي فعلاً.

غلمية: ما تسميه مسرحاً غنائياً في بعلبك أنتج شيئاً واحداً هو العمل الفريقي.

 

 لكن الموسيقى في قطع مسرحية كانت عنصراً مهماً في صياغة مسرح غنائي، بالإضافة إلى النص بمضامينه المفتوحة على الصراع وتعدد المواقع واللغات الإنسانية المتفاوتة والمختلفة…

غلمية: العمل الفريقي يضم الموسيقى والإكسسوار والإضاءة والأزياء… وهذا فرض وجود آلات موسيقية جديدة. ولذلك فالمسرح الغنائي سواء كان اسكتشات أو غيرها بدأ في بعلبك والمشرق العربي وليس في مصر.

 

 المسرح الغنائي بدأ في مصر مع سيد درويش.

غلمية: صحيح.

 

 هل هناك علاقة شبه بين المسرح الغنائي في مصر ومثيله في لبنان؟

غلمية: المسرح الغنائي المصري مع سيد درويش كان مسرح الموضوع والفكرة. أما مسرحنا الغنائي في لبنان فكان تركيبة وهمية لا تمس حياتنا. مسرح جميل، لكنك تجد نفسك في النهاية أمام الفراغ. إذ ان أحداثه تنتقل من موقف شعبي بسيط وحقيقي إلى موقف هيولي فلسفي.

 

 هل عمل «فخر الدين» للأخوين رحباني عمل هيولي؟

غلمية: كيف انتهى فخر الدين تلك الشخصية التاريخية؟ ما كتبه الأخوان رحباني هو نصوص شعرية جميلة.

 

 أنت لا تستطيع تقييم المسرح الغنائي على أساس عنصر واحد. فهو يضم الفكرة والموسيقى الدرامية، وحالة الصراع..

غلمية: أنت تخرج من عمل «فخر الدين» بعد حضوره معجباً بشخصية فخر الدين، بينما تخرج من مسرحيات سيد درويش كتلة من الثورة. وهذا هو الفارق. وأضيف أن المسرح الغنائي اللبناني كله لـم يضعني في موقف. لـم يغيّر فيّ ولـم يحدث التحوّل. وهذا معناه أنه وضع اللبناني في حالة سلبية وليس في حالة إيجابية.

 

 لقد كُتبت موسيقى جيدة في بعض الأعمال المسرحية الغنائية اللبنانية حملت ملامح تجديد وتطوير.

غلمية: هذه الموسيقى كُتبت فقط في المسرح الغنائي الذي شاركتُ فيه أو قدمته. ففي هذه الأعمال كادت الموسيقى ألا تنقطع.

 

 عدم انقطاع الموسيقى أو استمرارها في العمل ليس مقياساً وحيداً للمسرح الغنائي. وهناك ميزات أخرى.

غلمية: ما هي؟

 

 الدرامية مثلاً.

غلمية: لا درامية في المسرح الغنائي اللبناني. أعمال الأخوين رحباني كانت عظيمة في زمنها. لكن أن نعطيها أهمية ما تشير إليه، فهذا ما اختلف معك عليه. إن «أرضنا إلى الأبد» وهي عمل مسرحي غنائي شاركت فيه في بعلبك احتوى الدرامية من حيث السيناريو والموسيقى والتركيب، لكن ما قدمته أنا وما قدمه غيري في هذا المجال يقع في إطار الاستهلاك الشعبي. وهذا ما ينطبق أيضاً على عملي «القلعة» الذي قدم في نطاق مهرجانات بعلبك الدولية.

 

بماذا تميزت موسيقياً من غيرك في فترة الستينيات؟

غلمية: كتبتُ موسيقى للمسرح لا للمغني. لـم أتكل على الكلمة، بل على النص الموسيقي نفسه. أما ما أضفته في كتابتي الموسيقية فكان يقع في التنويعات والتصويتات الجديدة التي تساعد وتنمّي الاستعمال الأوركسترالي.

 

 بمَ تميزت في عملك على الفولكلور اللبناني؟

غلمية: هناك اثنان لـم يخلطا بين الشعر والفولكلور، هما زكي ناصيف ووليد غلمية. وربما يكونان الوحيدين اللذين كتبا ألحاناً بوليفونية بكل ما في الكلمة من معنى.

 

إلى أي مدى كنت تتذوق الموسيقى الشعبية المصرية؟

غلمية: كنت أتذوق الموسيقى الشعبية المصرية وما أزال. وأقصد بهذا الموسيقى المحاذية للتراث الموسيقي الشعبي. ومنذ نعومة أظفاري لا أعرف لماذا ختمت ألحان سيد درويش، خصوصاً الألحان الشعبية الصادرة عن قلب المجتمع المصري وروحيته وإيقاعه وطرافته. كل أغاني سيد درويش القريبة من التراث الشعبي المصري تحتضن كمية كبيرة من الفرح. وكذلك أحب الآلات الموسيقية الشعبية كالأورغول مثلاً، وطريقة عزف المصريين للإيقاعات والتي استخدمها بليغ حمدي ببراعة هائلة. وأحب هنا الملحن زكريا أحمد الذي اعتبره من أسس التأليف الموسيقي العربي.

 

 لماذا تعتبر زكريا أحمد أساساً في التأليف الموسيقي العربي؟

غلمية: خذ الآهات مثلاً فهي تقع في قلب التأليف الموسيقي العربي. فكل أنواع الآهات هي موسيقى وليست كلاماً. وهذه الآهات يمكن ترجمتها أوركسترالياً ببراعة ونجاح. وأعود إلى القول إنني تحفظت على كثير من الموروث من الغناء الموسيقي المصري الذي هو فعلاً نوع من إلقاء القصائد الجميلة وليس موسيقى، لأننا إذا أبعدنا الكلام أو ألغيناه منها لا نستطيع أن ننفذها موسيقياً. عبد الوهاب أعطى الكثير وكذلك رياض السنباطي وفريد الأطرش وزكريا أحمد وسيد درويش وغيرهم. وما أود التأكيد عليه أنني لا أستطيع ربط الموسيقى العربية بالنّتاج الغنائي العربي. وتجدر الإشارة إلى أن مصر كانت أول بلد عربي ولدت فيه مدرسة تلحين. أما لبنان فجاء في المرحلة اللاحقة. ويعود تأسيس مدرسة التلحين المصرية إلى عبده الحامولي الذي استفاد من التراث الموسيقي التركي والبيزنطي والحلبي.

 

 إذا أردنا تقييم موقع المدرسة الموسيقية المصرية في الحركة الموسيقية اللبنانية فماذا تقول؟

غلمية: سؤال عظيم، في دراسة لي وضعتها تحت عنوان «الموسيقى في لبنان» حدّدت المصادر في ثلاثة: التراث الفولكلوري اللبناني، والإنشاد المسيحي بفروعه البيزنطية والسريانية والانجيلية، والإنشاد الاسلامي، والمقام العراقي والموسيقى العالمية والقدود الحلبية وإيقاعات السماح، بالإضافة إلى التأثير الكبير لمدرسة التلحين المصرية. وأي لبناني عمل في الموسيقى خلال العقود السبعة الأخيرة استقى من رافدين أو أكثر من الروافد التي ذكرناها. وأود التأكيد أن كل الذين لحنوا في لبنان ابتدأوا متأثرين بالهنك المصري.

 

 إذاً تأثرتَ بمدرسة التلحين المصرية؟

غلمية: هناك اثنان لـم يتأثرا بهذه المدرسة هما زكي ناصيف ووليد غلمية.

 

 أليس من تأثير مصري كبير في تلحين الموشح في لبنان؟

غلمية: إطلاقاً. فالموشح في الأساس تونسي ومغربي تلقفته حلب وطوّرت فيه وبرعت.

 

 وفي ما يتعلق بالطقطوقة مثلاً؟

غلمية: مؤتمر الموسيقى العربية سنة 1932 في القاهرة هو الذي وضع هذه التصنيفات وأنا لا أعترف بها.

 

 لماذا؟

غلمية: لأن كل الإنتاج العربي الغنائي شعبي من دون استثناء. فهل يصح مثلاً تصنيف أغنية «يا صلاة الزين» لزكريا أحمد بأنها طقطوقة؟ إذا هذه الأغنية بكل ما تتطلبه من اقتدار صوتي نطلق عليها اسم طقطوقة، فماذا نقول في كل التصنيفات الأخرى؟ المسألة بعمقها أنهم صنّفوا الغناء انطلاقاً من تصنيفهم للنص الشعري. وهذا خطأ.

 

 كيف يمكن تصنيفه موسيقياً؟

غلمية: زكريا أحمد عملاق كبير وكذلك سيد درويش ومحمد عبد الوهاب.

 

 ورياض السنباطي؟

غلمية: له عبارته الموسيقية الطويلة، كما أنه مشبع بالبيزنطي الذي «أَسْلَبَهُ» على طريقته، بالإضافة إلى أنه مشبع بالوصفية الغنائية.

 

 ألا تعتقد أن التجويد القرآني شكل أساساً في ألحان زكريا أحمد والسنباطي ومحمد عبد الوهاب؟

غلمية: بالتأكيد.

 

 ماذا يعني لك محمد القصبجي موسيقياً؟

غلمية: ما أضافه القصبجي هو ما بقي في ذاكرته من الموسيقى الحلبية. فحلب في الموسيقى العربية لها موقعها الخاص وتأثيراتها وقواعدها. فمن صفّقت له حلب صفّق له العرب. ولذلك فإن تكريس سيد درويش تم بعد زيارته لحلب وإقامته التي فيها الكثير الكثير. وما ينطبق على سيد درويش ينطبق على أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وما أود التأكيد عليه أن المخزون الموسيقي العربي يقوم جلّه في المشرق العربي، وحلب تحتل الموقع في هذا المخزون.

 

 وماذا قدمت مصر؟

غلمية: مصر قدمت الصناعة الموسيقية. أي أن المشرق العربي أنتج المناهج بينما مصر أنتجت المدارس.

 

 في دراسة لإحدى الباحثات في الموسيقى العربية رأي يفيد أن محمد القصبجي كان رائداً في الحداثة الموسيقية العربية من حيث بداية التوزيع والتأليف…

غلمية: تميّز القصبجي خصوصاً في «رق الحبيب» بالعمل على المد الصوتي. أي أنه ترك للمستمع التفاعل مع الصوت وليس مع الكلمة. وبهذا المعنى تفرّد القصبجي، ربما لأنه ابن أصوله الحلبية.

 

 هناك من يعتقد أن القصبجي اتجه في موسيقاه إلى الأخذ بعناصر من الموسيقى الغربية، بينما تردّه أنت إلى الموسيقى المشرقية.

غلمية: التصنيفات بين شرق وغرب لا تعني لي الكثير.

 

 لكن الواقع يصنّف الخصوصيات والتمايزات والمساهمات.

غلمية: يجب أن يعرف الجميع أن باخ مثلاً وهو أكبر موسيقي أنتجه الغرب «أَسْلَبَ» وترجم الشرق. باخ هو أكثر شرقية من الشرقيين. فالإبداعات الموسيقية الغربية الكبرى ذات جذور شرقية عربية. وهي بعد تطوير الغرب لها نراها بعيدة عنّا. وأي عالـم متتبع يستطيع أن يمسك كيف أن الشرق الموسيقي يحتل قلب الموسيقى الغربية. هذا الكلام لا يقتصر على باخ فاللائحة طويلة ونذكر فردي (Verdi) وفاغنر وغيرهما. ولا أعتقد أن التمييز بين شرق وغرب شيء مقبول. فالمعرفة توحد وتشمل وتطبع. إلا أني أعود للتذكير بأن محمد القصبجي وضع توافقات صوتية.

 

 هل أثر ما تركه كمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد الموجي في الموسيقى في لبنان وأين؟

غلمية: أثروا في توظيف الأغنية وليس في القوالب. فالأغنية قبل الذين ذكرتهم كانت وقورة. أما ما قدموه فكان أغنية للحياة، وللشباب. لقد خففوا من ثقل دم الأغنية الوقورة واحترامها المفتعل. وبعضهم لعب دوراً مهماً في لعبته التصويتية، خصوصاً بليغ حمدي في أغنيته «أنساك» لأم كلثوم. إن جيل كمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد الموجي جاء ورحل بسرعة ولـم يترك وراءه بديلاً.

 

 وهذا «البديل» الذي نسمعه في المحطات الفضائية والإذاعات؟

غلمية: إنه كارثة.

 

 ما هي تأثيرات الموسيقى الغربية في الموسيقى في لبنان؟

غلمية: الموسيقى الغربية لها جناحان كبيران. والذي أخذ جناحاً واحداً من العرب نجح، أما الذي أخذ الجناحين سقط. وأقصد بالجناح الواحد من أخذ العلم والتقنية من الموسيقى الغربية. أما ما قدمه أبو بكر خيرت من موسيقى تشبه هايدن أو غيره فلا إضافة فيها للموسيقى العربية. لماذا أسمع أبو بكر خيرت؟ فلنستمع إلى الأصل: هايدن أو موزارت أو باخ. أما الجناح العلمي فقد أخذ بالبعد الدرامي للموسيقى، والتركيبة التصويتية عبر الأوركسترا، والتوزيع الأوركسترالي الكبير، والسياق في البناء الموسيقي ضمن المادة الموسيقية للمؤلف.

 

 إذا تعاملنا مع الأخوين رحباني في ضوء ما ذكرت، أين تضعهما؟

غلمية: إنهما ملحنان وليسا مؤلفين. وقد بدآ بترجمة أغاني جميلة، وقد ساعدهما في البداية روبيار وبوغوص جلاليان، إلا أنهما تعلما بسرعة. أما الأغنية فبقيت في إطار استهلاكي. وفي كل حال ساهمت أغنية الرحبانيين بتثقيف الأذن. وقد جاءت أغنية فيروز بعد أغنيات أسمهان على سبيل المثال.

 

 ألا تعتقد أنك تنتقص من أغنية الرحبانيين التي غنتها فيروز؟

غلمية: لا بناء موسيقياً عند الرحبانيين، إنما قدما أغنية متقدمة عن الأغنية المصرية والأغنية اللبنانية حينذاك. والرحبانيان، هنا، قفزا بالأغنية ووضعاها في حالة هي أقرب إلى الأذن الجديدة منها إلى الأغنية القديمة.

 

 كيف تقوّم زكي ناصيف؟

غلمية: هو الأصفى والأنقى والأكثر أصالة. مبدع بامتياز، أغنية زكي ناصيف تهز بلحنها لا بكلامها.

 

 ماذا أخذ من الغرب موسيقياً؟

غلمية: أخذ توظيف التفاصيل أو التزيين الموسيقي، وجملته الواضحة موسيقياً بدون تشويش أو افتعال. وتميّز ناصيف أيضاً بجملته الموسيقية الطويلة التي كانت صعبة على أي مؤدٍ، وهو استفاد من الغرب أيضاً ببقع هارمونية طبعت بعض موسيقاه، خصوصاً ما يتعلق بالإيقاع الهارموني، أي الإيقاع الذي ترافقه أصوات.

 

 وتوفيق الباشا؟

غلمية: لا يعني لي شيئاً.

 

 لقد كتب مؤلفات سمفونية لاقت استحساناً ورواجاً.

غلمية: جرّبت كثيراً أن أتذوق عمله وأفهمه، لكني لـم أجد ما يجذبني. وسمفونية «السلام» التي كتبها هي عبارة عن عبارات موسيقية متجاورة لا تؤلف بناء موسيقياً.

 

 هل تستطيع أن تقيّم نفسك موسيقياً في سياق الشريط الذي استعرضناه؟

غلمية: أنا مؤلف موسيقي عربي بامتياز. ولا يدخل في أعمالي أي غش.

 

 ما هو المقصود بهذا الكلام موسيقياً؟

غلمية: المادة الموسيقية التي استخدمتها في أعمالي هي مادة عربية صافية، حتى التجويد القرآني. والأذان يشكل العصب الرئيسي في سمفونيتي الأولى.

 

وماذا أخذت من الغرب في هذا العمل وغيره؟

غلمية: أخذت الأوركسترا وكيفية استعمال الآلات، والهارموني، والبناء والتنويعات والتعديل.. فهذه العناصر جمعت لتنتج عملاً إبداعياً، الذي كان عملاً موسيقياً درامياً عربياً. فأنا من كتب أول دراما في تاريخ الموسيقى العربية.

 

 أين هو التوافق والتنويع والتوزيع في موسيقانا التراثية؟

غلمية: إقرأ الفارابي وأبا الفرج الأصفهاني والأرموي تجد ما يدل على وجود التوافق (الهارموني) والتنويع وغيرهما. وأسأل هنا: هل يمكن ذكر كلمة توافق أو توزيع لو أن هذه الكلمة لـم تستعمل في الأعمال الموسيقية العربية؟

في مصادر الأصفهاني كانت الأوركسترا مؤلفة من 600 عازف. وهذا يعني أنه كانت هناك فرق موسيقية، وأنه كانت هناك قواعد تعمل هذه الفرق بمقتضاها. ومن يطلع بعمق على ما أنتجه العرب في بغداد والأندلس وغيرهما يدرك أي إنجازات أعطوا على صعيد العمارة والمنمنمات والهندسة، وبالطبع فإن هذا الأمر ينعكس في الموسيقى والعزف وأي تعبير فني. إن تقدم العرب في العلوم كافة يعني انعكاسها في الموسيقى، لأن الأخيرة هي بنت العلوم.

 

 ماذا تريد أن تقول عن نفسك أيضاً؟

غلمية: لقد ساهمت بتحويل المستمع العربي إلى مستمع للموسيقى بالإضافة إلى كونه مستمعاً للأغنية. وجعلت الشباب العربي يتجه إلى التأليف الموسيقي لا إلى التلحين في عدد كبير من الأقطار العربية خصوصاً في مصر. وفي مؤتمر للموسيقى عقد في دار الأوبرا المصرية منذ أربع سنوات برز تيار الشباب الذي أيد ودعم ونادى بالنظريات التي دعوت فيها إلى التأليف الموسيقي.

 

 من تذكر من التيار الشبابي الموسيقي المصري؟

غلمية: لا أعرفهم جميعاً. لكني أذكر فتحي الخميسي وحسن شرارة. وأضيف هنا أنني أصبحت اليوم من قادة الأوركسترا القلائل في الوطن العربي. وها أني أنشأت أوركسترا سمفونية في لبنان وأقوم بقيادتها.

 

 هناك مجموعة من الأسماء اللبنانية اشتغلت في التأليف الموسيقي خصوصاً توفيق فرّوخ وبشارة الخوري وعبّود السعدي.. وغيرهم. كيف تقوّم تجربة هؤلاء؟

غلمية: لا أشك بأنهم مؤلفون. لكني أسأل هل ما يزال بشارة الخوري شرقياً في موسيقاه؟ والجواب لا. فهو انفصل عن الموسيقى الشرقية. وفي آخر مؤلفاته، اعتقدت بأنه مؤلف موسيقي فرنسي. لكن هذا لا يعني أنه ليس مؤلفاً موسيقياً. أما توفيق فرّوخ فهو مؤلف موسيقي على قدر وعاء صغير يقدم طعاماً موسيقياً طيباً ولذيذاً، توفيق فرّوخ غير مدعٍ وغير مهرجاني وموسيقي مهم، بالإضافة إلى أنه من أمهر العازفين والذين أدخلوا على الصوت الشرقي آلة السكسوفون. أما عبود السعدي فمن الصعب علي الكلام عنه بسبب عدم متابعتي لأعماله.

 

 في هذا الضوء كيف تقوّم تجربة زياد الرحباني؟

غلمية: انطلاقته كانت عظيمة. زياد رحباني ريشة صغيرة لكنها استطاعت أن تخترق جداراً سميكاً. وللأسف راح في اتجاه لا أعرف إلى أين سيوصله.

 

 كيف تقوّم تجربته في إعادة توليفه وتوزيعه بعض أغاني عاصي لفيروز؟

غلمية: إنها أغانٍ جيدة وأدعم هذا التوجه، لأن عاصي الرحباني عندما لحن هذه الأغاني لحّنها لي ولك. ومع مجيء جيل جديد جاء زياد رحباني فأعاد كتابة هذه الأغاني بإيقاع جديد. وهذا جيد.

 

 ما هي الأهمية الموسيقية لزياد رحباني؟

غلمية: حتى الآن قليلة جداً.

 

 وتجربته في تقديم موسيقى الجاز والعمل عليها؟

غلمية: زياد رحباني ليس الوحيد الذي يعمل على موسيقى الجاز. هناك كثيرون يعملون على موسيقى الجاز لهم أهميتهم ومساهماتهم خصوصاً شربل روحانا وجويل خوري.

 كثيرون عملوا على موسيقى الجاز صحيح، لكن زياد رحباني تميز وأبدع، وأنا أتحدث عن هذه النقطة بالضبط وأريد إجابة واضحة عليها.

غلمية: إذا استمر زياد رحباني في مجال الموسيقى، فإنه سيتجه إلى مطرح أو مجال موسيقي مختلف تماماً عما يقوم به اليوم.

 

 ماذا تعني بالمطرح الآخر والمختلف؟

غلمية: لا يمكنني تحديده ولا أستطيع تعريفه.

 

 لنتحدث قليلاً عن مارسيل خليفة.

غلمية: مارسيل خليفة في موقع يشبه موقع توفيق الباشا. لا أحب الحديث عن مارسيل خليفة.

 

عودة إلى أم كلثوم. هل تستطيع أن تحدد موقعها في سياق الغناء العربي الحديث؟

غلمية: أم كلثوم خاطبت الإنسان العربي. وهي صوت أحبه ملايين العرب. واني لا أتصور نفسي أقول للملايين بأنكم على خطأ. وهناك جيلان من العرب اعتبرا صوت أم كلثوم معجزة وأنا لا أستخف بذلك.

 

 هل تكتفي بهذا الجواب؟

غلمية: أم كلثوم تجويد صحيح.

 

 كيف تقارن بين أغنية أم كلثوم والأغاني التي جاءت فيما بعد؟

غلمية: إن الأغنية التي تلت مرحلة أم كلثوم مختلفة تماماً. لا أستطيع أن أنفي أن وردة الجزائرية غنّت وأطربتني. لا أستطيع أن أنفي أن صوت سعاد محمد أقدر من صوت أم كلثوم. سعاد محمد من أعظم الأصوات الغنائية العربية. أسمهان هي فلتة الغناء العربي. أسمهان في جزء كبير من غنائها اقترحت على الغناء العربي الغناء المسرحي الكبير.

 

 لماذا؟

غلمية: قدرات صوتها، بالإضافة إلى استعمال صوتها كآلة موسيقية. وبهذا تفوقت.

 

 وشادية وفايزة أحمد وليلى مراد؟

غلمية: شادية مغنية ممتازة، أما فايزة أحمد فلا أحب صوتها. وتحتل ليلى مراد مكانة بارزة في الغناء. وما يهمني التوكيد عليه أن اسمهان أهم من أم كلثوم.

 

 وفيروز؟

غلمية: أحبها الملايين. لكني أقول ان العرب أعطوا صوتين هما وديع الصافي وأسمهان. أما الباقون فتستطيع أن تحبهم أو العكس.

 

 كيف توصّف صوت أسمهان وما هي قيمته؟

غلمية: صوت أسمهان مادة رئيسية للمسرح الغنائي الدرامي الكبير.

 

 لكن فيروز لعبت وبجدارة المغنية التي أدت الغناء الدرامي المسرحي الكبير؟

غلمية: لا أنكر ذلك، إنما في إطار الأغنية الشعبية.

 

 هناك تجارب موسيقية حالية تمزج بين عناصر شرقية وغربية، هل تستطيع أن تبدي رأيك فيها؟

غلمية: معظم هذه التجارب لـم يصل إلى نتائج ملموسة.

 

 انتشرت في لبنان وبعض الأقطار العربية منذ بعض الوقت ظاهرة الغناء الأوبرالي. أين تضع هذه الظاهرة في الموسيقى العربية المعاصرة؟

غلمية: الذائقة العربية الموسيقية بحاجة إلى تطوير. والغناء الأوبرالي له عنصران. الأول : نقل الصوت الغنائي العربي من صوت خطابي إلى آلة موسيقية راقية. و الثاني : يتمثل في نقل الصوت الشعري إلى حالة انسيابية درامية تشمل المجتمع كله. فلنترك لهذا الباب أن ينطلق. فإذا كانت همومنا العربية وقضايانا بهذا الحجم علينا أن نسأل: أين الغناء الدرامي منها؟ مسرحنا الجاد غائب عن قضايانا. كل ما عندنا مجرد أناشيد استهلاكية سريعة. ومن هنا علينا تحويل الصوت البشري إلى آلة موسيقية عظيمة تحمل قضايانا بهدف أن تعطي الكلام الصحيح والجاد والتعبير العميق والأرقى مكانته في الغناء الدرامي.

 

 أليس هناك من صيغة أخرى تلعب مثل هذا الدور؟

غلمية: الصيغة الأوبرالية هي تحويل الصوت إلى آلة موسيقية متفوقة فقط.

 

 أعود لأكرر السؤال: أليس من صيغة أخرى؟

غلمية: لا، والسبب أنه ليس هناك كتاب يعلّم الأوبرا، لأن هذه الأخيرة تعني معالجة الأوتار الصوتية. هناك أوتار صوتية وعضلات وصدر. وحينما نريد تطوير الصوت علينا العمل تقنياً على الأوتار الصوتية. أما التنفس فجاهز عندنا، لكن لا أحد ينتبه له. وهذا ما جعلني أفرض تعليم الترتيل القرآني في الكونسرفاتوار الوطني، لأن الذي يعرف أن يتنفس يعرف أن يغني. وأرقى تقنية للتنفس هي تقنية الترتيل القرآني.

 

هل تعتقد أن مصدر الغناء الأوبرالي هو الترتيل القرآني؟

غلمية: لا. مصادره الخبرة والتراكم. هل تعرف من يغني الأوبرا عندنا؟

 

 لا. لا أعرف.

غلمية: سكان الأرياف والمناطق البعيدة دون أن يعلموا.

 

 بمن تنوّه من الأصوات التي تؤدي الغناء الأوبرالي؟

غلمية: هناك أصوات ومحاولات وأهمها هبة القواص التي حققت الكثير.

 

 هناك موجة من الغناء يطلق عليها البعض اسم الأغنية الهابطة. هل تقدم للقارىء العربي أسباب ولادة هذه الظاهرة؟

غلمية: ليس هناك أغنية هابطة. هناك لا شيء. فراغ وانفلاش.

 

 ولماذا هذا التمويل والتقديم والترويج الواسع لها؟

غلمية: إنه الإعلام.

 

 ألا تعتقد أن أسباباً أعمق تقف وراء استشراء هذه الظاهرة؟

غلمية: علينا الانتباه بأننا مستهدفون كعرب في كل شيء. وإذا بقينا على هذا المنوال فإننا سنصل بعد عقد أو عقدين من الزمن إلى مجتمع عربي منحط موسيقياً وغنائياً. وأسأل في هذا الصدد، لماذا هذه الحرب التي تشن ضد الموسيقى الجادة، ضد الموسيقى السمفونية والأوركسترا العربية، والأكاديمية العربية؟ أعتقد أن هذا الأمر يوضح ويفسر.

 

 على امتداد الخريطة العربية، من هو الموسيقي الجيد وغير الجيد الذي تراه؟

غلمية: التراث العربي الفولكلوري بكل تشعباته جيد، وكذلك الترتيل القرآني بالإضافة إلى الترتيل السرياني والبيزنطي.

 

 أليس هناك من مؤلفين موسيقيين أو عازفين أو مغنين يجدر ذكرهم؟

غلمية: لا أعتقد.

 

 ما تقوله يدل على حالة مرضية.

غلمية: لا. إنه علامة على الانتقال من شيء إلى آخر. وأملي كبير بمستقبل جيد للموسيقى، لأن العرب المعاصرين ورثوا أشياء عظيمة ولا يمكن أن يضيعوها ويفرطوا بها.