سئل أحد الفلاسفة الإغريق: «ما هو أفضل دستور؟»
فأجاب: لأي زمنٍ ولأي شعب؟

مقدمة:

صحيح أن النصوص الدستورية الصغيرة والغامضة، تمنح الحكام مساحة واسعة للتأويل وتعدد القراءات، لذلك ظلوا يحتكرون سلطة التأويل واستنطاق ما وراء السطور، ومن طريق ذلك كانوا في الحقيقة يعيدون «صياغة» النصوص الدستورية وتكييفها وفقًا لرغباتهم ولمصالحهم وما يخدم استمرارية أنظمتهم[1].

لقد ضمن برنامج الإصلاح السياسي الذي وظفته السلطة السياسية في الجزائر بعيدًا من الحراك وتداعياته السياسية، أن مسودة الدستور الحالية لسنة 2020 راوحت بين كسب رضا الحراك الشعبي ومختلف الأطياف السياسية، والحفاظ على مكتسبات الاستمرارية، هذا من جهة ومن جهة ثانية ومحاولة مسايرة المعايير الدولية الحديثة في مسار البناء الدستوري والخضوع لها[2].

فبالرغم مما أبدته مسودة الدستور الحالي من إضافات نسبية في تعزيز الحقوق والحريات الأساسية الفردية والجماعية منها، إلا أنها ما فتئت تدعم الطابع الرئاسي لنظام الحكم وتعزز هيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات[3]، هذا في زمن أضحت عمليات البناء الدستوري في التجارب المقارنة تعزز مبادئ التوازن بين السلطات مستبعدة فكرة مبادئ الفصل بين السلطات، التي أثبت الفقه الدستوري والممارسة السياسية عجزها عن خلق نوع من التواصل الجاد بين السلطات الثلاث، من هنا تثار الإشكالية المحورية لماذا اختارت مسودة الدستور الحالي الفصل بدل التوازن بين السلطات؟ وهل كرّست المسودة الدستورية مبدأ الفصل بين السلطات فعليًّا؟ وهل يمكن تصور تراجع دور السلطة التنفيذية في ظل الدستور المرتقب؟

أولًا: سمو السلطة التنفيذية وهيمنتها على سائر السلطات

كرّست الدساتير الجزائرية المتتالية في مجملها هيمنة السلطة التنفيذية وخصوصًا هيمنة رئيس الجمهورية على باقي السلطات، نظرًا إلى الاختصاصات الواسعة التي يتمتع بها هذا الأخير، والمسودة الحالية لم تختلف كثيرًا عن الدساتير السابقة لها. فبتتبّع مواد مسودة الدستور نجدها لم تبتعد من ما ورد في دستور 2016. فمن شروط الترشح التي أوردتها المادة 91 من المسودة نجدها قد أوردت في الفقرة الأولى 10 شروط مهمة للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، كان حريًا بوثيقة المسودة أن تورد في من يتقلد منصب الرئاسة يكون له مؤهل علمي محدد، يؤهله لمباشرة المهام الثقال التي تقع على عاتق رئيس الجمهورية. ففي غياب، وعدم اشتراط، المؤهل هذا ما قد يفتح بابًا أمام احتمالية وصول من لا مؤهل ولا كفاءة له لهذا المنصب السامي، من هنا جهة الشروط الواجب توافرها في المترشح للرئاسة[4].

وبالرجوع إلى جوهر الموضوع تتضح جليًّا مظاهر هيمنة السلطة التنفيذية في المسودة الدستورية من صريح نص المادة 95 التي تخوّل رئيس الجمهورية جملة الصلاحيات الواسعة، وإن لم تختلف هذه المادة في مضمونها عما أوردته المادة 91 من الدستور 2016 في المسائل الجوهرية إلا في ما يلي:

ما ورد في البند الثالث من المادة 95 من حيث: يقرر إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين، وهذه تعدّ من ضمن أهم البنود المثيرة للجدل في الأوساط السياسية والنخب، تلك التي تسمح للقوات العسكرية الجزائرية بالمشاركة في عمليات حفظ السلام في الخارج تحت راية الأمم المتحدة. وفي حال المصادقة على هذه المادة، فسيشكل سابقة في التاريخ السياسي والعسكري الجزائري؛ لأن الدساتير الجزائرية السابقة كانت تمنع أن تقاتل القوات الجزائرية خارج حدودها بوصفها قوات دفاعية وليست هجومية، كون عقيدة الجيش الجزائري منذ الاستقلال في 1962 تؤكد أن مهمة الجيش هي في الدفاع عن الحدود وعدم إرسال العسكريين الجزائريين خارج الحدود. وقد تم الخروج عن هذه القاعدة مرتين أعوام 1967 و1973 عندما تم إرسال وحدات جزائرية في حرب السويس وحرب أكتوبر[5].

ما جاء به البند السادس الذي يقول: يمكن أن يعيِّن نائب الرئيس وينهي مهامه، ويمكن أن يفوض له بعض الصلاحيات باستثناء تلك المنصوص عليها في أحكام المادة 97 من المسودة.

صحيح أن منصب نائب الرئيس طرح بقوة في مرحلة السجال السياسي المتعلق بالوثيقة الدستورية لسنة 2016، فأغلب المختصين كانوا يجمعون على استحداث هذا المنصب في تلك المرحلة نظرًا إلى الظروف الصحية التي كان يعيشها الرئيس السابق، إلا أنه في النهاية لم ترد لا في مسودة الدستور ولا حتى في صلب دستور 2016، إلى حين تم التنصيص عليها في المسودة الحالية، أن نائب الرئيس يتولى رئاسة البلاد مؤقتاً لمدة 45 يومًا في حال عجز أو استقالة أو وفاة الرئيس، وبعد انتهاء هذه الفترة إذا أثبتت المحكمة الدستورية وجود مانع لاستمرار الرئيس يكمل نائبه الولاية الرئاسية. يبقى السؤال المطروح ما جدوى استحداث هذا المنصب في نظام رئاسي مشدد يكون فيه رئيس الجمهورية هو مفتاح قبة النظام. ولعل الخطورة تكمن في إكماله للعهدة الرئاسية كما ورد في البند السابع من المادة 98 من مسودة الدستور، كون هذا الأخير معيّن والشعب لم يختره. وكان الأحرى استبعاد هذه الفقرة لأنها تمس بفكرة انتخاب رئيس الجمهورية ديمقراطيًا من جانب الشعب، كون الشعب منحه الثقة هو بذاته ولا يجوز التفويض في هذه الحالة.

كما يعاب على هذه الفقرة عدم تنصيصها على بعض الضوابط التي تقيد رئيس الجمهورية في تعيين نائب له، ولم تبين أن هذا يكون من الكفاءات من الأحزاب السياسية، وأن يكون شخصية مستقلة. إن المسودة تعزز صلاحيات رئيس الجمهورية وكذلك منصب نائب الرئيس في منطق النظام الرئاسي.

لكن بقيت المسودة في منتصف الطريق بالنسبة إلى النظام البرلماني، حيث تضمنت تغيير تسمية الوزير الأول إلى رئيس الحكومة، غير أنها أبقت على تعيينه من جانب رئيس الجمهورية دون التزام بالأغلبية البرلمانية كما يقتضي النظام البرلماني في المادة 95 في بندها الثامن المتعلق بتعيين رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة[6].

وهذا يُفقد الأغلبية البرلمانية فحواها، لأن تسابق الأحزاب في التشريعات الهدف منه الحصول على أكبر عدد من المقاعد لتضمن حقها في تسمية رئيس الحكومة والحقائب الوزارية السيادية كما هو متعارف عليه في الأنظمة السياسية المقارنة[7]؛ فإن حصلت على الأقلية أو الأغلبية فرئيس الجمهورية هو من يعين رئيس الحكومة. وهذا يعدّ مساسًا بالتعددية السياسية والحزبية في الجزائر، وتكريسًا لبقاء هيمنة السلطة التنفيذية [مؤسسة الرئاسة] على المشهد السياسي. وقد كان لهذه الفكرة تداعيات سلبية على الحياة السياسية في السنوات العشرين الماضية حين كانت الأغلبية البرلمانية لجبهة التحرير، ورئيس الحكومة أويحي رئيس حزب التجمع الديمقراطي، فكان على مسودة الدستور أن تعيد النظر في هذه النقطة بما يضمن ضخ دماء جديدة في العمل الحزبي والسياسي في الجزائر الجديدة، وفتح الباب واسعًا لنزال سياسي نزيه وشريف يعيد خلق دينامية في الأوساط السياسية والشعبية. وهذه تعدّ أبرز الملاحظات المتعلقة بصلاحيات ومهام رئيس الجمهورية، وانطلاقًا من فكرة ازدواجية السلطة التنفيذية سوف نعرّج على الدور المناط بالحكومة بوصفها الواجهة الثانية للسلطة التنفيذية بعد رئيس الجمهورية. فالجديد في الفصل الثاني المتعلق بالحكومة أن مسودة الدستور تقترح أن يصبح تعيين الوزراء بالتشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وإن كان هذا المكسب بسيطًا لأن رئيس الحكومة يعيّن من طرف الرئيس فلا يعتقد في عدم اتفاقهم على تسمية الوزراء، ونجد الدستور التونسي لسنة 2014 في فصله 89 ينص على آن منصب وزيري الخارجية والدفاع فقط يتم التشاور حوله بين الوزراء ورئيس الجمهورية، أما باقي الوزارات فيتم تعيينها من جانب الحزب أو الائتلاف الانتخابي الحائز أكبر عدد من المقاعد بمجلس النواب، وهذا يعد مكسبًا لم يكن له وجود في دستور 2016 وبعض الدساتير التي سبقته[8].

كما أن لرئيس الجمهورية، في ظل هذه المسودة، الحق في حل البرلمان، وهذا يعدّ علامة فارقة في قوة مؤسسة الرئاسة على السلطة التشريعية، فلو افترضنا وصول أغلبية مناوئة لرئيس الجمهورية فسوف يستخدم حقه في حل البرلمان، لكن المسودة أغفلت عن التنصيص أنه إذا حُل البرلمان وتمت إعادة إجراء انتخابات تشريعية، واستحوذت القوة المناوئة نفسها على الأغلبية البرلمانية من المفروض أن يقدم رئيس الجمهورية استقالته.

ثانيًا: سلطة تشريعية مكبلة… في نظام حكم شبه رئاسي

بتتبع بنود الفصل الثالث من المسودة الدستورية، يتضح جليًا التقارب، بل التطابق، في النصوص الدستورية بين المسودة الدستورية ودستور 2016. فالمسودة الجديدة وإن غيّرت تسمية الوزير الأول برئيس الحكومة، إلا أن رئاسة الحكومة الفعلية بقيت في يد رئيس الجمهورية الذي يعيّنه، ولم تحدد شكل النظام السياسي، إذ أبقته هجينًا لا يمثل أي شكل من أشكال الأنظمة المعروفة في العالم[9].

لقد أبقت المسودة على النظام شبه الرئاسي، فوفق هذه المسودة، «اتفق الأعضاء على اعتماد نظام شبه رئاسي يبقي على الشكل الحالي للحكم لضمان وحدة السلطة التنفيذية وتجانسها وتحرير رئيس الجمهورية من أعباء التسيير الحكومي مع المحافظة خاصة على شرعيته التي يستمدها من الانتخاب»، والنظام شبه الرئاسي أو ما يعرف أيضًا بالنظام الرئاسي البرلماني[10]، هو نظام خليط بين النظام الرئاسي والبرلماني يكون فيه رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء شريكين في تسيير شؤون الدولة. وتوزيع هذه السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء يختلف من بلد إلى آخر، ويختلف هذا النظام عن النظام البرلماني في أن رئيس الجمهورية يتم اختياره من جانب الشعب، ويختلف عن النظام الرئاسي في أن رئيس الوزراء مسؤول أمام البرلمان ويستطيع البرلمان محاسبته وعزله إذا أراد[11].

ظل الغموض يحيط بطبيعة النظام السياسي الذي راوح بين توسيع سلطات رئيس الجمهورية وحقه في تعيين رئيس الحكومة، ومحدودية دور الأحزاب السياسية في تأليف الحكومة وتسمية رئيس الحكومة، بل إن الوثيقة الدستورية بالغت في تعزيز سلطات رئيس الجمهورية إلى درجة أن تعيين الوزراء يكون بالتشاور بينه وبين رئيس الحكومة، واستبعدت الأحزاب الحائزة الأغلبية البرلمانية التي تمثل السلطة التشريعية، وأن تسمية رئيس الحكومة من الأغلبية أمر يناقض كليةً معنى الديمقراطية التمثيلية ويلغي جزءًا أساسيًّا وجوهريًّا من الإرادة الشعبية المعبّر عنها في الانتخابات التشريعية.

وتقوم النظم شبه الرئاسية على التعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا التوازن يكفله حق البرلمان في الاقتراع بطرح الثقة بالوزارة وتحريك المسؤولية السياسية للوزارة أمام البرلمان، وحق السلطة التنفيذية في حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. أما التعاون، فيعني وجود اتصال بين هاتين السلطتين، وأهم مظاهره حق الوزراء في الدخول إلى البرلمان والاشتراك في جلساته ومناقشاته، وحق الحكومة في تقديم مشاريع القوانين إلى البرلمان، وحق دعوة البرلمان إلى الانعقاد أو تأجيله. وتعد الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية نتيجة طبيعية لمبدأ الفصل بين السلطات، ولكن هذا الفصل ليس المقصود به الفصل المطلق[12].

يتولى الأنظمة الديمقراطية النيابية برلمان منتخب من الشعب، ويبين مهمة هذا البرلمان ويحددها دستور الدولة. فالبرلمان يقوم بوظيفة تشريعية مؤدّاها سن القوانين، وهو إلى جانب ذلك يقوم بوظيفة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية. ويشير التاريخ الدستوري للأنظمة الديمقراطية النيابية إلى أن الوظيفة الرقابية أسبق في نشأتها على الوظيفة التشريعية، ذلك أن البرلمانات قامت في أول عهدها للموافقة على الضرائب التي يحتاج إليها الحكام، وتطور ذلك تدريجًا إلى أن أصبح للبرلمان حق الرقابة الكاملة على الشؤون المالية للدولة. إن أهمية الرقابة البرلمانية تنبع من افتراض أن السلطة التشريعية تمثل الشعب، وإذا صح ما سبق، فإنه يصح أيضًا أن الرقابة البرلمانية تمثل الثقل الشعبي للدولة تفويضًا ومحاسبة. ويبنى على ما سبق أن نقطة البدء في الإصلاح السياسي لأي دولة هي تفعيل الدور الرقابي للبرلمان، وبقدر جدية هذا الدور واحترامه من جانب الحكومة، وحرص الأخيرة على الاستجابة لما يطرحه أعضاء البرلمان من مقترحات ومشكلات وانتقادات وتساؤلات، يكون التطور الديمقراطي الذي تنعم به الدولة وتحققه[13].

على الرغم من إقرار النصوص الدستورية الجزائرية منذ 1988 لمبدأ المسؤولية السياسية للحكومة أمام المجلس الشعبي الوطني، إلا أن هذا المبدأ لم يفعّل لأسباب كثيرة، ولعل أهمها استناد أغلب الحكومات المتعاقبة إلى أغلبية مريحة في المجلس الشعبي الوطني. وحتى في الحالات التي تولى فيها رئاسة الحكومة شخصيات من خارج الأغلبية، بل وحتى من خارج المجلس الشعبي الوطني، كان التزام الحكومة بتطبيق برنامج رئيس الجمهورية يوفر لها غطاءً منيعًا من أي محاولة للمساس باستمرارها في الحكم، علمًا أن ذلك يعدّ تجسيدًا لطبيعة النظام السياسي الجزائري الذي يحتل فيه رئيس الجمهورية مكانة مهمة بالنظر إلى انتخابه من طريق الاقتراع العام المباشر والسري. ولا يتم الفوز إلا بالحصول على الأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين المعبّر عنها، وبذلك يكون الناخبون قد قاموا بتزكية هذا البرنامج الذي يلتزم رئيس الجمهورية بتطبيقه، وإلا تقررت مسؤوليته السياسية بمناسبة الانتخابات الرئاسية، التي يتحدد بمناسبتها تجديد الثقة أو سحبها منه[14].

كل هذا يبرر، ربما، عزوف نواب الأغلبية من جهة، وعدم قدرة نواب المعارضة من جهة أخرى، على تحريك وسائل الرقابة التي يمكن أن يتقرر في إثرها المسؤولية السياسية للحكومة. ومن ثم اكتفى النواب باستخدام وسائل الرقابة السهلة الاستعمال، التي لا ترتب المسؤولية السياسية للحكومة، على غرار الأسئلة والاستجواب وتشكيل لجان التحقيق. غير أن تجاوز بعض الحكومات لالتزاماتها الدستورية، وعلى رأسها ضرورة تقديم برنامج عملها إلى المجلس الشعبي الوطني للحصول على موافقته قبل الشروع في تطبيقه، وحتى وإن قدمته فإنها تخلفت عن عرض بيان سنوي عن سياستها العامة، وهو ما يطرح عدة أسئلة عن ممارسات كهذه من شأنها أن تكرس عرفًا دستوريًا قد يتيح لحكومات قادمة العزوف عن تقديم برامجها وعرض بيان عن سياستها العامة أمام المجلس الشعبي الوطني. وهذا من شأنه أن يفرغ مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة من محتواه، وبخاصة إذا علمنا أن وسائل الرقابة الردعية مرتبطة بهاتين المناسبتين، ونقصد بهما تقديم برنامج الحكومة أو مخطط عملها وكذا بيان السياسة العامة أمام المجلس الشعبي الوطني[15].

كنا ننتظر من مسوّدة الدستور أن تعمل على إقامة نوع من التوازن، بين صلاحيات السلطة التشريعية وسلطات السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية، ليس من باب الدعوة إلى نظام برلماني لأن الخريطة السياسية الحالية لا تسمح بذلك. وتثبت ذلك التجارب المقارنة في الدول المجاورة؛ ففي النموذج التونسي تعيش البلاد في حالة من «البلوكاج»، منذ تبني دستور 2014، الذي عزز دور البرلمان في مواجهة الحكومة، بالرغم من الأشواط التي قطعها المجتمع التونسي في التأسيس لبناء صرح النظام الديمقراطي. إلا أن الجارة تونس تعيش وضعًا سياسيًا وإن كان في مناخ ديمقراطي، غير أنه انعكس سلبًا على الأداء المؤسساتي فيها، وأفضى إلى مزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فمن هذا المنطلق تبدو فكرة الأخذ في النظام البرلماني فيها نوع من المخاطرة، وخصوصًا في الأوضاع السياسية التي تعيشها البلاد في الساحة السياسية المنقسمة إلى أحزاب سياسية تجاوزها الشارع وعاجزة عن خلق أي مبادرات سياسية سواء معارضة أو موالاة، وحراك شعبي يجزم أن كل ما يبادر إليه النظام السياسي مرفوض وغير ومقبول. ففي ظل هذه الهوة يصعب تبني النظام البرلماني، إلا أن هذا لا يبرر تبني النظام شبه الرئاسي بالخصوصية الجزائرية، أين يتحول بمقتضاه من مبدأ الفصل بين السلطات إلى مبدأ الفصل بين الوظائف. فالمسودة لم تقدم آليات جديدة لإقرار المسؤولية السياسية للحكومة، لأن الآليات التقليدية المرتبة للمسؤولية السياسية منذ الاستقلال لليوم لم يثبت أن تم سحب الثقة من حكومة أو أجبرت على تقديم الاستقالة، بالرغم من التجاوزات الصارخة التي شهدتها الجزائر في العشرين سنة الماضية حين كانت الحكومات تقام وتسقط في ظرف وجيز، على نحوٍ مس بقدسية العمل الحكومي وحول البرلمان إلى مجرد جهة استشارية لدى رئاسة الجمهورية، فكان حريًا على أعضاء لجنة الدستور الأخذ في الحسبان، تعزيز سلطات وصلاحيات المؤسسة التشريعية لتفادي تغوُّل السلطة التنفيذية أمام السلطة التشريعية، لأن التوازن بين السلطات يخلق نوعًا من الانسجام والتناغم بين مؤسسات الدولة، وخصوصًا أن البلاد في هذه الفترة في أمس الحاجة إلى ذلك، لأننا نريد نظام حكم مبنيًا على أساس التعاون والتشاور بما يسهم في النهوض بالتنمية الشاملة. وإقرار مسؤولية الجميع، سواء أعضاء السلطة التشريعية أو التنفيذية، كل على حد السواء.

أما في ما يتعلق بالنشاط البرلماني، تم اقتراح التمييز في الاستفادة من الحصانة البرلمانية بين الأعمال المرتبطة بممارسة العهدة وتلك الخارجة عنها، على خلفية قضايا الفساد التي فتحها القضاء مع نواب في البرلمان، حيث وجد صعوبة وعراقيل قانونية لرفع الحصانة عن بعض النواب.

ويشترط التعديل الدستوري للمرة الأولى «التصويت داخل البرلمان بحضور أغلبية الأعضاء»، بعد الانتقادات التي شملت نواب البرلمان على ما يراه الجزائريون «قاعات البرلمان الفارغة خلال جلسات البرلمان».

كما يلاحظ أن المسودة غيَّبت تكريس معالم الديمقراطية التشاركية داخل قبة البرلمان، ولم تنص على إمكان مساهمة مؤسسات المجتمع المدني في العمل البرلماني، وخصوصًا في ظل الوضع الحالي الذي تزايدت فيه الهوة بين الطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية، مع تزايد الدفع الفاعل لعدد من الحركات الجمعوية، ومثال ذلك جائحة كورونا أثبتت أن فواعل المجتمع المدني أقوى وجودًا من الأحزاب السياسية التي لم نشهد منها أي مبادرة طوال مدة الوباء. لذا فإن دسترة حق المؤسسات الجمعوية باتت ضرورة تمليها واقع الحياة السياسية والاجتماعية، وخصوصًا في مناداة المؤسس الدستوري بتبني معالم الديمقراطية التشاركية في إدارة وتسيير الجماعات المحلية، فالأولى تكريسها في الغرف البرلمانية كون مردودها كما تثبت التجارب المقارنة كان له بالغ الأثر في تقويم العمل البرلماني.

كما كرست المسودة الحفاظ على حق التشريع بأوامر خلال مدة شغور المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان) وفي غضون مدة الحالة الاستثنائية مع ضرورة تقديمها إلى البرلمان في المدة المطلوبة.

ثالثًا: العدالة أو… [السلطة القضائية]… سلطة أم وظيفة؟

استقر الفقه الدستوري على عَدِّ القضاء سلطة قائمة بذاتها، كبقية السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة، وهي الحقيقة التي تبنتها جل الأنظمة السياسية في دساتيرها، بعدما كانت تنكر صفة السلطة على القضاء وتعدّه مجرد وظيفة تمهيدًا لإهدار استقلاليته[16].

وبعدما كانت الجزائر تعد القضاء مجرد وظيفة في ظل دستوري 1962 و1976، نظرًا إلى الظروف والتوجهات السياسية في تلك الفترة، واستمرت هذه الحال إلى غاية صدور دستور 1989 الذي كرس استقلالية السلطة القضائية وأصبحت سلطة ثالثة إلى جانب السلطة التنفيذية والقضائية، وذلك في منطوق نص المادة 129 التي تنص أن السلطة القضائية مستقلة، وأن حرية القاضي بعيدة من جميع أوجه الضغوط والتدخلات، خلافًا لدستوري 1962 و1976 اللذين كانا يلزمان القاضي احترام مبادئ الثورة الاشتراكية.

أما في جميع الدساتير التي أعقبت دستور 1989 والتعديلات الدستورية التي مسّتها، فقد أوردت السلطة القضائية باسم «السلطة القضائية»، إلا أنه جاء في عرض مسودة التعديل الدستوري اعتماد مصطلح العدالة بدلًا من السلطة القضائية (بالنظر إلى الرمزية التي يحققها هذا المصطلح)، إلا أن اعتماد هذا المصطلح بذاته يعدّ تراجعًا عن مكسب استقر لمرفق القضاء بوصفه سلطة موازية لباقي السلطات، وكان الأحرى في ظل مطالب القضاة وشركاء العدالة والحراك الشعبي المساند لاستقلالية العدالة، الاحتفاظ بمصطلح السلطة القضائية تفاديًا للجدل اللغوي والاصطلاحي، وتكريس النصوص المحققة لمتطلبات تعزيز الاستقلالية الفعلية للسلطة القضائية[17].

في القراءة الأولية للمسودة نجد أن المؤسس الدستوري يخصص للسلطة التنفيذية نحو 27 مادة في الدستور، والسلطة التشريعية خصص لها نحو 43 مادة، في حين أن السلطة القضائية يخصص لها 22 مادة فقط. فهذه المقارنة وإن كانت بسيطة ظاهريًا، إلا أنها في العمق لها دلالات توحي بأن السلطة القضائية ليست في موقع الحكم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، كونها السلطة المخولة فض النزاعات بين السلطتين وفض النزاعات بين الإدارة والمواطن، والمواطن والمواطن. إلا أننا نجد أن بعض المواد الدستورية كان بالإمكان التنصيص عليها في قوانين عضوية، لأنها لا ترقى لتكون نصوصًا دستورية، ومثالها ما ورد في المادة 171 الفقرة الثانية التي تنص أن القضاء متاح للجميع، أو ما جاء في نص المادة 173 الفقرة الثانية التي تنص على أن يضمن القانون التقاضي على درجتين في المسائل الجزائية… والكلام نفسه ينطبق على المادة 174؛ فهذه النصوص الأجدر أن يتم التنصيص والتفصيل فيها في الإجراءات المدنية والإدارية. وتتعدد المواد التي ينطبق عليها هذا الكلام، فهذه المواد حين الارتقاء بها إلى مصاف النصوص الدستورية هل سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز استقلالية القاضي وحياده؟

في جانب تكريس حقوق هيئة الدفاع دستوريًا وردت في نص مادة صماء في أحكام المادة 184، وقد شدَّدت على استفادة المحامي من الضمانات القانونية التي تكفل له كل أنواع الحماية وتمكنه من ممارسة مهنته بكل حرية في إطار القانون. كان حريًا بلجنة صوغ الدستور أن تنص على حقوق الدفاع من حيث أنهم شركاء في مؤسسة العدالة، أو أن يسمح لهم بالحضور مع موكليهم أمام جهات الضبطية القضائية. كما كنا ننتظر من المادة 184 أن تحيلنا على قانون عضوي، يحدد لنا ما لهيئة الدفاع وما عليها حتى يصبح لهذه الهيئة – شأنها شان القضاة – الدور الفاعل في تكريس بناء دولة القانون وتعزيز استقلالية السلطة القضائية.

كما  أوردت المسودة في نص المادة 187 هذه التشكيلة، وذلك بإبعاد وزير العدل والنائب العام للمحكمة العليا منها وإسناد نيابة رئاسة المجلس إلى الرئيس الأول للمحكمة العليا مع رفع عدد القضاة المنتخبين وإدراج ممثلين اثنين لنقابات القضاة إضافة إلى رئيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، أي أن التشكيلة ستضم 15 قاضيًا منتخبًا و11 عضوًا معينًا. وهذه التشكيلة رغم الايجابية في بعض بنودها، التي يمكن وصفها بتبني نظام ازدواجية في الصلاحيات وثنائية التسيير بين وزير العدل والرئيس الأول للمحكمة العليا وهو ما قد يقضي على النظرة الأحادية الأفق لوزارة العدل التي سيّرت القطاع منذ الاستقلال إلى غاية يومنا هذا[18].

وقد جاء في المسودة في المادتين 178 – 179 بعض الضمانات التي تكفل استقلالية القضاة وتبعد أي تدخل فيهم من جانب السلطة التنفيذية، إذ رأت أن النقل أو الإقالة أو تسليط العقوبات لا يكون إلا بقرار معلل من المجلس الأعلى للقضاء، ويجوز للقاضي إخطار المجلس الأعلى للقضاء في حال تعرّضه لأي مساس باستقلاليته. وفي هاتين المادتين كان الأجدر على المسودة أن تحيلنا أيضًا على قانون عضوي يحدد صور وأشكال الضغوط التي يمكن أن يتعرض لها القاضي، وما الجهات التي يمكن أن تمارس الضغوط وتجريم أفعالها وتدخلاتها.

 خاتمة

يصدق القول إن التعديلات الدستورية في الجزائر لا تزال تأخذ في التصنيفات التقليدية للدساتير، كما يرى الفقيه الدستوري موريس ديفرجيه: دساتير القوانين ودساتير البرامج، فإذا كانت الأولى [دساتير القوانين]، موسومة بالاختصار والاقتصاد في عدد الفصول متميزة بحبكة الصياغة ودقتها وحبلى بالقواعد والمبادئ الدستورية، فإن الدساتير الثانية [دساتير البرامج]، تأتي خلافًا لذلك كثيرة الفصول والمواد ذات صياغة عامة مفعمة بالتفاصيل والتدقيقات، ومفتوحة على الاختلاف، ومن ثم معرضة للتفسير والتأويل[19]، وهذا يجعل الدساتير في الجزائر أقرب إلى دساتير البرامج منها إلى دساتير القوانين.

وعلى المؤسس الدستوري أن يراعي في التعديل المقبل الأخذ في فكرة دساتير القوانين كونها الأجدى دستوريًا لبناء دولة القانون. كما أنه على التعديل الدستوري القادم إقامة توازن حقيقي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ وذلك بالتقليص من الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، والتخفيف من وسائل التأثير التي يمتلكها في مواجهة السلطة التشريعية، بما يخلق نوعًا من التواصل الجاد بينهما وتعزيز استقلالية السلطة القضائية، بوصفها السلطة الضامنة لاحترام سيادة القانون.

وصحيح القول إن المؤسس الدستوري الجزائري اعتدنا قدرته الكبيرة على المناورة؛ فقد يصدر الدستور المنتظر ويستبعد كل النصوص التي أوردتها المسودة والتي كانت مثار جدل، وهذا ما يجعل كل ما ورد في هذه المسودة يترجم رغبة المؤسس الدستوري إلى غاية صدور الدستور المنتظر.

 

من الجزائر أيضاً  المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الجزائر : إشكالية الدور

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجزائر #التعديل_الدستوري_في_الجزائر #الدستور_الجزائري #الدستور_الجديد_للجزائر #إستفتاء_على_الدستور_في_الجزائر #استفتاء_نوفمبر_بالجزائر #الموافقة_على_التعديل_الدستوري_في_الجزائر #الفصل_بين_السلطات #مسودة_تعديل_الدستور_في_الجزائر_لسنة_2020