سنحاول في هذا النص عرض أبرز ما تطرح التجربة المسيحية في الإصلاح الديني من إشكاليات، ونقدّم إجابةً عنها.

ونحن نوافق القول في وجوب العودة إلى الجذور لدراسة حركةِ الإصلاح ومدى نجاحِها.  والإصلاح حُكماً عودةٌ إلى الجذور. Réforme الفرنسية مشتقّة من Reformare اللاتينية: إعادةُ حقيقةٍ إلى صورتِها الأصلية، فالبادئة Re تشير إلى وجود صورة سابقة، بينما لفظة Forme تعني الصورة التي يعاد تنظيمُها وتجديدُها وتمتينُها‏[1].

والإصلاح، أيّ إصلاح، أساسُ التحدث عنه طرح إشكالية بسيطة: أين يكمنُ الخللُ الواجبُ إصلاحِه؟ وأي مسارٍ يجبُ تصويبَه؟ وهنا تبدو العودةُ إلى الجذور تفرضُ نفسَها مرّة أخرى. فالخللُ غائرٌ في القدم، ويعودُ أقلُّه إلى التحوّلِ الكبير في مفهوم الكنيسة وموقعِها ودورِها ومسارِها الذي حدث زمن الإمبراطور قسطنطين (نحو 280 – 337م). يقول الأب فرنسوا دلتومب الدومنيكاني (Pr. François Deltombe o.p) (1912 – 1986) في ذلك، وبتعابير واضحة وجريئة:

«إن الاتفاق المعقود في عهد قسطنطين بين الكنيسة والسلطة، هو ربما المسؤول عن خيانة الكنيسة لمتطلّبات الإنجيل»‏[2].

وما اعتبرَه الأب دلتومب خيانةً لروح الإنجيل في التحالف بين الكنيسة وقسطنطين سنقتصرُ في عرضِنا له على نقطتين:

أولاً: من سلام الإنجيل إلى حروب قسطنطين

منحى اللاعنف واضحٌ في الإنجيل، جسّده يسوع في تعاليمه وفي حياته. فالناصريّ القائل: «أحبّوا أعداءكم، باركوا من يلعنكم… ومن ضربك على خدّك الأيمن در له الأيسر»‏[3] و«كلّ من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك»‏[4]، يلتقي مع غوتاما بوذا الذي سبقه بقرون خمسة وعلّم: «لا يهدأ بغضٌ بالبغض، إنما بالحبِ يهدأُ البغض، هذا قانونٌ أبدي» (الدهمّاپادا 1/5)‏[5]. كلاهما شاء أن يوقفَ بالحبّ دورةَ العنف التي لا تنتهي إلا به وحده، وأن يكسِرَ حلقتَها المفرغة. وأكّد آباءُ الكنيسة منذ القرون الأولى، وعلى رأسهم طرطليانس (نحو 160 – 220)، وأوريجانوس (نحو 185 – 254)، ولقطنطيوس (نحو 240 – 320) (Lactance) على هذا المنحى اللاعنفي في الإنجيل، وشهدَ له كذلك مئاتُ المحاربين الشهداء ببذلِ حياتِهم‏[6].

بيد أن الإمبراطور قسطنطين، وبحكايةِ اهتداءٍ هي أقربُ إلى الأسطورة، بل هي أسطورة ليس إلا، طبقاً لتعبير المؤرخ الكنسي المعاصر الأب جان كومبي‏[7]، استطاع أن يحوّل صليبَ المسيح من رمزِ فداءٍ سلاميّ إلى شعارٍ للحرب، بل سلاحٍ وأداةٍ لها استمرّ استخدامُه حتى اليوم. وقد توقّفنا مطوّلاً عند هذه المسألة في بحث آنف لنا قارنّا فيه بين دوريّ الإمبراطورين أشوكا وقسطنطين في البوذية والمسيحية‏[8]، ونكتفي هنا بالقول إن الحربَ القذرة، والصراعَ العسكري الدنيويّ على السلطة، تحوّلا في إثر هذه الأسطورة وترسيخِها في الأذهان إلى جهادٍ وحرب مقدّسة، ما سيلازمُ المسيحية قروناً طوالاً، وعبر تاريخها.

ثانياً: المسيحية ديناً للدولة

عملت الكنيسة في قرونها الثلاثة الأولى بموجب التعليم الإنجيلي الواضح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»‏[9]. وآمنت بالفصل التامّ بين المجالين الديني والدنيوي، الروحي والسياسي. ولكن المسيحية صارت مع قسطنطين وخلفائه ديناً للدولة. ومقابل تخلّي الإمبراطور عن لقب الحبر الأعظم الوثني (Pontifex Maximus) ووظائفه (379م)، نجدُ بابا روما يتّخذُ لنفسه هذا اللقب، أو بالحري يسطو عليه، بعد سقوط روما بأيدي البرابرة (23/8/476)، ويدّعي الحقّ في ممارسة سلطات شبيهة بسلطات الإمبراطور[10].

ولم تكسب الكنيسة بشخصِ قسطنطين وخلفائه سيّداً مدافعاً عنها وحسب، بل سيّداً متسلّطاً عليها أيضاً، طبقاً لتعبير المؤرخ المعاصر أرنولد جونز‏[11] ولو اقتصر الأمر على ذلك لبقي تأثيره محدوداً، ولكن الكنيسة هذه أصيبت بدورها بعدوى الاستبداد والتسلّط، وغدت مؤسسةً شبيهة بالدولة/الإمبراطورية، وفي ذلك يقول المؤرخ ولز (Wells): «وبتأثيرٍ من قسطنطين صار تاريخُ الكنيسة سلسلةً من الكفاحات العنيفة التي كان لا بدّ من حدوثها […] وعنه اقتبست الكنيسة الميلَ إلى الاستبداد وعدم الخضوع للمسؤولية، وإنشاءِ هيئةٍ تقومُ على المركزية، وتعيشُ على غرار الإمبراطورية، وإلى جوارها»‏[12] .

وكان للكنسية أن تجرجرَ، عبر تاريخها، ذيولَ مشكلةِ الخلط هذه بين الديني والدنيوي، أو طبقاً لتعبير المؤرخ الكنسي الأب كومبي الآنف الذكر: «وأضحت الكنيسة سجينةً للإطار السياسي والفكري، ممّا أفسدَ بساطةَ الإنجيل، ولم يُقضَ على هذه الظاهرة للكنيسة المعتمِدة على الدولة، كما يؤكّد عدد من الاختصاصيين، إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني، إذ اعترف أخيراً بالفصل بين المجالين الديني والدنيوي، وابتعد، بعض الشيء، من السلطات الزمنية»‏[13].

ثالثاً: الإصلاح البروتستانتي وموقفُه من الدولة والعنف

المفارقة الكبرى تكمنُ في أننا نجدُ أن الإصلاح اللوثري والبروتستانتي عموماً (القرن 16) عوضاً من أن يُصلحَ هاتين المعضلتين المزمنتين، أو على الأقلّ يسعى إلى إصلاحهما، فهو لم يفعل سوى أن زاد في تفاقمهما.

ففي شأن المسألة الثانية، أي علاقة المسيحية بالدولة، فمعروف أن لوثر (1483 – 1546) ومنذ بداية الإصلاح تحالف مع الأمراء لقمع ثورة الفلّاحين، وأن كالڤن (1509 – 1564) حوّل مدينة جنيف إلى تيوقراطية خانقة‏[14] وقضية الطبيب والمفكر الإسباني ميكايل سرڤيه (Michel Servet) الذي أُعدم حرقاً سنة 1553 تنفيذاً لحكم أصدره مجلس مدينة جنيف وشارك فيه كالفن‏[15] مثلٌ بيّن على ذلك. ويلاحظ المؤرخ جان ريتشارد – مولارد (ت1951) أن البروتستانتية، على غرار الكاثوليكية، صارت بدورها ديانةَ الدولة كما في بريطانيا العظمى وفي السويد، ومن مضطهَدة استطاعت أن تصير مضطهِدة كما في جنوب أفريقيا‏[16].

وما استهجنَه مارتن لوثر في الكنيسة الكاثوليكية من مزج للسلطتين الدينية والدنيوية، ومن جمعٍ البابا لوظيفتي رأس الأحبار والملك في شخصِه ومنصبِه، أبقاه في الكنائس المُصلَحة وثبّته، فجمعَ بذلك القولَ ونقيضَه الفعل، والصيف والشتاء على سطحٍ واحد. وفي ذلك يتساءل المفكّر رانكه مندهشاً وحائراً: «كيف كان للوثر أن يرضى بأن يقومَ في معسكره المناوئ للبابا ذلك الخلط بين العنصرين الزمني والروحي الذي استفظعه في البابوية؟!»‏[17] .

ويذهب مرسيل بريلو إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن لوثر، بتماديه في الخلط بين الزمني والديني، قد قضى على جوهر الثورة الإنجيلية، والذي يتجسّد في الحرية الإنسانية، يقول: «وُلدَت الحرية الإنسانية يوم تمّ الفصلُ بين ما لقيصر وما لله، والحال أن لوثر تخلّى عن هذا الفتح الكبير للمسيحية، فهو يعيدُ إلى قيصر كل ما هو من هذا العالم، ولكن من دون أن يستثني منه ما هو لله»‏[18] .

ويؤكّد لودفيغ بورنه مقولةَ بريلو، بل إنه يعتبر لوثر في توجّهه هذا قد قضى نهائياً على الحرية الإنسانية، يقول: «كان الإصلاحُ البروتستانتي السلّ الذي ماتت به الحرية الألمانية، وكان لوثر هو حفّارَ قبرِها»‏[19] .

ولعلّ حُكمه هذا، على قسوته، لا يعدو كونَه توصيفاً لفكر لوثر السياسي المغالي في الخلط بين دوريّ الكنيسة والدولة، فهو في كتابه المملكتان (Les Deux règnes) يؤكّد: «إن الكنيسة وحدها تخضع للإنجيل، وتمارس الحرية المسيحية. أما المجالُ المدني، فيجبُ أن يكونَ له حاكمٌ مسيحيّ قويّ يطبّقُ القانون ويجعلُه سيّداً»‏[20]. ولم يكتفِ لوثر بالتنظير في هذا المجال، بل قرن القول بالفعل، فنظّمَ منذ العام 1526 الكنائسَ اللوثرية الناشئة في ما عُرف بِـ «كنائس دولة»‏[21] .

وكان لا بدّ من انتظار الثورة العلمية والنزعة العلمانية التي لاحت تباشيرُها مع الثورة الفرنسية 1789 لتحرير دولِ أوروبا وإنسانِها من وطأة حكم الكنيسة كاثوليكيةً كانت أم بروتستانتية.

هذا في شأن الدمج بين الدين والدولة، ماذا في شأن النقطة الأولى، أي العنف، وما شهدته، أو بالحري ولّدته، حركة الإصلاح من حروب؟

سبقت الإشارة إلى أن لوثر محضَ الأمراء كاملَ دعمِه للقضاء على ثورة الفلّاحين، فماذا في التفاصيل؟

ننقلُ عن المؤرخ الكنسي خوان داثيو وصفاً موجزاً لماجريات هذه الحرب الأهلية وويلاتها: «ترك لوثر الأمراء يسحقون الفلّاحين المنتفضين، بينما هؤلاء واثقون بوعودِه السابقة لهم. وأطلقَ بوجهِ الثائرين منشوراً يقول فيه، من جملة ما يقول، إن الأمراءَ قادرون تماماً أن يضمَنوا الجنّة، وإن قتلوا الفلّاحين. فخُنق التمرّد في نهر من الدمّ، وجاءت التدابير الانتقامية من أفظع ما عرفته أوروبا في تاريخها كلِّه. أما المسؤول الأول عن هذه المجزرة الوحشية فلوثر. وإحدى أهمّ نتائج الإصلاح الذي استغلّه الأمراء الألمان ببراعة لصالحهم كان تنامي قوّتِهم وسلطتِهم»‏[22]. وجاءَ في حصيلة هذه الحرب: «300 ألف ثائر، مئة ألف قتيل، وألفُ ديرٍ وقصرٍ محروق. وخلال بضع سنوات أُعدم ما يربو على خمسة آلاف من القائلين بالعماد في سنّ الرشد»‏[23]. أي من يعتبرهم لوثر هراطقة.

وليس قمعُ ثورةِ الفلاحين «مأثرةَ» لوثر الوحيدة في الحروب والعنف. فهو في سجاله مع روما يهدّدُ صراحة بالحرب والويل والثبور وعظائم الأمور، ففي منشور موجز أصدره ربيع سنة 1520 أعلن بصراحة: «إذا كانت روما تؤمنُ بمعرفةِ البابوات والكرادلة، وتعلّمُ ذلك، وهو ما لا أتمنّاه، فإني أعلنُ بحرية من الآن بأن المسيحَ الدجّال الحقيقي يقبعُ في هيكل الله، ويحكمُ روما، بابل هذه المصبوغة بالأرجوان، وأن الإكليروسَ الروماني هو هيكلُ الشيطان، وإذا استمرَّ هياجُ أنصارِ روما على هذا المنوال، فلن يكونَ أمامَنا من علاج سوى أن يعمَدَ الأباطرةُ والملوكُ والأمراء، محاطين بجيوشهم، إلى مهاجمةِ أوبئة الطاعون الدنيوية هذه، وحسمِ الأمر بالسيف لا بالكلمات… وإذا كنا نقضي على اللصوص بالمشانق، ونضربُ أعناقَ قطّاع الطرق بالسيوف، ونحرقُ الهراطقة بالنار، فلماذا لا نهاجمُ أيضاً بالأسلحة معلّمي الضلال هؤلاء أي الكرادلة والبابوات وكلَّ آبارِ الظلم من سادوم الرومانية التي تفسدُ، من دون توقّف، كنيسةَ الرب، ونغسلُ أيدينا بدمائهم»‏[24].

يبدو نصّ لوثر، بما فيه من عنف وحقد، غنيّاً عن أي تعقيب، وإذا كان بيلاطوس قد غسل يديه بالماء من دم الصدّيق‏[25]، فلوثر يرغب صادقاً أن يغسلَ يديه بدم كهنته.

والحربُ أولها كلام، وتهديدات زعيم الإصلاح الحاقدة لم تذهب سدى، فبعدها بسنوات قليلة، وفي العام 1526 جنّد جورج ڤون فروندسبرغ عشرة آلاف شاب من البروتستانت، ووعدهم بالثروة والانتقام عارضاً عليهم روما غنيمة حرب. وكان هؤلاء المتعصّبون يرون قتلَ البابا ونهبَ عاصمة الكثلكة مثالَهم الأعلى. وفي شباط/فبراير 1527 زحف جيش فرندسبرغ وجيش الإمبراطور شارل الخامس على روما… وكانت حصيلةُ المعركة الضارية سقوطَ اثني عشر ألف قتيل من أهل روما، ووقوعَ البابا إقليمندس السابع (1523 – 1534) في الأسر، ودخولَ العساكر بخيلهم كنيسة سكستين التي رسم لوحاتها رفايل، وتدميرَ الكثير من التحف الفنّية‏[26].

ولكن إذا كان إصلاح لوثر، وإصلاح القرن السادس عشر عموماً، لم يصلح شيئاً من الخلل الأساسي كما رأينا، فما الذي جعلَه ينجح ويؤسّس كنيسة، أو كنائس بقيت إلى اليوم، ولا تزال ترفع راية الإصلاح شعاراً؟!

سبق لوثر عددٌ من المصلحين، ممّن أشار إليهم يوحنا عقيقي[27]، وممّن لم يشر. ولكن لم يحالفهم النجاح الذي حظي به المصلح الألماني، لماذا؟

ثمّة عوامل متعددة دفعت حركة لوثر إلى الواجهة، وكان لها الأثر الفعّال في نجاحِها واستمرارِها، ونعرض في التالي لأبرزها:

1 – العامل الجرماني القومي

أو بالحري النزعة الجرمانية في مواجهة النزعة اللاتينية. وفي ذلك ينقل المؤرخ خوان داثيو عن المؤرخ ميشليه مُقرّاً بنتائج بحثه: «عصر النهضة نفسه كان قد كوّن لدى الكاثوليك الألمان روحاً سكسونية، وما كان لوثر إلا الدفع الذي فجّر حركة قومية ذات انعكاسات وأصداء دينية عميقة كان الهدف منها تحقيق فصل روحي بين العالمين الجرماني واللاتيني»‏[28].

وهذا الجانب القومي الجرماني في حركة لوثر طرِبَ له، وأشادَ به وبدوره، الكثير من المفكّرين الألمان، يقول هردر في ذلك: «كان لوثر وطنياً كبيراً. وقد عُرف منذ زمن بعيد بأنه مربّي الأمة الألمانية، ومصلحُ أوروبا المستنيرة… وكأنه هرقل حقيقي»‏[29].

ولا يقلّ غوته، أشهر شعراء ألمانيا، حماسةً للوثر عن هردر، فهو يعتبره مؤسسَ القومية الجرمانية وواضعَ أول مداميكها، يقول: «ما صار الألمان لأول مرة شعباً إلا بلوثر… وإننا لا نكادُ نعي بكلّ ما ندين به للوثر ولحركة الإصلاح. فعن طريقها انعتقنا من أغلال الظلامية، وصرنا قادرين على تطوير ثقافتنا الخاصة والعودة إلى الينابيع وبلوغ المسيحية في نقائها»‏[30].

وكان من أبرزِ نتائجِ انتصارِ اللوثرية في ألمانيا نشوءُ دولةِ بروسيا. إنها الروحُ القومية الجرمانية قد استيقظت مع الإصلاح، ممّا كان له نتائجُ خطيرة وحاسمة على مستقبل أوروبا ككلّ.

2 – العامل السياسي

دعمُ الأمراء للوثر. ويلخّص فردريك الثاني هذا العامل الحاسم في نجاح حركة لوثر بقوله: «لقد كسب لوثر لحزبه العديد من الأمراء الذين وجدوا في سرقة أملاك الكنيسة طُعماً مغرياً»‏[31].

ويوجز المؤرخ خوان داثيو بعض حيثيّات حركة لوثر، ودور الأمراء الألمان الحاسم في دعمها وحمايته كما يلي: «دعا الإمبراطور الجديد شارل الخامس المجلس الإمبراطوري إلى اجتماع في ڤورمس في 27/1/1521، فعرض مندوب البابا إسكندر على الإمبراطور، وعلى الأمراء المجتمعين، الهرطقة في تعليم لوثر. إلا أن الإمبراطور، بتأثير من الدويلات الألمانية التي كانت ترفض اتّخاذ تدابير ضدّ لوثر، وبتأثير من عصابات سيكنغن التي كانت تطوّق المدينة، استدعى المتمرّد إلى ڤورمس ليشرح موقِفَه أمام المجلس، فكانت رحلةُ لوثر من ڤيتبرغ إلى ڤورمس نصراً حقيقياً. فقد أعلن، بحضور الإمبراطور، أن عقيدته أُنزلت عليه وحياً، وأن البابا والمجامع على خطأ. فصرفه الإمبراطور، ودعا المجلس، فصوّت على قرار يُلزم الأمراء أن يطردوا لوثر، أو أن يعتقلوه إذا رفض مغادرة الأراضي الإمبراطورية. فما أمكن تطبيق هذا التدبير لأن لوثر كان قد اختطفه في 4/5/1521 فرسان مقنّعين أرسلهم الأمير فردريك واقتادوه إلى قصر فارتربورغ بقصد حمايته»‏[32].

وشارل الخامس هذا سيعود ليهدّد البابا نفسَه بلوثر، بسبب تحالف الحبر الأعظم مع ملك فرنسا فرنسوا الأول 1527، فيكتبَ إليه: «سأذهب يوماً إلى إيطاليا لأنتقم. وقد يكون مارتن لوثر، اليوم أو غداً، إنساناً جليل الفائدة لي»‏[33].

ونفّذ الإمبراطور وعيده واحتلّ روما في أيار/مايو 1527.

3 – العامل الاجتماعي – الاقتصادي

مسألة الغفرانات، والبذخ الذي كان يعيش فيه رجالات الكنيسة. كان جوهان تيتزل (Tetzel) راهباً دومنيكانياً اكتسب شهرة منذ 1500 في توزيع صكوك الغفران، وجمع الأموال منها. وقد رفع شعاراً طارت شهرته: «ما إن ترنّ الفضّة في الكيس، حتى تطيرَ النفسُ من المطهر إلى السماء»‏[34]. وتوالت حملاته لبيع صكوكِ الغفران 1506 ثم 1514 وبخاصة 1517، إذ كان البابا في أمسّ الحاجة للمال لبناء كاتدرائية جديدة للقديس بطرس، وكان نصُ صكّ الغفران الذي يبيعه هذا الراهب فضيحة بحدّ ذاته، إذ جاء فيه: «ألا فليرحمْك ربّنا يسوع المسيح، وليفضْ عليك نعمَه باستحقاقات عذاباته المقدسة. وأنا بتفويض منه، ومن رسولَيه المباركيَن بطرس وبولس، ومن قداسة البابا، مُنح لي وعُهد إليّ في هذه الأمكنة أن أحلَّك أولاً من كل حُرم كنسي، أياً كانت الطريقة التي تعرّضتَ فيها له. ثمّ أحلَّك من كلّ خطاياك، ومن كلّ تجاوز للحدود، ومن كلّ إفراط في الملذّات، مهما بلغت من الجسامة. بل حتى من أي إثم تحتفظُ بتقريره وإدراكه السدّةُ البابوية. وبقدر ما يمتدُّ نطاقُ سلطان الكنيسة المقدّسة أعفيك من كلّ عقاب تستحقّه في المطهر بسبب هذه الآثام، وأعيدُك إلى القربان المقدّس للكنيسة، وإلى البراءة والطهر اللذين حزتَهما بالعماد. ولهذا فإنك عندما تموت، ستقفلُ بوجهك أبوابُ الجحيم، وتنفتحُ أمامك أبوابُ النعيم. وإذا لم تمت الآن، فإن هذا الفضل سيبقى في أوج طاقته عندما تصيرُ على وشك الموت. باسم الآب والابن والروح القدس آمين»‏[35] .

ومن يقرأ نص هذا الغفران هل يعجب أن تنجح معارضة لوثر العنيفة له في تجييش الناس من عامّة وخاصّة عليه؟ فهو يزعمُ غفرانَ كلّ إفراط في الملذّات، مهما بلغت من الجسامة!!

وتبقى المفارقة الكبرى أن لوثر في لاهوته الأدبيّ ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أطلق عبارته الشهيرة: «إخطأ ما شئت، لكن ليكن إيمانُك أقوى، وباللاتينية Pecca fortiter sed crede fortitus»‏[36] فالشيء الوحيد المهمّ عنده، الذي يفضي إلى الخلاص هو الإيمان، وهو كفيل بمحو كل الذنوب مهما بلغت جسامتها. فلمَ لا يمحو الغفران ما يمحوه الإيمان؟!

ويبقى أن أبا نواس الشاعر العبّاسي سبق لوثر إلى هذه المعادلة بسبعة قرون، فأنشد بجرأة:

تكثّر ما استطعتَ من الخطايا

                                                 فإنك لاقيٌّ ربّاً غفورا

ستبصرُ إن وردتَ عليه عفواً

وتلقى سيداً ملكاً قديرا

تعضّ ندامةً كفّيك ممّا

تركتَ مخافة النارِ السرورا‏[37]

وهكذا كان عصر النهضة وإنجازاته الفنّية الكبرى وبالاً على الكنسية، فقد دفعت ثمناً غالياً جداً للأعمال الفنية الخالدة التي لا تزال تزيّن معالمها، والتي جعلت من روما حاضرة الفن العالمية، وفي ذلك يقول الكاتب الإيطالي جيوڤني پاپيني: «إن ميكايل أنج ومنحوتاته كانوا السبب غير المباشر للإصلاح البروتستانتي»‏[38].

وفي تعليل ذلك يردف: «كان البابا يوليوس الثاني شديد الإعجاب بمكيال أنج، فشاء أن يكلّفه بمشروع فنّي ضخم فاحتاجَ، هو وخليفتاه لاون العاشر وأدريانس السادس، إلى مبالغ طائلة من المال سعوا إلى جمعها ببيع الغفرانات، فثارت ثائرة راهب اسمه لوثر…»‏[39]

4 – العامل الفكري: نقد الفلسفة المدرسية، ووضع البيبليا بمتناول الجميع

في مطلع القرن السادس عشر لم تعد الفلسفة المدرسية (Scholastique) التي تزعّمها القديس توما الأكويني بمنهجه الأرسطي تنعم بشهرتها ومكانتها السالفة‏[40]. وأدرك مارتن لوثر الذي كان بدوره يكره أرسطو هذا الواقع. نراه يكتب سنة 1517 إلى صديقه لانغ: «إن أرسطو ينهار»‏[41].

وأدان زعيم الإصلاح الفلاسفة المدرسيين، كالأكويني وغيره، لأنهم سلّموا للعقل بكثير من الأمور. ولأنهم حاولوا أن يثبتوا العقائد المسيحية استناداً إلى العقل، ولأنهم حاولوا أن يوفّقوا بين المسيحية وبين فلسفة أرسطو «ذاك الوثني الداهية المغرور اللعين»‏[42] طبقاً لتعبيره.

كان لوثر على توافقٍ مع مزاج العصر الفكري والفلسفي، فالفلسفة المدرسية فقدت فيه الكثير من ألقها، والنزعة الفردية المتنامية لدى إنسان عصر النهضة كانت تدفعه إلى التملّص من سلطة الكنيسة، وتدفعه إلى البحث عن الحقيقة بوسائله الخاصة، وذلك باتصال مباشر مع البيبليا‏[43]. وكان أن قدّم لوثر إلى إنسان زمنه وموطنه تحديداً ما يبحث عنه: الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد بلغته الأمّ: الألمانية، أي بلغة يفهمُها، وليس بلغة طقسية قديمة لا يعرفها ولا يستسيغها: اللاتينية. وكثرٌ هم المؤرخون والفلاسفة الذين اعتبروا ترجمة البيبليا إلى الألمانية أبرز إنجاز للوثر. يقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت في ذلك: «كان أعظم عمل قام به لوثر هو ترجمة الكتاب المقدس إلى الألمانية. وكانت ثماني عشرة ترجمة قد سبقته، ولكنها كانت منقولة عن نص القديس هيرونيموس اللاتيني: الفولغاتا، وكانت حافلة بالأخطاء، والعبارات السقيمة… ونقل لوثر أسفار العهد الجديد عن النص اليوناني الذي كان إرازموس قد نشره سنة 1516 مع ترجمة لاتينية… وبعد عمل دؤوب استمرّ اثني عشر عاماً نشر لوثر ترجمته الألمانية للعهد القديم. وكانت بلغة أقرب إلى المحكية، وفسّر منهجه بوضوح وبساطة قائلاً: «ينبغي أن لا نطلب من الحروف اللاتينية أن تعلّمَنا كيف نتكلّم الألمانية، فهذا ما يفعله الحمير. وما يجب أن نفعله هو أن نسأل الأمهات في بيوتهن، والأطفال في الطرق، وعامة الناس في الأسواق، ونسترشد هؤلاء في الترجمة، ولسوف يفهموننا، ويعرفون أننا نخاطبهم بالألمانية.»‏[44] وأكد هيغل بدوره أن ترجمة لوثر للبيبليا إلى الألمانية هي إنجازه الضخم والأساسي، وهي أبرز عمل إصلاحي قام به، ليس في الكنائس البروتستانتية وحسب، بل في الكنيسة عموماً، فقال: «إنه لمن الأهمية الأبدية أن يكون الشعب، بالترجمة اللوثرية للكتاب المقدس قد حصل على كتاب في متناوله، يستطيع أن يجد فيه حكمةً أزلية، وحسّاً عظيماً بالحياة…لقد قام لوثر بإصلاح كبير في الكنيسة الكاثوليكية نفسِها»‏[45].

والخلاصة، فبترجمته للبيبليا لم يضع لوثر هذا المصدر الروحي الأساسي بمتناول كل ألماني وحسب، بل هو كسر احتكار الكنيسة له ولتفسيره. وهنا يكمنُ جوهرُ إصلاحه.

5 – العامل التقني: اختراع الطباعة والإفادة منها

قام مواطن للوثر هو غوتنبرغ (1398 – 1468) بتطوير قوالب الحروف التي يوضع بعضها بجوار بعض ثم يوضع عليها الورق ويطبع، فاعتبر مخترع الطباعة الحديثة، وكان ذلك سنة 1447. وأدرك لوثر بفطنته وحدسه الثاقب أهميةَ هذا الاختراع، وما يمكن أن يلعبه من دور رائد في نشر أفكاره وتعاليمه. ووافقت الطباعة أغراضَ المصلح الألماني، واعتبرها بدعة أرسلتها العناية الإلهية، فاستخدمها ببراعة فائقة، وكان سبّاقاً إلى ذلك. فهو أول من جعل منها آلة للدعاية والحرب. ولم تكن هناك وقتذاك جرائد ولا مجلات. وكانت المعارك تذكّيها الكتب والرسائل المطبوعة. وارتفع عدد الكتب المطبوعة في ألمانيا من 150 سنة 1518 إلى 990 سنة 1524، وذلك بحافز من ثورة لوثر. وكانت أربعة أخماس هذه الكتب تؤيد الإصلاح الديني. أما الكتب التي تدافع عن العقيدة المحافظة، فكان يصعب أن تجد من يشتريها. وكانت مؤلفات لوثر هي الكتب الأكثر رواجاً في ذلك العصر. وكانت لا تباع في المكتبات وحسب، بل ومع الباعة الجوّالين والطلبة الرحّالة أيضاً. وقد بيع منها 1400 نسخة في معرض واحد في فرانكفورت. وكانت كتب لوثر هي الأكثر مبيعاً في باريس سنة 1520. وصُدّرت في مطلع عام 1519 إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا وإنكلترا. وكتب أرازموس سنة 1521 يقول: «إن كتب لوثر في كلّ مكان، وبكلّ لغة. ولن يصدّق أحد مدى تأثيره في الناس»‏[46]. وطبعت في فيتنرغ وحدها مئة ألف نسخة من العهد الجديد الذي ترجمه لوثر، وذلك إبّان حياته‏[47].

ويختصر ديورانت الدور الحاسم للطباعة في نشر أفكار لوثر، والترويج لإصلاحه ومواقفه المعارِضة للكنيسة بجملة جدّ معبّرة: «كانت الطباعة هي الإصلاح الديني، وغوتنبرغ بلا ريب هو الذي جعل نجاح لوثر ممكناً»‏[48].

بكلمة مكثّفة وموجزة: كان لوثر أكثر تكيّفاً مع مستجدّات عصره. فعرف أن يستفيد من الطباعة المكتشفة حديثاً، وقطف باكراً ثمار هذا الاختراع، وسبق الكنيسة الكاثوليكية إلى استغلاله. وهنا يكمن الدرس الأساسي الذي علينا أن نتعلّمه منه: فالإصلاح، أي إصلاح كي ينجح، ويبلغَ الغاية المنشودة، عليه أن يخاطبَ الناس بلغتهم: وهذا ما فعله لوثر بترجمة البيبليا إلى الألمانية، وكذلك عبر نشرها بالطبع وإيصالها إلى كل الناس.

وأدت الطباعة في حركة لوثر الدور الذي أدته وتؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في الثورات والحركات الاجتماعية اليوم. وهل كانت ثورة الياسمين البوعزيزية/تونس لتنجحَ لولا هذه الوسائل؟ وفي غيابها، أو غياب دورها، هل كان يصعب على الحاكم أن يصدّها أو يقمعها؟!

رابعاً: الإصلاح المتواصل عبر تاريخ الكنيسة

إذا كان الخللُ قد أصاب جسمَ الكنيسة وبنيانها منذ زمن باكر، فقد تزامن دوماً، ومنذ البدء، مع محاولات إصلاحٍ جدّية من الداخل.

فكنيسةُ المسيح كانت دوماً، ولمّا تزل، ثورةً متجدّدة. وهذا ما أتاح لها أن تعبرَ العصور لتصل إلى زمننا من دون أن تهرم أو تشيخ. وأي قدّيس مسيحيّ لم يكن مُصلحاً بشكل أو بآخر؟! لذا فمجرّد استعراض أسماء المصلحين وأزمانَهم وأدوارَهم يستغرقُ ما يتجاوز الوقت المتاح لهذه المداخلة.

وقد أقرّ للكنيسة بهذا الإصلاح الدائم والمتجدّد أبناؤها وغير المنتمين إليها في آن. فألبير كامو (1913 – 1960) المفكّر الملحد مثـلاً يعلن بصراحة: «نستطيع أن نقول هكذا، ومن دون أي تناقض، إن تاريخ الثورة لا يمكن فصله في العالم الغربي عن تاريخ المسيحية»‏[49] .

ولا يتيحُ لنا ضيقُ الوقت سوى أن نعرض، وبإيجاز، بعضَ النماذج من حركات الإصلاح ورجالاته.

1 – أمبروسيوس أسقف ميلانو

القديس أمبروسيوس (340 – 397) أسقف ميلانو، وجهٌ إصلاحي عريق، وأحد أبرز آباء الكنيسة اللاتين‏[50]. كان في ممارسته الأسقفية نموذجاً يحتذى في استقلال السلطة الروحيّة عن السلطة الزمنية، وتحرّرِ الكنيسة من نفوذ الحكّام والأباطرة‏[51]. وكان والياً رومانياً على مقاطعة ميلانو، فاعتزل الولاية عندما اختاره الشعب ليكون أسقفاً عليها. وإثر سيامته الأسقفية وزّع أملاكه على الفقراء. وطالب المسيحيين، ولا سيما أبناء أبرشيته، بتطبيق العدالة الاجتماعية رافعاً شعار: «الأرض للجميع، لا للأغنياء»‏[52].

ومن مواقفه الإصلاحية الجريئة، والتي تفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، وقوفُه بوجه الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (379 – 395). ففي إثر مذبحة تسالونيكي التي قمع بها الإمبراطور ثورتها 390م كتب أمبروسيوس له رسالةَ سخطٍ وتأنيب. وعندما جاء ثيودوسيوس إلى ميلانو، وأراد دخولَ الكنسية وتقديمَ القرابين، منعه أمبروسيوس من دخولها قائلاً له: «لستَ بأهلٍ أن تدخلَ بيتَ الربّ ويداك تقطران من دم الأبرياء». وفرض عليه التوبة، وأبقاه ثمانية أشهر محروماً من دخول الكنيسة وتقبّل الأسرار تكفيراً عن إثمه‏[53].

وأمبروسيوس ليس سوى نموذج لآباء الكنيسة من أمثال باسيليوس الكبادوكي وغيره الذين وقفوا بوجه الحكّام ولم يهابوا سلطتهم، وفصلوا بين السلطتين الزمنية والروحية.

2 – فرنسيس الأسيزي ورهبنات الصدقة

القديس فرنسيس الأسيزي (1181 – 1226) وجهٌ صوفيٌ عالمي، ولكنه أيضاً، بل وأساساً، وجهٌ كنسي إصلاحي. فاهتداؤه جاء في إثر سماعه النداء: «فرنسيس اذهب وأصلح كنيستي»‏[54].

وعملُ فرنسيس الإصلاحي تناولَ مجالاتٍ عديدة، ونقتصر منه على ذكر اثنين: الفقر الحقيقي واللاعنف.

علّم فرنسيس أنه على الراهب أن يعملَ كي يحصل على طعامه، أو يستعطي. إنها انطلاقةُ رهبنات الصدقة، وأبرزُها رهبنتا الفرنسيسكان التي أخذت اسمه، والدومنيكان (القديس دومنيك). وعلى الراهب أن يعيش في فقر حقيقي، وكذا الرهبنة. وقد أثار فرنسيس اهتمام الناس وإعجابهم بفقره الحقيقي وعيشته السلامية وصداقته للحيوانات والطيور والبيئة عموماً.

وطالما قورن فرنسيس بغوتاما بوذا: كلٌّ منهما من عائلة نبيلة ثرية، ورغم ذلك ترك المنزل الأبوي واختار عيشة البحث والفقر، كلٌّ أسّس رهبنة تعيش بالفقر وتحديداً على الصدقة، وتستعطي الطعام. كلّ عاش بسلام تامّ مع الطبيعة ومخلوقاتها، وشدّد على هذه العيشة السلامية. وسيرة قديس أسيزي تتقاطع في نقاطٍ عديدة مع سيرة المغبوط حكيم آسيا.

في زيارة لي ريشيكش/الهند وهي العاصمة العالمية لليوغا (كانون الثاني/يناير 2002)، قابلتُ قداسة المعلّم الحكيم سوامي شيدانندا (Swami Chidananda) (1916 – 2008) الرئيس العالمي لجمعية الحياة الروحية. وسألتُه أن يختارَ لي نصّاً يختصرُ رسالةَ الهندوسية وحكمةَ معلّميها في المحبة واللاعنف. وكم كانت دهشتي كبيرة حين فتّش بين أوراقه، وأخرج لي نشيداً مطبوعاً بالإنكليزية والهندية، قائلاً خذ وترجم هذا، فإذا هو نشيد يا ربّ استعملني لسلامك للقديس فرنسيس.

والأسيزي في نشيده الرائع هذا يكرّر، على طريقته، تعليم بوذا «لا يهدأ بغض بالبغض» الآنف الذكر، فيغنّي: «يا ربّ استعملني لسلامك، فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة…»‏[55].

ولا ننسى اهتمامَه بالإسلام، وبادرتَه الجريئة في زيارة السلطان الأيوبي الملك الكامل في دمياط/مصر 1219، وحوارهما الانفتاحي، وسماح السلطان له ببناء كنيسة ودير للرهبان الفرنسيسكان في دمياط. لقاء سابق وممهد لحوار مسيحي – إسلامي حقيقيّ ومثمر.

وفرنسيس اليوم، وطبقاً لتعبير جاك ڤيدال: «على مفترق الحوار والتعاون بين الثقافات والديانات (…) وقد اعتُبر أخاً في الحكمة لأتباع الطاو يتّحد نفَسُه بهم في طريق السماء. كما يسكن فيه روحُ الوادي، ويقودُه بالقرب من الهندوسية والبوذية، وقد استشفّ غاندي ذلك»‏[56].

ولو شئنا أن نوجز بعبارة مساهمة فرنسيس الإصلاحية، وأهمية دوره لاكتفينا بذكر ما قاله عنه أحد أقطاب الكنيسة البروتستانتية الفرنسية بول ساباتيه: «البدعة التي تحارب الكنيسة، وتوغر بمحاربتها الصدور، يكاد فرنسيس لا يعرفُها. قد تستطيعُ حملةٌ صليبية، أو محكمةُ تفتيش أن تقمعَها، أما فرنسيس فقد بدّدها كما يبدّدُ النورُ الظلمة. ولو عاش فرنسيس في زمن لوثر وكالڤن، لما قيّض لهما سوى أثر عابر»‏[57].

3 – الإصلاح المضادّ: المجمع التريدنتيني والرهبنة اليسوعية

لا يتّسعُ المجال لعرضِ مختلفِ مراحل وخطوات حركة التجديد الكاثوليكي أو ما عُرف بـ «الإصلاح المضادّ». ونكتفي بإشارة سريعة إلى عنصرين أساسيين فيه:

أ – المجمع التريدنتيني

عُقد في ترانتو/إيطاليا (Trente) على مدى حقبة 18 عاماً (1545 – 1563) تخلّلتها فترات انقطاع طويلة. ولم يقم أي مجمع في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية بالأعمال العظيمة التي أنجزها المجمع التريدنتيني‏[58]. فقد بيّن عدداً كبيراً من الأمور العقائدية التي لم تحدّد بدقّة ووضوح في الماضي: الأفخارستيا، الموقف من الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد والتقليد الآبائي، الأسرار… وفرض المجمع قيام إصلاحات في جميع مجالات العمل الرعوي. فوُضعت نصوصٌ كانت ثمرةَ تفكيرٍ وتأمل طويلين، كتلك التي تبحثُ في التعاون بين الله والإنسان في الخلاص. كما وُضعت نصوص أخرى كانت أشدّ تأثراً بمقاومة المذهب البروتستانتي، فشُجبت بعض التصرّفات، لا لشيء إلا لأن البروتستانت كانوا يمارسونها، ومنها مثـلاً استخدام اللغات القومية في الليتورجيا. ومن الناحية الرعوية، اتُخذت قرارات في شأن إنشاء الإكليركيات، كانت لها انعكاسات مهمّة على مستقبل الكنيسة‏[59].

وأضفى المجمع على الكنيسة الكاثوليكية طابعاً حافظت عليه حتى المجمع الڤاتيكاني الثاني (1961 – 1965). وخرجت منه مستقرّة ومنظّمة ومركّزة حول رأسها البابا. ودمجَ المجمع ماضي الكنيسة بحاضرها. يبد أنه بقي صامتاً أمام عدد من المشاكل الجديدة كالتطوّر الاقتصادي والاجتماعي‏[60]، وسيكون على البابوات، وخصوصاً على المجمع الڤاتيكاني الثاني، التصدّي لها، كما سنرى.

ب – الرهبنة اليسوعية

أسسها الراهب الإسباني إغناطيوس دي لويولا (De Loyola) (1491 – 1556). وهي نمط جديد من الحياة الكهنوتية والرهبانية يجمع بين الخدمة الرسولية ونظام الحياة الديرية. وإضافة إلى النذور الرهبانية الثلاثة: الفقر والعفة والطاعة، يُبرز اليسوعيون نذراً رابعاً هو طاعة البابا، ويدلّون به على رغبتهم في تلبية جميع حاجات الكنيسة في زمنهم‏[61].

وإنجازات اليسوعيين الإصلاحية متعددة، فمن ناحية الصلوات والتأمل عمّم القديس إغناطيوس طريقةً خاصة في الرياضات الروحية، لم تقتصر فائدتها على رهبانه، بل شملت الكثير من العلمانيين، ولا تزال زاداً روحياً للكثيرين في أيامنا‏[62].

وكانت لليسوعيين إنجازاتٌ متعددة في الحقول التربوية والتعليمية، فأسّسوا الكثير من المدارس والجامعات، وبعثوا الإرساليات إلى البلاد النائية‏[63]. وكان لهم دور في النهضة العربية عبر المطبعة الكاثوليكية، ومجلة المشرق، والجامعة اليسوعية وغيرها.

ومع المجمع التريدنتيني، والرهبنة اليسوعية، وغيرهما، بدا أن الكنيسة الكاثوليكية استعادت المبادرة، وأوقفت المدّ البروتستانتي في أوروبا، أو أقلّه حدّت منه.

4 – يوحنا 23 بابا الإصلاح

حين انتُخب الكاردينال رونكالّي بابا باسم يوحنا 23 في 28/10/1958 وهو في السابعة والسبعين من العمر، ظنّه الكثيرون بابا انتقالياً. وما دار في خَلَد أحد أنه سيكونُ البابا الأعمق أثراً في العصر الحديث. وفي ذلك يقول الكاردينال پول پوپار المتخصّص في تاريخ البابوات: «حبريةُ يوحنا 23 من أقصر الحبريات في زماننا (1958 – 1963)، ورغم ذلك فهي، من دون أي شك، أكثرُ من دمغ عصرنا»‏[64].

ويكفي دلالة على ذلك أنه كان أبرز، أو على الأرجح أول، من تصدّى للمعضلتين الكبريين اللتين جرجرتهما الكنيسة منذ زمن قسطنطين، أي العنف والحرب المقدّسة، ومسألة الربط بين الدولة والكنيسة، أو منظومة الكنيسة/الدولة. وقدّم لهما حلولاً مناسبة.

نجح يوحنا 23 في نزعِ فتيلِ الحروب الدينية داخل المسيحية، وبينها وبين الأديان الأخرى، أو ما يسمّى الحرب المقدّسة والجهاد. كما حلّ عقدةَ الرباط بين الكنيسة والدولة، أو إنه «نفض الغبار الإمبراطوري الذي يغطّي وجه الكنيسة» طبقاً لتعبيره‏[65] .

إنه بابا التجديد (Aggiornamento) الشعار المحبّب إلى قلبه، والإصلاح، وقد طرحه هدفاً للمجمع الڤاتيكاني الثاني في الخطاب الافتتاحي للمجمع‏[66] .

كانت الكنيسة قبل يوحنا 23 قد سارت في نهج دفاعيّ عن ماضيها استمرّ نحو 450 عاماً، تجنّبت فيه أيَّ نقد ذاتي. أما هو فكان، بفضل الخبرة المسكونية التي اكتسبها قبل أن يصيرَ بابا، مقتنعاً بضرورة إجراء نقد ذاتي علني في شأن موقف الكاثوليك العدواني من سائر المسيحيين. ومنذ انتخابه بابا رفع شعاراً كان له بالغُ الأثر في الحركة المسكونية، وفي علاقة الكنيسة مع سائر الأديان، فقال: «لا نبحثنّ عمّن كان مخطئاً، وعمّن كان محقّاً، ولكن فلنتصالح»‏[67] .

وفي العلاقة باليهود، وكانت لمّا تزل متشنّجة، ألغى بابا التجديد كل الصلوات المحقّرة لهم في الليتورجيا اللاتينية، وقد توسّعنا في عرض هذه الخطوة الإصلاحية الجريئة في بحث سابق لنا‏[68]. وكلّف الكاردينال أغوستينو بيا اليسوعي الألماني بمباشرةِ حوارٍ جدّي وعميق مع اليهود، واستقبل في الڤاتيكان أحد كبار الحاخامين جول إسحاق، كما قام البابا ببادرة رمزية بالغة الدلالة، إذ استقبل وفداً من علماء اليهود فاتحاً ذراعيه نحوهم وهاتفاً بكلمات البيبليا: «أنا يوسف، أخوكم»‏[69] .

وفي العلاقة بالمسلمين، كان يوحنا 23 أول بابا عرفهم من كثب وقُرب يومَ عمل مدبّراً رسولياً في إسطنبول‏[70]. وقد ألغى، إبّان حبريته، صلاةً مسيئة لهم‏[71]. كما بيّنا في بحث سابق.

وبهذه الخطوات سلك يوحنا 23 الطريق الذي كان من شأنه أن يقود خلفاءه إلى طلب الغفران، فهو إذ طهّر الصلوات خطا الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو ما سمّاه البابا يوحنا بولس الثاني «تطهير الذاكرة التاريخية».

وقد تكرّس هذا المنحى في النقد الذاتي بقرار ونصّ من المجمع الفاتيكاني الثاني أُعدّ في حبرية يوحنا 23 (قرار في الحركة المسكونية 21/11/1964، فقرة 7): «يمكننا أن نطبّق شهادة القديس يوحنا: «إن قلنا إننا لم نخطئ، جعلنا من الله كاذباً، وكلمتُه ليست فينا»‏[72]. إذن يجب علينا أن نطلبَ الغفران في صلاة متّضعة من الله، ومن إخوتنا المنشقّين، وأن نغفر لمن أساء إلينا»‏[73].

ويوحنا 23 كان عن حق بابا الانفتاح الثلاثي:

أ – المسيحيون غير الكاثوليك خاطبهم في رسالة الدعوة إلى المجمع الفاتيكاني: «أيها الإخوة والأبناء»‏[74] وعمـلاً بمشيئته ضمّ المجمع من بين المشاركين مراقبين من الكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية والإنكليكانية. وذلك لأول مرة في تاريخ المجامع الكاثوليكية. وكان عددهم في بداية المجمع 31 وارتفع في نهايته إلى 93‏[75]. وأضحت هذه البادرة الانفتاحية الرائدة تقليداً في الكنيسة.

ب – وغير المسيحيين، ولا سيما اليهود والمسلمون. عرضنا بادراته الأخوية الطيّبة تجاهَهم. وقد توّج المجمع الفاتيكاني ذلك بقرار مجمعي في 28/11/1965 (بيان في علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية)، عرضناه وحلّلنا مضامينه التجديدية البالغة الأهمية في بحث سابق‏[76] .

ج – غير المؤمنين: كان يوحنا 23 أول بابا يتوجّه في رسائله العامة، ليس إلى الكاثوليك والمسيحيين عموماً، ومؤمني الديانات الأخرى، وحسب، بل إلى كلّ الناس ذوي الإرادة الطيّبة كذلك. وفي رسالته العامة «وعلى الأرض السلام» ميّز بين الأنظمة الأيديولوجية غير المتسامحة بطبيعتها، وبين البشر الذين لا يتغرّبون تغرّباً كامـلاً عن ذواتهم، والمحافظين على أفضل ما فيهم، وشدّد على وجوبِ احترام كرامةِ الإنسان كشخص، مؤمناً كان أم لا، وقال: «يبقى الإنسانُ الضائع في الخطأ كائناً بشرياً، ويحافظ على كرامته كشخص، وهي كرامةٌ لا بدّ من احترامها دائماً وأبداً. كما أن الكائن البشري لا يفقد بتاتاً قوة التحرّر من الخطأ، وشقّ طريق الحقيقة»‏[77].

أما الحربُ المقدّسة التي فُلسفت ورُوّج لمفهومها منذ قسطنطين، كما أسلفنا، فقد غدت مع يوحنا 23 في خبرِ كان وجزءاً من ماضٍ يجب أن نستغفر عنه. «همّ الكنيسة ليس محاربة الخصوم بل إيجاد لغة تُكلّم بها العالم الذي تعيش فيه والذي يجهلها». قال البابا في رسالة الدعوة إلى المجمع‏[78].

وفي رسالته العامة الأولى 29/6/1959 حذّر من خطورة الأسلحة الحديثة التي تحوّل أي حرب جديدة إلى مجزرة إنسانية لا حدود لها، وأضاف: «لا يمكن تحقيق الازدهار لأبناء أي دولة بالعنف، ولا بالإكراه يمارَس على العقول والقلوب»‏[79].

وأبرز ما يسترعي الانتباه في مقاربة يوحنا 23 للحرب ربطُها المباشر بانتهاك حقوق الإنسان. فهو يعتبر أن روح الحرب تظهر حيث تكون حقوق الإنسان الأساسية منتهكة. ولا يرى سلاماً حقيقياً إلا باحترامها، ويعمدُ في رسالته «وعلى الأرض السلام» (11/4/1963) إلى تعداد الحقوق الأساسية هذه: الحق في الحياة، وفي اختيار دينه وإشهار إيمانه، وفي العمل…، مستوحياً الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، ومؤكّداً وجوب احترامها، ومعتبراً أنها أساسٌ للسلام. وهو في موقفه الرائد هذا أظهرَ نزعةً إنسانية شاملة، يلتقي فيها مع «كل الناس ذوي الإرادة الطيبة» بغضّ النظر عن انتماءاتهم دينيةً كانت أم قومية أم غيرها. إنه معلّمٌ وزعيمٌ روحيٌ مسكونيّ وعالمي، وليس حبراً رومانياً وحسب.

والخلاصة، فالتأوين أو التجديد (Aggiornamento) الشعار الغالي على قلب يوحنا 23 عنى بالنسبة إليه، وفي آن، عودةً إلى الينابيع وتكيّفاً مع العصر من أجل أمانة للأصول. فالعودة إلى الجذور لا تعني أن نرجِعَ إلى الوراء، ونتكمّشَ بالتقاليد خوفاً من التجديد. والتجديد غير مجدٍ وغير قابل للرسوخ إذا قُرن بتنكّرٍ كلّي للأصيل من التقاليد.

وسار البابوات بولس السادس ويوحنا بولس الأول ويوحنا بولس الثاني في الخطّ الذي رسمه يوحنا 23. فالتحوّل الكبير الذي أرسى دعائمه ترسّخ، وغدا التجديدُ والإصلاح هما القاعدة. ففصلُ الكنيسة عن الدولة هو اليوم أمرٌ واقع، أما العنف الديني والحرب المقدّسة فكان لخلفاء يوحنا 23 مواقفُ واضحة وحاسمة منها. فالبابا يوحنا بولس الثاني أكّد، في هذا المجال، أن الإقرار بالخطأ شرطٌ لتصحيحه. وهتف بألم: «كيف لنا أن نصمتَ أمام جميع أشكال العنف التي اقتُرفت باسم الأديان؟!» ودعا إلى أن تَقرأَ الكنيسة تاريخَها قراءةً نقدية، وأكّد: «يجب على الكنيسة في ضوء ما قال المجمع الفاتيكاني الثاني أن تُعيد النظر، بمبادرة ذاتية، في الجوانب المظلمة من تاريخها، وتتفحّصَها في ضوء المبادئ الإنجيلية». وشجب يوحنا بولس الأول كذلك ما أسماه: «التحالف السابق بين الصليب والسيف». ورأى أن الحروب الدينية هي المسؤولة عن تفشّي الإلحاد، ودعا إلى استغفار متبادل بين المسيحيين والمسلمين على ما شاب علاقاتِهم وتاريخَهم المشترك من عنفٍ وحروب. وقد عرضنا لهذا المسار المهمّ الذي شقّه يوحنا 23 وترسّخ في المجمع الفاتيكاني الثاني ومواقف وأداء البابوات بولس السادس ويوحنا بولس الأول ويوحنا بولس الثاني في بحث تحليلي سابق. ونُحيل الراغب بالاستزادة إليه‏[80] .

5 – الإصلاح في الكنيسة المارونية

ما كنّا نودّ أن نتطرّق إلى هذا الموضوع، ونعقّب على ما قاله زميلنا الأب يوحنا عقيقي في شأنه. ولكن بحثَه فيه وعرضَه جاء، وللأسف الشديد، دعائياً أكثر ممّا هو بحث أكاديمي، وعرض موضوعي.

من هنا وجدنا لزاماً علينا أن نذكر بعض المعطيات والوقائع.

إن الترجمة الفعلية لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني تفترض على الأقلّ، وبادئ ذي بدء، ترجمةً عربية لهذه المقرّرات، وهذا ما لم تقم به الرهبنة المارونية ولا جامعة الكسليك، بل قامت به مجموعتان: الترجمة الأولى أنجزها المطارنة عبده خليفة وفرنسيس البيسري ويوسف بشارة، بالتعاون مع الآباء اليسوعيين وصدرت عن مطبعة هؤلاء في الستينيات، أي بعد سنوات قليلة من ختام المجمع. وهي ترجمة كاملة لأعمال المجمع ومقرّراته، مرفقة بشروحات وهوامش وتعليقات وفهارس. والترجمة الثانية أنجزها الآباء البولسيون، ومعهد اللاهوت التابع لهم/حريصا‏[81].

والإصلاح الليتورجي الماروني بدأ على الصعيد العملي والتطبيقي مع الرابطة الكهنوتية التي أصدرت دليل المؤمن سنة 1946‏[82]، وتوالت طبعاته مذّاك إلى اليوم. ثم عادت وأتبعته بكتاب الرتب المارونية، ويشملُ رتبَ أبرز أعياد السنة الطقسية مثل رتبة الغسل يوم خميس الأسرار، ورتبة سجدة الصليب يوم الجمعة العظيمة وغيرهما‏[83].

وبلغ هذا الإصلاح ذروته مع صلاة المؤمن للمطران بطرس الجميل، وهو موسوعة ليتورجية طقسية شاملة تتضمّن صلوات وقراءات من البيبليا وآباء الكنيسة وتأملات وتذكارات القديسين (السنكسار) على مدار السنة، وتغطّي السنة الطقسية المارونية كلّها بمختلف أيامها ودوراتها واحتفالاتها. وتقع في ثلاثة مجلّدات، ونحو 3300ص. وصدرت في طبعتها الأولى عام 1966 في ختام المجمع الفاتيكاني الثاني، ثم صدرت ترجمة إنكليزية، ثم أخرى فرنسية لها‏[84].

أما أول إصدارات جامعة الكسليك في المجال الليتورجي وإصلاحه، فلم يُنشر إلا سنة 1976، أي بعد عقد كامل من صدور موسوعة «صلاة المؤمن». وكان مقتصراً على أسبوع الآلام، أي على أسبوع واحد من السنة الطقسية‏[85] .

ومن الناحية النظرية، فالبحوث في الليتورجيا المارونية، والتي عملت على إصلاحها وتجديدها، أقدم من ذلك بعهود. وأولها دراسة المطران بطرس ديب الصادرة في باريس 1919‏[86] وتناول فيها هذا المطران العلّامة كتاب القداس، وكتاب خدمة القداس، وكتابي الرسائل والإنجيل، وتوسّع في البحث فيها‏[87]، وموضوعات ليتورجية أخرى.

ونشر المونسنيور ميخائيل الرجي 1946 – 1947 سلسلة بحوث في نوافير الكنيسة المارونية‏[88].

وأصدر المونسنيور ميشال الحايك سنة 1964 دراسة قيمة في الليتورجيا المارونية تناولت تاريخها ونصوصها ولا سيما القداس الماروني‏[89].

ونشر المطران بطرس الجميل كتابه في القداس الماروني وخدمة الكلمة فيه، في روما 1965‏[90].

وما ذكرنا ليس سوى نَزرٍ من الأبحاث التي صدرت في هذا المجال، وقد اقتصرنا على أبرزها، كي لا نثقلَ النص بالعناوين والحواشي.

أما على صعيد الموسيقى والألحان، فأعمال المونسنيور منصور لبكي سبقت إسهامات جامعة الكسليك بسنوات، وتراتيلُه غدت على كل شفة عربية ولسان، ولم تعد مقتصِرة على الموارنة ولا المسيحيين حتى. وأُذيعت ولا تزال بعد التلاوات القرآنية في إذاعات الخليج. وذلك لأنها لحّنت قصائد لكبار الشعراء العرب أمثال سعيد عقل، ورشدي المعلوف، وجورج غانم، وميشال الحايك، وقصائد لشعراء عالميين أمثال الطوباوي شارل دو فوكو، وطاغور، والقديس فرنسيس الأسيزي، وغيرهم.‏[91] كما لحّن المونسنيور لبكي القداس الماروني بالإنكليزية والإسبانية والبرتغالية. ولحّن كذلك مزامير داود (الزبور) كلّها (150 مزموراً)‏[92] .

أما الأب لويس الحاج الذي ينسب إليه الأب عقيقي «الإبداع في توحيد الألحان، وضبطها، وتوصيف أدائها»، فالأب الحاج نفسه في مقدمة الكتب الصادرة عن معهدي الليتورجيا والعلوم الموسيقية في جامعة الكسليك، يذكر أن عمله اقتصر على «ضبط الموسيقى»‏[93] فلمَ ننسبُ لقومٍ ما لا ينسبوه هم لأنفسهم؟!

وعن عمل الأب لويس الحاج يقول العلامة المونسنيور بولس الفغالي: «ألصقَ على اللحن السرياني كلماتٍ عربية، وبقيت الموسيقى السريانية كما هي، دون أي تغيير، فأين الإصلاح في ذلك؟» ويضيف المونسنيور الفغالي شارحاً ومعقّباً: «أخذ الأب لويس الحاج الألحان السريانية، ووضع لها كلماتٍ عربية. ولستُ أدري كم كانت ناجحة وشاعرية. صحيح أنه انطلق من الجذور، لكنه بقي فيها، فما جاءنا بجديد، ولا رأينا منه انطلاقة إلى البعيد، لقد راوح مكانه‏[94].

وعن تقييمه العام للعمل الذي قامت به جامعة الكسليك على الصعيد الليتورجي يقول المونسنيور الفغالي: «من المحزن اليوم أن السلطة الكنسية المارونية طلبت إصلاح الإصلاح الليتورجي، وأن يعاد النظر في ما أعدت جامعة الكسليك»‏[95] .

6 – الإصلاح بين البابا بنديكتوس السادس عشر وخليفته فرنسيس

ووفق رؤية العلامة المونسنيور بولس الفغالي «أبرزُ ثمارِ عملِ البابا بنديكتوس السادس عشر كان التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، وقد أنجزه عندما كان كاردينالاً. وأثار هذا التعليم موجةً من الاحتجاج، لا سيما في الكنيسة الفرنسية والبلجيكية والألمانية. فهو لم يستفد من المجمع الفاتيكاني الثاني، بل عاد مع معاونيه الآباء البولونيين الذين لم يعرفوا هذا المجمع، إلى القرون الوسطى والمجمع التريدنتيني. وهكذا، فعوضَ الانطلاق إلى الأمام في خطّ الفاتيكاني الثاني، عادوا بالفكر المسيحي إلى الوراء. وأكتفي بذكر نقطةٍ على سبيل المثال، فهم اعتبروا الحكمَ بالإعدام من اللاهوت المسيحي. كما أنهم جعلوا أفكاراً لاهوتية على مستوى العقيدة، ويكفي أن نذكر أنهم أضافوا إلى عقيدة مريم العذراء والدةِ الإله، أنها أيضاً شفيعةُ جميعِ النعم، ومشارِكة في الخلاص. وكأنهم بذلك يريدون أن يؤكّدوا الاعتراض القرآني: ﴿وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾»‏[96].

وعن سؤالنا: هل البابا بنديكتوس السادس عشر مصلح، يجيب الفغالي: «هو لاهوتي وليس مصلحاً. ويكفي دلالة على ذلك أن نعرف أنه حين أرادَ أن يُجري تغييراً في مصرف الفاتيكان، وعيّن مديراً ليحلّ مكان آخر جاء مساعد البابا وطرد المدير الجديد، وأعاد المدير المعزول. وكان هذا الحدث الخطير أحدَ أسبابِ استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر. فأين الإصلاح؟! أما خليفته البابا فرنسيس فشكّل لجنة مراقبة مالية (Auditing) على هذا المصرف، وإدارتِه».

أما نحن فنتحاشى المقارنة بين الحبرين، ونكتفي بالقول إن البابا فرنسيس مصلحٌ حقيقي، على مثال سميّه القديس. فقد عاد بالكنيسة إلى الإنجيل، ليس بالكلام، بل بالعيش الحقيقي. شاءها أن تكونَ كنيسةَ الفقراء، كما أراد سلفُه القديس البابا يوحنا 23، يوم أعلن في خطاب افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني (11/9/1962): «إنه ليقتضي من كنيسةِ اليوم أن تتجلّى للعيان على ما هي في جوهرها، وعلى ما تريد أن تكونه في حقيقتها: كنيسةُ الناس جميعاً، ولا سيما كنيسةُ الفقراء»‏[97].

علّم البابا فرنسيس الفقر، وعاشه، ولا يزال. وهذا ما جعلَه زعيماً روحياً عالمياً مسموعَ الكلمة. وهنا أودّ أن أطرحَ على الأب الجليل سؤالاً بسيطاً: تقولُ في بحثك: «لا إصلاح حقيقيّ إلا بإصلاح السيرة الذاتية». وإني لموافقُك الرأي، ولكن أين أنتم من إصلاح البابا فرنسيس؟! البابا يركبُ سيارةَ فيات بسيطة لا يعدو ثمنها ألفي دولار، ويتنقّل بها. وقد وبّخ الأساقفة الذين أتوه راكبين سيّارات الليموزين. «كؤوس كنيسةٍ من ذهب، وأحبار من خشب». كما ذكر الأب الجليل نقـلاً عن لوثر.

خاتمة: كيف يمكن الإفادة من تجربة الإصلاح المسيحي؟

أبرزُ ما يمكن أن نتعلّمَ من التجربة الإصلاحية المسيحية هو برأينا هذه الجرأة على القراءة النقدية كلّ لتاريخه. والتي رأيناها واضحة عند البابويَن القديسيَن يوحنا 23 ويوحنا بولس الثاني وغيرِهما. والمسيحية، بلا ريب، تفوّقت على زميلتيها الديانتين الإبراهيميتين الأخريين في هذا المجال، وكانت رائدة ومجلّية فيه. وإصلاح المسيحية، وأية ديانةٍ أخرى يكمنُ أساساً في إصلاح النظرة إلى الآخر، وتصويبِها، وقبولِه كما هو، والكفّ عن تكفيره. وهذا ما باشرَ العملَ به البابا القديس يوحنا 23، واستكملَه خلفاؤه الأحبارُ العظام.

والإصلاحُ الحقيقي يكمن كذلك في تطهير النفوس والنصوص من شوائب العنف ورواسبه، وهذا يرتبطُ بعلاقة جدلية وطيدة مع العامل السابق ذكره: أي تصويب النظرة إلى الآخر. وما نعاينه اليوم ويتكرّرُ غالباً أمام ناظريَنا هو أن ما أوّلُه تكفير، آخرُه تفجير.

وفي أكثر القواميس يترجمون مصطلح سلفي بـ Réformiste وسلفية بـ Réforme‏[98] ولا غرابة، فالإصلاح (Réforme) كما بينّا إعادة الصورة إلى ما كانت عليه، وعودة إلى الجذور… وأية مفارقة هذه؟! لنتأمّل قليـلاً كيف تتغيّر المعايير وحتى مدلولات العبارات. فالسلفية صارت اليوم في أُذن العامّة وحتى المثقّفين مرادفاً للوهّابية وداعش.

يطيبُ لي أن أختمَ بمقولةٍ بالغةِ الدلالة لهيغل كبيرِ فلاسفةِ الأزمنةِ الحديثة. فقد صنّف الأديان والحضارات من خلال موقفِها من العنف واللاعنف، فأعطى صفةَ القديمة للأديان التي تكرّسُ العنف. في حين خصّ الدين الذي ينادي بالغفران والمسامحة والعفو بصفة الحداثة. وأكّد أن تقدّمَ البشرية وتطوّرَها نحو الأفضل في مسيرةِ التاريخ التي لا تتوقّف مرتبطٌ بالتخلّي عن العنف‏[99].

إنه التحدّي الكبير في أيّ إصلاح دينيّ مرتقب، وخصوصاً في شرقنا العربي والإسلامي: إما أن نطهّرَ ذاكرتَنا والنصوصَ والنفوس من العنف ورواسبِه، فنكونَ أبناءَ اليوم والغد، وإما أن نبقى على حالنا وعنفِنا وحروبِنا ساكنين منازلَ الأمس البائد، قابعين في زاوية منسية من زوايا التاريخ».