الحل الاقتصادي كمدخل للحل السياسي

جرت العادة أن يقال عكس ذلك، أي أن السياسة هي المدخل لحلول قضايا الاقتصاد. لكن الجحيم الذي يعيشه العالم حاليًا بفعل تراكم أشكال من أزمات النظام الرأسمالي العولمي عبر العقود الأربعة الماضية، وذلك بسبب النواقص في الأسس النظرية التي انطلق منها ذاك النظام والممارسات غير الأخلاقية وغير العادلة التي ارتُكبت باسمه، وما أضافه وباء فيروس الكورونا من مآسٍ وفواجع، وهو ما جعل كل مساوئ ذلك النظام الاقتصادي الرأسمالي العولمي مضاعفة، ووقوف العالم على حافة اندلاع حرب عالمية ثالثة في أوكرانيا، وبالتالي إمكان دخول العالم في تضخم مالي، وارتفاع في الأسعار، ونقص في المواد الغذائية الرئيسية، وارتفاع في نسبة البطالة، وبالتالي تزايد هائل في انتشار الفقر في العالم كله… لكن كل تلك الصورة البائسة قادت مؤخرًا إلى طرح ومناقشة ونقد النظام الاقتصادي العولمي المهيمن من جانب الكثيرين من الكتّاب ومراكز البحوث والدراسات ومؤسسات المجتمعات المدنية السياسية والاقتصادية[1].

في الواقع أصبح هذا الموضوع، إضافة إلى أزمة الديمقراطية وعلى الأخص جانب العدالة فيها، موضوعَي الساعة في كل أصقاع العالم، ذلك أن الفضائح والاستنتاجات التي بدأت تتضح تشير إلى «أن هناك إحساسًا متزايدًا بأن الرأسمالية تفشل» لأنها تنتج «حالة من الخوف وعدم الأمان وعدم المساواة حيث المدراء التنفيذيون يتقاضون مداخيل تبلغ 350 مرة أجور العمال الأقل دخلًا»[2]، أو حيث في بلد فائق الغنى والتطور تتعايش الرأسمالية مع فضيحة أن «خمسًا وعشرين في المئة من شعب الولايات المتحدة الأميركية، أي نحو ثمانين مليونًا، يقتربون من خط الفقر»[3]، أو حيث في الإقليم العربي «تمتلك العشرة في المئة الغنية ثمانين في المئة من ثروة الإقليم»[4].

وكان أحد أسباب الوصول إلى ذلك المشهد تقليص دور الدولة في حقلي الاقتصاد والاجتماع إلى أدنى المستويات، وترك إدارتهما وضبط توازنهما إلى قوانين العرض والطلب في أسواق حرة ذاتية التنظيم. وكنتيجة منطقية لهذا الفكر انتشرت ظاهرة خصخصة الخدمات الاجتماعية والنقل العام والثروات الطبيعية العامة، التي أدت إلى كوارث اجتماعية، خصوصًا بالنسبة إلى الفقراء وذوي الدخل المحدود»؛ وإلى تراجع كبير في عدد أفراد الطبقة الوسطى.

وقد ترافق كل ذلك مع تراجعات في الحياة المجتمعية المدنية؛ فقدرات النقابات العمالية والمهنية أصابها الوهن وأصبحت غير قادرة على الدفاع عن حقوق العمال والمهنيين، والأحزاب اليسارية تراجع وجودها في البرلمانات والحياة العامة وبدأ بعض الجماعات الاقتصادية النيولبرالية، من مثل مدرسة شيكاغو الشهيرة، تدعو إلى استبدال تركيبة الديمقراطية الجماهيرية الانتخابية بديمقراطية النخبة القائدة التي تتكون من رجال الأعمال والمال في الدرجة الأولى.

والنتيجة الإجمالية هي وصول العالم إلى مواجهة تحديات بالغة التعقيد والأخطار، تتمثل بركود اقتصادي تنافسي مجنون، ودمار تراكمي للبيئة الطبيعية، وتزايد في أعداد وبؤس هجرات الملايين من البشر هربًا من الصراعات والفقر، وظهور أوبئة فيروسية وجرثومية سريعة الانتشار وصعبة السيطرة.

وبالطبع، فإن كل ما ذكرناه مما أصاب العالم من إشكالات أصاب كل أجزاء الوطن العربي بنسب متفاوتة، ولكن بقوة أكبر ونتائج أخطر بسبب الصراعات والحروب والمؤامرات التي اجتاحت الكثير من مجتمعات هذا الوطن المنهك الذي يواجه الجحيم بصور لم يعرف تاريخه الطويل مثيلًا له.

نحو نظام اقتصادي اشتراكي عربي

إذا كان الكثير من الأصوات والجهات في الغرب الرأسمالي قد بدأ بإعادة طرح تبني جوانب من الفكر الاقتصادي الماركسي كحل لخروج مجتمعاتها من الطريق المسدود الذي قاد إليه الاقتصاد الرأسمالي العولمي النيولبرالي، أو مناداة بعضهم بالانتقال إلى نظام اشتراكي تعاوني[5]، فإن ذلك يدعم الأصوات العربية التي تطرح هي الأخرى ضرورة الانتقال إلى نظام اشتراكي تعاوني عربي يأخذ في الحسبان خصوصيات المجتمعات العربية، ويُخرج العرب من إشكاليات النظام الاقتصادي الرأسمالي العولمي الذي فُرض عليه، مثلما فرض على الأغلبية الساحقة من العالم.

وبالطبع، فإن سيرورة ذلك الانتقال في بلاد العرب ستحتاج إلى أن تبدأ بمراجعة الاشتراكية العربية، فكرًا وممارسةً، التي طُرحت منذ سبعين سنة كأحد شعارات مختلف الأحزاب والحركات القومية العربية، لا للتخلي عن ذلك الشعار وإنما لمراجعة نقائصه النظرية إن وجدت وممارساته الخاطئة إن ارتكبت في هذا القطر أو ذاك.. وكما فعل مركز دراسات الوحدة العربية عندما نظم مجموعة من مفكري وناشطي الأمة لمراجعة الفكر والأيديولوجيات القومية العربية وخرج بتصورات وإضافات جديدة بالغة الأهمية في شكل مشروع نهضوي عربي متكامل، يستطيع المركز أن يكمل تلك الخطوة بمبادرة جديدة لمراجعة خاصة بالجانب الاقتصادي العربي في الفكر القومي الشامل.

ومع أن المشروع النهضوي العربي قد تعامل مع الموضوع ضمن شعار العدالة الاجتماعية إلا أن هذا الشعار لا يغني عن تسمية النظام الاقتصادي المطلوب بتسميته العلمية المتفق عليها في أدبيات ما يعرف بعلم الاقتصاد. ولما كانت العدالة الاجتماعية، بل كل أنواع العدالة القيمية والأخلاقية والتنظيمية، هي في قلب الفكر الاشتراكي وجزءًا مفصليًّا من تركيباته، فإن فصل «العدالة الاجتماعية» في المشروع النهضوي يمكن أن يكون منطلقًا للحديث عن الاشتراكية التعاونية التي ننادي بالانتقال إليها.

وقد سبق لمجلة المستقبل العربي، التي يصدرها المركز أن نشرت مقالات تمس هذا الموضوع[6].

لا يسمح المجال في افتتاحية للدخول في تفاصيل موضوع الاشتراكية المطلوبة، إذ سيتناوله الاختصاصيون والمفكرون وممارسو السياسة إذا دُعيوا إلى ذلك، لكن هناك جوانب يمكن إبرازها لأنها بالغة الأهمية.

أولًا، ضرورة الإفادة مما هو منطقي ومنسجم مع أهداف المشروع النهضوي العربي في مختلف المدارس والأيديولوجيات والتجارب الاشتراكية في مختلف أجزاء العالم، المتقدم والنامي، ذلك أن ليس في تلك المدارس والتجارب ما هو كامل ولا يحتوي على أية نواقص.

ثانيًا، أنها ستأخذ في الحسبان التاريخ، والثقافة، والتركيبات الاجتماعية، والموارد الطبيعية والبشرية، والمستويات والإمكانات العلمية والتكنولوجية، والمصالح الاستراتيجية المستقبلية لهذه الأمة[7]، وبالتالي فمسيرتها ستكون تدرجية تراكمية لئلا تقع في ما وقعت فيه بعض المحاولات الاشتراكية الثورية. أي أنها لن تكون أفكارًا تجريدية غير مرتبطة بواقع محدد له أسسه وخصوصيته وأحلامه.

ثالثًا، أنها تعمل ضمن توازن بين قوة وتدخل سلطة الدولة السياسية الديمقراطية وبين قوة وحيوية المصالح والمؤسسات الاقتصادية. وبالتالي فهي ترفض فكرة دكتاتورية أية طبقة أو جماعة قبلية أو دينية أو عسكرية. إنها نظام وعلاقات للجميع وتخص الجميع.

رابعًا، هي نظام يأخذ أفضل ما في الرأسمالية، الكفاءة الاقتصادية المنضبطة، وأفضل ما في الاشتراكية، العدالة الإنسانية والاجتماعية الحقوقية التشاركية التعاونية؛ أي أنها ستبني نظامًا تشاركيًا لامركزيًا، ديمقراطيًا فدراليًا، عادلًا ومراعيًا لمصلحة الإنسان والبيئة الطبيعية بكل مكوناتها، وهي نظام سينقل الوطن العربي من الاقتصاد الريعي المهيمن إلى الاقتصاد الإنتاجي والمعرفي المرتبطَين أشد الإرتباط بقاعدتي العلم والتكنولوجيا. ولكن في الحصيلة سيكون نظامًا يحرر من القهر الاقتصادي بكل أنواعه، ويخضع للتخطيط المركزي، ويعطي مكانًا للشعب في ملكية وإدارة وجني فوائد عجلة الإنتاج.

خامسًا، أنها جزء من المشروع النهضوي العربي مساند ومتناغم مع مكونات الوحدة العربية، والديمقراطية، والاستقلال الوطني والقومي، والتنمية المستدامة الإنسانية الشاملة، والتجديد الثقافي والحضاري. وبهذا تكون الاشتراكية في قلب المسيرة القومية العروبية مهما كانت مسميات حاملي ألويتها، وهي بالتالي في خدمة كل الشعوب العربية ولا تكتمل إلا إذا كانت موجودة في الوطن العربي كله كنظام تكافلي تتكامل فيه كل أجزائه.

سادسًا: من الضروري الإدراك بأن كثيرًا مما سيتوصل إليه من سيطلب منهم وضع مكونات المشروع الاشتراكي الجديد لا يمكن إعطاؤه صفة الثوابت الأبدية التي لا يمكن المساس بها مستقبلًا. ذلك أن كل الأنظمة الاقتصادية، مثلها مثل الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية، ستحتاج إلى مراجعة دائمة وتعديلات مستمرة في المستقبل بسبب التطورات الهائلة في عوالم المعرفة والتكنولوجيا والنضج في الشخصية الإنسانية والأحداث الدولية الكبرى الفائقة التأثير في كل المجتمعات.

لعلنا هنا نذكِّر بأن هناك جدلًا واسعًا واختلافات شديدة حول حسبان الاقتصاد علمًا مساويًا في دقته وتنبؤاته للعلوم الطبيعية المعروفة من مثل علوم الفيزياء والكيمياء. ويشير المشككون في هذه الفرضية إلى الإخفاقات الهائلة في التنبؤ المسبق بحدوث الكثير من الأزمات المالية الاقتصادية الإقليمية والعالمية التي عرفها العالم عبر السنوات الخمسين الماضية.

ولا نحتاج إلى التذكير بما أحدثه انتشار وباء الكورونا عبر العالم كله من تأثيرات سلبية، وأحيانًا كارثية، في كل الأنشطة والمسلّمات الاقتصادية العولمية، إذ إن كل تلك الآثار السلبية ماثلة أمام الجميع.

وإذا نجح مركز دراسات الوحدة العربية في صوغ مشروع فرعي متكامل علمي وعقلاني لنهضة اقتصادية عربية مستقبلية، مثلما نجح في صوغ المشروع الأشمل المسمى «المشروع النهضوي العربي»، فإن الباب سيكون مفتوحًا لقيام المركز مستقبلًا، كواجب ثقافي قومي عروبي، بترتيب لقاءات لدراسات تفصيلية، ينتج منها مشاريع متكاملة لبقية مكونات المشروع النهضوي العربي.

عندذاك سترتاح روح المرحوم الدكتور سعدون حمادي، المبادر والمؤسس الأول نظريًا وعمليًا لهذا الصرح القومي العروبي الرائع، إذ سيكون تحقق حلمه بوجود مركز يغني وينشر ويبسط ويوصل لشباب وشابات الأمة والمواطن العادي العربي روح وأمل الحراك القومي العروبي: وحدة الأمة العربية في وطنها العربي الكبير.

 

قد يهمكم أيضاً  الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيون

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاشتراكية #النموذج_الاقتصادي_الليبرالي #النموذج_الاقتصادي_الاشتراكي #الفقر_في_العالم_العربي #التردي_الإقتصادي_العالمي #الأزمة_الاقتصادية_العالمية #الأزمة_الاقتصادية_العربية #نموذج_اشتراكي_اقتصادي_عربي