المؤلف: محمد حلمي عبد الوهاب

مراجعة: محمد مصطفى القَبَّاج ‏(**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 176 

 

– 1 –

جدير بالإشارة، في مُستهلِّ هذا التّقديم، إلى أنَّ نصوص هذا الكتاب الخمسة سبق أنْ نُشرت ضمن كتب جماعيّة، أو مجلّات دوريّة، أو أُلقيت في مؤتمرات عربيّة وإسلاميّة ودوليّة، ومع ذلك فإن صاحبها انتهج مقاربة علميّة أَضْفَتْ عليها وحدة موضوعيّة جعلت منها تناولاً مُستجدّاً قَلَّما أقدم عليه غيره من الباحثين في مجال التّفلسُف أو في مجال التّصوّف السنّي أو الإشراقي.

في التّقديم العامّ للنّصوص يشير صاحبها إلى ضعف أو نُدرة الدّراسات التي اعْتنَتْ بالتّصوّف في سياق فكر النّهضة كَكُلّ، مقارنة بنظيراتها التي صرفت جانباً من اهتمامها لبحث الجوانب العقلية عند روّاد النّهضة الحديثة والمعاصرة. إن المُجَدِّدِينَ في الفكر العربي الإسلامي، كما يرى المؤلف، وبخاصّة منهم دعاة الإصلاح، لم يَغْفلوا التّصوّف كمنحىً وكبُعدٍ من أبعاد النّهضة الشاملة، ولفتوا الانتباه إلى مركزيَّة هذا المُكَوِّن العمِيق، عاملين على تأكيد أصالته، ووجّهوا تلامذتهم نحو تحقيق نصوصه والردّ على مزاعم المستشرقين الّتي تنزع عنه الأصالة.

توضِّح المُقدِّمة كذلك أنّ أسباباً عديدة دفعت بروّاد النّهضة الحديثة للعناية بالتّصوّف من أهمها أَنَّ أغلب الروّاد نالوا تربيّة روحيّة عالية إبّان نشأتهم الأولى، وأنّ إيمانهم بأهمّيّة هذا البحث الروحي يُعمّق عمليّة النهضة المرجوّة، ثم ما وقر في الأذهان من أنّ أذواق المتصوِّفة وأحوالهم ما هي إلا لون من ألوان الهذيان، وأن التّصوّف الإسلامي يُمثِّل إحدى الانتكاسات الرِّجعيّة الكبرى في سير الحضارة الإسلامية. ومن تلكم الأسباب كذلك ما لحق بالطُّرُقِيّة الصّوفيّة من تجاوزات خطيرة، وما نشأ من حركات استشراقية ردّت التّصوّف الإسلامي إلى أصول غير إسلامية.

لهذه الأسباب رَكَّزَ صاحب نصوص هذا الكتاب على النّخبة المثقَّفة الواعية من روّاد النّهضة. وبالتّالي، يتجلى من خلال التّصدِّي لموضوع التّصوّف في سياق النهضة أنّ العلاقة بين التّصوّف والنّهضة علاقة جدليّة. حين تَعْمِد إلى المقارنة بينهما سرعان ما تنتبه إلى أنّ منحى التّحضّر الإسلامي، على مستوى الخلافة، كان قد بدأ في الهبوط منتهياً بالانتكاسة الكبرى التي لحقت بإصلاحات الدّولة العبّاسيّة. إِنَّ حركة التّصوّف في هذه الأثناء تابعت مسار تقدُّمها بتشكيلها تيّاراً إنسانيّاً يدعو إلى التّوفيق بين سَائر التّيّارات السِّياسيّة والفكريّة المتصارعة، ومن ثمّة تَطلَّع التّصوّف إلى استهداف المصالحة بين الأديان، وانتهى إلى حالة من الاغتراب، ولحِقَتْ به حالة من التّدهور العام إلى أن وصل إلى مرحلةٍ من الانحطاط بَدَا فيها كما لو أنّه غير قادر على القيام من عَثَراته، مُنتهياً في خاتمة المطاف إلى مَشْيخة طُرقٍ لا تقوى على مواجهة السّلطة أَو الحدِّ من غلواء المذاهب الدِّينيّة المتطرِّفة.

نصوص الكتاب إذاً خمسة: النصّ الأوّل يدور حول «المنحى الصوفي في فكر الإمام محمد عبده»؛ والنصّ الثاني يتطرّق إلى «محمد رشيد رضا والتّصوّف»؛ والنصّ الثالث يتناول «عالم التّصوّف مفهوماً وغاية عند محمد مصطفى حلمي»؛ والنصّ الرابع يعالج «فاعلية الولاية الصوفية في رؤية زكي نجيب محمود»؛ أما النصّ الخامس فمُخَصَّصٌ لـ «مركزيّة التَّربيّة الرّوحيّة وفاعليتها في فكر بديع الزّمان سعيد النُّورسي».

– 2 –

النصّ الأول «المنحى الصّوفي في فكر الإمام محمد عبده» نُشر ضمن الكتاب الجماعي اتّجاهات التّجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث يشتمل على وقائع المؤتمر الدّولي الذي نظّمتْه مكتبة الإسكندريّة سنة 2009‏[1].

يرجع تناول محمد حلمي عبد الوهاب لهذا المنحى إلى هدف أساسي وهو استكشافٌ أوّلِيٌّ لموقع التّصوّف في سياق النّهضة الإسلامية ككلّ، بحيث يُتيحُ توضيح نقاط الضَّعْف التي شابت أغلب الدّراسات السابقة من جهة، وإبراز المنحى في حياة الإمام محمد عبده وأعماله على نحوٍ موضوعي من جهة أخرى. ومعلوم أنَّ الإمام سافر – بعد استشارة شيخه درويش خضر – إلى القاهرة لتلقِّي العلم في العُزلة والابتعاد عن النّاس، إلا أنَّه وبتأثير من جمال الدّين الأفغاني خرج من هذه العُزلة فتجنّب الغَرَقَ في خيالات التّصوّف.

لتعزيز هذا الطّرح ينصرف اهتمامه بآراء محمد رشيد رضا واجتهادات الشيخ مصطفى عبد الرّازق، وطروحات تشارلز أدامس ومحمود عباس العقّاد وغيرهم، قبل أن يدلو محمد حلمي عبد الوهاب بدلوه. هكذا وَجَّهَتْ هذه المرجعيَّات نحو تبيُّن معالم التّصوّف في حياة الإمام الذي يُعتبر بحقّ صوفيّاً متفلسِفاً. وفي هذا الصّدد خصّص الشيخ مصطفى عبد الرّازق نحو ست صفحات من كلمته أثناء الاحتفال بإحياء ذكرى الإمام بدار الجامعة المصريّة عَنْونَها بـ «ترجمة الأستاذ الإمام» خصَّصها للحديث عن تصوّف محمد عبده وطلبه للعلم، إذ ينتهي عهد الإمام بالتصوّف في إثر لقائه بأستاذه ومعلِّمه الثاني جمال الدّين الأفغاني.

وكخلاصة لهذا النصّ يتأكدّ لعبد الوهاب أنّه كان للشيخ درويش الأثر الأكبر في إعادة توجيه الإمام عبده وإرجاعه إلى حظيرة العلم والمعرفة، وأنَّه لولا هذا الشّيخ لعاد الإمام إلى قريته، ولربّما أصبح شخصاً عادياً. يتّضح، في غمار هذه التحوّلات، أنّ الشّيخ درويش اتّبع استراتيجية تربويّة تقوم على أبعادٍ ثلاثة: الولوج من الظاهر إلى الباطن في قراءة النصوص، وتوسيع المدارك، وحدود دوائر تحصيل المعرفة لتوسيع دائرة المشاركة بالانتقال من إطار الدّرس إلى العلم والتّلقين، أي من طور التّلمذة إلى طور التّدريس.

وأخيراً كان لهذا الشيخ الدّور الأكبر في لَفْت انتباه الإمام إلى ضرورة العناية بعلوم الفلسفة والاشتغال بها. ويبدو لمؤلف نصوص الكتاب الذي نحن بصدد تَقْدِيمه أن الإمام قد أصابه شيء من الشكّ في جدوى تعلُّم الفلسفة، كما ضاق ذرعاً من المضايقات التي يقوم بها شيوخ الأزهر وطَلَبَته حيث كانوا يتقوّلون على جمال الدّين الأفغاني، ويزعمون أنَّ تلَقِّي هذه المعارف قد يُفْضي إلى زعزعة العقائد الصّحيحة. وعلى العموم فإن الإمام عبده، ومن خلال مساره العرفاني والمعرفي، قد تأثّر في حياته بثلاثة من أعلام الفكر الإسلامي: جمال الدين الأفغاني بروحه الثّائرة وعقله الجبّار، والشيخ درويش خضر بنفسه الصّافية واسْتِنارته، والشيخ علّيش شيخ الأزهر بجموده وضيق أفقه، إذ بقدر ما كان الأفْغاني ودرويش يدفعان الإمام في طريقهما، كان الشّيخ علّيش يدفعه ضدّ طريقه.

– 3 –

النصّ الثّاني في الكتاب (محمد رشيد رضا والتّصوّف) نُشرت نسخته الأولى بعنوان «الجِدال لدى المفكرين المسلمين في الأزمنة الحديثة باعتباره منهجاً للدّعوة: مدرسة المنار وقضايا التّصوّف أنموذجاً»، بمجلّة التفاهم الصّادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدّينيّة بسلطنة عُمَان سنة 2014، العدد 46.

في المستهل يُلاحِظ هذا المفكر الإصلاحي أنَّ نظام العيش في عالم الإسلام أوشك أن يتعطَّل، وصارت المذاهب الفقهية – كما صار التّصوّف – عبئاً على المجتمعات الإسلامية الحديثة والمُعَاصرة. في سياق هذا الوضع تلقّف محمد رشيد رضا دَعْوة الإمام محمد عبده الإصلاحية وساهم في انتشارها، كما يَبْرُزُ ذلك من خلال موقفه من قضايا التّصوّف على صفحات مجلّته المنار وإنجاز النّقلة النّوعيّة من النّقد إِلى الغُلُوّ، وهو يجادل الأزهر الشريف مُمثّلاً بشيخه الظّواهري والشيخ يوسف الدجوي ومجلة نور الإسلام.

ويبدو – من وجهة نظر محمد حلمي عبد الوهاب – أن جزءاً كبيراً من الجدل حول التّصوّف الصادر على صفحات مجلّة المنار كان يتعلّق بالممارسات العمليّة لمجموع المتصوّفة لأنها ألصَق بحياة المجتمعات الإسلاميّة، ولأنّ المقولات الصّوفيّة النّظريّة أو الفلسفيّة مُقتصرة على النّخبة، على عكس الجوانب العملية التي تشمل عموم النّاس. وما هو جدير بالتّنبيه أن محمد رشيد رضا كان يعيب على الصّوفيّة الإفراط في الحديث عن الجانب الباطني للدّين، مؤكِّداً أنّ الضلالَ الحاصِلَ بسبب التّصوّف أكبر كثيراً من الهداية به. ويتّضح أن من بين مقاصده حثّ النّاس على التنكُّر للمتصوّفة والرّجوع إلى آداب الدّين الصحيحة، ويكاد في هذا أن يسير على نهج ابن تيمية، وبخاصة في موقفه من الألفاظ التي وسم بها أهل التّصوّف.

وكخلاصة لهذا النصّ يرى محمد حلمي عبد الوهاب أَنَّ جزءاً من عناية صاحب المنار قد انصرف نحو نقد التّصوّف والطّرقيّة في عصره. وبموازاة ذلك عَقَدَ مُقارنةً بين تهذيب الصّوفيّة والتّهذيب عن طريق اليونان، وتأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمّة، وتأثير المُزهِّدات في السّعي والعمل، وإدخال العلماء المُدلِّسين على الدين مُقتبسات كتابيّة وخُرافات وبدعاً مُضِرّة، وتهوين غلاة الصّوفية شأنَ الدين وجعلهم إياه لهواً وَلَعِباً.

– 4 –

النص الثالث في الكتاب (التّصوّف مفهوماً وغايةً عند محمد مصطفى حلمي) نُشِرتْ نسخته الأولى بعنوان «محمد مصطفى حلمي والتّصوّف» في الكتاب الجماعي: في التاريخ والحضارة الإسلامية: بحوثٌ مُهداة إلى المؤرِّخ والمُحقّق الكبير أيمن فؤاد سيِّد‏[2]. رصد الباحث في هذا النص جُزْئيّات سيرة الرّجل وتكوينه الفلسفي والاجتماعي من خلال تَلْمَذَتِه لطه حسين ومصطفى عبد الرّازق. هذا الأخير شَجَّعه على تعميق معارفه في مجال الفلسفة الإسلاميّة، ووجَّهَهُ لتخصيص أطروحته لنيل الدكتوراه لموضوع ابن الفارض والحبّ الإلهي. بعد ذلك تَتَالَتْ كتبُه التي يُذكَر منها الفلسفة والعلم والتمهيد لدراسة الفلسفة الشّرقيّة، والحياة الرّوحيّة في الإسلام، والحبّ الإلهي في التّصوّف الإسلامي. هذا بالإضافة إلى عدد معتبر من المقالات والتّحقيقات والمترجَمات، تدلّ على سعة اطِّلاعه.

هكذا تُعَدُّ مباحث وكتابات محمد مصطفى حلمي محاولة جَادّةً لاستعادة نهج الشيخ عبد الرّازق في الدرس الفلسفي بالجامعة المصريّة ليَفْصِلَهُ عن كُتُب الطّبقات التّراثيّة، وعن مناهج المستشرقين التي تَجْتثُّ الجذور الإسلامية للتّصوّف الإسلاميّ معتبرة إياه ميتافيزيقا محضة. بوجْهٍ عامّ انْتَصَرَ الرجل للتّصوّف الإسلامي موضحاً حدود الصّراع بين الفقهاء والمتصوّفة ممّا يُجَلّي أهمية كتاباته بالنّظر إلى التّشديد على أنّ هذا الجانب الرّوحي من مشروع النّهضة لا يقلّ أهميّة عن الجوانب الأخرى، وخصوصاً أنّ القيادات الدّاعية للإصلاح والنّهضة خلال منتصف القرن العشرين كانت تَغْفُل عن الاهتمام بهذا الجانب الروحي العميق، مُكَثِّفةً جهودها على الجوانب العقليّة والسيّاسيّة والتّكنولوجيّة الكفيلة بتحقيق النّهضة المنشودة.

بعد استعراض المرجعيات التي ساهمت في بلورة الاتجاه العلمي للرّجل، وتعَمُّقه في البحث عن كلّ مُتعَلَّقات التّصوّف، بَدَا أَنَّ منشأ هذا المنزع العلمي ينطلق من اتّخاذه التّصّوف منهجاً في الحياة يَتَلَمَّسُ من خلاله مَدداً يضيء له الطريق بعد أن فَقَدَ البصر وهو في ريعان الشّباب، فوجد في مفهوم البصيرة الصّوفيّة ما عَوَّضه من بصر العين. إِنَّ مساهمات حلمي في البحث الصوفي تتأسَّس في كتابه الحياة الروحية في الإسلام، بحيث ركَّز على أنّنا لم نكن في وقت من الأوقات أحوج إلى هذه الحياة الرّوحيّة ومُثُلِها ومعاييرها منَّا في هذا الوقت الذي أصبحت فيه حياة الأفراد والجماعات تتهافت على التّرف الحسّي والإمعان في شهوة الغَلَبَة والسّيطرة، آمِلاً أن يكون في الكشف عن المعاني الرّوحيّة، التي انطوت عليها والمُثُل العليا التي حَقَّقَتْها على أيْدي السّلف الصالح، ما يُعِين على كبح جماح الشَّهوة وكسر حدّة المادّة. يبقى القول بأنَّ أَغلب الأسباب التي دفعت محمد مصطفى حلمي إلى الاهتمام بدراسة التّصوّف لا تزال حاضرة إلى اليوم، ذلك ما يُثبِت أصالة التّصوّف الإسلامي بمنهجية صارمة، استطاع بها هذا العَلَم الشامخ أن يُقَدّم صورة عامّة لنشأة الحياة الرّوحيّة وتطوّرها في الإسلام، والتشديد على إسلاميّة مصادر التّصوّف، مع الاعتراف بتأثيره في ما بعد بالنَّزَعات والمذاهب الدّينيّة والفلسفيّة، والإلمام بأبرز الشّخصيّات وأهمّ المذاهب الصّوفيّة، ومحاولة تَتَبُّع أصول الحياة الرّوحيّة.

– 5 –

النصّ الرابع في الكتاب (فاعليّة الولاية الصّوفيّة في رؤية زكي نجيب محمود النّقديّة للتّصوّف) نشرت نسخته الأولى في مجلة عالم الفكر الكويتية‏[3]. في المُستَهلِّ يُصرُّ محمد حلمي عبد الوهاب على أنَّ زكي نجيب محمود لم يكن مفكِّراً عادياً وإنّما كان مفكِّراً من الطِّراز الأوّل، يسعى جاهداً إلى إحداث التّغيير والتّجديد، كرّس حياته لخدمة تراثه ومجتمعه، داعياً إلى الإصلاح والعقل في ظلِّ انتشار مَوْروثاتٍ بالية، وأوضاعٍ مُتردِّية، وانتشار الخرافات، وسطوةِ العادات، وغيابِ قيم التّفكير العلمي. يَسعَى هذا النصّ، إذاً إلى استكشاف موقع التّصوف في فكر وحياة زكي نجيب محمود استناداً إلى مسار تطوّره الرّوحي والفكري في سياق دفاعه المُسْتَميت عن ثلاثية العلم والعقلانيّة والوضعية. أغلب الدراسات التي أُنْجِزت حول هذا المفكِّر اقتصر على معالجة موقفه من التّصوّف في سياق رؤيته العامّة للدّين. قَلِيلُهَا المُتعلّق بدراسة موقفه من التّصوّف ظلَّ مقتصراً على الاعتماد على كتاب واحد من مجموع مؤلّفاته.

لتتبّع تطوّر رؤية زكي نجيب محمود للتَّصوّف سيُفَعِّل محمد حلمي عبد الوهاب منهجاً تاريخيّاً وتحليليّاً تفسيراً ونقداً واستنباطاً لشرح الأسس التي انبنى عليها موقف زكي نجيب محمود من التّصوّف والمتصوّفة ونقد نظريته، واستنباط جانب الإيمان المتعلق بفاعليّة الولاية الصّوفيّة. لقد تحدّث هذا المفكِّر عن ضرورة أن تتطابق مقولات التّراث مع الواقع، وأن تخضع لما أَطْلَق عليه «شروط المنهج العلمي»، إلا أنه يرى تعَذُّر ذلك في ما يتعلّق بأقوال المتصوِّفة، ما يؤدِّي حتماً إلى إخراجها من حَيّز المعقول وإدراجِها في عالم اللامعقول.

بعد تخصيص محور لنقد مرئيات زكي نجيب محمود بصدد مركزية مفهوم الولاية والكرامات والمنتوج النّظري للتّصوّف يأتي محمد حلمي عبد الوهاب بخلاصة لهذا النصّ فحواها أن هذا المفكِّر لم يَغِبْ عنده البُعد الصّوفي حتّى في أكثر مراحل منزعه العقلاني. ويُعزِّز ذلك أوجه التّشابه بينه وبين الإمام محمد عبده، وبخاصة من حيث التوجّه الثّوري في التّفكير، والرّغبة في الإصلاح والتّجديد. لا بُدَّ من الإشارة بهذا الصَّدَد أن التّصوّف من وجهة نظر زكي نجيب محمود تجربة ذاتية محضة لاعتبارات تناولها بتحليل أبعادها لينتهي إلى الإقرار بتعدّد وتنوّع أنماط الوعي في الخبرة الصوفية مُنتَقِداً جوانبها السّلبيّة التي يحصرها في العقلانية وضعف الوعي من جراء القول بالولاية والكرامات وسلبيّة الطّرقيّة. أدّت هذه الانتقادات إلى الشَّطَط في الحكم على التّصوّف.

– 6 –

النصّ الخامس في هذا الكتاب (مركزيّة التّربيّة الرّوحيّة وفاعليّتها في فكر بديع الزّمان سعيد النّورسي) شارك به صاحبه في المؤتمر العالمي الحادي عشر لبديع الزمان الذي نظّمته مؤسّسة إسطنبول للثّقافة والعلوم سنة 2017. في المنطلق يتضمَّن النصّ إقراراً بأن المُعوَّل عليه بالأساس في مقاربات النّورسي هو كتابه المرجعي كُلّيات رسائل النّور، وبخاصّة الدّرس الخامس الذي ألقاه على طلبته بعنوان «حول العمل الإيجابي البَنَّاء» المؤسَّسِ على منظومة القيم العليا امتثالاً لمبادئ الدّستور ومُتأَسِّياً بنهج الأستاذ في التّربيّة الرّوحيّة، أي عمل المرء بِمقتضى محبَّتِه لمسلكه دون عداءٍ للآخرين أو التَّهوين من شأنهم، والاستغناء التّام عن الخلق بالخالق، والعلم بأنّ الاتّفاق مع أهل الحقّ هو أحد وسائل التَّوفيق الإلهي، مُنسحِباً من عالم السِّياسة. لذلك كان يحرص النّورسي على أن ينظر إليه النّاس عالماً دينيّاً مكلّفاً شرعاً بإفادة العباد، كما كان يحرِص على أنْ لا يتوقّف العمل الإيجابي عند حدود المعاملات وإنما يتعدَّاها إلى فضاء العبادات.

لقد وجّه النّورسي جزءاً كبيراً من عنايته إلى مسألة التّربية الرّوحية لإخراج جيل قرآني ربّاني يُسهم من خلال العمل الإيجابي البَنّاء في خلافة الأرض وعمارتها. وبفضل هاته التربيّة وما تستوجبه من مُجاهدات يتحقّق التّشبع بالحقائق القرآنية التي تحثُّ على ضرورة التّزكية لجانبٍ عملي في التّربيّة الرّوحيّة، وبوصف التّزكيّة منبعاً أوّل للطّريق الصّوفي الصّحيح. سُبُل وطَرائق هذه التّزكيّة هي النّيّة الخالصة، والتّجرّد من الدّنَس، والعزوف عن حظوظ النفس بتربيتها وتهذيبها وفق الدساتير السّامية التي وضعتها السنّة من خلال أقوال وأَفْعال وإقرارات الرّسول، وكذا المُداومة على الإخلاص كَسَبِيل للنّجاة من العذاب. وهنا يُشيد النّورسي بشيوخ الطّرق الصّوفيّة ومجاهداتهم الهادفة إلى تهذيب النّفس والالتزام بأخلاق التّسامح والرّحمة والإخلاص، والتّشبث بمناقب التّوكُّل. بهذه السِّيرة الصّوفيّة يَبْدو أنّه كان للشيخ عبد القادر الجيلاني الأثر الأكبر عن شخصيَّة النّورسي رغم انتمائه للطريقة النّقْشَبنْديَّة.

خلاصة هذا النص – كما يوردها محمد حلمي عبد الوهاب – أنّ مفهوم العمل الإيجابي البنّاء يؤكِّد المنحى الصوفي من خلال ربطه بشبكة المفاهيم المفتاحيّة الدّالة على مركزيّة التّربيّة الرّوحيّة التي تطلب منّا النّظر إلى ألطاف آثار الرحمة الإلهية المتجلّية في المحبّة والشّفقة والعشق الربّاني. هكذا ينقاد السّالك إلى المعبُوديّة، ويقود المريد إلى اسم الله «الرحمن»، كما توصل الشّفقة إلى اسم الله «الرحيم»، وأخيراً يصل بواسطة الفكر إلى اسم الله «الحكيم»؛ وهي من أسماء الله الحسنى التي أحصاها القرآن.

– 7 –

يُنهِي محمد حلمي عبد الوهاب نصوص كتابه بخاتمة مُركَّزة مُعلِناً فيها أنَّ هدفه منها استكشاف موقع التّصوّف في سياق ما يُسمَّى عصر «النهضة»، معترفاً بنُدرة الدراسات المتعلّقة بهذا المنحى وسطحيّتها. على أن المسار المُنفَتِح على التّصوّف انطلاقاً من الإمام محمد عبده وانتهاءً ببديع الزمان سعيد النورسي تعاطى مع التّصوّف سلباً أو إيجاباً. والبحث في هذا المنحى لا يزال في أمسِّ الحاجة إلى عملية رصدٍ دقيق يُبرِزُ معالم كل اتّجاه على حِدة، تُعيّن رواده، وتوضّح مسالك ومناهج دراسته للتّصوّف، وتقف على مجمل كتاباته ومؤلفاته. يعترف صاحب نُصوص الكتاب أن كلّ نصّ يستحق أن يُصبح كتاباً بحدّ ذاته.

هذه الخاتمة المُركزّة تُتِيح التّأكيدَ على ثراء مضمون النّصوص الخمسة، واعتمادِها على مراجع من الكتب والرسائل الجامعية والأطاريح والمؤتمرات والندوات، ونجاعةِ منهجها العلمي الصّارم. لذلك فإنَّ قراءة هذه النّصوص تستوجب الكثير من النّباهة والتّركيز؛ لأنها تُكثر من الاستغراق في التّفاصيل التي تحول أحياناً دون حصول الفهم الصّحيح والدّقيق. إِنَّها نصوص جديرة بالقراءة مرّاتٍ ومرّات، وبخاصّة أنها تتناول قضايا لم تأخذ حظَّها من لدن المتخصِّصين في مجالها، ليس فقط لإنصاف المنحى الصوفي في سياق النّهضة، ولكن للقيام بمعالجة موضوعيّة تأتي لِما للتّصوّف وما عليه بما يفيد الفكر الإسلامي بمختلف فروعه وأبوابه، وتنفع النّاس والأوطان التي تواجه راهناً صراعاً حادّاً بين قيم القَدَامَة وقيم الحداثة دون تبيُّن الطريق لحسم ثنائية الأصالة والمعاصرة في جميع ميادين الحياة الفرديّة والجماعية.