مقدمة:

حسن حنفي هو مفكر عربي معاصر سار على خطى العديد من المفكرين العرب، أمثال: أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وصادق جلال العظم وغيرهم، في محاولتهم مواجهة الاستشراق، ولكن ليس بنقده نقداً مباشراً بل بتقديم رؤية تقوم على تأسيس علم يدرس الغرب، ليكون النقيض والمقابل للاستشراق، وذلك من خلال ما طرحه في مشروعه التراث والتجديد(**)، حيث تأتي هذه الدراسة لتسلط الضوء على الجبهة الثانية من هذا المشروع، ألا وهي الموقف من التراث الغربي، التي أعلن فيها عن تأسيس علم الاستغراب، ذلك العلم الذي يحاول أن يبحر في الأنا من ميدان التخلف والتقليد إلى ميدان التقدم والإبداع والإنتاج ومنافسة الآخر.

وفي هذه الدراسة سوف يتم تحليل أهم المنطلقات النظرية الأساسية التي بني عليها مفهوم علم الاستغراب في مشروعه التراث والتجديد.

أولاً: صياغة مفهوم الاستغراب كنقيض لمفهوم الاستشراق

لا شك في أن حنفي أدرك تماماً أن إنتاج صياغة لعلم الاستغراب لا يمكن بلورتها، إلا في سياق جعله نقيضاً للاستشراق، لذلك فإنه سعى لإيجاد مفهوم للاستغراب من خلال إعادة إنتاج مفهوم الاستشراق، بل إن مفهوم الاستغراب تسرب إلى ذاكرة حنفي من خلال الطريقة التي تشكلت بها المعرفة الغربية، عن المجتمعات العربية في مراحل الاستعمار المختلفة لها. لذا يرى حنفي «أن الغرب أخذ دور الأنا فأصبح ذاتاً، واعتبر اللاغرب هو الآخر فأصبح موضوعاً‏»[1]، في الفترة التي شهدت صعوداً وتقدماً للغرب على حساب الشرق، حيث جمع الغرب الحديث أكبر قدر من المعلومات عن تلك المجتمعات الشرقية المستعمرة، لتصبح العلاقة فيما بينهما «علاقة الدارس بالموضوع المدروس وكان نتيجة لذلك أن نشأ لدى الأنا الأوروبي مركب عظمة كونه ذاتاً دارساً، كما نشأ لدى الآخر الغربي مركب نقص كونه موضوعاً مدروساً»‏[2].

في ضوء هذا المنظور الذي يعكس هيمنة الآخر (الغربي) وسيطرته على الأنا (العربي)، يسعى حنفي إلى تغيير شكل العلاقة ما بين الغرب والشرق، من خلال إعطائها شكـلاً يحمل معناه نظرة دفاعية، تهدف إلى إنتاج علاقة الخضوع والهيمنة من جديد، من خلال صياغة جريئة جعلت الاستغراب بنظر حنفي هو الوجه الآخر، والمقابل بل النقيض للاستشراق. فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر(الغرب)‏[3]، يكون الاستغراب في نظر حنفي هو رؤية الآخر (الغرب) من خلال (الأنا)، بتحويل الغرب من ذات دارس ومسيطر ومهيمن إلى موضوع مدروس للأنا العربي.

وفي الحقيقة أن حنفي عندما جعل الاستغراب نقيضاً للاستشراق، فإنه كان يدرك، كما يقرر الجابري، أن الوعي بالذات في الثقافة والفكر الغربي إنما يتم عبر الآخر. إن الطريقة التي تم بها بناء الأنا الغربي في الاستشراق، لا يمكن أن تكتمل صورتها إلا باتخاذ طريقة أخرى تقوم على تحطيم الآخر، من خلال إقصاء أناه وحذفه نهائياً وتحويله إلى مجرد موضوع‏[4]؛ فالعلاقة بين الطرفين تتحدد عبر كل منهما، وهذا ما جعل الأنا العربي ذلك الآخر المتخلف بالنسبة للأنا الغربي.

وفي نظري، إن اتخاذ موقف من الآخر الغربي يتطلب أولاً، إدراك طبيعة العلاقة التي تربط الأنا العربي بالآخر الغربي، التي تتحدد في مجملها من خلال البناء المعرفي والفكري والثقافي لكل منهما. لذلك تبرز ضرورة معرفة المستوى الفكري والمعرفي للأنا العربي قبل التوجه إلى الآخر الغربي المتقدم، وعقد المقارنات وجلد الآخر بمفاهيم معنوية ونفسية هدفها التغنّي لا أكثر من ذلك.

إن الآخر الغربي نجح من خلال الاستشراق في تحويل الأنا العربي إلى موضوع له، من خلال ما توصل إليه من معرفة وضعته في المركز، في حين أن جعل حنفي الاستغراب نقيض للاستشراق، بهذه الطريقة التي أُضيفت على عملية تبادل المواقع ما بين الأنا والآخر، فإنها بنظر فتحي أشبه ما تكون بحركة في المكان نفسه، لم يأتِ بشيء جديد، فهو قام بإحداث بعض التغييرات اللفظية والصورية في سياق اللغة وعلم المنطق، فما هي الفائدة التي جناها حنفي من تبديل وتغيير مواقع الأنا والآخر، ما دامت العلاقة بينهما هي علاقة أحادية من طرف واحد متحقق وفعّال ومنتج ومسيطر، سواء أكان في موقع الذات أو في مكان الموضوع، وطرف آخر يحوم حول نفسه يعاني الهزائم والانكسارات. وسواء أكان في موضوع الذات أو حتى مكان الموضوع‏[5]، بل إن حنفي لم يوضح كيف يمكن إقصاء الآخر وتحويله إلى موضوع كما فعل المستشرقون في الأنا؟!

إن الأنا العربية كانت موضوعاً خصباً للمستشرقين، الذين سعوا إلى ترسيخ مفهوم الأنا العربية في العقلية الغربية بوصفه منظومة فكرية وقيمية واحدة، وذلك باستخدام أدوات فكرية ومنهجية قادرة على دراسة هذه الأنا، بخلاف علم الاستغراب الذي يفتقد الأدوات الفكرية والمنهجية القادرة على دراسة الآخر الغربي والحضور أصـلاً في ذاكرة الأنا العربية.

ولا يتوقف حنفي عند إعادة إنتاج صياغة مفهوم الاستغراب، بل إنه يستمر في مواجهة هيمنة الآخر، ويبشر بتجاوز عملية التنظير في علم الاستغراب برسم مسار يمتد في أعماق التاريخ للعلاقة ما بين الأنا والآخر، تعطي الاستغراب حق النشوء في مقابل الآخر، فهو يرى أن الفرق بين الاستشراق والاستغراب يتحدد في اللحظة التاريخية التي نشأ فيها كل منهما؛ «فإذا كانت بدايات الاستشراق في القرن السابع عشر وبدايات الاستغراب في أواخر القرن العشرين، فإن الاستشراق سابق على الاستغراب بأربعة قرون، وهي عمر النهضة الأوروبية الحديثة»‏[6]. وإذا كان ظهور الاستشراق في زمن الهجمات الاستعمارية حيث كانت المجتمعات الغربية مسيطرة ومنتصرة، فإن الاستغراب ظهر في عصر ما زالت فيه المجتمعات العربية متفككة ومهزومة. وإذا كان ظهور الاستشراق في وقت كانت مناهجه تتصف بالأيديولوجيا السياسية والقومية والعنصرية، فلم يكن محايداً بل غلبت عليه مناهج تاريخية وإسقاطية وتحليلية، فإن الاستغراب ظهر بالأيديولوجيا العلمية التي تقوم على الشعور المحايد، لأن الأنا في الاستغراب لا تهدف إلى السيطرة أو الهيمنة، بل تهدف فقط إلى التحرر من الآخر حتى يتحقق لها أكبر قدر من التوازن مع ثقافة الآخر‏[7].

إن هذه المقارنات التي يطلقها حنفي للمقارنة بين الطريقة التي نشأ فيها الاستشراق، والطريقة التي ولد فيها الاستغراب، تعبر عن أن هذا الفكر يحاول بناء الأنا العربي في ظلال الأنا الغربي ليكون تاريخ الأنا العربي في الاستغراب مقتبساً من تاريخ الآخر الغربي في الاستشراق؛ فالأنا العربي الذي كان يعاني الاستعمار والتفكك والهزائم يأتي اليوم بتاريخ جديد ومشرف، وبمنهج علمي محايد ليهدم الآخر الغربي، ويحتل المركز ويعلن التحرر منه، لأنه الأنا الذي يريد أن يدافع عن نفسه من دون حتى أن يكون أنا مفكراً! بل إن محاولة حنفي ترسيخ قواعد علم الاستغراب في مقابل الاستشراق عبر مسار التاريخ بهذه الطريقة، إنْ هي إلا محاولة يهدف من خلالها إلى إعطاء علم الاستغراب الذي يطمح لتأسيسه الصفة الرسمية التي تمنحه حق النشوء في مقابل الاستشراق.

ثانياً: من النقل من الغرب إلى إبداع الاستغراب

نشأ علم الاستغراب وشُيّد بناؤه في نظر حنفي لمواجهة التغريب الذي تسلل أثره ليس إلى الذاكرة الفكرية والثقافية الاجتماعية والحضارية العربية فقط، بل إلى أشكال الحياة المختلفة. فقد ضاعت لغتنا العربية الفصحى وأصبحت اللهجة العامية الطابع الأساسي لها، وفقدت مدننا طابعها المعماري القديم، كما تحولت أجزاء كبيرة من ثقافتنا المعاصرة إلى أرضية خصبة لنشوء اتجاهات فكرية غربية مختلفة: اشتراكية، وماركسية، وليبرالية، ووجودية، بل أكد حنفي أن الاتجاهات الفكرية الثلاثة في فكرنا العربي المعاصر: حركة الإصلاح الديني عند الأفغاني، والاتجاه الليبرالي عند الطهطاوي، والاتجاه العلمي العلماني عند شبلي شميل ومن يسير على خطاهم، كلها تنظر إلى الغرب على أنه النموذج الأساسي للتحديث والتقدم، مع أن حضارتنا الإسلامية القديمة استطاعت تمثل واحتواء الحضارات السابقة دون أن تفقد هويتها، فكانت نموذجاً للحضارات في المحافظة على فكرها وملامحها الأصيلة‏[8]. لذلك نجد أن حنفي يسعى لأخذ موقف حضاري ينطلق منه لمواجهة التغريب، ولكن بطريقة تقوم على احتواء ثقافة الآخر الغربي.

وبما أن حنفي يعتقد بنجاح حركات التحرر في الوطن العربي في التخلص من السيطرة الاستعمارية العسكرية، والانتقال إلى التحرر السياسي والاقتصادي والحضاري، والأهم من ذلك هو التحرر الفكري من كون الغرب مصدراً للمعرفة ‏[9]، لهذا إذا ما تم تأسيس علم الاستغراب الخاص بالأنا العربي، فإنه سوف يؤدي في نظره إلى القضاء على الفكرة القائلة بأن ثقافة الغرب هي أسطورة الثقافة الغربية العالمية وصفها الطريق الوحيد الذي يجب على الشعوب الأخذ بها حتى تتحول من طور التقليد والتخلف إلى طور التقدم والحداثة، الأمر الذي يؤدي إلى تحرير الحضارة العربية الإسلامية من الهيمنة الثقافية الغربية والمركزية الغربية وإعطاء الشعوب العربية فرصة الإبداع الذاتي‏[10].

إن التراث الغربي كان – وما زال – المنبع والمكوِّن الأساسي للثقافة العربية في نظر حنفي‏[11]. لذا، فإنه يسعى إلى أخذ موقف صحيح من الغرب، من خلال تحديد العلاقة بين الأنا العربي والآخر الغربي، لذلك بدأ مهمته بتحليل تكوين الفكر الغربي في مقابل الوعي الفكري العربي الإسلامي، وبيّن أن هذه العلاقة علاقة تضاد واختلاف وليست علاقة تماثل وتشابه. فالحضارة العربية الإسلامية تعد حضارة مركزية تكونت معارفها وعلومها انطلاقاً من مركز واحد، سواء كانت محاور علوم أصول الدين وعلوم الحكمة أو دوائر أصول الفقه وعلوم التصوف، والأنا تشكل هذا المركز وتبدع وتنطلق من خلاله‏[12]. أما الحضارة الغربية فهي «حضارة طردية نشأت تحت أثر الطرد المستمر من المركز ورفضاً له، كتطور صرف دون بناء، بعد اكتشاف عدم اتساقه مع العقل وعدم تطابقه مع الواقع، ثم إنشاء علوم عقلية وطبيعية وإنسانية تقوم على أدوات جديدة للمعرفة، العقلية أو الحسية، وابتداءً من بؤرة جديدة وهي الإنسان، لذلك امتازت بالمناهج التاريخية المختلفة»‏[13].

يستند تمييز حنفي ما بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية في نظري إلى مقولة يرددها دائماً في كتابه مقدمة في علم الاستغراب هي: «إذا كان الوعي الغربي ينتسب إلى حضارة طردية أي تنشأ بفعل الطرد من المركز وكانت الحضارة الإسلامية كحضارة مركزية تنشأ بفعل المركز ذاته، تكون بنية الوعي الفكري الغربي حصيلة تكوينه وليست بنية مستقلة سابقة عليه تقوم على تصور ثابت للعالم، وبذلك تكون بنية الوعي الفكري الغربي هي تكوينه المستمر نتيجة تراكم هذا التكوين في أعماق الوعي الغربي وتَرسُّبه فيه، حتى أصبح بنية متكونة أو تكويناً بنيوياً»‏[14]. بهذا المعنى، فإن الحضارة الغربية بنظر الخولي حضارة لا يوجد لها مركز، لأن الكتب المقدسة كانت نابعة من التراث وممثلة له، فالأناجيل كتبت بعد اكتمال الديانة المسيحية، فكانت لاحقة على العقيدة وتعبيراً عنها، وليست مصدراً لها بخلاف الحضارة الإسلامية التي تنطلق من مركزها وهو الوحي‏[15]. «فالإبداع في نظر حنفي له طرفان الأنا المركزي والتاريخ الطولي»‏[16]. وهذا نموذج الحضارة الإسلامية التي اتصفت بالتكوين والبنية، في حين أن الحضارة الغربية في نظر حنفي شيدت بنيتها وتكونت في التاريخ، وتشكلت في الزمان والمكان، ولا توجد لها ماهية مسبقة كما هو الحال في الحضارة الإسلامية‏[17]. ليخرج بنتيجة معرفية هي: «إن التراث الغربي ليس تراثاً إنسانياً عاماً يحتوي على خلاصة التجربة البشرية الطويلة، يورث للإنسانية جمعاء، بل هو فكر بيئي محض نشأ في ظروف معينة هو تاريخ الغرب»‏[18]، ولعل طريقة تقسيم التاريخ الغربي إلى مراحل تاريخية مختلفة ابتداءً من العصر اليوناني والروماني ثم العصر الوسيط فالعصور الحديثة، وتاريخ حضارتنا الإسلامية القديمة جزء من تاريخ العصر الوسيط، يوضح هذا الفكر البيئي‏[19].

تأسيساً على ما سبق، فإن حنفي في نظري انطلق من نقطتين أساسيتين في قراءته للتراث الغربي، هما: إمكان نقل التراث الغربي ككل أو بعض جوانبه أو جزء منه، كعملية حضارية حدثت سابقاً عندما كانت الحضارة الإسلامية في لقاء مع الحضارة اليونانية، أو كموضوع علمي يندرج ضمن فلسفة التاريخ وعلم اجتماع المعرفة أو في فلسفة الحضارة من باب التقاء الحضارات. والأخرى هي تحليل تاريخ الوعي الفكري الغربي عبر مراحله التاريخية المختلفة‏[20]، للكشف عن الظروف الخاصة التي نشأ فيها. وفي كلتا الحالتين يرى حنفي أنه «لا يمكن نقل تراث من حضارة إلى أخرى، إلا بعد عملية إعادة بناء للمنقول على أساس من روح العصر للحضارة الناشئة، وإذا كان لا يجوز النقل من تراث الأنا القديم إلا بعد إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر الجديدة، فالأولى أن يتم ذلك بالنسبة إلى تراث الآخر»‏[21]. بهذا المعنى تكون محاولة حنفي في تأسيس علم الاستغراب تتجه في نظري لتوليد نمطين معرفيين في الفكر العربي المعاصر هما:

1 – التوجُّه لإعادة بناء التراث العربي الإسلامي بروح معاصرة باستخدام ظاهرة التشكل الكاذب

يتقدم حنفي خطوة إلى الإمام ليعلن منذ البداية في مقدمة كتابه قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر عن موقفه من التراث الغربي، حيث يؤكد أنه يمكن دراسة التراث الغربي وأخذ موقف موحد منه حتى لو قيل إن مذاهبه ومدارسه كثيرة ولا يمكن دراستها كموضوع فكري واحد، بوصفها عملية حضارية حصلت من قبل عندما كانت حضارتنا العربية الإسلامية القديمة في لقاء مع الحضارة اليونانية‏[22]. فعندما يحصل اتصال وتقابل وتفاعل بين حضارتين: حضارة في طور النشوء، وحضارة حديثة غازية، فإن ذلك في نظر حنفي يؤدي إلى ظهور ظواهر ثقافية متعددة يمكن ملاحظتها في تراث الحضارات المتفاعلة والمتقابلة، وهو ما يسميه حنفي «ظاهرة التشكل الكاذب» (Lapeudo Morphologie)‏[23]  التي تحدث عنها فلاسفة الحضارة مثل «شبنغلر» ويعرفها حنفي «بأنها ظاهرة لغوية محضة تترك فيها الحضارة الناشئة لغتها الأصلية، التي أصبحت قديمة لا تستطيع التعبير عن الأفق الجديد الذي وجدت نفسها فيه، وتتبنى لغة الحضارة الغازية الأكثر قدرة على التعبير عن المضمون الأول الذي لم تستطع اللغة القديمة التعبير عنه»‏[24]. من هنا تكون ظاهرة التشكل الكاذب هي الأداة الرئيسة التي يستند إليها في تحديد موقفه الحضاري من الحضارة الغربية.

وانطلاقاً مما تقدم، يرى حنفي أننا نعيش تراثنا الحاضر ومشكلاته الناتجة من الالتقاء بين حضارتين من جديد، فنحن اليوم في لقاء مع الحضارة الغربية، كما كنا في السابق في لقاء مع الحضارة اليونانية، حيث حدث اللقاء الأول بين حضارتنا العربية الإسلامية الناشئة والحضارة اليونانية الغازية في القرن الثاني الهجري، وحصلت ظاهرة «التشكل الكاذب» واستخدم مفكرونا القدماء ألفاظ الحضارة اليونانية، مثل: العقل الفعّال والعلة الأولى، أو واجب الوجود وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات اليونانية‏[25]، الأمر الذي جعل المستشرقين في نظر حنفي يعتبرون أن الفلسفة الإسلامية أصولها يونانية في حين أن مصطلحاتها يونانية ذات معانٍ إسلامية‏[26]. بل إن حنفي لا يتوقف عند اللقاء الأول الذي حدث بين حضارتنا العربية الإسلامية والحضارة اليونانية ليكشف عن اللقاء الثاني الذي حدث أيضاً ما بين حضارتنا الحالية والحضارة الغربية في القرن الثامن عشر، الأمر الذي يبين في نظر حنفي أننا أمام ظاهرة تاريخية حضارية واحدة تكررت للمرة الثانية‏[27].

وبناءً على ذلك تتحددّ مهمة صاحب علم الاستغراب في تقديم ما يشبه مقارنة تاريخية بين الواقع الحضاري، الذي كان سائداً في حضارتنا العربية الإسلامية القديمة والذي أنتجه المفكرون القدماء من خلال التأثر بالمفكرين اليونانيين، وبين الواقع العربي المعاصر في حضارتنا الحالية والذي يريد حنفي أن ينتجه من خلال رؤية يراها جديدة مفادها هو الاستفادة من التراث الغربي من خلال تأويل المفاهيم والمصطلحات.

وفي نظري أن الفكرة المركزية التي يريد حنفي طرحها، تتمحور حول الموقف الحضاري الذي يجب على المفكرين والفلاسفة في حضارتنا الحالية اتخاذه تجاه الحضارة الغربية، حيث يرى حنفي أنه في لقاء الحضارة العربية الإسلامية مع الحضارة اليونانية كان هناك موقف حضاري تبناه الفلاسفة القدماء، يمكن تتبعه في فلسفتهم ومذاهبهم الفكرية من خلال استخدامهم المفردات والمصطلحات الفلسفية اليونانية‏[28]، فهو يرى: أن الفلاسفة القدماء لم يتوقفوا عند ترجمة النصوص والمؤلفات وتفسيرها وشرحها والتعليق عليها بل إنهم بدأوا التأليف وأعادوا إنتاج المادة المنقولة من جديد، ابتداءً من القرن الثالث عند الكندي حيث أنتجوا المؤلفات الفلسفية والعلمية كما يتضح ذلك من شروحات ابن رشد على مؤلفات أرسطو‏[29]، «فقد كانوا نقلة أولاً ثم علماء ثانياً‏»[30].

ويبدو إن حنفي ينظر إلى أن النقل بوصفه السبب الرئيس في وجود الإبداع في حضارتنا العربية الإسلامية القديمة، لذلك نجده يطالب مفكرينا في الوقت الحاضر بالنقل من الغرب. الأمر الذي يعني أن النقل من الغرب هو الطريق الوحيد الذي سوف يؤدي إلى الإبداع والتقدم في حضارتنا الحالية عند حنفي متجاهـلاً بذلك دور المفكر في صناعة الإبداع.

بل إن حنفي يتجه ليعطي النقل أهمية كبيرة في تحقيق تقدم الحضارات فهو يرى أن التفاعل الثقافي الحضاري بين حضارتنا الإسلامية والحضارة اليونانية، قد أدى إلى بلورة وخلق ثقافة جديدة تحولت فيها مصطلحات علم الكلام التقليدية إلى مصطلحات ومفاهيم فلسفية جديدة‏[31]، فتجديد اللغة في نظر حنفي شرط الإبداع، «فهو الطريق التي تؤدي إلى الانتقال من الداخل إلى الخارج ومن المعنى إلى الصوت ومن الفكر إلى الواقع ومن الأنا إلى الآخرين» ‏[32]، من هنا فإنه باستخدام وإبداع المفاهيم الجديدة يمكن اكتشاف الإنسان والتاريخ‏[33]، وهما البعدان اللذان كان لهما دور بارز ومهم في حضارتنا القديمة الذي يريد حنفي إيجادهما في حضارتنا الحالية من خلال تأويل المصطلحات والمفاهيم الغربية، الأمر الذي يبين أن حنفي يبحث عن دور الإنسان والتاريخ في حضارتنا في التراث الغربي من خلال نقل إيجابياته، وهو بذلك ينهج نهجاً استشراقياً ينفي فيه وجود الإنسان والتاريخ في تراث حضارتنا العربية الإسلامية.

ويعطي حنفي مبرراً لما سبق، حيث يرى أن هدف الترجمة والشرح والنقل في حضارتنا الإسلامية القديمة، هو وضع الفكر الإسلامي على مسار الإبداع والإنتاج، لا الاستيعاب والتقليد إلى ما لا نهاية‏[34]، بل إن هذا الاستبدال اللغوي كما يؤكد حنفي يعبّر عن مستوى الشجاعة الفكرية التي كان يتحلى بها المفكرون القدماء‏[35]، لذلك نجد أنه يرى أن حضارتنا العربية الإسلامية الحالية تمر بموقف حضاري مشابه للموقف الحضاري الأول، إذ إنها في نظر حنفي في هذه الفترة في التقاء مع الحضارة الغربية كما كانت سابقاً في لقاء مع الحضارة اليونانية‏[36]، وما زالت تترجم عن الحضارة الغربية منذ زمن بعيد، إلا أنها لم تصل إلى مرحلة الشرح والإنتاج الفكري كما فعل المفكرون المسلمون القدماء بل إن الساحة الفكرية العربية كانت وما زالت تعج بالترجمات التي أدت إلى توقف الإبداع‏[37].

ولكن هل يمكن للأنا العربي في الوقت الحاضر دراسة التراث الغربي بكونه عملية حضارية أو موقفاً حضارياً يجب على الحضارة الأخذ به كما يقرر حنفي؟!

يبدو أن حنفي لا يدرك أن الحضارة العربية الإسلامية لها خصائص وسمات وأبنية اجتماعية وثقافية ودينية تختلف عن خصائص الحضارة الغربية، وتجعلها أقل قدرة على التفاعل مع الحضارات الأخرى. فالحضارة العربية الإسلامية لها ظروفها الخاصة التي نشأت فيها وجعلت بنيتها الفكرية تختلف عن بنية الحضارة الغربية. كما أن حضارتنا الحالية لا تملك كياناً معرفياً تنطلق منه لدراسة الغرب فهي ما زالت تعاني جموداً في قوالبها الفكرية والمعرفية والمنهجية نتيجة الظروف الاستعمارية التي مرت بها. بل إنه في تصوري قد غاب عن حنفي أن الحضارة العربية الإسلامية القديمة في تفاعلها مع الحضارة اليونانية، كانت تملك كل العناصر الفكرية والثقافية والمنهجية الحية والفاعلة التي كان لها دور كبير في نجاح هذا التفاعل والاتصال الحضاري الذي حصل بينهما على خلاف حضارتنا الحالية، التي تعاني غياب الأدوات الفكرية والمنهجية في مواجهتها الحضارة الغربية.

2 – الاتجاه لتحليل تاريخية الوعي الفكري الغربي بالاعتماد على أطروحات هوسرل

يرى حنفي أن الفكر الغربي استطاع أن يطبع كل فكر غير غربي بطابعه الفكري الخاص، وأصبح الشعور الغربي نقطة جذب لشعور العالم الشرقي، الأمر الذي أدى إلى جعل التاريخ العالمي مرتكزاً ومعتمداً عليه ‏[38]. وهو «ما جعل الغرب يتميز بأن وحدة حضارته تتمثل في حضور «الإنسان والتاريخ» في حين أن حضارتنا تعاني من فقدان هذين البعدين في تراثها الفكري»‏[39].

لذا، سعى حنفي في نظري لتفكيك وتحليل تاريخية الوعي الفكري الغربي للكشف عن مركزية الشعور والمذاهب الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى للكشف عن الظروف التي نشأ فيها الفكر الغربي، تمهيداً لنقل ما يتناسب منه مع واقع حضارتنا المعاصرة خاصة بعد إعادة بناء إيجابياته.

وبما أن بنية الوعي الفكري الغربي بنظر حنفي «نشأت وتكونت في التاريخ، وأصبحت بنية تاريخية لا يمكن فهمها ومعرفتها إلا بعد تفكيكها بالعودة إلى التاريخ؛ فالبنية هي اكتمال التاريخ، والتاريخ هو تحقيق البنية، فإنه يمكن إيجاد مخطط لبنية الوعي الفكري الغربي وتطوره بوصفه نموذجاً متميزاً للذاتية المشتركة، التي بدأت من ديكارت وانتهت عند هوسرل، فهي خبرات جماعية متراكمة عبر مسار التاريخ»‏[40]. ولمّا كانت الملامح الأساسية لهذه الذاتية المشتركة في نظري تتمثل بمراحل الفكر الغربي فإن وصف بنيتها وتطورها بنظر حنفي هو في الوقت نفسه وصف بنية الوعي الغربي وتطوره‏[41]. ويهدف حنفي في نظري من هذا التحليل إلى إيجاد صورة للبنية المعرفية للحضارة الغربية، لذا نجد أنه يحدد ثلاثية الوعي الفكري الغربي على النحو التالي‏[42]:

أ – مصادر الشعور الفكري الغربي

يبين حنفي أنه يمكن تحديد أربعة مصادر للتراث الغربي: مصدران معلنان هما المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، أما المصدران غير المعلنين فهما: المصدر الشرقي القديم، والبيئة الغربية نفسها. ولعل السبب في عدم ذكر المصدرين غير المعلنين هو العمل على تصوير نموذج الحضارة الغربية بأنها الحضارة النموذج، التي يدور فلكها خارج مسار التاريخ‏[43].

ب – بداية الوعي الفكري الغربي

يرى حنفي أن بداية الوعي الفكري الغربي كما يقرر هوسرل (Husserl)، هي الكوجيتو الديكارتي، الذي انطلق منه اتجاهان مختلفان: الأول الاتجاه العقلي الذي يمثله ديكارت، والثاني الاتجاه التجريبي الذي يمثله بيكون (Bacon) ولوك (Locke). إلا أن تمييز ديكارت (Descartes) بين النفس والجسد أدى إلى تعارض وتصارع هذين الاتجاهين، حيث امتد هذا الصراع والتعارض بينهما إلى الفلسفة الغربية سواء عند المثاليين أو عند الواقعيين، بل إنه لم تنجح محاولات كانط وهيغل (Hegel) فيما بعد في محاولة التقريب والتوحيد بينهما‏[44].

وفي ضوء المنظور الهوسرلي لبداية الوعي الفكري الغربي يرى حنفي أن «فشل الكوجيتو يرجع أساساً إلى التمييز بين الطبيعة والروح، بين الجسد والنفس في بداية الفلسفة الحديثة. وهو تمييز أدى إلى مادية الأول وصورية الثاني، وانقسم الكوجيتو إلى «جوهر مفكر» و«عقل دون نفس» وتطورت الفلسفة الحديثة منقسمة إلى موضوعية ساذجة من ناحية، وذاتية ترانسندنتالية من ناحية أخرى»‏[45]. وهذا الطابع الثنائي الذي تميزت به الفلسفة الغربية يعود بالأساس في نظر حنفي إلى ما ورثه الفكر الغربي من الحضارة اليونانية التي تعطي أهمية للتصورات المثالية‏[46].

مما سبق، يتضح أن حنفي يتجاهل دور كانط الكبير في نظرية المعرفة في دمجه بين الاتجاهين التجريبي والعقلي؛ حيث يرى كانط أن استخدام العقل وحده دون التجربة لا يقود إلى معرفة بل يؤدي إلى أوهام، كما أن استخدام التجربة وحدها لا يؤدي إلى معرفة ولا تعترف بوجود مسبب أول الذي يعترف به العقل المحض، لتكون نظرية المعرفة عند كانط مزيجاً بين المدرستين التجريبية والعقلية. ولعل كانط من خلال كتابه نقد العقل المحض وكتابه نقد العقل العملي استطاع أن يقدم فيها أطروحات فكرية لها أثر كبير في الفلسفة الأوروبية. وكما أن الرؤية التي صاغها هيغل المتمثلة بأن الوحدة الأولية التي تشكل الأساس الجوهري للعالم هي «وحدة الوجود والفكر» فالروح المطلق في نظر هيغل يتخذ من ذاته وحدها موضوعاً وهو من ثم لا متناهٍ. ففيه يتم التغلب على التعارض الكامل بين الذات والموضوع، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا في حالة واحدة فقط هي عندما يتحقق الذهن من أن موضوعه ليس سوى ذاته، لذلك لا يمكن الوصول إلى الروح المطلق إلا حين يتحقق العقل من أن موضوعه الذي أياً كان نوعه، الشمس أو القمر أو العالم المادي.. ليس شيئاً سوى الروح ذاتها. من هنا أصبحت الفكرة ذاتاً وموضوعاً في آن معاً، فالذات والموضوع متحدان بعد أن اكتمل تطور الروح ليصل إلى التوفيق بينهما[47] وهذا ما شكل نقطة الانطلاق في فلسفة هيغل وكان له أثر كبير في تطور الفلسفة الألمانية. الأمر الذي يبين تجاهل حنفي لما قدمه كانط وهيغل من فكر أدى إلى تطور كبير في الفلسفة الغربية.

ج – نهاية الوعي الفكري الغربي

لمّا كانت بداية الوعي الفكري الغربي في نظر حنفي في انطلاق الاتجاه العقلي والاتجاه التجريبي الذي بدأ من ديكارت، فإنه من الطبيعي أن تتحدد نهايته بمصير هذين الاتجاهين الأساسين فيه‏[48]. لقد استطاع هوسرل، كما يعتقد حنفي، ضم وتقويض هذين الاتجاهين الصوري والمادي من خلال اكتشاف عالم الشعور وإيجاد المنهج الذي وحد بينهما ضمن إطار التجربة الحية في الشعور، وبذلك نجح هوسرل في القضاء على ثنائية المعرفة التي سببها ديكارت في الفلسفة الغربية‏[49].

من هنا، كانت الظاهريات بمنزلة إعلان عن نهاية الوعي الغربي بنظر حنفي، بعد اكتمال المذهب المثالي الغربي وضم الاتجاهين فيه وتأكيد وحدته الأولى التي سببتها الثنائية المعرفية الديكارتية. وبناءً على ذلك يرى حنفي أن كل الفلسفات التي ظهرت بعد الظاهريات هي مقلدة لها، بل إنها عبارة عن نماذج أو تطبيقات أو شروح أو تحليل لها أو تقليد لمنهجها‏[50]، وبالتالي يكون الوعي الفكري الغربي بدايته في الأنا أفكر، ونهايته في الأنا موجود كما يقرر حنفي‏[51].

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محاولة هوسرل من خلال دراسته عالم الشعور والوصول إلى الشعور المجرد، الذي ينعدم فيه التعارض بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي لتقويض الثنائية المتنازعة بين الاتجاهين الصوري والمادي هي محاولة تعطي الشعور الدور الأساسي في بناء المعرفة، بالرغم من أن هذا الشعور قد يخضع لمزاج وآراء الفرد الشخصية. بل إن حنفي يخطو على خطى هوسرل في تحديده الوعي الفكري الغربي بين نقطتين؛ فإذا كانت نقطة بداية هوسرل في بنائه الفلسفي من «الأنا الديكارتي» الذي يشك وينتقد الموقفين الطبيعي والواقعي ليتحوّل إلى الشعور المحض ليصل إلى الحقيقة اليقينية المتمثلة بالـ «أنا موجود» نجد أن حنفي أيضاً وضع الوعي الغربي بين موقفين يمثلهما ديكارت وهوسرل. الأمر الذي يبين أن حنفي ينظر إلى فينومينولوجيا هوسرل وكأنها الفلسفة النهائية للعقل الغربي بالرغم من ظهور فلسفات أخرى.

إن محاولة حنفي في بيان مصادر الوعي الفكري الغربي في نظري تهدف إلى إثبات أمرين هما: أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية، وهذا الأمر لم ينكره المستشرقون ‏[52]، والأمر الآخر هو إثبات أن المفكرين الغربيين يعتبرون فلاسفة اليونان ينتمون لحضارتهم الغربية دون الاعتراف بانتماء هؤلاء الفلاسفة للحضارة اليونانية، ليصل حنفي إلى نتيجة مفادها: «أن الفلسفة اليونانية منبع كل غائية في التاريخ الغربي، وبذلك أصبحت بنيتها نفس بنية الحضارة الغربية»‏[53]، بسبب تراكم التصورات الفكرية الحديثة التي أدت إلى طمس المعالم التي تميز بنية الوعي الفكري الغربي عن الشكل الذي يمثل مسار تطوره، حيث تضخم الشكل الأساسي للتطور على حساب بنية فكره ومصادره، الأمر الذي أعطى لآخر خمسة قرون في الفكر الغربي الأهمية والأولوية على القرون الماضية؛ ولهذا انقسم المصدر في نظر حنفي إلى ثلاثة أقسام هي: المصدر اليوناني الروماني؛ والمصدر اليهودي المسيحي؛ والبيئة الغربية نفسها. وأما التطور فهو أيضاً يحوي البنية وقد امتد من ديكارت إلى هوسرل‏[54]. من هنا يتوصل حنفي إلى «أن مصادر الوعي الفكري الغربي ليست حضارة مستقلة ممثلة للبشرية جمعاء، بل هي مرحلة فيه»‏[55]؛ الأمر الذي يكشف عن تناقض في موقف حنفي من التراث الغربي.

يتضح هذا التناقض في نظري بداية في رؤية حنفي إلى أن الفكر الغربي استطاع أن يكون محور كل فكر غير غربي، بل إنه طبع كل فكر غير غربي بطابعة الخاص حتى أصبح الشعور الغربي نقطة جذب لشعور العالم العربي؛ فالثقافة الغربية استطاعت التأثير في الثقافات الشرقية مع أن حنفي نفسه يرى أن الحضارة الغربية نشأت في بيئة خاصة وهو ما يؤكده في قوله «أن للوعي الفكري الغربي تطور وبناء، له بداية وتطور ونهاية، له ظروف تاريخية واجتماعية خاصة ممثلة في الرومانية القديمة، ومعطى ديني خاص هو المسيحية، ونظام ديني خاص هو الكنيسة، وبناء ذهني خاص يقوم على التقسيم وأحادية الطرف والتعارض بين عوامل الظاهرة الواحدة»‏[56]. وبناءً على رؤية حنفي هذه فإن الثقافة الغربية لا تستطيع تقديم رؤية متكاملة تمثل الإنسانية، فكيف أصبحت هذه الثقافة محور كل فكر غير غربي كما يقرر حنفي؟! الأمر الذي يبين تناقضاً واضحاً في موقف حنفي من الثقافة الغربية.

ويبدو أن حنفي أراد فهم الغرب من خلال حصر مصادر معرفته، بالاعتماد على توضيح مكوناته الفكرية والدينية والبيئية، وهي الفرضية التي حاول حنفي أن ينطلق منها في تأسيس علم الاستغراب، إلا أن الحقيقة التي غابت عن ذهن حنفي هي أن الحضارة الغربية تقوم على العقلانية التي تهدف للتقدم المستمر، حيث تمثل الفكر والقيمة الحضارية للغرب.

ولمّا كانت الحضارة العربية الإسلامية عند حنفي هي الحضارة القادرة على احتواء ثقافات الحضارات المجاورة، لأنها الحضارة الأكثر عقلانية، خاصة بعد أن يتم القضاء على أزمة غياب الإنسان والتاريخ في عصرنا الحاضر‏[57]، «بتحويل قطبها من علم الله إلى علم الإنسان والانتقال إلى طور إنساني جديد»‏[58]، ضمن مسار تاريخي جديد يتم فيه انتقال ثقافتنا العربية المعاصرة من نمط التقليد إلى نمط الأصالة، فإنه بالضرورة تحول شعور الأنا العربية تجاه النمط الفكري الغربي‏[59]، وبخاصة بعد إعادة بناء إيجابياته.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن وصف حنفي حضارتنا بالحضارة الأكثر عقلانية هي رؤية تتعارض مع رؤيته التي ينطلق منها في تأسيس علم الاستغراب وهي اعتباره أن حضارتنا حضارة مركزية مركزها الوحي الذي هو منبع علومها، فكيف تكون حضارة عقلانية ومركزها هو الوحي؟! الأمر الذي يبين تناقضاً في موقف حنفي وتحليله لبنية حضارتنا العربية الإسلامية.

وإذا تجاوزنا هذا التناقض أيضاً سنجد أن حنفي يكشف عن المسار الجديد الذي يريد بناءه ويرى أننا «أمام إمكانية قيام علم جديد، وهو دراسة الحضارة الغربية بشعور غير غربي، فكما نشأ الاستشراق، أي دراسة العالم الثالث بشعور غربي، يمكن أن ينشأ «الاستغراب» أي دراسة الشعور الفكري الغربي بشعور العالم الثالث»‏[60]. وبذلك تكون معرفتنا بموضوع هذا العلم وأطروحاته الفكرية الأساسية هي حجر الأساس الذي يحدد موقفنا من التراث الغربي، وبالتالي يضيع خطر الخوف في مواجهة الحضارة الغربية باعتبارها مصدر ومنبع كل الأفكار والنظريات العلمية‏[61]. بهذا المعنى يعطي حنفي للعقل العربي خصوصية في تفسير التراث الغربي بأدوات الغرب ومناهجه من دون إبداع منطلقات جديدة للعقل العربي.

ومن الملاحظ أن كل المحاور التي يهدف علم الاستغراب إلى دراستها، هي محاور تتناقض مع الهدف الرئيس الذي ينطلق منه حنفي لتأسيس علم الاستغراب، وهو مواجهة التغريب والتحرر والتخلص من الآخر الغربي؛ فنقل المصطلحات والمفاهيم الغربية سيؤدي بالضرورة إلى زيادة التغريب. وكما أن النظر إلى الآخر الغربي كمكون للعقلية العربية، ومصدر لها من خلال علم الاستغراب يحتم على حنفي الانفتاح على الغرب، والاستفادة منه لا اعتباره النقيض الذي يجب على الأنا العربي التحرر منه، الأمر الذي يعني أنه لا ضرورة ولا حاجة لتأسيس علم حتى نستطيع دراسة الآخر الغربي، بل إن قول حنفي بأن علم الاستغراب سيقدم نقداً مفيداً إلى الفكر الغربي هو مجرد حلم صعب تحقيقه؛ فالفكر العربي لم يستطع تقديم حلول للإشكاليات الفكرية التي تعج فيها الساحة العربية، فكيف سيقدم تقدماً مفيداً للفكر الغربي؟!

خاتمة

في النهاية يمكن القول إن محاولة حنفي ترسيخ قواعد علم الاستغراب بهذه الطريقة هي محاولة دونها الكثير من الصعوبات والمعوقات، حيث كان حنفي متناقضاً مع نفسه في طرح العديد من أفكاره التي تناول فيها التراث الغربي، إذ كان هذا التناقض يمثل صورة المفارقة القائمة في ذاكرة حنفي ليس فقط في نظرته لحضارتنا العربية الإسلامية، بل أيضاً في تحليله لبنية الحضارة الغربية ومصادرها وعلومها وثقافتها. فالحضارة الغربية تقوم على العقلانية والإيمان بالعلم والقيم والانفتاح والتطور المستمر ودراسة تراثها لا يمكن أن يكون بطريقة تأويلية تنطلق من علم «الاستغراب»، الذي يقوم على مبدأ التمركز حول الذات والتغنّي بالقديم وإعلان الهجوم على تراث الآخر، لأن ذلك سيقف بالضرورة أمام التفاعل والتقابل الحضاري بين المجتمعات.

إن الحقيقة التي تجاهلها حنفي هي أن التكوين الفكري والحضاري للحضارة العربية الإسلامية، يختلف بالضرورة عن تكوين الحضارة الغربية، ذلك الاختلاف الذي فرضته عوامل وظروف تاريخية ضاربة الجذور والأبعاد. صحيح أن حضارتنا العربية الإسلامية القديمة كانت حضارة مبدعة، وكان فيها مفكرون وعلماء وفلاسفة مبدعون، ومن حقنا الفخر والتغنّي بهم، ولكن علينا قبل التوجه إلى الفخر واستذكار الماضي العريق التوجه إلى عملية بناء الإنسان العربي المبدع، القادر على رسم ملامح النهضة والتقدم والتطور، وهنا يكمن الموقف الحضاري الذي يجب على المفكر تناوله عند دراسة التراث.