مقدمة:

شهد المجال السياسي العربي عدداً من حلقات النقاش بين الإسلاميين والعلمانيين، وكان الهدف هو بناء جسور التواصل بين فاعلين ساهما في كل التحولات التي عاشها الوطن العربي. وبالرغم من تعدد حلقات الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، فإن الصراع والتطاحن بقي هو السائد بين الطرفين، صراع وصل حد العنف بكل أشكاله، المادية والمعنوية. إن من أهم علامات أزمة التواصل بروز العنف، لذلك سننطلق في هذه الدراسة من فكرة أساسية لدى هابرماس وهي أن العنف مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشري؛ فالعنف هو نتيجة للخطاب المشوَّه السائد بين الأصوليين وغيرهم؛ خطاب مشَّوه لأنه لا يعترف بالآخر كما هو. وتبعاً لذلك سنستدعي النظرية الهابرماسية في التواصل، لفهم أسباب تنامي العنف في المجال السياسي العربي. وسنبدأ بتحديد مفهوم الفعل التواصلي لدى هابرماس كمفهوم مركزي.

* * *

ترعرع هابرماس وعاش جزءاً من حياته في ألمانيا، وتأثر بالكوارث الناتجة من النازية والحرب العالمية الثانية، حيث ساد العنف بمختلف أشكاله. لذلك سيحاول في كل أعماله البحث عن السبل التي تمكن من تحقيق الاندماج الاجتماعي بدل الصراع والتطاحن. والحل هو بناء فضاء عمومي يطرح للنقاش كل القضايا التي تساعد على تحقيق التفاهمات والإجماع بدل الصراع والعنف. وقد أسس مشروعه التواصلي في مؤلفه نظرية الفعل التواصلي‏[1]، لكن بقي هذا الطرح حاضراً في كل الكتابات الأخرى.

ننطلق لتحديد مفهوم الفعل التواصلي من البحث في المجال الذي يمارسه فيه هذا الفعل، وهو الفضاء العمومي وفق تعبير هابرماس: «مجموعة من الأشخاص الخواص يجتمعون من أجل النقاش، حول مواضيع تكتسي طابع المصلحة العامة أو المصلحة المشتركة»‏[2]. هو فضاء عمومي وسياسي ديمقراطي مفتوح للجميع، يضمن مناقشةً وحواراً بين مختلف الحساسيات والآراء والأفكار. ويرى هابرماس أن هناك علاقة وطيدة بين الديمقراطية والتواصل والمواطنة‏[3]. إذاً لا يمكن إنجاح العملية التواصلية إلا في فضاء الديمقراطية، وهو فضاء تتحقق فيه المساواة في حقوق المواطنة بين الجميع.

إنه فضاء عمومي يسمح بتكوين رأي عام حول القضايا المطروحة، في إطار ديمقراطية جماهيرية تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم. يقول هابرماس: «إن المبدأ الذي على أساسه تقوم الدولة الحديثة، هو فكرة الشعب السيد الذي يجب أن يعبر عن فكرته في شكل رأي عام. فإذا أغفلنا هذه النتيجة الطبيعية، وإذا لم نجعل من الرأي العام مصدر السلطة السياسية لكل القرارات التنفيذية لمجموع المجتمع، فإن الحقيقة المتعلقة بالديمقراطية الحديثة تبقى بدون جوهر»‏[4] إنه التواصل السياسي عندما يغدو مؤسساً في دولة الحق والقانون‏[5].

لكل مواطن الحق في دخول هذا الفضاء، لكن شرط التخلي نوعاً ما عن انتماءاته الخاصة، ليتحول من شخص عادي إلى مواطن يتشارك مع الآخرين هذا الفضاء. يقول هابرماس: «[إنه] المملكة التي يجتمع فيها الأفراد للإسهام في النقاشات العمومية، حيث بإمكان كل واحد الحلول به، ولا أحد يدخل الحديث في الفضاء العمومي بامتياز لا يملكه غيره»‏[6]. ولا يمكن تحقيق هذا المجال إلا في إطار الديمقراطية التشاركية. إن ما يقترحه هابرماس في نهاية المطاف لضمان مساواة الجميع في المناقشة هو إجراءات محايدة تضمن لجميع أفراد المجتمع المساهمة في إطار متساوٍ وحر في النقاش العمومي، هذا البديل يراه هابرماس الحل الوحيد القادر على الحفاظ على كونية الأخلاق‏[7]. هنا، التحدي الذي يواجه به تصور هابرماس هو كيف يمكن للمشاركين في المحاججة التخلي عن تصوراتهم المسبقة للمواضيع المثارة بناء على المحيط الثقافي والقيمي الذي يعيشون فيه؟ وهو مشكل سيطرح على هابرماس وهو يحدد شروط العملية التواصلية في إطار مفهوم الفعل التواصلي.

يعد مفهوم الفعل التواصلي مفهوماً مركزياً لدى هابرماس، فقد حدد المقصود بالأفعال التواصلية على النحو التالي: «هي تلك الأفعال التي تكون فيها مستويات الفعل بالنسبة إلى الفاعلين المنتمين إلى العملية التواصلية، غير مرتبطة بحاجيات السياسة، بل مرتبطة بأفعال التفاهم»‏[8]. إن الفعل التواصلي يتميز عن غيره من الأفعال الأخرى بأنه لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير في الغير، بل يبحث عن كيفية التوصل إلى تفاهم معه وتوافق متبادل دونما إكراه أو قسر كيفما كان نوعهما. لذلك، فمفهوم الفعل التواصلي لدى هابرماس يتأسس على دعامتين أساسيتين: الأولى، أن هناك شروطاً أساسية لا بد لتوافرها لإنجاح العملية التواصلية، وهي شروط مرتبطة بكيفية التواصل تضاف إلى الشروط التي تحدثنا عنها، والتي تخص الفضاء العمومي؛ الثانية، أن الهدف النهائي للعملية التواصلية هو تحقيق التفاهم والإجماع بين المتحاورين حول القضايا المطروحة.

تتمثل الدعامة الأولى بالشروط الخاصة بالعملية التواصلية. إن نجاح الحوار يتوقف على احترام مجموعة من المقتضيات في إطار إيتيقيا المناقشة. فإذا كان التفاهم هو الغاية القصوى للفعل التواصلي، فإنه لا يمكن تصوره بين الأطراف المتحاورة إلا بشروط من أهمها عدم تأثير طرف في آخر، لأن ذلك لو حصل يؤدي حتماً إلى فشل التواصل. يقول هابرماس في هذا السياق: «إن نشاط التفاهم المتبادل يخضع لشرط أساس به يحقق المعنيون مشروعاً لاتفاقهم المشترك… فهم يسعون لتفادي خطرين: يتمثل أولهما في فشل التفاهم المتبادل وسوء الفهم؛ بينما يتمثل الثاني في فشل مشروع الفعل والإخفاق التام. فتنحية الخطر الأول شرط لا بد منه لتلافي الثاني»‏[9].

فحتى لو تحققت الشروط الخاصة بالفضاء العمومي، وحتى لو كانت النية لدى المحاورين هي الوصول إلى التوافق، فإن عملية التواصل قد تفشل، إذا حاول كل طرف التأثير في الطرف الآخر وليس إقناعه. يقول هابرماس: «من المستحيل بدء سيرورات التفاهم بقصد الوصول إلى اتفاق مع مشاركة في التفاعل، وفي نفس الوقت بهدف التأثير فيه، بمعنى أن تمارس عليه فعـلاً سببياً. فمن وجهة نظر المعنيين، إن اتفاقاً لا يمكن أن يكون مفروضاً ولا يمكن قبوله من جانب أحد الأطراف تحت إكراهات الطرف الآخر، سواء بكيفية أداتية، أو بتدخلات مباشرة في وضعية الفعل، أو بكيفية استراتيجية بواسطة التأثير المحسوب على مواقف الواحد إزاء الآخر»‏[10]. وحتى وإن نجح التفاهم الناتج عن التأثير، فإنه يكون اتفاقاً مؤقتاً يتم خرقه بمجرد اكتشاف أحد الأطراف أنه كان تحت عامل مؤثر، قد يكون الكذب مثلاً. إن التفاهم الذي يدوم هو الذي يكون مبنياً على الإقناع والمحاججة. إضافة إلى ذلك، فالتفاهم بين المتحاورين يتطلب لغة بألفاظ صحيحة ودقيقة وبعبارات صادقة، هي ثلاث شروط في دعاوى الصلاحية؛ لكن كما قلنا بالنسبة إلى استقلالية الفضاء العمومي، يطرح المشكل من جديد حول علاقة الفاعل بالمحيط.

يرد هابرماس على هذا الاعتراض بالتأكيد أنه لا يمكن عزل المتحاورين عن محيطهم، لكن يبقى أن العامل المؤثر في التفاهم هو المحاججة بين الطرفين وليس الواقع المعاش، وإلا انتقلنا من التفاهم إلى الاتفاق الناتج من التأثير. إن أي تفاهم يتأسس على عالم معاش يكون من ثقافة ومجتمع وشخصية‏[11].

لذلك فالحل الذي يقدمه هابرماس هو الاتفاق على معايير مشتركة بين أعضاء المجموعة يسهِّل عملية التواصل. فالتزام الجميع بهذه القيم يؤدي إلى الالتزام بالتوافق ويجعل الفرد مندمجاً في مجموعته الاجتماعية. والقواعد التي اقترحها هابرماس هي:

1 – لكل من هو قادر على الكلام والفعل نصيب كامل في النقاش.

2 – لكلٍّ الحق في إثارة إي إشكال أو اعتراض على أي تأكيد كيفما كان؛ يندرج ضمن هذا الحق حق الاعتقاد في آراء ما والتعبير عنها.

3 – لا يحق منع أي كان من المتحاورين من النقاش ولا استعمال أسلوب الإكراه عليه‏[12].

إضافة إلى القواعد السالفة، زاد هابرماس قاعدتين أخريين في صيغة افتراضين مفادهما أن الدعاوى المعيارية للصلاحية تتضمن معنى معرفياً، ويجوز التعامل معها بوصفها دعاوى للحقيقة؛ وضرورة الدخول في نقاش حقيقي لتأسيس المعايير والأوامر اعتماداً على العقل المتواصل المتحاور وليس على العقل الفردي‏[13].

بناء على هذه القيم التي يجب التوافق حولها، فإن هدف هابرماس هو تحقيق اتفاق حول معايير كونية مؤسسة بشكل عقلاني عن طريق المحاججة، لكن يرى شارل تايلور أن هذا الاتفاق غير ممكن مع هيمنة الأخلاق الذاتية داخل ثقافة المجتمعات الحديثة، فكل واحد منا يتبنى مواقف أخلاقية لأسباب ذاتية محضة، لذلك يفقد العقل دور الحكم داخل النقاشات الأخلاقية‏[14].

أما في ما يخص الدعامة الثانية، فما دام الفعل التواصلي موجهاً نحو التفاهم، فإن الفعل الكلامي ينبغي الحكم عليه باعتباره حكماً مقبولاً – عندما يحصل ذلك التفاهم‏[15]. لذلك لم يدع هابرماس إلى وضع معايير لأخلاقيات النقاش، تكون نابعة من الذات على نحو ما فعل كانط والتقليد الفلسفي بعامة؛ إنه سعى إلى جعلها نظرية تبحث في الطرق والإجراءات السلمية التي تمكن الذات المتفاعلة فيما بينها من التوصل عبر الحوار إلى صوغ تلك المعايير الأخلاقية‏[16]. بهذا المعنى يغدو النقاش العملي «أداة ذات مكانة جوهرية في سن المعايير وتبريرها، لأن التبرير عملية بيذاتية تداولية غير منفصلة عن الاجتماع»‏[17].

وقد ميَّز هابرماس بين الاتفاق والتفاهم؛ فـالأول يمكن أن يحدث تحت التأثير، أما الثاني فهو الهدف من العملية التواصلية يكون بالإقناع والحجج. فالتفاهم هو اتفاق مستفاد تواصلياً له أساس عقلاني، لأنه يستند إلى قناعات مشتركة‏[18]. «إن التفاهم يعني موافقة المشاركين في التواصل على صلاحية تلفظ ما، في حين أن الاتفاق يعني الاعتراف الذاتي بدعاوى الصلاحية التي يعلن عنها المتحدث»‏[19]. وهكذا يكون التفاهم هو اتفاق حول المعايير الاجتماعية والأخلاقية التي تحكم المجتمع وليس مجرد اتفاق لفظي، واللغة هي الأداة لتحقيق هذا التفاهم بين الذوات. إن الهدف من فلسفة هابرماس هو تحقيق الاجتماع بدل الاختلاف في التقليد الفلسفي المعاصر. يقول آلان تورين: «إن هابرماس يفكر بشكل معقول، فالديمقراطية لا يمكن اختزالها في تسوية خلاف، فلا وجود لمواطنة بدون اتفاق»‏[20].

إن الهدف النهائي للعملية التواصلية عند هابرماس هو تحقيق الإجماع بين المتحاورين، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن نقطة الانطلاق هي الاختلاف والتنازع بينهم، فهناك اختلاف يعترف به هابرماس هو نقطة انطلاق لكل حوار، لكن الحوار يجب أن يؤدي إلى إجماع. وهنا انتقدت نظرية هابرماس باعتبار أنه ما دامت العملية التواصلية تتضمن فاعلين متعددين محصورين أو غير محصورين؛ فمن الصعوبة بمكان تحقيق الاجتماع بينهم‏[21]. وباعتبار أن الاختلاف أقدر على الابتكار من الإجماع، وأن هذا الأخير يقتل الإبداع‏[22]. رغم هذه الانتقادات، فالهدف من نظرية هابرماس هي تحقيق شروط الاتفاق عبر الصياغة التالية: «تحدث على نحو يصبح معه أي متكلم آخر قادراً على فهم كلامك، كما يصبح قادراً على قبول رأيك»‏[23].

* * *

نخلص من خلال هذا التحديد المفاهيمي، أن تجاوز مشكل العنف والصراع الاجتماعي، وحماية الاندماج والتضامن الاجتماعي لدى هابرماس، يتطلب تواصـلاً سياسياً لا يمكن إنجاحه إلا بتوافر فضاء عمومي سليم ديمقراطي يضمن حرية التعبير، وفعل تواصلي سليم يضمن التفاهم، عبر احترام شروط معيارية خاصة بالتواصل بين الذوات. فهل تتوافر هذه الشروط في المجال السياسي العربي؟ أم أن أزمة الفضاء العمومي، وعدم التسامح والدوغمائية، هي التي أذكت العنف بمختلف أشكاله الذي تعرفه المجتمعات العربية اليوم؟

تلك هي الإشكالية التي سنحاول مناقشتها في هذه الدراسة، وقبل ذلك لماذا الاعتماد على نظرية الفعل التواصلي لهابرماس؟

إننا نعيش عنفاً وإرهاباً بمختلف أشكاله في المجتمعات العربية، هو عنف في غالبه قائم بين تيارات ذات مرجعيات وأيديولوجيات متناقضة؛ كل تيار يرى أن رأيه هو الصحيح ويستعمل كل الأدوات حتى المسلحة منها لفرض رأيه على الآخر وعلى المجتمع، وهو ما ينتج منه عنف وإرهاب مضاد. عنف قائم بين الإسلاميين والعلمانيين منذ سبعينيات القرن الماضي، احتوته الأنظمة الدكتاتورية بإذكاء الصراع والتطاحن حيناً، وبممارسة العنف عليها حيناً آخر. وما إن سقطت هذه الأنظمة، حتى عاد هذا العنف بين الطرفين إلى الواجهة.

إذاً فالأمر يتعلق بعنف بين تيارات لها قناعات ومرجعيات مختلفة، قدم لنا هابرماس الدواء، وهو فتح النقاش والحوار بين هذه الأطراف للتوافق حول مقومات الدولة المراد تأسيسها. لذلك استدعينا نظرية الفعل التواصلي لهابرماس رغم اختلاف السياق، لأنها تخدم هدفنا في هذه الدراسة، وهو البحث عن أسباب تفشي العنف والإرهاب، ولأن هابرماس تناول إشكالية الحوار بين العلمانيين والإسلاميين. فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر قام هابرماس ببناء رؤية جديدة للتقريب بين تصورات الطرفين. وقد رفع تحدياً أساسياً هو كيف يمكن المصالحة بين الإيمان والمعرفة، بين الدين والعقل في إطار مجتمع ما بعد علماني؟ وطرح السؤال التالي: كيف يمكن لعقل حديث انفصل عن الميتافيزيقيا أن يفهم علاقته بالدين؟‏[24].

إن الحل هو فتح نقاش عمومي بين الطرفين مع الاعتراف لهما بالحرية في التعبير، لكن لتحقيق التوافق يجب ترجمة وجهات النظر الدينية إلى لغة دنيوية، وفي المقابل، على المواطنين العلمانيين من جهتهم أن يمارسوا نقداً ذاتياً، «فالطبائع المدنية الديمقراطية لا يمكن أن تفرض على جميع المواطنين، إلا إذا مر المتدينون والعلمانيون من مسلسلات تعلم تكميلية»‏[25]. وهنا طرح هابرماس الكثير من التساؤلات حول هذا الحوار:

1 – هل أن العلمانيين قادرون على التسامح وإجراء حوار جاد مع الطرف الديني، بالرغم أجيال من ازدراء الدين؟

2 – هل يستطيع العلمانيون أن يصدقوا ويعتقدوا، أن كثيراً من ثوابت العلمانية المفاهيمية هي مدينة للدين بأصلها؟ وهل يستطيعون تقبل هذا الدين علناً؟

3 – هل أن الطرفين مستعدان للاعتراف بأن التسامح هو دائماً ذو اتجاهين؟ أي أنه يجب على رجال الدين، ليس فيما بينهم فقط بل ومع الملحدين والعلمانيين، أن يدخلوا في حوار تسمه صفة التسامح، وعلى العكس على العلمانيين أن لا يقصوا المتدينين من الحوار، وذلك كله في إطار احترام المواطنين بعضهم البعض كأعضاء أحرار ومتساوين في المجتمع السياسي الهادف للتواصل السليم.

وقد وجهت العديد من الانتقادات لهذه الوصفة الهابرماسية، فكيف يمكن للمواطنين المتدينين أن يتخلوا عن قناعاتهم الدينية ليشاركوا في النقاش العام، فمن المعلوم أن المواطن المتدين يحقق وجوده من خلال إيمانه الديني. هنا وأخذاً بعين الاعتبار هذا الاعتراض يميز هابرماس بين المواطنين العاديين ورجال السياسة، فرجال السياسة هم المطالبون بالقيام بهذه العملية. يقول هابرماس: «إذا قبلنا بهذا الاعتراض – الذي أجده مفحماً – الدولة الليبرالية التي تحمي بشكل علني عبر الحقوق الأساسية الضامنة لحرية التدين، مثل هذه الأشكال من الوجود، لا يمكنها في نفس الوقت أن تتوقع من كل الأشخاص المؤمنين أن يبرروا أيضاً اتخاذ مواقف سياسية في استقلالية عن قناعاتهم الدينية وعن قناعاتهم المرتبطة بنظرتهم للعالم. هذا المقتضى لا يمكن أن يتوجه إلا لرجال السياسة الذين، في إطار المؤسسات الدولتية، يخضعون لواجب الحياد بالنسبة إلى الرؤى المختلفة للعالم، وكذلك بالنسبة إلى كل من يسعى لانتداب عمومي وقدم لأجل ذلك ترشيحه»‏[26].

لقد وقع هابرماس في تناقض واضح بين الاعتراف للمتدينين بالحق في التمسك بمعتقداتهم الدينية في النقاش العمومي، وبين الإدلاء بهذه الحجج مع علمانيين لا يقتنعون بها، ومطالبتهم في نفس الوقت باتخاذ مواقف في الفضاء العمومي في استقلالية عن قناعاتهم الدينية. كما أن هناك تناقضاً آخر يتعلق بأن هابرماس يطالب بعدم الإقصاء من الفضاء العمومي لأي مواطن مهما كانت قناعته، ولكن في نفس الوقت يؤكد أن المواطنين المتدينين المحترفين للسياسة، هم وحدهم المطالبون بالتخلي عن قناعاتهم الدينية في النقاش العمومي، وتبعاً لذلك هم الأجدر بالتحاور مع العلمانيين.

رغم هذه الاعتراضات يبقى الحل الهابرماسي صالحاً لمجتمعاتنا اليوم، في ظل العنف الذي أصبح مهدداً للتماسك الاجتماعي، فعلى الأقل فتح الحوار بين هذه الأطراف في ظل الشروط التي وضعها هابرماس، قد يحد من العنف.

إن فرضيتنا الأساسية، تنطلق من واقع ارتفاع صوت العنف في المجال السياسي العربي، مقابل خفوت صوت الحوار. والسبب يكمن في بنية اجتماعية وسياسية لا تسمح بالتواصل السليم وفق المقاربة الهابرماسية. وإضافة إلى بنية الفضاء السياسي العربي، فالأزمة تكمن في المتحاورين ذاتهم، حيث فشلت كل محاولات الحوار لأسباب ذاتية تتعلق برفض الآخر والتهكم عليه، واستحالة التفاهم معه حول مقومات الدولة المراد تأسيسها. فقد عرف المجال السياسي العربي العديد من الحوارات بين الإسلاميين والعلمانيين. فهناك حوار فكري بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري نُشرت مضامينه في كتاب حوار المشرق والمغرب‏[27]، وبين محمد أركون ومحمد سليم العوّا ضمن كتاب النظام السياسي في الإسلام‏[28]، وهي حوارات فكرية وصلت إلى تفاهمات لا تخلو من اختلاف. في المقابل، هناك حوار سياسي وأيديولوجي بين الفاعلين من الطرفين، غاب فيه التفاهم والتوافق، وحتى وإن تم يكون مرحلياً، حيث عرفت تونس تجربة لحوار بين الإسلاميين والعلمانيين أفضى إلى العديد من المخرجات في إطار «هيئة 18 أكتوبر»‏[29]. كما عرف المغرب هو الآخر حوارات بين الطرفين، نشرت مضامينه من طرف مجلة نيشان‏[30] وكتاب مواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين‏[31]. بالإضافة إلى حوار جمع الجانبين الفكري والأيديولوجي في القاهرة تحت إشراف مركز دراسات الوحدة العربية، تحت اسم الحوار القومي – الديني في أيلول/سبتمبر 1989، حيث برز التوافق بين المفكرين، فيما غاب بين المناضلين‏[32].

هذه هي الحوارات التي ستكون محل التحليل والدراسة في هذا النص، محاولين الاعتماد على منهجية تحليل الخطاب للوقوف على مدى احترام معايير الفعل التواصلي كما حددها هابرماس. طبعاً هناك العديد من الحوارات الأخرى التي لم يسمح لنا الحيِّز المخصص للدراسة بدراستها، وحاولنا أن تكون لهذه النصوص تمثيلية، أخذاً بعين الاعتبار تعدد المجالات من حوار فكري إلى حوار أيديولوجي، وتعدد السياقات من القاهرة إلى تونس إلى المغرب مع اختلاف طبيعة الفضاء العمومي في هذه الدول، وهو ما أثر في مخرجات الحوار وفي الممارسة السياسية.

وبناء على نظرية الفعل التواصلي لهابرماس، التي اعتمدت ثلاث دعامات أساسية هي: توفر فضاء عمومي سليم، وحوار بشروط ومعايير تضمن النجاح، وتوافق يؤدي إلى التفاهم، نقترح الخطة التالية:

1 – الفضاء العمومي في الوطن العربي وتشويه التواصل.

2 – الحوار الإسلامي – العلماني وغياب التسامح وهيمنة الازدراء.

3 – صعوبة التفاهم وإذكاء الاختلاف بين الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي.

أولاً: الفضاء العمومي في الوطن العربي وتشويه التواصل

خلصنا من خلال دراسة نظرية الفعل التواصلي لهابرماس، أن الفضاء العمومي يتميز بسمتين أساسيتين، هما: أولاً، فضاء تسود فيه الديمقراطية ومن حق كل مواطن التعبير عن أفكاره بحرية دون إكراه ولا ضغط (أ). ثانياً، هو فضاء يتحقق فيه شرط الاستقلالية حيث يدخله كل متحاور بمعزل عن انتماءاته حتى يستطيع التواصل مع الآخرين (ب).

1 – أزمة الديمقراطية والحرية في الوطن العربي

إذا كان المقصود بالديمقراطية هو الطريقة التي تمارس بها السلطة السياسية، والمبنية على عمودين أساسيين: احترام حقوق الإنسان والمواطن كحق التعبير الحر، وحق انتخاب الحاكمين ومراقبتهم‏[33]، فإنها ظلت كمفهوم من اللامفكر فيه في الثقافة العربية الإسلامية‏[34]. فلا نكاد نعثر في الفكر السياسي الإسلامي على أبواب خاصة بالشورى أو الديمقراطية أو العدل بالمعنى السياسي الدنيوي للكلمة، في حين حضر بقوة المعنى الأخروي‏[35]. لكن هذا الغياب في الثقافة السياسية العربية والإسلامية، لا يعني استحالة تحقيق المفهوم اليوم، فالأصل أن القرآن والسنَّة يشجعان على الشورى والعدل، وهو ما يمكن أن يشكل نقطة الانطلاق لفكر جديد يؤسس للديمقراطية في مواجهة أنظمة غير ديمقراطية قائمة في الواقع.

لقد سادت الأنظمة غير الديمقراطية في الدولة القطرية لما بعد الاستقلال في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وباءت كل محاولات التحديث السياسي بالفشل، فهيمن رأي الزعيم السياسي على الجميع، وانتهكت حرية التعبير وغابت إرادة الشعوب، مع استعمال الآليات الديمقراطية بشكل سطحي وبراغماتي يضمن استمرار الدكتاتورية.

في ظل هذا المناخ غير الديمقراطي، عمدت الدولة في السياق العربي، إلى التضييق على كل محاولات الحوار بين المعارضين، باعتبار أن مصلحتها تكمن في الصراع بينها وليس التوافق والتفاهم. لذلك فهي لم تتردد في الضغط على المعارضين الإسلاميين وعلى العلمانيين على حد سواء. وما يوضح ذلك أن أغلب الندوات واللقاءات التي تمت بين هذه الأطراف كانت إما سرية وإما برعاية أجنبية. في المقابل، عمد الزعماء إلى إذكاء الصراعات والتطاحنات بين هذه التيارات، وفق مفهوم العصبية الخلدوني.

ففي المغرب مثـلاً، تم الحوار العلماني – الإسلامي على مدى العقود المنصرمة في إطار حكم مطلق، وغياب الديمقراطية في الحياة السياسية، مما مكن السلطة من استغلال الصراع بين الطرفين لتقديم نفسها كبديل وحيد لكل الأطراف، والإمساك عبر ذلك بالتوازنات الكبرى، حيث ساهمت السياسة الرسمية المتبعة في المجال الديني والتربوي في الانتشار المكثف للفكر السلفي وللتيارات الإسلامية في مواجهة المعارضة اليسارية بمختلف فصائلها وتياراتها، كما سعت الدولة بعد ذلك إلى استعمال اليسار والفكر الحداثي لكبح جماح التطرف الديني بعد أن استفحل وأصبح مصدر تهديد للسلطة‏[36].

وفي تونس واجهت السلطة تحركاتِ «هيئة 18 أكتوبر» التي شُكلت كفضاء للتوافق والحوار بين العلمانيين والإسلاميين، باستعمال العنف، سواء في تفريق التجمعات التي دعت إليها، أو لمنع اجتماعات أعضائها. أما في مصر، فكان الفضاء أكثر دكتاتورية، حيث قمع الإسلاميون منذ ثورة عبد الناصر، وقمع اليساريون بعد ذلك في عهد السادات ومبارك. فقلَّت بذلك الحوارات بين الطرفين.

2 – المجال السياسي العربي وغياب الاستقلالية

سنعمد هنا إلى استحضار ثلاثة مفكرين اتفقوا حول فقدان المجال السياسي العربي الاستقلالية رغم اختلافهم في السبب وهم برتراند بادي ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي.

قدم لنا برتراند بادي بعض الأجوبة حول أزمة التواصل السياسي في العالم الإسلامي، وهي أجوبة ما زالت صالحة رغم الحراك الاجتماعي القوي الذي عرفته المنطقة. أكد بادي أن سبب نجاح النموذج الأوروبي هو استقلالية المجال السياسي عن المجالات الأخرى، ذلك أن هناك عملية تاريخية أسفرت عن ظهور مجال جديد في الحياة الاجتماعية هو المجال السياسي الخاص بالممارسة السياسية، ينافس الأمير والكنيسة، ويقدم نفسه كبديل لهما في الحياة السياسية. وهنا ظهرت فكرة التعاقد بين الأمير والشعب كمصدر لمشروعية سلطته. وتبعاً لهذا السياق ارتبط ميلاد المجال السياسي بفكرة العقد وسموّ القانون وفكرة التمثيل لضمان خروج السياسي عن المجال الديني‏[37].

في المقابل لم تعرف الحضارة الإسلامية استقلالية المجال السياسي – حسب برتراند بادي، فالمدينة الإسلامية ظلت مرتبطة بالأمير، ولم تطمح أبداً إلى تشكيل مجال سياسي خاص ومستقل. لذلك فهي لم تمنح المواطنين فرصة التدريب على العيش في التجمعات المدنية، ومهمة تقسيم العمل الذي زوَّد المدينة الغربية بفضيلتها التحديثية، ولم تكن مركزاً لتشكيل برجوازية تطمح للقيام بوظيفة تمثيلية أو تتعلم تدريجياً على ممارسة السلطة السياسية، كما تتعلم إدارة مطالبها ومصالحها المادية. بل على العكس من ذلك نمت المدينة الإسلامية عن طريق إعادة تشكيل المجموعات المذهبية والقبلية التقليدية، أي على العصبية‏[38].

وقد انتقد محمد عابد الجابري هذه الخلاصة، وقال إنه لا يمكن إثبات فرضية أن قيام الكنيسة في أوروبا كان سبب النجاح في تأسيس المجال السياسي المستقل، وأن غيابها في العالم الإسلامي كان سبب الفشل، فالعديد من الدول في آسيا، كاليابان مثـلاً، عرفت التطور رغم أن ليس بها كنيسة. بل إن هناك تفسيراً أكثر واقعية للتطور في أوروبا، هو أن الصراع بين الأطراف كان داخلياً، ولم يكن هناك تدخل خارجي كما وقع في العالم الإسلامي. بل الخوف من الآخر على مستوى الذاكرة – المقصود هنا بالآخر العالم الإسلامي – دفع إلى الائتلاف والتحول، في حين في العالم الإسلامي لازم التدخل الخارجي كل التطورات وأثر فيها، منذ الحرب الصليبية إلى التوسع الأوروبي الحديث‏[39]. وهو ما تكرر اليوم مع الثورات التي عرفتها عدة دول، فكان التدخل الخارجي عامـلاً في إفشال عمليات التحول نحو الديمقراطية.

في المقابل، حدد الجابري العديد من المحددات المؤثرة في السلوك السياسي في المجال العربي – الإسلامي، والتي عرقلت مسلسل التطور، وهي:

أ – القبلية: يقصد بها الجابري القرابة والعصبية الخلدونية والعشائرية، كسلوك سياسي يعتمد على ذوي القربى بدل الخبرة أو التمثيل الديمقراطي. فالانتماء إلى مدينة أو جهة أو طائفة أو حزب، هو وحده المحدد في ميدان الحكم والسياسة.

ب – الغنيمة: دور العامل الاقتصادي في الدول التي يكون فيها الاقتصاد مبنياً على الخراج والريع. والخراج هو كل ما تأخذه الدولة من المجتمع، ما يفرضه الغالب على المغلوب من ذعائر وأتاوات وضرائب. أما الريع المقصود به كل دخل يحصل عليه الشخص من ممتلكاته أو من الأمير دون الحاجة إلى القيام بعمل إنتاجي.

ج – العقيدة كمحدد سواء كان دينياً أو أيديولوجياً، وأخذ مفعولها على صعيد الاعتقاد والتمذهب. ليس المهم هنا في العقيدة المضمون، بل القدرة على التحريك والتعبئة. وهي عقيدة توجه سلوك المعتقد، وتدفعه إلى الانتحار أو التظاهر، والتضحية من أجل الفكرة سواء كانت دينية أو مادية‏[40].

واستنتج الجابري أن هذه المحددات تسكن اللاشعور السياسي العربي، والمخيال الاجتماعي، لذلك ففي كل مرحلة تاريخية تظهر لتعرقل أي تقدم نحو التطور، لذلك فإقرار النظام الدستوري الديمقراطي يتطلب تجديد العقل السياسي العربي، ولن يكون ذلك إلا بتجديد محدداته الثلاثة بإحلال بدائل تاريخية معاصرة. وقد اكتفت الحركات الحداثية التي عرفها العامل العربي في قمع هذه المحددات، وجعلها ضمن المكبوت الاجتماعي – السياسي دون تجاوزها. والنتيجة أنه مع النكسة والإحباطات عادات هذه المكبوتات بقوة، فعادت العشائرية والطائفية والتطرف الديني لتسود الساحة العربية. إذاً، لا بد لتحقيق التطور من تحول القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي واجتماعي، وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي وخضوع الجميع للقانون ودولة المؤسسات‏[41].

إن هذه المكبوتات التي أوردها محمد عابد الجابري في مشروعه الناقد للعقل السياسي العربي، ما زالت مؤثرة في الوقت الراهن، وتحول بين التواصل والحوار بين مختلف الأطراف، من أجل بناء تصور متوافق عليه حول مشروع بناء الديمقراطية وحقوق الإنسان.

تحدث عبد الله العروي من جهته عن ضرورة استقلالية المجال السياسي المغربي لتحقيق أي تحول ديمقراطي، بقوله: «التأويل الديمقراطي هو بالأساس تحرير السياسة، إنقاذها من كل ما ليس منها، أكان أعلى أو أبخس قيمة منها: فصلها عن كل منطق لا يناسبها. بتجريد السياسة فكراً وعملاً، من الزوائد والشوائب، تتحرر المجالات الأخرى من همّ السياسة، تتجه إليها الهمم، تقتحمها المواهب، تسمو بها الجهود: الرياضة وهي الاختبار المستمر لما يستطيعه الجسم البشري، الفن وهو اختبار ما يستطيعه الخيال، العلم وهو اختبار ما يستطيعه الحذق، الفلسفة وهي اختبار ما يستطيعه بالعقل، التقوى وهو اختبار ما تستطيعه الإرادة… إلخ. تستقل هذه المجالات عن السياسة وتستقل السياسة عنها، فيتم النبوغ والتأقلم في هذه وفي تلك، إذا طغت السياسة على الكل، صارت وجرت الكل معها إلى الحضيض»‏[42] فلا بد لضمان نبل السياسة من استقلالية مجال ممارستها، وإلا فسدت وانتقلت إليها الأمراض والشوائب الموجودة في المجالات الأخرى.

وأضاف عبد الله العروي، أن معرفة واقع السلطة والدولة في العالم الإسلامي، يتطلب إدراك المادة الخام التي بها وعليها تجري السياسة، أي نفسانية الفرد، فكرته عن الحكم والدولة. كل هذا ناشئ عن تربية لا تقوم بها الدولة وحدها، بل إن المسؤولين عنها هم الأب في البيت والإمام في المسجد والشيخ في الزاوية، وهؤلاء متأثرون بالمؤلفات الشرعية، بتخيلات الدولة النموذجية، بما سماه العروي الطوباويات الإسلامية‏[43].

من خلال كل هذه الدراسات، فالمجال السياسي العربي مليء بالعقيدة والأيديولوجيات، التي تجعل الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين عقيماً، فكل متحاور يدخل النقاش بأحكام قيمة مرتبطة بانتماءاته الأيديولوجية، مع رفض التخلي عنها في الحوار، وهو شرط سبق أن وضعه هابرماس لإنجاح العملية التواصلية في الفضاء العام. وإذا كانت أزمة التواصل السياسي هنا مرتبطة بالفضاء الذي يجرى فيه الحوار والذي يتسم بغياب الديمقراطية وحرية التعبير، وهيمنة الأيديولوجيات، فإن الأزمة هي أيضاً أزمة ذاتية مرتبطة بالمتحاورين الذين تغلب عليهم الدوغمائية والانغلاق ورفض التسامح.

 

ثانياً: الحوار الإسلامي – العلماني وغياب التسامح وهيمنة الازدراء

من خلال تتبُّعنا الندوات واللقاءات التي كان فيها الحوار بين العلمانيين والإسلاميين في الوطن العربي، استنتجنا أن هناك استعمالاً لأسلوب تهكُّمي بين الطرفين. فالإسلاميون ينعتون العلمانيين بالملحدين والخارجين عن الطريق والضالّين والكفرة، وفي المقابل العلمانيون ينعتون الإسلاميين بالظلاميين والجهلة والماضويين واللاعقلانيين. وقد رأينا كيف جعل هابرماس من الاعتراف بالآخر كما هو، شرطاً ضرورياً لإنجاح العملية التواصلية، مع الابتعاد عن كل الألفاظ التي تسيء للآخر.

ففي الحوار القومي – الديني، نجد فكرة يستعملها الإسلاميون في مواجهة القوميين، وهي أن القومية مستوردة، والمقصود بها شرذمة الأمة الإسلامية، والاشتراكية زحف أحمر يرمي إلى القضاء على المقومات الباقية للاستمرار والاستقرار في الأوطان الإسلامية، وشعارات الحداثة والديمقراطية والعلمنة شعارات مستوردة لضرب المسلمين في دينهم وثقافتهم الموروثة وهويتهم وتاريخهم، والحل هو حتمية الحل الإسلامي المتمثل بتطبيق الشريعة الإسلامية‏[44]. فقد أكد طارق البشري – أحد المشاركين في هذا الحوار – أن أصل العلمانية هو الغرب، وأن هؤلاء العلمانيين ظلوا غرباء على المجتمعات العربية – الإسلامية، التي كانت تقاوم التدخلات الأجنبية بمرجعية إسلامية‏[45]. إنه فكر علماني وافد من الغرب، فسمى الإسلاميين أصحاب الفكر الموروث، والعلمانيين أصحاب الفكر الوافد الغريب. إن الإسلامية السياسية تتجه بأصل قيمتها وطبيعة تكوينها ضد النزعة التغريبية‏[46]. في نفس السياق، مهد منير شفيق كتابه ردود على أطروحات علمانية بهجوم عنيف على العلمانيين «فكر علماني متغرب»‏[47].

في المقابل، لم يتردد العلمانيون في التهكم بالإسلام، واستغلال بعض أحداث العنف والفتن التي عرفها ماضي المسلمين، للربط بين الإسلاميين والعنف، خصوصاً في ظل الإرهاب الذي يمارسه اليوم الإسلام الجهادي في العديد من المناطق في العالم. ففرح فودة مثلاً شن هجوماً عنيفاً على ماضي المسلمين، ولم يستثن حتى عهد الخلفاء الراشدين، حيث قال في كتابه قبل السقوط: «… إذا جاز أن يقال هذا عن عهد الخلفاء الراشدين، فإنه يجوز أن تقول ما هو أكثر، حين تتصدى بالتحليل والنقد لعصور لاحقة، ارتفعت فيها رايات الحكم الديني، وادعى أصحابها أنها وجه الإسلام الصحيح، وأنهم الحافظون للكتاب والمحافظون عليه، والتابعون للسنّة والمتابعون لها، وهم بالرغم من ذلك يستحلون القتل في غير حق، والظلم بلا داع، ويدخلون على المؤانسة أبواباً لم يسمع بها الصدر الأول في الإسلام، لعجز عن أن يدخلها في باب من أبواب الجاهلية..»‏[48].

وقد رُدّ على هذا الكتاب من طرف عبد المجيد صبح في كتاب تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه‏[49]، قبل أن يرد عليه منير شفيق بكتاب بين النهوض والسقوط قائلاً: «… وهذا ما سمح لفريدريك أنجلز على سبيل المثال، أن يسوغ كل ما استخدم من أساليب وحشية لإقامة نظام العبودية، لأنها ضرورة تاريخية للخروج من عصر الوحشية»‏[50]، مؤكداً بذلك أن تاريخ الماركسية هو تاريخ العنف، ووصف فيه العلمانيين بالسذّج‏[51].

وفي المغرب، اتهم أحمد عصيد، أحد المشاركين في الحوار الإسلامي – العلماني، الإسلاميين بأنهم غير ديمقراطيين، بقوله: «في حوارنا مع الإسلاميين المغاربة حول مفهوم الديمقراطية، قلنا إن لديهم عطباً في استعمال هذا المفهوم لمآرب سياسية محدودة دون أن يؤمنوا بقيمه وأسسه ومبادئه»‏[52] كما طرح عصيد الكثير من الأسئلة المستفزة للمتحاور الإسلامي‏[53]، من قبيل:

1 – … إن اللحظات التي تصور على أنه «عصر ذهبي» للإسلام، التي هي مرحلة النبوة والخلفاء الراشدين، كانت أيضاً مرحلة حروب فظيعة واقتتال شنيع وأحداث مهولة ولم تكن مرحلة سلم وحضارة وازدهار؟

2 – إذا كان القرآن يضم نصوصاً منسوخة ومتجاوزة منذ 1400 سنة باعتراف الفقهاء أنفسهم، فلماذا ظلت هذه النصوص موجودة ضمن الكتاب تُحفظ وتروى وتشرح حتى الآن؟ ألا يعني هذا في العمق أنها ليست «منسوخة» وأن من حق بعض المسلمين اعتبارها مرجعية لهم واعتمادها في سلوكاتهم؟ ما هو الموقف الواضح والصريح من النصوص التي تستعمل في الارهاب وإيذاء الناس والإضرار بمصالحهم؟ ولماذا يطالعك المسلم بالآيات الإيجابية، ويخفي غيرها عندما يكون في وضعية دفاع، ثم يفاجئك بعد ذلك بنصوص إرهابية المحتوى بمجرد ما يصبح في حالة قوة؟

في نفس السياق، يقول أحد اليساريين مندداً بخروج الجماعة من حركة 20 فبراير: «لم يفاجئني خروج حركة العدل والإحسان، بقدر ما فاجأني ذلك التحالف السياسي الميتافيزيقي الذي حدث بين حركة قروسطية ثيوقراطية، وحركات ظلت إلى وقت قصير تقدم نفسها كممثل للحداثة والانفتاح»‏[54]. فالمشروع الإسلامي هو مشروع ماضوي‏[55].

في المقابل، نجد العديد من الإسلاميين لم يترددوا في وصف كل من يخالف رأيهم بالضلالة والكفر، ففي كتاب حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، يصف عبد السلام ياسين محاوريه من الديمقراطيين كما يلي: «… الفضلاء الديمقراطيين الذين نحب أن نحاورهم طبقة واحدة مع المتسلطين المستبدين..»‏[56] يضيف قائلاً: «وعلى محك التجربة وفي ساحة الصراع وسوق السياسة سيلتقي جند الله، ويصطدم جند الله ويواجه جند الله بدعوات أخرى تربيتها وتنظيمها ومشروعها واقتراحها على الشعب منصوبة على غير الأساسيات التي جعلت منا على مدى قرون أمة عظيمة. أولئك هم الفلول المبثوثة على أرض المسلمين من متقاعدي الثورية التقدمية، وأرامل الأيديولوجية التي خرَّ مثلها الأعلى في العدل، وخمد أوار حماس أبنائها النضالي مع انهيار الإمبراطوريات السوفياتية. أولئك في بعض بلاد المسلمين لا يزال معهم من الوقاحة بل من بلادة الحس وتخلُّف الفكر، ما يجعلهم مصرّين على التقاط الأطروحات الملفقة البالية التي طرحها أصحابها ومنشئوها في مزبلة التاريخ، ليقترحوا على الأمة خرقاً تافهة ميتة ينفخون فيها لتصبح في أوهام عامة البلداء رايات نصر»‏[57]. إنها عبارات تقطع كل أواصر التواصل بين الطرفين.

إننا أمام جدل فكري لا يحترم الآخر، ويستعمل كل الأحداث من أجل النيل منه، وهو ما أثر في الخطاب الأيديولوجي والسياسي بين المناضلين من مختلف الاتجاهات، التي برز فيها هذا الجدل بشكل قوي، ليتحول في العديد من الحالات من عنف لغوي إلى عنف مادي مباشر. وما تشهده الساحات الجامعية في الوطن العربي من عنف بين الإسلاميين والعلمانيين هو دليل على ذلك. إنه عصر المواجهة وليس عصر الحوار والتواصل.

ثالثاً: صعوبة التفاهم وإذكاء الاختلاف بين الإسلاميين والعلمانيين

إن التفاهم هو محور نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس، فشتان إذاً ما بين الاتفاق الذي هو سليل التفاهم، والتأثير الذي هو سليل الإكراه والضغط. وهنا يطرح التساؤل حول كيفية تحقيق التفاهم بين أطراف لديها اختلافات مرجعية جوهرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. يرد هابرماس بالتشديد على أنه للتوفيق بين الثقافات المتعددة في إطار هذا التواصل، هناك ثلاثة اتجاهات لحل مشكل التعارض:

1 – إخضاع التعدد الثقافي لمعايير الإدارة التشاورية للدولة من طريق الحوار، مع البحث الدائم عن التوافقات والتوازنات كلما اختل ميزان القوى بين الثقافات.

2 – المطالبة بمراجعة التراث والتقاليد لنفسها من أجل الانفتاح على الغير، وممارسة النقد الذاتي، وذلك يجعل ثقافة الأغلبية خاضعة للثقافة السياسية حينما تتفاعل لا إكراهياً مع ثقافات الأقليات.

3 – لتحقيق التعايش بين الثقافات لا بد من الاعتراف المتبادل لكل المواطنين في ثقافة سياسية وحيدة هي الثقافة التشاورية الديمقراطية.

4 – ضرورة الوصول دائماً إلى حلول وسطى بين مختلف الثقافات؛ حلول مبنية على أسس عقلانية ملبية لمصالح الجميع عن طريق النقاش والحوار والمحاججة‏[58].

سنركز هنا على تيمتين أساسيتين هما: علاقة الدين بالسياسة، والحرية؛ لمعرفة مدى قدرة المتحاورين على التفاهم حول المعنى.

1 – علاقة الدين بالسياسة

عرف الفضاء السياسي العربي حواراً صاخباً حول علاقة الدين بالسياسة، حيث يتمسك الإسلاميون بدور أساسي للدين في الحياة السياسية، باعتبار أن الإسلام يهتم بالدين والدنيا. في حين يعتبر العلمانيون أن حضور الدين في السياسة خطر على قيم الديمقراطية. فحسب برهان غليون، الإسلاميون يؤكدون الارتباط الحتمي والطبيعي بين الإسلام كعبادة والإسلام كنظام حكم، والمؤمن لا يستكمل إيمانه إلا إذا وحد بين ممارساته العبادية وممارساته الدنيوية. أما المذهب العقلاني فيرى أن الإسلام دين يخص العلاقة بين المؤمن وربه، وأن النظم السياسية هي نظم دخيلة على الإسلام، وبالتالي المؤمن من حقه أن يختار بعقله النظام السياسي الذي يرغب فيه‏[59].

في ما يتعلق بالحوار الفكري حول هذا الموضوع، فقد دشن اثنان من مثقفي العرب المرموقين، هما حسن حنفي ومحمد عابد الجابري، هذا الحوار وتوصلا إلى نتيجة متشابهة، وإن لم تخلُ من مفارقات. فحسن حنفي انتهى إلى أن «الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية»‏[60]. ثم وافقه الجابري بلفظ مختلف، فتوصل إلى أن «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة»‏[61]. ولعل سبب هذا التوافق النسبي هو التقارب الأيديولوجي بين المفكرين، باعتبار أن حسن حنفي يصنّف ضمن اليسار الإسلامي، ومحمد عابد الجابري من اليساريين الذين قاموا بقراءات متجددة للتراث الإسلامي.

وقد واصل كل من برهان غليون ومحمد سليم العوا هذا الحوار الفكري في كتابهما النظام السياسي في الإسلام، حيث أكد الأول، أن التنظيم السياسي والاجتماعي يتطلب قواعد عقلانية حداثية لدرء الخلافات وحل المشاكل، يتطلب وضعها استعمال العقل. لكن هذا لا يعني أن الإسلام كدين ضد هذه القواعد العقلانية، مع التمييز بين الإسلام كنص (القرآن) والإسلام كاجتهادات فقهية، استعملت في العديد من الفترات لإنتاج نظم أوتوقراطية مناقضة للديمقراطية. إن المطلوب من الحركات الإسلامية اليوم هو القيام بالنقد الذاتي وبالاجتهاد في النص من أجل بناء ديمقراطية حقيقية تتناغم مع متطلبات العصر، لكن شرط أن يبقى هذا الاجتهاد العقلي نسبياً وليس مطلقاً ومقدساً، وبذلك ستنجح هذه الحركات في الانتقال من مستوى الممارسة السياسية الملحقة بالدعوة الدينية، إلى مستوى الدعوة الفكرية المؤسسة لسياسة ديمقراطية جديدة إنسانية وعقلانية في الوقت نفسه‏[62].

أما محمد سليم العوّا، فقد انطلق من أن الإسلام كنص لا يتضمن نظام حكم محدد المعالم والتفاصيل، يجب على المسلمين الالتزام به والوقوف عند حدوده في كل العصور، لكن المقصود بالإسلام كدين ودولة هو قبول المرجعية الإسلامية العامة، التي تسمح بتعدد الآراء وتنوعها في الشأن السياسي. ليخلص أن المسألة السياسية كلها أو جلها مسألة اجتهادية ظنية، وهي بذلك تقتضي اجتهاداً متجدداً في كل عصر تتحقق به مصالح أهله‏[63].

هنا يتضح أن هناك توافقاً بين المفكرَين، لكنه توافق لا يخلو من اختلاف. هو توافق بين المفكرين الديمقراطيين الإسلاميين والمفكرين الديمقراطيين العقلانيين حسب برهان غليون. لكن مع تأكيد هذا الأخير أنه يجب عدم الاستمرار على درب التعلق بحبال وهم الدولة الإسلامية حتى في شروط تقريب مفهومها من مفهوم الديمقراطية الحديثة وقيمها التعددية، لأن ذلك سيقود إلى إفراغ الديمقراطية من محتواها. والحل هو أن تصبح الحرية هي المبدأ الناظم لحياتهم الأخلاقية والسياسية‏[64]. في المقابل نجد محمد سليم العوا يدعو برهان غليون إلى إعادة النظر في بعض المفاهيم كـ «الذهنية القطيعية» و«تجميد العقل ودفن الضمير» والتحرر من مسلّمات الانتقاد الفكري الأوروبي لآثار السيطرة الكنسية في القرون الوسطى، وإسقاطها على المجتمع الإسلامي‏[65].

أما في ما يتعلق بالحوار السياسي بين الطرفين، ففي إطار هيئة 18 أكتوبر بتونس، – التي تحدثنا عنها سابقاً – نجد توافقاً داخل الهيئة حول علاقة الدولة بالدين، رغم أن ذلك جاء عامّاً، حيث جاء في أحد بيانات الهيئة: «وإزاء هذه التحديات تلتزم هيئة 18 أكتوبر بالدفاع عن رؤية للعلاقة بين الدولة والدين والهوية تنهل من التفاعل الخلاق بين مقومات حضارتنا العربية الإسلامية ومكتسبات الإنسانية الحديثة، وخاصة حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية، باعتبارها شرطاً أساسياً من شروط التقدم والتنمية والكرامة… إن من واجب الدولة الديمقراطية المنشودة إيلاء الإسلام منزلة خاصة، باعتباره دين أغلبية الشعب دون أي احتكار أو توظيف، مع ضمان حق كافة المعتقدات والقناعات وحماية حرية أداء الشعائر الدينية»‏[66]. لكنه توافق نسبي، فرضته ظروف المواجهة مع النظام. فما إن سقط حكم بن علي حتى عاد كل طرف إلى شعاراته القديمة، الحل الإسلامي في مقابل الحل العلماني. ولعل ما قلل من قيمة هذا التوافق أن العديد من التيارات من الطرفين العلماني والإسلامي رفضوا المشاركة في الهيئة، ولم تلتزم بمخرجاتها. لكن رغم ذلك كان الحوار في ظل الهيئة تدريباً للطرفين سهّل عملية التوافق في الحوار الوطني بعد الثورة، بعد استفحال الصراع والتطاحن من جديد.

في ندوة الحوار القومي – الديني بالقاهرة وعلاقته بموضوع تطبيق الشريعة، أكد محمد عمارة أن العلمانية وتطبيق القانون الوضعي الأجنبي كان بتدخل الدول الاستعمارية، وحان الوقت لكي يطالب الجميع – إسلاميين وعلمانيين – بتطبيق الشريعة الإسلامية في القانون الوضعي لتحقيق الاستقلال الوطني وإعادة الشرعية والمشروعية لقانون الأمة الطبيعي‏[67]. لكن هذا لا يعني أن الدولة الإسلامية دولة دينية كما كانت في العصور الوسطى في أوروبا، وليست دولة مدنية علمانية كما هي في العصر الحديث الأوروبي. إنها دولة إسلامية مدنية، مصدر السلطات هو الشعب لكن شريطة الالتزام بالشريعة، بألا يحل قانون حراماً ولا يحرم حلالاً‏[68]. في نفس الاتجاه أكد محمد سليم العوّا أن الشعوب الإسلامية تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الحل هو الانتخابات وصناديق الاقتراع‏[69].

في المقابل، وفي نفس الحوار، رد عبد الإله بلقزيز على أفكار الإسلاميين، بالتأكيد أن الهدف من المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية هو هدف سياسي محض، هو تحقيق المكاسب السياسية، وما يوضح ذلك أن أغلب الإسلاميين الذين اندمجوا في اللعبة السياسية في الوطن العربي تنازلوا عن هذا المطلب بمجرد الوصول إلى المشاركة السياسية، وأن المشكل الجوهري هو مشكل تحديد ما هي الشريعة، هل هي القرآن المقدس غير القابل للتعديل، أم الاجتهادات الفقهية التي لم تستطع إعمال العقل بعد في النص‏[70]. وقد وافق الجابري هذا الرأي من خلال تأكيده أن مطلب تطبيق الشريعة هو مطلب سياسي محض، وأكد أن تطبيق ما جاءت به الشريعة من حدود، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول، وما دامت هذه الأسباب منتفية في العصر الحالي، فلا داعي لتطبيقها، واستدلّ بفترة حكم المهدي بن تومرت الذي عمل على تطبيق الحدود، وهو ما ولّد الفوضى في الدولة، فاضطر الخليفة الموحدي عبد المومن إلى تعويض الحدود بعقوبات أخرى بعد استشارة الفقهاء‏[71].

لم يختلف الموقف كثيراً في المغرب بين الطرفين، فالعلمانيون يتهمون الإسلاميين بأنهم يعتبرون مرجعيتهم مطلقة، تستند إلى الدين الذي هو من مصدر إلهي متعالٍ. وقد حدا ذلك على اعتبار الدين المرجعية الوحيدة التي ينبغي الانطلاق منها‏[72]. لذلك يجب الفصل بين الدين والسياسة، ويجب إذاً أن يخرج الدين من المجال السياسي بشكل عام، وأن يصبح أمراً خاصاً‏[73].

في المقابل يرى الإسلاميون المغاربة، أن للدين دوراً في الحياة العامة، كما أن له دوراً في الحياة الخاصة، ويرون أن هذا الدور لا يتم عبر الإكراه. كما تطالب هذه التيارات بإعادة الاعتبار للشريعة كمصدر للتشريع. فلكل مجتمع ثوابته، ومنها تستنبط ما يسمى مرجعيات صياغة القوانين. فالمطلوب من العلمانيين التخلي على فكرة أن العلمانية هي الحل. لا يمكن تحييد الدين في مجتمعات متدينة.‏[74] كما يجب إزالة إمارة المؤمنين وتحرير العلماء من التبعية للمؤسسة الملكية من أجل أن يكون لهم صوت حر. الشريعة إذاً هي المصدر الأساسي للتشريع؛ مع التمييز بين المجال الدعوي الذي يجب عدم توظيفه في السياسة، ومجال تدبير شؤون الدولة كمسألة إنسانية لا تدخل عليها القداسة‏[75].

في نفس التيار يرى عبد السلام ياسين أن «اللاييكية هي أجمالاً فصل الدين عن الدولة، [وهذا] يعني آخر المطاف الحكم بما تهواه النفوس البشرية وتتوحد بالإجماع أو بنصفه وثلثه وأقله عليه. واللاييكية لصيقة الديمقراطية وضجيعتها ووجهها وقفاها ولازمتها»‏[76].

إذاً من خلال هذا النقاش، فالعلمانيون يرون أن استعمال الدين في السياسة متعارض مع قواعد الديمقراطية. في المقابل يرى الإسلاميون أن الدين أساس ممارسة السياسة في المجتمع الإسلامي، وهو ما يعني أن التفاهم لم يتم حول علاقة الدين بالسياسة والدولة، فكل طرف اكتفى بالتعبير عن مواقفه الطبيعية المنسجمة مع مرجعيته دون تقديم تنازلات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النقاش الفكري الأكاديمي أدى إلى توافقات نسبية كما رأينا.

2 – الجدل حول مفهوم الحرية

في ندوة «الحوار القومي – الديني» السالفة الذكر، نجد نوعاً من التوافق بين المتحاورين حول مطلب الحرية السياسية، لأن الطرفين عانيا الاستبداد. لذلك دعا راشد الغنوشي في كلمته إلى اعتبار الحرية مبدأً مقدساً، ورفض الاستبداد السياسي في كل أشكاله وتلويناته الأيديولوجية‏[77]. كما دعا فهمي هويدي إلى جعل قضية الحرية وحقوق الإنسان مجالاً يلتف حوله الطرفان لمحاربة الاستبداد‏[78]. وهو توافق يكاد يكون نقطة الالتقاء الوحيدة في الحوار بين الطرفين في الوطن العربي. لكن هذا التوافق يظل توافقاً إجرائياً تتطلبه ظروف المواجهة مع الأنظمة القائمة.

في حين اشتد الخلاف بين المناضلين من التيارين حول مفهوم الحرية؛ فالعلمانيون يتهمون الإسلام بأنه ضد الحرية، في حين يرى الإسلاميون أن الحرية بمعناها الغربي غريبة عن الثقافة الإسلامية، وبالتالي يجب وضع حدود عليها، إنها الحرية في إطار الشرع. وقد تناول الفكر السياسي الإسلامي هذه النقطة بالكثير من التفصيل منذ القدم. يقول طارق البشري: «فالحريات والحقوق كما تضمنتها المواثيق الدولية والقوانين الوضعية هي حقوق نسبية ينبغي أن تقف عند حدود ما هو مطلق من ثوابت الدين، خضوع النسبي للمطلق»‏[79].

وفي الحوار الإسلامي – العلماني بالمغرب، يؤكد العلمانيون أن «الحريات مدنية وليست مطلقة، إذاً هي محدودة لأنه ليس من حق أي أحد أن يكون حراً إلى درجة المساس بحق غيره. حين يقول شخص ما بأن حريتك تستفزه، فلا يمكن بناء الديمقراطية، لأن الأخيرة تعني قبوله كما هو لا كما ينبغي أن يكون. ليس من حقنا أن نضع حدوداً للحرية، ما لم تمسّ حرية الآخرين… فالأيديولوجيا الدينية التي يتبناها الإسلام السياسي، لا تتوافق نهائياً مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبار أن هذه الأيديولوجيا ترتكز على الشريعة المكتملة بشكل مطلق. لذلك فإن وضع القوانين كقاعدة من قواعد الديمقراطية أمر مستحيل، لأن الله سنَّ كل القواعد، كما أن الأيديولوجيا الإسلامية تعتمد على تمييز ديني، وهو ما يتناقض مع حقوق الإنسان‏[80].

وقد حاول الإسلاميون الرد على ادعاءات العلمانيين، وخصوصاً في ما يتعلق بحرية المعتقد وحرية المرأة، بالتأكيد أن «حرية الاعتقاد من العناصر القوية التي جاء بها الإسلام. فحتى الحديث النبوي الذي أورد حد المرتد، فإن الحديث فيه عن «المارق عن دينه المفارق للجماعة»، أي أن الأمر يرتبط بسياق سياسي معين، ما يسمى بالخيانة العظمى»‏[81]. أما في ما يتعلق بحقوق المرأة فيرى الإسلاميون أنها محددة بشكل نهائي في النصوص الدينية القطعية والصريحة، ولا يجوز اللجوء إلى مرجعيات أخرى أجنبية في القضايا المحسومة شرعاً. «إن الحريات الفردية لا تعني الغابة وأن الأخلاق العامة ماشي تنميط، لأن في تنميط المجتمع استبداد»‏[82].

يقول عبد السلام ياسين حول حقوق الإنسان «… والحل ليس في استيراد فكرة [حقوق الإنسان] لم نحضر ميلادها وقانون ما تربى في حجر تاريخنا، ولا نزل شرعة من ربنا ومنهاجاً من نبينا»‏[83]. يضيف قائلاً: «حقوق الإنسان في الخطاب العالمي أقدس المقدسات – لفظاً واحتجاجاً – في دين الديمقراطية… لذلك فكل حديث عن حقوق الإنسان، لا يوثق المسألة بوثاق الوفاء بالعهود مروءة وديناً إنما هو مناغمة سياسية»‏[84] يقول حول الديمقراطية «… لولا أن الديمقراطية التي يتنادون بها (الطبقة المثقفة) تجهل الإسلام، ونحن لا ملتقى لنا مع أحد إلا على الإسلام. فهل يتزكى متزك معه فضل المعارف، وفضيلة حب الحرية، بفضائل الدين ليكون لنا معه لقاء؟»‏[85].

إذاً من خلال الإطلالة على هذه المواضيع الخلافية بين العلمانيين والإسلاميين، يتضح أن ما يحكم العلاقة بين الطرفين هو الصراع والصدام، الأمر الذي جعل لحظات الحوار قليلة، وحتى إن كان هذا النقاش غالباً ما يتحول إلى تبادل الاتهام، مما جعل فكرة قبول الآخر كما هو مستحيلة. كما أن لحظات الحوار بين الطرفين تشكل دائماً في استراتيجيات الطرفين لحظات لتهييج الأتباع والمناضلين وليس إقناع الطرف الآخر بالفكر. فالهدف النهائي لكل طرف هو إقناع الجماهير برأيه وليس إقناع الآخر، وهذا ما ساهم في التشنج والتطرف في الأفكار. فهذا أحد المشاركين في الحوار يقول: «لنكن واضحين: ليس هناك اتفاق بين الإسلاميين والعلمانيين. الديمقراطية مشروع؛ كيف نحميه؟ واش كاينة إمكانية الاتفاق على مشروع سياسي حداثي، يقوم على الديمقراطية بجميع أبعادها؟ ما نبقاوش نحلمو بالتوافق»‏[86].

في ندوة «الحوار القومي – الديني» أكد عصام العريان أن النقاش لم يؤدِّ إلى تقارب وجهات النظر في الموضوع، بل هناك من الكلمات من أعادت النقاش إلى سنوات، وكأن أي تراكم لم يتحقق في هذه الحوارات، حيث كان التوجُّس وسوء الظن هو السائد بين الفريقين‏[87]. نفس الفكرة شدّد عليها طارق البشري في نفس الندوة بقوله «عندما تتكرر الاعتراضات عشرات المرات، ويتكرر الإيضاح نفسه عشرات المرات حول تطبيق الشريعة، فإن ذلك لن يثير السأم فقط، ولكن قد يثير الشعور بعدم جدوى الحوار»‏[88]. وهنا يتفق العلمانيون والإسلاميون على نقطة وحيدة وهي استحالة التفاهم والتوافق.

لكن في المقابل رأينا أن هناك توافقاً نسبياً بين المفكرين برز في الحوار الذي تم بين محمد عابد الجابري وحسن الحنفي، وبين برهان غليون ومحمد سليم العوا، حيث برز التوافق حول العديد من النقط. كما أن التقارب يكون ممكناً كلما كان حول أمور تطبيقية لحل الأزمات، ولكن كلما تركز الحوار حول الأمور المجردة النظرية والأيديولوجية تعمق الشرخ‏[89]. وهكذا استطاع جانب من الإسلاميين وجانب من العلمانيين التوافق داخل حكومة بن كيران في المغرب حول المشروع الحكومي، رغم اختلاف المرجعيات.

ولتحقيق هذا التوافق الغائب في الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، قدم لنا محمد عابد الجابري المنهجية كما يلي: «إذا أراد الفيلسوف أن يناقش قضايا الدين فعليه أولاً أن يسلم بمبادئ الدين، وإذا أراد العالم الديني أن يناقش قضايا الفلسفة، أية فلسفة، فعليه أن يسلم أولاً بالمبادئ التي شيدت عليها هذه الفلسفة… وبهذه الطريقة يستطيع الفيلسوف أن يفهم الدين داخل الدين نفسه، ويستطيع رجل الدين أن يفهم الفلسفة داخل الفلسفة»‏[90]. وبذلك يتحقق الشرط الذي وضعه هابرماس لإنجاح التواصل، وهو أن يستعير كل طرف عقل الآخر لفهمه، وأن يعترف به كما هو بمعتقداته وقيمه.

كما تحدث وجيه كوثراني عن ضرورة «التخلي عن المنهج السجالي المماحك عند بعض الحزبيين الإسلاميين، وعند بعض الحزبيين القوميين الذين يجعلون من الشعار وسيلة ترهيب، هذا تحت شعار التكفير، وذلك تحت شعار التجهيل. إنه سجال ناتج من الخوف على المصير والهوية ناتج من فشل تجارب الماضي، لذلك يجب العمل على استيعاب الخلاصات من تاريخنا في إطار نوع من الوعي التاريخي، بدل تقديم عصا سحرية لحل المشاكل قد تكون علمانية أو إسلامية»‏[91]. هذه هي المنهجية التي يجب اتباعها للوصول إلى تفاهمات بين الطرفين حول القضايا الخلافية، باعتبار أن التحديات نفسها، بالنسبة إلى الجميع، وهي بناء الدولة الديمقراطية التي ظلت مِؤجلة في المجال السياسي العربي.

خاتمة

نختم هذه الدراسة بخمس خلاصات أساسية:

1 – لقد غاب مفهوم الديمقراطية في المجال السياسي العربي، وغابت معه حرية التعبير، وهو ما أدى إلى التضييق على الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. بل إن الأنظمة القائمة حاولت أن تحقق توازناتها على الصراع والتطاحن بين الطرفين، مما جعلها تعمل على خلق الفتن والمواجهات.

2 – لم ينجح السياسيون في الوطن العربي في ضمان استقلالية المجال السياسي عن المجالات الأخرى، كما كان الأمر في الدول الحديثة، لذلك هيمنت الأيديولوجيات بمختلف أنواعها، الدينية منها والعلمانية، وهو ما شوَّه التواصل بين الطرفين.

3 – اتضح من خلال دراسة مختلف الحوارات التي تمت بين الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي، سيادة التهكم والازدراء وغياب أواصر التسامح بين الطرفين، وهو ما حال دون تحقيق شروط الفعل التواصلي كما حددها هابرماس وهي الاعتراف بالآخر.

4 – إذا كان التفاهم هو الهدف الأسمى للتواصل لدى هابرماس، لتجاوز الأزمات القائمة، فإن الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين تميَّز بالانغلاق، حيث لم يتمكن الطرفان من الخروج من السياجالدوغمائي الذي يعيشون فيه. فعوض أن يكون الحوار أداة للتفاهم على أسس الدولة الديمقراطية المراد تأسيسها، أصبح أداة لتهييج الأتباع وإذكاء التطاحن والعنف بمختلف أشكاله.

5 – إن السبب الجوهري في تزايد العنف الذي يعرفه المجال السياسي العربي، هو غياب مقومات الحوار العقلاني بين الأطراف المتصارعة. فبعد الحراك الاجتماعي الذي عرفته المنطقة، دخلت دول كثيرة في دوامات من الصراعات والحروب الأهلية، فغابت لغة الحوار لتحل محلها لغة البنادق والرشاشات. لقد نجحت عدة دول، كتونس والمغرب، في ضمان نوع من السلم الاجتماعي النسبي، ولعل من العوامل المساهمة في ذلك هو فتح حلقات الحوار بين الطرفين الإسلامي والعلماني. وحتى إن لم يتمكن الطرفان من التوافق، وحتى وإن استمر الصراع والعنف اللفظي، والجسدي أحياناً، فإن ذلك شكّل فرصة للطرفين للتدريب على المحاججة، وهو ما ساهم في نجاح التحول. فهل يستطيع الطرفان في الدول الأخرى أخذ العبر؟