كانت نكبة 1948 حصيلة تميُّز التجمع الاستيطاني الصهيوني الأوروبي النشأة والثقافة والمدعوم من القوى الاستعمارية باعتباره أداة حفاظها على مصالحها في المشرق العربي، بحيث كان الانتصار الصهيوني حينها انتصار الإمبريالية وأداتها الصهيونية على واقع التجزئة والتخلُّف والتبعية العربي. ليس هذا النص استعراضاً تاريخياً لوقائع الصراع العربي – الصهيوني خلال سنوات 1949 – 2009، وإنما غايته عرضٌ وتحليل للمتغيرات ومستجدات الصراع ما بين توقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل وكل من مصر وسورية والأردن ولبنان سنة 1949 وفشل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2009، في محاولة الاجتهاد بالإجابة عن سؤال: هل سار الزمن خلال تلك السنين الستين لمصلحة الكيان الصهيوني ورعاته على جانبَي الأطلسي، وحلفائه الإقليميين، والقوى العربية التي لم تتناقض عدائياً معه، أم لمصلحة قوى الممانعة العربية، الوطنية والقومية والإسلامية، التي تنتمي إلى أمة عُرفت تاريخياً بقدرتها على النهوض من الكبوات، ودحر غزاة أرضها، واستيعاب من تبقى منهم في نسيجها المجتمعي العربي اللغة والثقافة والقيم وأنماط السلوك.
والثابت أن الهزيمة العسكرية في حرب 1948/1949 لم تؤدِّ إلى استلاب إرادة الممانعة والمقاومة العربية؛ وإنما استفزت المخزون الحضاري العربي ووسَّعت إطار مدركي الخطر الصهيوني على أمن واستقرار وتقدم الشعوب العربية كافة. وبدت بُعيد النكبة مؤشرات انحسار دور الطبقات الإقطاعية وشبه الرأسمالية مقابل صعود الطبقة الوسطى كما تنامي فعالية الحركة القومية، وبحيث امتزجت في وعي الطلائع الشابة الدعوة إلى التحرر السياسي والتغيير الاجتماعي، ورفض الأحلاف الاستعمارية مع شعار تحرير فلسطين وعودة اللاجئين.
ولقد كان عام 2009 مفصلياً في جدلية الصراع العربي – الصهيوني، ذلك بأن فشل إسرائيل في تحقيق أي من أهداف عدوانها على لبنان صيف 2006 دَلَّ على افتقادها قوة ردعها وسقوط أسطورة «الجيش الذي لا يقهر». وبفشلها في العدوان على قطاع غزة سنة 2009 لا تكون فقط قد فشلت في استعادة قوة ردعها وهيبة جيشها، وإنما غدت محكومة أيضاً بردع متبادل في شمالها وجنوبها، بحيث باتت عاجزة عن المبادرة بالعدوان على محيطها العربي، بل تحولت من رصيد استراتيجي لرعاتها على جانبَي الأطلسي، إلى عبء تاريخي عليهم، إذ غدت حمايتها بين أبرز اهتماماتهم.
وكانت تداعيات النكبة أكثر وضوحاً على الشعب العربي الفلسطيني، إذ كانت القوات الصهيونية، بما لقيته من دعم المعسكرَين الرأسمالي والاشتراكي خلال حرب 1948/1949، قد اقترفت بحقه جريمتَي التطهير العرقي والتهجير القسري (الترانسفير)، وقد أتاحت الأمم المتحدة لإسرائيل، بعدم تنفيذها قرار التقسيم، وعدم الحدّ من عدوان القوات الصهيونية، فرصة احتلال 78 بالمئة من فلسطين، واقتلاع 61 بالمئة من شعبها العربي، وبحيث افتقد وحدة نسيجه المجتمعي، كما افتقد قيادته ومنظماته السياسية الوطنية. ومع أنه خسر أهم مصادر اقتصاده، احتفظ بقواه البشرية، فأقبل على تعليم الأبناء والبنات الذين، بانخراطهم بالعمل الجاد في كل أمكنة وجودهم، أمَّنوا حاجات ذويهم الأساسية. كما كان لشباب وصبايا فلسطين إسهامهم التاريخي في إفشال مشروعات وطروحات توطين اللاجئين التي والت الإدارة الأمريكية طرحها منذ عام 1949، فضـلاً عن إسهامهم في إفشال مشروعات الأحلاف الاستعمارية التي استهدفت إحكام الهيمنة على مقدّرات الوطن العربي إلى جانب تطويق الاتحاد السوفياتي.
كانت تداعيات النكبة الأشد على الصامدين في الأرض المحتلة، الذين فُرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية من دون إعطائهم حق المواطنة أو المساواة القانونية وأُخضعوا لقانون الطوارئ والحكم العسكري حتى 1966، كما عانوا القوانين والممارسات العنصرية. وبرغم ذلك كله تنامى وعيهم وقدرتهم على المواجهة، بحيث ارتقوا إلى تنظيم الاحتجاجات على أوضاعهم، بل رفضوا صيغة الدولة العنصرية، وغدوا أكثر تفاعـلاً مع العمق العربي والعالم، وبعد أن كانت نسبتهم 11 بالمئة سنة 1949 غدت قرابة 18 بالمئة سنة 2009.
يبلغ اللاجئون نحو 800 ألف، اقتُلعوا من 530 مدينة وقرية، لجأ منهم 270 ألفاً إلى المحيط العربي، فيما استقر الباقون في الضفة الغربية والقطاع. والثابت أن لجنة التوفيق لم تضغط على الأمم المتحدة لتنفيذ القرار 194 بعودة اللاجئين واستردادهم أملاكهم. كما أن وكالة الغوث (الأونروا) لم تكن ملتزمة بعودة اللاجئين، وإنما بإقامة مشروعات لتوطينهم. وبرغم ذلك تنامى طردياً وعي الشعب العربي، وبالذات أجياله الشابة، كما اتسع إطار الملتزمين بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وعودة اللاجئين واستردادهم أملاكهم.
ولفرض حقائق جديدة على الأرض توالت الغارات الإسرائيلية على الحدود العربية بحجة مقاومة التسلل. ولمواجهة العدوان الصهيوني أقرت دول المواجهة «معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي» في 3/4/1950. وتحسباً من تحولها إلى حلف لمواجهة إسرائيل أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا «البيان الثلاثي» في 2/5/1950. ونلاحظ أن البيان تعاطى مع خطوط الهدنة وكأنها حدود دائمة. فضـلاً عن أن الدول الثلاث كانت واضحة الانحياز للكيان الصهيوني المتواصل العدوان على جواره العربي.
ولقد جرى عرض وتحليل ومناقشة أسس النظام الإسرائيلي: إعلان الاستقلال وقانونا العودة والجنسية، وتدفق الهجرة، وتعزيز الاستيطان، واعتماد التطهير العرقي في اقتلاع معظم المواطنين العرب من الأراضي التي احتُلت أثناء حرب 1948/1949، واغتصاب ممتلكاتهم، والتمييز العنصري ضد من تبقى منهم، وفرض الجنسية الإسرائيلية عليهم دون إعطائهم حق المواطنة والمساواة القانونية، ومحاولة اقتلاع تاريخهم. وكذلك جرى تشكيل الجيش وصياغة استراتيجيته القتالية، كما اعتماد نظام إثنوقراطي ليبرالي يوفر للمستوطن الصهيوني الحقوق السياسية كافة، وتعزيز النظام الاقتصادي وفق متطلبات المشروع الصهيوني. وكذلك التطوير العلمي وتأصيل الثقافة العنصرية، وتنظيم المشروعات المائية، بتجفيف بحيرة الحولة، وتحويل روافد الأردن. ونلاحظ أن أسس النظام التي جرى استعراضها ومناقشتها لم يجر عليها تعديل يُذكر في العقود التالية، برغم انحسار دور حزب العمل والتجمع الذي كان يقوده، صاحب الدور التاريخي في إقامة الكيان، وصعود تجمع الليكود ومن هم إلى يمينه سنة 1977 وصيرورتهم الأشد تأثيراً في صناعة القرارات الإسرائيلية على مختلف الصعد.
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي ترومان قد اعترفت بإسرائيل بعد إحدى عشرة دقيقة من إعلانها على أنها «دولة يهودية»، في تناقض مع كونها ثنائية القومية. وفي 11/5/1949 قُبلت إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة، برغم تجاوزها حدود التقسيم، ورفضها عودة اللاجئين عمـلاً بالقرار 194 وتعهدها في مؤتمر لوزان، ما يطعن بمشروعية قرارَي مجلس الأمن والأمم المتحدة بقبولها عضواً في المنظمة الدولية.
وبقيام ثورة 23 تموز/يوليو 1952 وُضعت مصر على طريق تجاوز واقعها المأزوم والتقدم لتنمية قدراتها، وهو الشرط التاريخي لتفعيل دورها القومي. وعندما استقبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وزير الخارجية الأمريكي دالاس في أيار/مايو 1953 أوضح له أن «معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي» موجهة لأي عدوان خارجي. وكان عبد الناصر وأركان النظام في عهده يؤمنون بأن إسرائيل الأداة الاستعمارية الأكثر كفاءة واستعداداً لقهر إرادة الأمة العربية في التحرر والوحدة والتقدم، وأن الصراع معها معركة وجود ولاوجود، فيما التخلف والتشرذم علة القصور العربي عن تقديم الاستجابة الفاعلة للتحدي الصهيوني. ولم يُبد عبد الناصر الاستعداد لقبول الأمر الواقع، وإنما ربط الاعتراف بإسرائيل مقابل انسحابها لحدود التقسيم مع إعادة النقب للعرب حسب مشروع برنادوت، وعودة اللاجئين واستردادهم أملاكهم والتعويض عليهم. ولم يكن يرى أن حل الصراع يتطلب مفاوضات، لأن الحل موجود في قرارات الأمم المتحدة، بينما لم يكن لدى مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي الاستعداد للتسوية على أساس القرارات الدولية.
وبقيادة عبد الناصر نجحت الحركة القومية العربية بإسقاط حلف بغداد سنة 1955. وفي مؤتمر باندونغ نجح عبد الناصر في عزل إسرائيل عن حركة عدم الانحياز، وحمل المؤتمر على اعتبار قضية الشعب الفلسطيني كإحدى حركات التحرر الوطني، فضـلاً عن عقد صفقه الأسلحة التشيكية التي كسرت احتكار الغرب للسلاح. كما أفشلت مصر بقيادته العدوان الثلاثي سنة 1956، ومشروع أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط سنة 1957.
وفي مساء 9/6/1967 أعلن عبد الناصر تحمله كامل المسؤولية عن النكسة، وتنحّيه عن جميع مناصبه، واستعداده للعودة إلى صفوف الشعب لمقاتلة الغزاة. فانتفضت جماهير مصر وأمتها العربية رافضة تنحِّيه، ومؤكدة عزمها مواصلة الحرب بقيادته. فتراجع عن تنحّيه، وقد تقوّى بالتأييد الجماهيري ليبدأ تطهير الجيش وإعادة بنائه، ومباشرة حرب الاستنزاف التي كانت أول حرب تخسرها إسرائيل باعتراف أجهزة إعلامها وكبار قادتها العسكريين.
وفي مجلس الأمن لم تستطع الأغلبية تمرير قرار يلبي مطالب مصر، بينما فشلت الإدارة الأمريكية في إصدار قرار يلبي مطامع إسرائيل. وبالتالي انتهى المجلس لإصدار القرار 242 في 22/11/1967. وقد رفضه جورج طعمة مندوب سورية لعدم تحديد زمن الانسحاب، بينما يلاحظ محمود رياض، وزير الخارجية المصري، أن القرار لم يعالج قضية اللاجئين. وعقَّب عبد الناصر أنه يتوقع فشل القرار، مؤكداً أن مصر ستحرر أرضها بقوة السلاح، وأنها لم تهزم ما لم تتفاوض مع إسرائيل ولم تقبل بتصفية قضية فلسطين.
وما بين 1959 و1963 بدأت إرهاصات الكفاح المسلح الفلسطيني وحينها كان شعب فلسطين فاقداً وحدته المجتمعية وسيادته على ترابه الوطني، بينما المد القومي العربي في حالة انحسار والأنظمة العربية في صراع محتدم، ما كان له انعكاسات في غاية السلبية على إرهاصات الكفاح المسلح الفلسطيني تمثلت بسعة وعمق التدخلات العربية في حراك فصائله بلا استثناء.
ففي 1959 تشكلت «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح) ونلاحظ أن منطلقاتها العقائدية جاءت متوافقه مع الموقف القومي العربي من الصراع العربي – الصهيوني، وإن لم تخلُ عند بعضهم من توجهات قطرية قاصرة المعرفة بجذور الصراع وقوانينه الضابطة، بحيث لم تعكس ممارسات قيادة الحركة قراءة موضوعية لتاريخ النضال الفلسطيني ولا عمق ارتباط المشروع الصهيوني بالاستعمار والإمبريالية.
في المقابل، شهدت حركة القوميين العرب سنة 1963 جدلاً حاداً حول إقامة تنظيم للكفاح المسلح. غير أن وديع حداد بالتنسيق مع جورج حبش، أقاما في بيروت جهازاً شبه عسكري وجرى اختيار عدد من أعضاء الحركة للتدرب في مدرسة القوات الخاصة المصرية. واستجابة لإلحاح كوادر الحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة تقرر القيام بعمليات استطلاعية داخل إسرائيل. كما أن حزب البعث في مؤتمره التاسع – أيلول/سبتمبر 1966 – قرر تشكيل «طلائع حرب التحرير الشعبية» (الصاعقة)، لكنها بقيت تنظيماً متواضعاً حتى نكسة 1967.
وكان الرئيس عبد الناصر أثناء مشاركته في مؤتمر باندونغ قد أدرك أهمية وجود كيان سياسي يمثل شعب فلسطين في المحافل الدولية، كما لمس كفاءة أحمد الشقيري في عرض قضية شعبه عرضاً موضوعياً والتصدي الشجاع في الدفاع عنها. واغتنم انعقاد مؤتمر القمة أواخر 1963 للبحث في مواجهة مشروع إسرائيل لتحويل روافد نهر الأردن ليطرح على القمة تكليف الشقيري، ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية، بالاتصال بالدول العربية والشعب الفلسطيني للوصول إلى القواعد السليمة لإقامة كيان يمكن الشعب الفلسطيني من القيام بدوره لتحرير وطنه. ولقد استغل الشقيري تكليف القمة بأن عقد عدة لقاءات مع شخصيات وطنية سياسية واجتماعية، أسفرت عن تشكيل لجان تحضيريه لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني الذي انعقد في القدس يوم 28/5/1964. بحضور 422 عضواً تدارسوا «مشروع الميثاق القومي» المؤلف من 29 مادة، متوافقة مع الثوابت الوطنية والقومية، وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وانتخب الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتقرر أن تكون القدس مقر اللجنة التنفيذية، كما أقر المجلس الوطني نظام «الصندوق القومي الفلسطيني» واختار عبد المجيد شومان رئيساً لمجلس إدارته، وقرر إنشاء جيش التحرير الفلسطيني.
يُعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أكبر إنجاز فلسطيني بعد النكبة، كما عبر عن قرار قومي عربي مناقض للاستراتيجية الإمبريالية بإقامة إسرائيل. وحيث كان ميثاق المنظمة القومي يؤكد الالتزام بالثوابت القومية في الصراع العربي – الصهيوني، ووجهت المنظمة وميثاقها بالرفض المطلق من الإمبريالية وأداتها الصهيونية وعملائها الإقليميين.
وبعدم تنفيذ الأمم المتحدة قرار التقسيم، أو تشكيلها «مجلس وصاية» لإدارة منطقة القدس، أتاحت للقوات الصهيونية احتلال الشطر الغربي من المدينة في حرب 1948، وتهجير مواطنيه العرب واغتصاب ممتلكاتهم. وبضم القدس الشرقية عقب حرب 1967 بدأت عملية اغتصاب أراضي مواطنيها العرب ومعاناتهم بفعل الممارسات العنصرية ضدهم، والتضييق عليهم في إقامتهم وتواصلهم مع عمقهم في الضفة الغربية المحتلة. في المقابل، لا تقل التنازلات الخاصة بالقدس التي حفلت بها «مفاوضات» أوسلو وما بعدها، خطورة على حاضر ومستقبل القدس والمقدسيين من الممارسات العنصرية الصهيونية. ورغم ما يبدو من تقدم مخطط التهويد واتساع دائرة النخب العربية المفرطة والمطبعة، لا تزال إرادة الممانعة والمقاومة عصية على الاستلاب ولا يزال أهل القدس مثالاً للصمود والتصدي.
وحيث تسارع نمو العمل الفدائي في الأردن وتلقيه دعم مواطنيه وقطاع واسع من الضباط والجنود، تمددت قواعده في الغور من العدسية شمالاً إلى تل الصافي جنوباً، وبالتالي تعرض الأردن لغارات العدو. وفي آذار/مارس 1968 قررت قيادة فتح، بالاتفاق مع المناضل المخضرم بهجت أبو غربية، وبالتنسيق مع بعض ضباط الجيش الأردني، التصدي للهجوم الإسرائيلي الذي بدا مستهدفاً منطقة الكرامة. وقامت المدفعية الأردنية بقيادة اللواء مشهور حديثة بقصف دبابات العدو الغازية واضطرتها إلى التقهقر تاركة بعض معداتها وقتلاها في أرض المعركة، خلافاً لما اعتاده الصهاينة؛ بينما خاض أشبال فتح الموجودون في قاعدتهم، معركة استشهادية مشهوداً لهم بها. ما أهّل فتح لفرض ذاتها كحركة مقاومة لها اعتبارها إقليمياً وعربياً. ومع أن الجيش العربي الأردني صاحب الدور الأول في حسم المعركة إلا أن أجهزة الإعلام الدولية سلطت الأضواء على الفدائيين، مستهدفة التأثير سلباً في العلاقة النضالية التي برزت بين الجيش العربي الأردني والفدائيين وإجهاضها قبل أن تؤسس لتفاعل بنّاء بينهما في مواجهة العدو على أخطر جبهات المواجهة. ونلاحظ أن قيادات فصائل المقاومة لم تكن مهيأة لاستيعاب دفق المتطوعين ولا امتلكت كفاءة تطوير العلاقة مع الجيش الأردني، أو تثقيف كوادرها بثقافة التفاعل الإيجابي مع الحاضنة الشعبية، فيما كان النظام الأردني قلقاً تجاه نمو قدراتها وبداية تشكيلها، ما اعتُبر «دولة داخل الدولة»، فضـلاً عن سوء استخدام الأموال السهلة التي تدفقت عليها، وغياب مساءلة العناصر المسيئة وضبط سلوكياتها، ما جعلها تدفع الثمن غالياً في الأردن ثم في لبنان.
اضطرد نمو قدرات وعمل فصائل المقاومة بدعم مصري وسوري. كما تعزز وجودها في جنوب لبنان كنتيجة لنمو قواه اليسارية. وتزايدت عمليات المقاومة من الجبهتين الأردنية واللبنانية. وفي قطاع غزة سيطرت المقاومة على معظم القطاع في الليل، ومثلت سلطة فعلية بقيامها بتسوية النزاعات الاجتماعية، وملاحقة المشتبه بتعاونهم مع العدو. فيما لم يصل أداء المقاومة في الضفة الغربية إلى ذلك المستوى.
وفي مواجهة تطور العمل الفدائي في الأردن بعد معركة الكرامة، حاول النظام فرض سلطته؛ إلا أنه تراجع بسبب التأييد الشعبي للمقاومة. ولكنه بدءاً من مطلع 1969 باشر العمل لاكتساب تأييد العشائر وقبائل الجنوب مستغلاً خطاب الجبهتين الشعبية والديمقراطية المبالغ في علمانيته وإطلاقهما شعارات مستفزة للنظام وأجهزته. فقام الجيش بإطلاق مدافع الميدان على مواقع المقاومة والبدء بحصار عمان، ولكنه تراجع استجابة للتدخلات العربية. ووقع الصدام الثالث في حزيران/يونيو 1970، ما حفز الرئيس عبد الناصر للتدخل، ناقداً في الوقت ذاته أخطاء بعض الفصائل، وتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بشروط المقاومة.
تشكلت حكومة عسكرية في الأردن. ودعا عبد الناصر إلى مؤتمر قمة عاجل، وكلف الرئيس السوداني جعفر النميري بترؤس وفد توجه إلى عمان حيث نجح في احتواء الأزمة ووقف القتال عشية رحيل عبد الناصر في 28/9/1970. وبموافقة قيادة فتح في ما بعد على الخروج من المدن والانتقال إلى منطقة الأحراش في عجلون وجرش فهي خسرت الحاضنة الشعبية؛ ما يسَّر للجيش إنهاء وجودها في الأردن سنة 1971.
وعشية رحيل عبد الناصر أجمع أركان النظام على ترشيح السادات خلفاً له، انطلاقاً من قناعتهم بأن معركة إزالة آثار العدوان تحتم وحدة الموقف والالتزام بالدستور. وذلك برغم تحفظ أغلبيتهم عليه. وكان السادات قد أعلن في مجلس الشعب عند ترشيحه التزامه بنهج عبد الناصر والقيادة الجماعية، ولكنه لم يكن مؤمناً بالحرب لتحرير الأرض، ولا مدركاً لأهمية العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، ولا مقتنعاً بالتوجه السياسي والاجتماعي الذي أرساه عبد الناصر، وإنما كان يتطلع إلى التعاون مع أمريكا وتبني التنمية الرأسمالية. ولما كانت رؤاه تتعارض مع قناعات من نشأوا على مبادئ ثورة 23 يوليو، ولا يمكنه تمرير سياسته بوجودهم، فقد دبر انقلاب 15 أيار/مايو 1971 عليهم بتشجيع من الأنظمة العربية المحافظة والإدارة الأمريكية.
وباعتماد نظام السادات الانفتاح الاقتصادي، وخصخصة القطاع العام، وفتح الأبواب على مصاريعها للمستثمرين العرب والأجانب، تحولت مصر في زمن قصير نسبياً من بلد منتج إلى مستورد، ومن مستقل اقتصادياً وسياسياً إلى بلد تابع للإدارة الأمريكية وملتزم بتوجيهات البنك الدولي.
ومع أن الجيش كان معداً لبدء معركة التحرير في ربيع 1971، كان السادات يتطلع إلى حل أمريكي، وعليه لم يأمر بالحرب. ومع تصاعد الضغط الشعبي بتزايد تفاقم الأزمة الاقتصادية فرضت المعركة ذاتها في 6/10/1973 بالاتفاق مع الرئيس السوري حافظ الأسد. وحقق الجيشان المصري والسوري انتصارات مبهرة في الأيام الأولى. لكن السادات كان يريدها حرب تحريك لجمود الحل السياسي الذي كان يتطلع إليه. وعليه اتخذ قرارات سياسية غير مبررة عسكرياً، بدءاً من اليوم الثاني للمعركة، بحيث تحول النصر إلى هزيمة، برغم توافر كل مقومات الانتصار ليس فقط بالإنجاز العسكري المبهر بداية، وإنما أيضاً بالدعم العربي، وبخاصة وقف ضخ النفط إلى أوروبا وأمريكا، فضـلاً عن مشاركة قوات عراقية وأردنية وفلسطينية بالقتال على الجبهة السورية ودعم الاتحاد السوفياتي لمصر وسورية بالسلاح.
وتكررت أخطاء السادات السياسية في عملية الفصل بين القوات، التي أدارها كيسنجر، ما فرض على مصر التزامات سياسية وعسكرية حققت لإسرائيل اختراق التضامن العربي، وتجريد معظم سيناء من السلاح، وإقامة محطات إنذار فيها يديرها خبراء أمريكان، وكسر طوق العزلة المفروض عليها من أغلبية الدول الآسيوية والأفريقية.
ومع تزايد الوضع تأزماً في مصر أعلن السادات «مبادرة» استعداده للذهاب إلى القدس المحتلة. وعندما فشل إسماعيل فهمي وزير الخارجية بإقناعه بعدم جدوى ذلك تقدم باستقالته. إلا أن مبادرة السادات لم تلقَ معارضة أركان النظام الآخرين، بل بدت مرحبة بها من أغلبية المصريين بتأثير القصف الإعلامي الذي أشاع أوهام الرخاء وانتهاء كل الأزمات المعاشية. وبذهاب السادات إلى القدس المحتلة اعترف بإسرائيل، مقدماً الورقة الوحيدة التي يملكها العرب قبل أن تبدأ اللعبة كما قال محقاً الكاتب الأمريكي مالكولم كير.
وتلقت مصر مشروعاً أمريكياً لمعاهدة الصلح، لا يشمل الانسحاب من الضفة والقطاع والجولان وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. وتكرر الأمر في كامب دايفيد. وفي البدء أبدى السادات رفضه للمشروع، إذ رأى فيه وزير خارجية مصر الجديد محمد إبراهيم كامل صلحاً منفرداً بين إسرائيل ومصر، وبحثاً في مصير شعب فلسطين في غيبة ممثليه. وحين بدت له استجابة السادات لضغط كارتر واستعداده للتوقيع قدّم محمد إبراهيم كامل استقالته. ولم يلبث السادات أن وقّع مع بيغن معاهدة كامب دايفيد في 26/3/1979. وتعد المعاهدة أهم حدث استراتيجي تسبب بخروج نظام مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي، وخسارتها بالتالي دورها القومي التاريخي. ولقد استقبلت المعاهدة برفض سورية والعراق وليبيا واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير، بينما لزمت بقية البلدان العربية الصمت.
كانت قوات الثورة الفلسطينية قد انتقلت إلى لبنان بعد إخراجها من الأردن سنة 1971، حيث لقيت دعم الحركة الوطنية اللبنانية، ولكنها لم تُجر مراجعة للممارسات والأخطاء التي تسببت بذلك الخروج المذل. وعقب حرب 1973 شهدت الساحة الفلسطينية انقساماً بين من راحوا يبررون تحولهم عن نهج المقاومة بما أسموه «الواقعية» و«الاعتدال»، مقابل قوى الممانعة والمقاومة، بحيث وافق أغلبية المجلس الوطني عام 1974 على برنامج النقاط العشر المتضمن القول بإقامة سلطة على أي جزء من الأرض المحتلة سنة 1967 يجري تحريره، وراجت حينها الدعوة إلى حوار «اليسار الإسرائيلي».
في المقابل، شهدت الضفة والقطاع نقلة في الحراك السياسي تمثّلت بالتظاهرات التي تفجرت عقب اغتيال محمد يوسف النجار وكمال العدوان وكمال ناصر، في نيسان/أبريل 1974 وعصفت بحالة الاسترخاء التي شاعت عقب الحرب سنة 1967، وعززت تأييد «الجبهة الوطنية الفلسطينية» الداعية إلى الاستقلال وإنهاء الاحتلال ووقف الاندماج الاقتصادي مع إسرائيل. وفي مواجهة تصاعد إرهاب سلطة الاحتلال غدت الجامعات، وبخاصة جامعة بير زيت، معاقل الممانعة والتصدي، بينما تصاعدت عمليات الاعتقال والإبعاد إلى الأردن. وعندما صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 في 15/11/1975 بعَدِّ الصهيونية شكـلاً من أشكال العنصرية، وتأييد مشاركة المنظمة في مؤتمر جنيف، ردت دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية بإعلان إقامة 29 مستوطنة. وفي السنة التالية فاز أعضاء الجبهة الوطنية في الانتخابات البلدية في الضفة والقطاع، ولم يسكت غلاة الصهاينة على انتصار إرادة جماهير الأرض المحتلة، فقام أحد التنظيمات الإرهابية بمحاولة اغتيال رؤساء بلديات نابلس ورام الله والبيرة، بسام الشكعة وكريم خلف وإبراهيم الطويل.
وبعد أربعة شهور من قيام السادات بمبادرة زيارة القدس المحتلة قامت مجموعة «دير ياسين» من فدائيي فتح بقيادة دلال المغربي بعملية الشهيد «كمال عدوان» في 11/3/1978 في مركز ثقل التجمع الاستيطاني وأجهزته شمال تل أبيب، وخاضت معركة استشهادية في وضح النهار، فرضت جواً من الرعب والهلع على قيادة إسرائيل وجمهورها ودللت على مدى التطور في أداء العمل الفدائي، والنقلة النوعية في واقع المرأة العربية، كما برهنت على زيف أسطورة أجهزة أمن إٍسرائيل التي سارعت بالرد بالعدوان على جنوب لبنان في «عملية الليطاني» منتصف ليل 14 – 15/3/1978. وبرغم الخلل في القدرات والإمكانات العسكرية لمصلحة الصهاينة فشلت العملية في تحقيق أغراضها، ليعقبها صدور قرار مجلس الأمن الرقم 425 في 2/4/1978، الذي قضى بانسحاب القوات الإسرائيلية الفوري من جميع أراضي الجنوب اللبناني. ولكن إسرائيل احتفظت بشريط حدودي أسندت إدارته إلى الرائد المنشق عن الجيش اللبناني سعد حداد لحماية حدودها الشمالية ووضعت الأمم المتحدة قوات «اليونيفيل» للفصل بين لبنان وشمال الجليل.
وكان لبنان قد شهد مطلع خمسينيات القرن العشرين تحولات بنيوية، كما شهد تصاعد أدوار وفعاليات الأحزاب والحركات الراديكالية القومية واليسارية اللاطائفية، بينما كانت الطائفة الشيعية تشهد نقلة نوعية في واقعها الاجتماعي ودورها السياسي. ما بات يهدد مكاسب وامتيازات زعامات الطوائف، وبخاصة المارونية منها، التي بدت الأكثر انغلاقاً على الذات.
وتعتبر مجزرة عين الرمانة، شرق بيروت في 13/4/1975 الصاعق المفجِّر للحرب الأهلية اللبنانية. ولقد صُدم قادة الأحزاب اليمينية المارونية حين لم يلقوا الدعم المحتاجين إليه من الإدارة الأمريكية وفرنسا ولا من حاضرة الفاتيكان. كما أن إسرائيل التي كانوا قد تحالفوا معها لم تكن مستعدة لتلبية كل ما يطلبونه من مساعدات فاضطروا إلى اللجوء لدمشق واستجاب الرئيس حافظ الأسد؛ وبعد فشل مساعيه في حمل قائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط وعرفات على فك حصار الغيتو الانعزالي دفع بالجيش السوري داخل لبنان بحيث وصل إلى مشارف الجبل بعد معارك تموز/يوليو – تشرين الأول/أكتوبر 1976 مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وفتح طريق بيروت – دمشق. وما بين 16 – 18/10/1976. عقد مؤتمر الرياض بحضور السعودية ومصر وسورية والكويت ومنظمة التحرير، وتقرر تشكيل قوة ردع عربية من ثلاثين ألف جندي للعمل على وقف الحرب فوراً، والالتزام باتفاق القاهرة المنظم للوجود الفلسطيني في لبنان، وانتُخب إلياس سركيس رئيساً للجمهورية، وتولى سليم الحص رئاسة الحكومة. وكانت القوات الانعزالية قد ارتكبت جريمة التطهير في مخيمات الكرنتينا والنبعة وتل الزعتر حيث بلغ الضحايا في المخيم الأخير 4280 شهيداً.
وبعد فوز الليكود بانتخابات 1981 شُكلت «الإدارة المدنية» في الضفة والقطاع برئاسة مناحيم ملسون، الذي دعا إلى تشكيل «روابط القرى». وقد اتخذ رؤساء البلديات بسام الشكعة وكريم خلف وإبراهيم الطويل والقوى والشخصيات الوطنية، مواقف مضادة للروابط لكونها أداة سلطة الاحتلال؛ بينما تصاعدت التظاهرات، وبخاصة بعد إغلاق جامعة بيرزيت وهدم المنازل. وبدا المتظاهرون أكثر ثقة بالذات واعتمدوا رشق قوات الاحتلال وسيارات المستوطنين بالحجارة. وكانت لجنة التوجيه الوطني «تضم 24 عضواً برئاسة بسام الشكعة»؛ بينما كان عدد من أعضاء اللجنة والصحافيين موضوعاً للاعتقال والإبعاد إلى خارج الضفة الغربية. وفي 11/3/1982 جرى اعتبار لجنة التوجيه الوطني خارجة عن القانون، وبعد أيام عُزل رؤساء البلديات: الشكعة وخلف والطويل، واستبدلوا بموظفين إسرائيليين. ورغم تراجع أهمية مناحم ملسون، إلا أن تصعيد الممارسات العنصرية التي اعتمدها هو وأرئيل شارون لم يتغير منها شيء في ظل الاحتلال.
كان شارون وزير الدفاع في حكومة بيغن، وقد قام بزيارة لمدينة جونية شمال بيروت في 12/1/1982 بصحبة عدد من ضباط الموساد، حيث عقد اجتماعات مكثفه مع قائد ميليشيا القوات اللبنانية بشير الجميل والزعماء الانعزاليين الموارنة. وبعد جولة يومين في الجبال مستطلعاً الوضع أبلغ مضيفيه بعزمه غزو لبنان. وفي 6 حزيران/يونيو 1982 بدأ الغزو تحت تسمية «سلامة الجليل» بقوة تراوحت بين 75 و80 ألف جندي و1240 دبابة و1520 ناقلة جند ومدرعة و15 قطعة بحرية. بينما قُدرت قوات منظمة التحرير بنحو 15 ألفاً، منهم في الجنوب ستة آلاف. ورغم التفاوت الفادح في عديد القوات وفي كمية السلاح ونوعيته لدى كل من الطرفين، فقد واجه الغزو الإسرائيلي مقاومة باسلة في معظم المواقع. وفي 13/6 طوّق الغزاة بيروت الغربية بعد معارك دامية. وفي 14/6 قدَّم الوسيط الأمريكي في لبنان فيليب حبيب مشروعاً لرئيس وزراء لبنان شفيق الوزان يقضي بوقف القتال، وبأن يفصل الجيش اللبناني بين القوات الفلسطينية والقوات الإسرائيلية والانعزالية اللبنانية، وبأن تسلم القوات الفلسطينية أسلحتها للجيش اللبناني ويجري ترحيلها على سفن ترفع علم الصليب الأحمر. وقد أجمعت الفصائل على رفض العرض المذل. فيما أجمعت القواعد على أن العدو جاء إليها لتقاتله، وطالبت بتطبيق شعار «حرب الشعب طويلة الأمد». ما يدل على أنها كانت أكثر وعياً وتصميماً على المواجهة والصمود من القيادة التي أبدت استعداداً للخروج بدلاً من تطوير المواجهة ولم تكن تنقصها الإمكانات.
وفي لبنان أجمعت الأحزاب والزعامات التقليدية على مطالبة الفصائل الفلسطينية بالانسحاب. وذلك ما عارضته التنظيمات الناصرية، المرابطون بقيادة إبراهيم قليلات، والاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الرحيم مراد، والحزب الشيوعي اللبناني. وعندما شكل الرئيس إلياس سركيس «هيئة الإنقاذ الوطني» في 14/6 انضم إليها وليد جنبلاط ونبيه بري سعياً لتسهيل التفاوض من أجل انسحاب الفلسطينيين.
ولأن إسرائيل لم تعهد الحروب الطويلة فقد تكثفت الضغوط الأمريكية للتوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة. ليبدأ الخروج في 2/8/1982. صحيح أن الغزو أخرج فصائل المقاومة الفلسطينية من لبنان، ولكن المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي، المنبثقة عن حاضنة شعبية، أخذت تطور أداءها بحيث غدت أكثر تهديداً لمستعمرات الجليل.
وكثف بيغن وشارون الضغط على بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية لعقد معاهدة «سلام» بين لبنان وإسرائيل، بينما كان قادة حزب الكتائب يساورهم القلق تجاه عقد اتفاق كهذا. وفي إثر اغتيال بشير الجميل، ومع أن المتهم بالتفجير الذي أودى بحياته لم يكن فلسطينياً، إلا أن قادة القوات اللبنانية والمسؤولين الإسرائيليين في لبنان قرروا الانتقام من اللاجئين الفلسطينيين. ففي يومي 15 و16/9 اجتمع روفائيل إيتان وأمير دروري قائد الجبهة الشمالية في الجيش الإسرائيلي بمسؤول استخبارات القوات اللبنانية إيلي حبيقة وضباط موارنة آخرين، وقرروا إدخال ميليشيات القوات اللبنانية إلى مخيمَي صبرا وشاتيلا جنوب بيروت كي تقتل أو تعتقل مقاتلي منظمة التحرير الذين ظلوا هناك. وقام الجيش الإسرائيلي بنقل عدة مئات من عناصر الميليشيا إلى مخيم شاتيلا، وأمدّهم بالاتصالات اللاسلكية والذخيرة والوجبات الغذائية، والإنارة ليـلاً طوال الساعات الـ 48 التالية. وبدأت يوم 16/9 تُرتكب واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين، تواصلت بالسلاح الأبيض، أو بدفن الضحايا وهم أحياء، كما توالت جرائم الاغتصاب، وبرز دور المخبرين في اليوم الثاني للمجزرة. وكان هناك مخطوفون مجهولو الأمكنة التي غيبوا فيها. وقد أرّخت للمجزرة بيان نويهض الحوت، المعروفة بدقة تقصيها، وتقرر أن ليس هناك إحصاءات دقيقة لعدد الضحايا والمفقودين، فيما يقدر الصليب الأحمر اللبناني الضحايا بين 4000 و4500 شهيد.
كان في مقدمة أهداف بيغن من غزو لبنان عقد اتفاقية سلام كثمن لإخراج القوات الفلسطينية من لبنان. وبعد اغتيال بشير الجميل وانتخاب شقيقه أمين رئيساً وتحت الضغط الأمريكي انسحبت إسرائيل من بيروت؛ ولتنظيم العلاقة بين إسرائيل ولبنان عقد ممثلو الطرفين عدة اجتماعات برعاية أمريكية، بحيث انتهوا إلى صياغة مسودة اتفاق 17 أيار/مايو 1983. ورغم ما شاب الاتفاق من عيوب وقّعته حكومة أمين الجميل، وأمِل بيغن أن يؤمِّن له الاتفاق أمن مستعمرات الجليل أربعين عاماً. ولكن القوى الوطنية اللبنانية مدعومة من سورية عصفت بآماله بإلغاء اتفاق 17 أيار بعد عشرة شهور من توقيعه، برغم وجود الجيش الإسرائيلي على أرض لبنان. وبانهيار آمال بيغن كلها أصابه اكتئاب فرض عليه اعتزال الحياة السياسية والاستقالة من رئاسة وزراء إسرائيل والانزواء في شقته.
وكانت «اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان» التابعة لحزب الليكود قد وضعت في نيسان/أبريل 1977 مشروع إقامة 186 مستوطنة ما بين 1977 و1992، بحيث شهدت مصادرة الأراضي والاستيطان نقلة نوعية، وخاصة في الضفة الغربية. وكانت مناطق القدس وطولكرم والخليل هي الأكثر استهدافاً. وقد وضع الصندوق القومي اليهودي (الكيرين كايمت) مخططاً للاستيلاء على 52 بالمئة من الضفة لإقامة المناطق الحرجية، والمراعي، والمتنزهات. وفي عام 1982 وضع مخطط لشق طرق في الضفة لخدمة مشروع المستوطنات الإسرائيلية بطول 400 كم تقريباً وتواصل إنشاء المستوطنات في تزايد طردي.
ويعتبر فتحي الشقاقي القائدَ المؤسسَ لحركة الجهاد الإسلامي؛ وبعد عودته وبعض زملائه إلى قطاع غزة أسسوا في 1/11/1982 «حركة الجهاد الإسلامي» وباشروا نشر خلاياها في الضفة والقطاع. وفي خريف 1983 جرى اعتقال الشقاقي وعشرات من أعضاء الحركة ليكونوا أول مقاومين إسلاميين يعتقلون منذ 1967. وقد عقدت الحركة مؤتمرها الأول عام 1984، وأقرت النظام الأساسي واللائحة التنفيذية، وأعادت انتخاب فتحي الشقاقي أميناً عاماً. وتعد عملية البراق في القدس في 6/10/1986 أول عملية لسرايا القدس، لتعقبها عملية الشجاعية في 6/1/1987. وقد شاركت الحركة في انتفاضة أطفال الحجارة منذ تفجرها في 9/12/1987. وبإبعاد الشقاقي وعدد من نشطاء الحركة إلى جنوب لبنان في 29/10/1988 تعززت علاقاتهم بحزب الله والحركة الوطنية اللبنانية.
تنامت فعالية حركة الجهاد الإسلامي بين قوى الرفض والمقاومة العربية، على قاعدة الالتزام بالكفاح سبيـلاً للتحرير والعودة، واعتبار فلسطين أرضاً عربية إسلامية يحرّم شرعاً التفريط بأي شبر منها، كما يحرّم الاعتراف بالكيان الصهيوني. وتؤمن حركة الجهاد الإسلامي بانعدام التناقض العدائي بين قوى الممانعة والمقاومة العربية والإسلامية على اختلاف انتماءاتها، وإنما التناقض العدائي مع إسرائيل مركز التحدي الاستعماري. وعليه فمن دون حسم الصراع على فلسطين ستُجهض كل محاولات الأمة للنهضة والاستقلال.
وفي 9/12/1987 تفجرت انتفاضة أطفال الحجارة في قطاع غزة بداية ثم امتدت إلى مدن وقرى الضفة الغربية من دون إعداد مسبق، معبرة عن تراكمات عقود من المعاناة بفعل الاحتلال. كما عبرت الانتفاضة عن تنامي ثقة مواطني الأرض المحتلة بقدرتهم على فرض التغيير، مدشنين مرحلة جديدة ضد المشروع الصهيوني. وبهذا تكون الانتفاضة قد أحدثت نقلة نوعية في تعاون القوى الوطنية، ما عزز مواقعها في المجتمع كما تجلى بتزايد التحاق الشبان والصبايا بفصائل المقاومة. وتمكنت الانتفاضة من استثمار المؤسسات الوطنية في الساحة، بحيث مد تنظيم «الشبيبة» الفتحاوي الانتفاضة بمجموعة من الشباب المسيَّس والمنظم شكلت «الجماعات الضاربة» المساهمة في تنفيذ عمليات الانتفاضة، وضبط الخارجين على التعليمات الواردة في بيانات الانتفاضة، وملاحقة العملاء. وقد تجاوز البيان الرقم (2) سقف قيادة المنظمة التي تعتمد الحوار مع الإسرائيليين ومفاوضتهم بالنص على الالتزام بالاستقلال، وتحرير الأرض، وعودة اللاجئين. وكان أكثر ما أقلق إسرائيل تدمير شبكات عملاء الشين بيت بقتل بعضهم، واعتراف الكثيرين منهم بعمالتهم وإعلان توبتهم. وكان التحدي الأكبر للانتفاضة تأمين بديل لعمل الآلاف في المشروعات الإسرائيلية، وبخاصة الاستيطانية، بحيث باتت تتطلع إلى الدعم الخارجي. فتوجهت القيادة الموحدة إلى الأمم المتحدة مطالبة بتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بفلسطين. وفي أواخر عام 1988 غدت الانتفاضة أشبه بحرب استنزاف سلمية الطابع ضد الكيان الصهيوني، وبرغم كل الصعوبات تواصلت الانتفاضة 7 سنوات.
وكان المكتب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة قد أعلن في اليوم التالي لتفجر الانتفاضة تأسيس «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس). ويعتبر الشهيد الشيخ أحمد ياسين منظِّر الحركة ومرشدها الفكري. وقد التزمت حماس برفض الاغتيالات السياسية وتصفية الخصوم، وهي تعتبر فلسطين أرض وقف على أجيال المسلمين حتى يوم القيامة. وخلال السنوات الثلاث الأولى شهدت حماس تطوراً كيفياً في إدراكها لطبيعة الصراع، إذ لم تعد تعتبره صراعاً دينياً بين المسلمين والكفار وإنما هو صراع حضاري مع مشروع استعماري استيطاني. ويتسع الكفاح عندها ليشمل الكفاح المسلح، والتغيير الاجتماعي، والبناء الاقتصادي، والتطور العلمي، والعدالة الاجتماعية.
وفي رفض حماس لاتفاق أوسلو لم تتهم موقّعيه بالخيانة وإنما ركزت على ما انطوى عليه من تفريط. وقد شاركت حماس في انتخابات المجلس التشريعي سنة 1996 لتضمن المشاركة في ما يصوغه من قرارات وقوانين تحكم المجتمع. كما فرقت بين المنظمة كإطار وطني، وبينها كبنية قائمة وتوجه سياسي. ولأنها تشكل تهديداً لشعبية فتح كونها غدت منافسة لها جماهيرياً فقد توالت الصدامات بين عناصر الحركتين. كما حرصت حماس على عدم استعداء الأنظمة العربية، إذ أصبح لها ممثلون وقادة خارج الأرض المحتلة، فضـلاً عن عدم إقامتها فروعاً خارج الأرض المحتلة باعتمادها على الحركات الإسلامية المحلية، غير أن علاقاتها بالأنظمة تأثرت وما زالت بمواقف الأنظمة من جماعة الإخوان المسلمين.
وكانت إسرائيل قد أبعدت 413 قائداً وناشطاً إسلامياً أغلبيتهم من حماس إلى بلدة مرج الزهور في الجنوب اللبناني أواخر 1994. ومن حيث لم ترد إسرائيل فقد وفرت لحماس فرصة اختراق الحصار السياسي والإعلامي الدولي، وبخاصة لكون أغلبية المبعدين من النخبة الثقافية والعلمية. وقد أصدر مجلس الأمن القرار الرقم 799، الذي قضى بعودة المبعدين إلى القطاع.
وقد شكلت حماس «كتائب عز الدين القسام» كتنظيم مسلح أوائل سنة 1990 وتصاعدت عملياتها المتميزة بالجرأة وتحدي نظرية الأمن الإسرائيلية منذ 1993 وتنفيذ عمليات استشهادية في عمق الأرض المحتلة سنة 1948؛ ما لقي ترحيباً لدى قطاع واسع من المواطنين العرب باعتبارها رداً على المجازر الصهيونية. ويظل مطلوباً من قيادة حماس عدم نسيان أن شعبيتها إنما تعود لكونها حركة مقاومة وطنية فلسطينية لا لتبعيتها لجماعة الإخوان المسلمين.
وكان المجلس الوطني الفلسطيني قد أقر سنة 1986 دعوة المنظمة لفتح خطوط اتصال مع الدوائر اليهودية والإسرائيلية «المؤيدة» لقضية شعب فلسطين ولفكرة «الدولة» الفلسطينية، ما فيه دلالة واضحة على قصور وعي القيادات التي أصدرت القرار وجهلها المريع بحقائق الصراع وتاريخه. وكان محمود عباس وعدد من مديري مكاتب المنظمة في أوروبا يديرون خمس قنوات اتصال، مغطاة من عرفات، وتشجيع النظام بمصر، وذلك في وقت بلغت فيه انتفاضة أطفال الحجارة أوج عطائها بحيث عرضت القضية الفلسطينية للعالم كما لم تعرض من قبل.
وقد استقبلت قيادة المنظمة في تونس الكاتبين محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وبعض أبرز رجال الأعمال الفلسطينيين، الذين أوضحوا أنه بدوام الانتفاضة أكثر من عام بات الفلسطيني لأول مره يقف على أرض وطنه مسنوداً بمقاومة شعبية، بينما صانع القرار الإسرائيلي تحت ضغط غير مسبوق، وما تواجهه إسرائيل في غزة قد يدفعها إلى الانسحاب من القطاع. وكان رأي هيكل ومرافقيه إذا كان المطلوب تقديم تصور للتسوية يمكن مطالبة الأمم المتحدة بتنفيذ قرار التقسيم وإقامة دولة على أساسه، وإعادة تفعيل دور الأمم المتحدة.
غير أنه في ظل القيادة المرهقة الباحثة عن «استراحة مقاتل»، أجرى عرفات، القلِق على دوره، عدة اتصالات مع الخارجية الأمريكية لقبوله. وعليه لم يأخذ بتوصية هيكل ومرافقيه وإنما عمل على عقد المجلس الوطني دورته الـ 19 في الجزائر بين 12 و15/11/1988، ليصدر ما سمي «وثيقة الاستقلال» بتجاهل فاضح لكون فلسطين كاملة تحت الاحتلال. وعقب ذلك دُعي عرفات إلى إلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف ليعلن تأكيد اعترافه بحق إسرائيل في الوجود، وقبول قرارَي مجلس الأمن 242 و338 ورفض العنف. ما يعني التنازل عن حق شعب فلسطين في أرضه وتقرير مصيره، ووصف مقاومته المشروعة بالإرهاب.
ومع أن الدعوة إلى مؤتمر مدريد سنة 1991 رفعت شعار «الأرض مقابل السلام» إلا أن الإدارة الداعية لم تحدد أي أرض يجري الانسحاب منها، ولا طبيعة «السلام» المستهدف، في غموضٍ الغاية منه فرض التسوية التي تؤمّن مصالح إسرائيل. وعندما استؤنفت المباحثات في واشنطن نجح حيدر عبد الشافي بإعطاء الخطاب الفلسطيني قدراً من الاحترام. فيما نجحت حنان عشراوي في التعبير عن القضية بلفظ مشحون بقوة وإقناع. بينما أصر الوفد السوري على عدم البحث بأي موضوع قبل الانسحاب الكامل من الجولان.
وبعد تسع جولات من المفاوضات في واشنطن لم يتم التوصل إلى نتيجة تلبي لهفة قيادتَي المنظمة وفتح بزعامة عرفات. في المقابل، لم يكن رابين أقل لهفة لحل ينقذ إسرائيل بعد عجزها عن قمع انتفاضة أطفال الحجارة، بحيث بدت مؤشرات لقاء مصلحي بين عرفات ورابين ما أدى إلى اتفاقهما على اعتبار أوسلو قناة التواصل الجديد. وبعلم إدارة الرئيس كلينتون، وبترتيب من الباحث النرويجي لارسن تم لقاء بين أحمد قريع، بموافقة محمود عباس، ويائير هيرشفيلد رجل بيريز بحيث اتفقا على التركيز على الأمر الواقع. ما فتح الباب لخسارة المفاوض الفلسطيني قضية وطنه وحقوق شعبه، فضـلاً عن أن أحمد قريع لم يكن يتقن الإنكليزية التي اعتمدت لغة التفاوض ولا كان يملك، مثل الإسرائيلي، خرائط ومعلومات وافية عن موضوع التفاوض، كما لم يرافقه أي خبير قانوني.
ومضت «المفاوضات» باعتماد المنهج الشمولي، بحيث مضت بسرعة أذهلت المفاوض الإسرائيلي يوري سفير. وباتصال هاتفي من ستوكهولم بين بيريز وعرفات ليلة 17/8/1993 اتفقا على إقرار إعلان المبادئ وصيغة رسائل الاعتراف المتبادل بين عرفات ورابين. وفي اليوم التالي توجه قريع إلى أوسلو ليوقع مع وزير خارجية النرويج على ما تم الاتفاق عليه، والذي لم يجاوز صيغة «كامب دايفيد» كما أوضح السفير المصري طاهر شاش لعرفات بعد مراجعته أوراق الاتفاق.
ولدى عرض الاتفاق على اللجنة التنفيذية للمنظمة رفضه الشاعر محمود درويش، إذ رأى فيه تنازلاً عن التاريخ الفلسطيني. كما رفضه شفيق الحوت لإطاحته كل الثوابت الفلسطينية، واستقالا من عضوية اللجنة التنفيذية. وطرح محمود درويش في خطاب استقالته أمام اللجنة التنفيذية عشرة أسئلة في غاية الأهمية، وتساءل إن كانوا قد أجابوا عنها، ولكن عرفات وفريقه لم يجيبوا عن واحد منها وإنما مضوا في نهجهم المعتمد منذ 1974 بإقرار اتفاق أوسلو.
وفي 9/9/1993 وجه عرفات إلى وزير خارجية النرويج رسالة مؤكداً عزم المنظمة على تشجيع مواطني الضفة والقطاع على التطبيع مع إسرائيل. كما وجه رسالة إلى رابين مكرراً اعترافه بحق إسرائيل بالوجود بسلام وأمان، وقبوله بالقرارين 242 و338. ونبذ «العنف»، واعتبار مواد «الميثاق الوطني» غير المنسجمة مع مضمون رسالته غير سارية المفعول. كما وجه إليه رابين رسالة باستعداد حكومته الاعتراف بالمنظمة والاستعداد للتفاوض معها.
وتحت رعاية الرئيس كلينتون وقع محمود عباس ورابين في حديقة البيت الأبيض يوم 13/9/1993 «إعلان مبادئ» مؤسساً على ما تضمنته رسائل عرفات واسحق رابين. ولقد تضمن الاتفاق النص على الحكم الذاتي، دون الأرض، في بعض أنحاء الضفة من دون القدس، وفي قطاع غزة، مع بقاء السيادة لإسرائيل. وحيث اقتصر الاتفاق على الضفة والقطاع فإن موقّعيه أهملوا حقوق مواطني الأرض المحتلة سنة 1948 وفلسطينيي الشتات العربي والدولي.
تعدد ناقدو الاتفاق والمتحفظون عنه، كما على البروتوكول الاقتصادي الذي وقعه الطرفان في باريس في 29/4/1994، كما تحفظ عنه الملك فهد، ورفضه الرئيس حافظ الأسد الذي رأى أن كل بند فيه يحتاج إلى مفاوضات، واعتبره الملك حسين سيلحق ضرراً بالغاً بمصالح الأردن وعليه سارع بعقد «اتفاق» وادي عربة.
وبانتقال قيادة المنظمة وكادراتها من تونس وباقي المنافي إلى الضفة والقطاع سنة 1994، وتولي عرفات رئاسة سلطة الحكم الذاتي، غطت هذه السلطة القائمة في ظل السيادة الإسرائيلية على منظمة التحرير، الإنجاز الوطني الأبرز منذ نكبة 1948. ولقد عبَّرت فضيحة اتفاق أوسلو وفضائح التصديق عليه عن فقدان منظمة التحرير لمؤسسات تمثيلية تعبِّر عن إرادة الشعب الفلسطيني.
ولقد أمعن العائدون في فسادهم واستبدادهم والاعتداء على حريات المواطنين وكراماتهم، وممارسة القمع ضد مقاومي الاحتلال، التزاماً بما يسمى «التنسيق الأمني» مع الأجهزة الإسرائيلية. وعمـلاً بالنهج المعتمد أقرت قيادة المنظمة في اجتماع طابا صيف 1995 بقاء 450 مستوطناً في قلب مدينة الخليل، بما يمنحهم السيطره على 50 بالمئة من الحي التجاري، تحت حماية الدوريات العسكرية المتمركزة في قلب مدينة الخليل وعلى التلال المحيطة بالمدينة.
وما بين 22 و24/4/1996 عقد المجلس الوطني في غزة الدورة 21 برغم انقضاء مدة المجلس. وبالتالي كانت دورة مفبركة، أعدت خصيصاً كي يشهد الرئيس كلينتون مسرحية إلغاء أغلبية مواد الميثاق الوطني التي تنص على رفض القرارات الدولية التي تمس الثوابت الوطنية الفلسطينية وحق مقاومة المشروع الصهيوني، في تناقض مع كل الثوابت الوطنية والقومية والإسلامية في الصراع العربي – الصهيوني.
وسارعت إدارة كلينتون باستغلال الوضع العربي المتردي بقيام وزير خارجيته بجولة عربية واسعة مطالباً وقف مقاطعة إسرائيل بزعم معاداتها حرية التجارة. وحيث لم يلق استجابة واسعه دعت إدارته إلى مؤتمر الدار البيضاء في تشرين الثاني/نوفمبر 1994، ولقيت الدعوة استجابة ملحوظة من رجال الأعمال العرب المرتبطة مصالحهم بأوروبا وأمريكا. ولكن المقاطعة على الصعيد الشعبي لم تزل قائمة.
وفي 18/4/1996 غزت إسرائيل البقاع الغربي في لبنان تحت اسم عملية «عناقيد الغضب». وبالقصف المتعمد لمقر «بعثة السلام الدولية» حيث لجأ أهالي قرية قانا، اقترف العدوان الإسرائيلي مجزرة بلغ ضحاياها 105 شهداء. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة أدانت المجزرة 107 دول، بينما عارضت إدانتها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، وامتنعت عن التصويت أو غابت بقية الدول الأعضاء.
وكان الشريط الحدودي المحتل يضم القسم الشرقي من قرية أرنون مفصولاً عن بقية القرية. وفي شباط/فبراير 1999 ضمت حكومة نتنياهو بقية القرية وأحاطتها بالأسلاك الشائكة. وكانت الحكومة اللبنانية قد أعلنت عزمها التقدم بشكوى لمجلس الأمن ضد ضم بقية أرنون للقسم المحتل، إلا أنها عدلت عن ذلك تحت ضغط الإدارة الأمريكية، وعندما شاع الخبر قام نحو 2000 طالب جامعي باختراق الأسلاك الشائكة حول أرنون وتحريرها بالكامل، وفتح الطريق إليها الذي كان مغلقاً منذ 13 عاماً، مسجلين بمبادرتهم الشجاعة نقلة نوعية في الاستجابة الشعبية العربية للتحدي الصهيوني، مسقطين حاجز الخوف من الجيش الصهيوني. ويذكر للرئيس اللبناني إميل لحود إعلانه تأييد حركة الطلاب فور سماعه بها، وتكليفه محافظ النبطية بإرسال الآليات الرسمية لإزاحة الحاجز الترابي حول أرنون، التي حُرِّرت بإرادة وطنية لبنانية، ما أسهم في توسيع إطار الالتفاف الشعبي من حول المبادرة الطلابية.
وبتأثير التطور الكيفي المتزايد في أداء وعمليات المقاومة اللبنانية تزايدت على نحو طردي في أوساط التجمع الاستيطاني الصهيوني الدعوات إلى الانسحاب الفوري من الجنوب اللبناني. ولم يفت قيادة حزب الله استثمار الدعوات المتزايدة في الوسط الصهيوني، إذ أعلنت استعدادها لأن تحسن معاملة جميع عناصر «جيش لبنان الجنوبي» المرتبط بإسرائيل الذين يستسلمون قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي. فيما كثف حزب الله هجماته على المراكز الأمامية للجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي بحيث انحل تماماً في 23/5/2000. كما شاعت الفوضى بين جنود الجيش الإسرائيلي، الذين راحوا يسارعون بانسحابهم من أرض الجنوب اللبناني. وهكذا يكون حزب الله قد طهّر الجنوب اللبناني بكامله، عدا مزارع شبعا، في 25/5/2000، وبذلك يكون قد نفذ قرار مجلس الأمن رقم 425 بإجراء منفرد.
وفي تموز/يوليو 2000 فشلت ضغوط الرئيس الأمريكي كلينتون، في منتجع كامب ديفيد، في حمل الرئيس الراحل ياسر عرفات على التنازل عن القدس وحق العودة. وهما ما لا يستطيع أي عربي التنازل عنهما. وعليه حل الغضب الأمريكي والصهيوني على عرفات فحوصر في مبنى المقاطعة في رام الله، ولم ينجده أحد، حتى قيل إن منحه جائزة نوبل، بُعيد إبرام اتفاق أوسلو، لم يوفر له الحماية. بل ولم يرد عليه أحد ممن راح يتصل بهم هاتفياً.
وبعد أقل من شهرين انتفض الشارع الفلسطيني في 28/9/2000 رداً على اقتحام شارون باحة المسجد الأقصى بحراسة ثلة من القوات الصهيونية. وشهدت الضفة والقطاع المحتلان «انتفاضة الأقصى». برغم تصاعد إجراءات القمع والممارسات العنصرية الصهيونية، والتنسيق الأمني بين أجهزة سلطة الحكم الذاتي مع أجهزة سلطة الاحتلال. ما عمَّق الانقسام في الشارع السياسي الفلسطيني. وكان شارون قد أعلن غداة تفجر الانتفاضة أنه سيقمعها خلال 100 يوم، إلا أنها تواصلت أكثر من عامين في دلالة على عدم حصانة عمق التجمع الاستيطاني.
ولم يركن حزب الله لانتصاره التاريخي عام 2000 وإنما واصل الاستعداد لمواجهة أي عدوان محتمل. وعمل بشكل جاد على تطوير قدراته البشرية وإمكاناته القتالية، بالدعم الذي لقيه من سورية وإيران. كما أنه بحلول صيف 2006 كان قد أعد آلة حربية جيدة التدريب والتسليح، شديدة الحماسة وفائقة التطور. ولقد أقام الحزب بين 2000 – 2006 العديد من الأنفاق ومخازن السلاح والذخيرة ومراكز القيادة على عمق 40 متراً تحت الأرض. كما أنه أعد في جنوب الليطاني مجموعة قتالية للتصدي لأي اجتياح قادم. فضـلاً عن نجاحه في زرع أعوانه في الجليل المحتل.
وكان حزب الله قد أسر جنديين إسرائيليين في منطقة الحدود في 12/7/2006 فبدأت إسرائيل غزو الجنوب اللبناني بغارات جوية وقصف مدفعي كثيف بحجة الرد على أسر الجنديين. بينما يؤكد سيمور هيرش، الصحافي الأمريكي المعروف بدقة تحقيقاته، أنه جرى الإعداد للغزو بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية قبل مدة من أسر الجنديين. ولقد فوجئ رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت ووزير دفاعه وقيادة أركان الجيش الإسرائيلي، كما الإدارة والأجهزة الأمريكية، بما لم يتوقعوه من بسالة وكفاءة مقاتلي حزب الله وتمكنهم من إفشال الغزو من تحقيق أهدافه، بل وإسقاط الادعاء بأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر.
وكانت إسرائيل قد أقامت أكثر من 600 حاجز عسكري في الضفة الغربية المحتلة، ولتؤمن مواصلات المستوطنين أنشأت الطرق الالتفافية التي تجنبهم المرور عبر المدن والقرى العربية، ولإحكام السيطرة على الضفة، ومنع تواصل مواطنيها العرب، أقامت جدار الفصل العنصري في وسط الضفة وليس على حدود 1967، وبموجبه أقامت في الضفة أربعة معازل عربية كبرى، ما عطل إمكان قيام كيان فلسطيني متواصل. وفي التصدي لجدار العزل العنصري اعتمد مواطنو الضفة المقاومة غير العنفية، وتقدّمت المجموعة العربية بشكوى لمجلس الأمن، وعندما استخدم المندوب الأمريكي حق النقض (الفيتو) ضد قرار أغلبية أعضاء المجلس اتجهت المجموعة العربية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت قراراً بأغلبية غير مسبوقة كون الجدار مخالفاً للقانون الدولي، وغير مشروع، وطالبت إسرائيل بتفكيكه، ثم طلبت مشورة محكمة العدل الدولية بشأنه التي أصدرت فتوى باعتباره مخالفاً للقانون الدولي، وأنه غير مشروع، ويجب تفكيكه، والتعويض عن الأضرار التي تسبب بها. غير أن السلطة الفلسطينية والدول العربية لم تتابع تنفيذ توصية المحكمة الدولية للأمم المتحدة.
وفي 27/12/2008 بدأ العدوان على قطاع غزة بعملية «الرصاص المصبوب» لإسقاط سلطة حماس، وتحويل القطاع من بؤرة مقاومة إلى حزام أمن لإسرائيل، واستعادة الجندي الأسير جلعاد شاليط، وقوة الردع التي سقطت بالحرب على لبنان سنة 2006. ولأن العدوان كان متوقعاً، ولكون جغرافية القطاع لا تلائم حرب العصابات، اعتمدت قوى المقاومة الإدارة اللامركزية للميدان، ووفرت لكل مسرح عمليات المقاتلين والدعم اللوجستي، واستندت المعركة الدفاعية إلى الأماكن المبنية التي حُضّرت لحرب الشوارع، وهيأت الأنفاق، والحفر المموهة، والنسفيات، والألغام والفخاخ، والكمائن الخفيفة والثقيلة، والقصف عن بعد.
بدأ العدوان بقصف جوي ومدفعي كثيف صباح 27/12/2008، مستهدفاً مقار القيادة، ومنصات إطلاق الصواريخ، ومخازن السلاح، ومنازل القادة، ومكاتب السلطة. وبرغم التفاوت الفادح في الإمكانات والقدرات العسكرية بين الطرفين امتصت حماس وشركاؤها صدمة العدوان، وابتدأت بقصف الصواريخ على المواقع الإسرائيلية في محيط القطاع. وفي 3/1/2009 بدأ العدو العملية البرية متقدماً في المساحات الخالية من العمران. إلا أن المقاومة بإرادتها الصلبة، أرغمت حكومة أولمرت إلى إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد في 17/1/2009 ما اعتُبر انتصاراً لحماس، كما أقرّت بذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية والعديد من القادة العسكريين والإداريين الإسرائيليين.
لقد عرّى العدوان العنصرية الصهيونية عالمياً، بحيث عمّت تظاهرات الإدانة كثيراً من الشوارع الأوروبية، وتعدد مُدينو العدوان من المثقفين وأساتذة الجامعات، والشخصيات السياسية والاجتماعية والفنية، موسيقيين ومغنين ونجوم سينما عالميين، كان بينهم العديد من اليهود الذين استفزتهم المحرقة الإسرائيلية لسكان قطاع غزة، وفي طليعتهم أستاذ اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي. فيما أعلن تشافيز قطع علاقات فنزويلا مع إسرائيل، وكذلك فعل موراليس الرئيس البوليفي.
في المقابل، غلب على أنظمة «الاعتدال» العربية، وفي مقدمها سلطة رام الله، الالتزام بالموقف الأمريكي من العدوان، وتشديد إجراءات قمع تظاهرات الشارع العربي، في تأكيد واضح للفجوة المتسعة باطراد بين قادة «الاعتدال» والجمهور الشعبي في عموم الوطن العربي.
وبالفشل المزدوج في جنوب لبنان عام 2006 وفي قطاع غزة عام 2009 تكون المقاومة العربية قد أفقدت إسرائيل قوة ردعها، وفرضت على الكيان العنصري ردعاً متبادلاً في شماله وجنوبه. غير أنه إلى جانب توازن الرعب بين إسرائيل ومحيطها العربي المقاوم هناك عجز متبادل، فلا إسرائيل برغم احتلالها معظم فلسطين من النهر إلى البحر، عدا قطاع غزة المحاصر، وفرضها نظاماً عنصرياً على المواطنين العرب في الأرض المحتلة، استطاعت قهر إرادة الممانعة في الأرض المحتلة، برغم ما تلقاه من دعم مادي وسياسي من رعاتها الأمريكان والأوروبيين، وحلفائها الإقليميين، والجوالي اليهودية الأمريكية والأوروبية، فضـلاً عن التطبيع المستشري عربياً، والتنسيق الأمني الملتزمة به سلطة حكم الذات في الضفة الغربية المحتلة. وبالمقابل فإن القوى الملتزمة بالمقاومة خياراً استراتيجياً، وإن هي حجمت العدوانية الصهيونية إلا أنها لما تزل بعيدة من تحقيق هدفها التاريخي بتصفية الوجود الصهيوني في الأرض العربية. ما يعني أن صراع الوجود واللاوجود مع المشروع الصهيوني لم يزل متواصـلاً، والمرجح عندنا أنه لن يخرج عما عرفت به الأمة العربية تاريخياً من قدرة على دحر الغزاة، واستيعاب من يتبقى منهم في الأرض العربية في نسيجها القومي.
قد يهمكم أيضاً الحصول على كتاب مذكرات المناضل الراحل جورج حبش عند الضغط على الرابط
صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش
مواضيع ذات صلة النازية والصهيونية: المشترك والمختلف
المشروع الصهيوني: قرن جديد من الصراع
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الصراع_العربي_الإسرائيلي #الصراع_العربي_الصهيوني #المقاومة_اللبنانية #المقاومة_الفلسطينية #فصائل_المقاومة #مقاومة_الإحتلال #الإنتفاضة_الفلسطينية #الحرب_على_لبنان #المجازر_الإسرائيلية #الحرب_اللبنانية #اجتياح_بيروت
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 467 في كانون الثاني/يناير 2018.
والدراسة مأخوذة من كتاب عوني فرسخ الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في آذار/مارس 2018 بعنوان الصراع العربي- الصهيوني متغيراته ومستجداته 1949-2009
(**) عوني فرسخ: كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الإمارات العربية المتحدة.
عوني فرسخ
• كاتب وباحث عربي من مواليد القدس سنة 1931 .
• خريج كلية التجارة في جامعة عين شمس سنة 1959 .
• عضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والمؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي – الإسلامي، ورابطة الكتاب في الأردن، والمنتدى العربي في الأردن.
من مؤلفاته: (1) الظروف الإقليمية في الوطن العربي؛ ( 2) مخطط التفتيت: استراتيجية التحالف الإمبريالي – الصهيوني؛ (3) الجمهورية العربية المتحدة من الفكرة الى الدولة؛ (4) إشكاليات الوحدة: الجمهورية العربية المتحدة، بحث في المعوقات والإنجازات والإخفاقات، (5) التحدي والاستجابة في الصراع العربي -الصهيوني: جذور الصراع وقوانينه الضابطة 1799 – 1949 .
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.