مقدمة:

بدأ الحديث في الوطن العربي منذ بضع سنوات عن مفهوم مشاركة المواطن في مسارات صياغة القرار الحكومي ورسم السياسات العامة في مختلف القطاعات، وذلك تبعاً للضغط الذي مارسته منظمات وجمعيات المجتمع المدني التي عملت جاهدة على تكريس هذا التوجّه الذي أعطى نتائج تجلب الانتباه في عدد من بلدان العالم عبر حملات المناصرة والمرافعة (Plaidoyer).

وقد تكرّس هذا التوجه خصوصاً بعد موجة الثورات العربية وما رافقها من رفع في مستوى وعي المواطن وارتفاع سقف تطلعاته وفتح المجال للعمل المدني وإلغاء القيود التي كانت موجودة، فأصبحنا نتحدّث عن حقّ المواطن في الوصول والنفاذ إلى المعلومة وحق المنظمات والجمعيات في المشاركة في رسم السياسات العامة بما أنّها حاملة هموم منظوريها وانتظاراتهم. وعموماً، أضحى الجميع يطالب بالديمقراطية المباشرة أو التشاركية التي تتيح للمواطن موقعاً في مسار رسم السياسات وتحديد الأولويات والبرمجة في كل ما يخص تدبير الشأن العام وطنياً ومحلياً.

تعتبر المشاركة حقاً سياسياً معترفاً به للمواطنين كرسته الكثير من النصوص والتشريعات بمختلف درجاتها؛ فقد كرست بعض الدساتير العربية على غرار دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014‏[1] هذا التوجه. كما تجاوب الدستور المغربي الحالي مع هذا التوجه، حيث نص على الديمقراطية التشاركية التي تسمح للمواطنين والمجتمع المدني بالمشاركة في تدبير السياسات العمومية ومراقبتها وتقويمها ‏[2].

كما تضمن المعايير الدولية الكثير من المبادئ التي تؤكد هذا الحق؛ إذ جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتحديداً في الفصل 21، حق كل فرد في المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلاده مباشرةً أم عن طريق الاختيار الحر لممثليه، وأن لكل شخص الحقوق ذاتها التي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد، وأن إرادة الشعب هي مصدر السلطات يعبر عنها بانتخابات نزيهة ودورية.

وأكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1976 في المادة الأولى أن «لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها. وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولجميع الشعوب، سعياً وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة».

سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على الميزانية التشاركية باعتبارها أكثر الآليات استعمالاً في الوقت الحاضر في العالم لتكريس الديمقراطية المباشرة، فضـلاً عن اعتبارها أعلى درجات المشاركة مقارنة بوسائل مشاركة أخرى على غرار الإعلام والاستشارة والتشاور‏[3].

سنخصص الجزء الأول للحديث عن الديمقراطية المباشرة أو التشاركية واختلافها من الديمقراطية التمثيلية، في حين أن الجزء الثاني سيعنى بالإطار المفاهيمي ومجالات تطبيق الميزانية التشاركية، بما من شأنه أن يحسن من الحوكمة في البلدان العربية. وسنختم بجزء ثالث يخصص للحديث عن عوامل النجاح.

أولاً: الديمقراطية المباشرة مقابل الديمقراطية التمثيلية

 

1 – لمحة تاريخية

ليست الديمقراطية التشاركية أو المباشرة مقاربة عصرية في التفكير النظري كما هو الشأن في مطلب التطبيق؛ فقد تحدّث الفيلسوف الإنكليزي جون لوك عن نقائص الديمقراطية التمثيلية، حين ربط شرعية السلطة بشرعية الرأي العام التي يؤسّسها المواطنون أنفسهم والذين تناط بعهدتهم مسؤولية تتجاوز مجرد التصويت لاختيار ممثليهم، إلى مراقبة نشاطاتهم ومحاسبتهم على أدائهم السياسي.

ويرى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، صاحب فكرة العقد الاجتماعي، أن الديمقراطية التمثيلية تقوم على فترة قصيرة من الحرية تمنح للمواطن أثناء عملية التصويت ثم يترك المواطن للإهمال بوصفه مجرّد ناخب، فدعا روسو إلى زيادة قوة الفرد وحمايته وإعادة الحرية له من طريق خلق فضاءات أرحب، تسمح له بالمشاركة المباشرة في تدبير الشأن العام حتى تصبح الديمقراطية التشاركية التفاعلية أداةً لتحقيق التحول المجتمعي وتدمج المواطن في السياسة العامة للمجتمع.

ويرجع الفضل في بروز الديمقراطية التشاركية أو المباشرة حديثاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث تم من خلال اعتماد أسلوب الحوار والتشاور مع الموطنين في المدن الكبرى، الاتفاق على كيفية تدبير الشأن العام، وصنع القرار في مواجهة التحديات المطروحة محلياً كالفقر والتهميش. وهو ما أفرز نخبة من المواطنين العاديين على المستوى المحلي كان لها القدرة والقوة على اقتراح الحلول الملائمة للمشاكل المطروحة، وذلك أمام عجز الأطراف المنتخبة بحسب الديمقراطية التمثيلية والمهيمنة والمدعومة من قبل جماعات الضغط واللوبيات.

ويعرف الكثير من الدول في العالم منذ بضع سنوات جنوحاً نحو المشاركة أو الديمقراطية المباشرة، مرده بالأساس الشعور بالفرق الشاسع الذي يفصل بين ما يجري في المجالس المنتخبة وبين آراء الناس والحياة اليومية، وهو ما يبرزه التراجع الكبير الذي تعرفه آليات الديمقراطية التمثيلية في أنحاء العالم كافة. فقد ضَعُفتْ مصداقية المجالس المنتخبة؛ سواء كانت برلمانات أو مجالس محلية.

وأبرز دليل على ذلك عزوف الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم خلال الانتخابات وحتى على مستوى التسجيل في القوائم الانتخابية، وهو ما أبرزته نتائج الكثير من الانتخابات؛ سواء في الوطن العربي أو حتى في أوروبا. وهو ما يؤكد فقدان مقاطعي الانتخابات المصداقية في أداء الهيئات المنتخبة بطريقة غير مباشرة، وأن هذا النظام أصبح في أزمة‏[4].

2 – الديمقراطية التشاركية والتمثيلية: علاقة تكامل لا تنافس وتنافر

برزت الديمقراطية التشاركية لا لإلغاء الديمقراطية التمثيلية كلياً، ولكن لتجاوز قصورها وعجزها عن التفاعل والتجاوب مع معطيات اجتماعية جديدة تتمثل بخاصة بظهور حركات اجتماعية تعرف اتساعاً متزايداً (حركات نسائية وبيئية وحقوقية واجتماعية…). ولا يجد المواطنون في الديمقراطية التمثيلية قنوات للتعبير عن حاجاتهم ومطالبهم وإيجاد حلول لها ولا منفذاً لموقع القرار السياسي لتداولها. في حين تعتبر الديمقراطية التشاركية ديمقراطية فاعلة لحل المشاكل عن قرب وضمان انخراط جميع شرائح وفئات المجتمع وتطوير التدبير المحلي والوطني من طريق التكامل بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية.

تحاول مقاربة الديمقراطية التشاركية أن ترمّم العجز الذي تفرضه نتائج العملية الانتخابية في خلق مجالس تمثيلية لا تتناسب بالضرورة ورأي الأغلبية المطلقة، إضافة إلى حلّ معضلة كون المواطن مستقـلاً بصوته الذي أدلى به وقتيّاً وموسميّاً‏[5] من دون أن يكون له الحقّ في متابعة القضايا التي تمسّ واقعه اليومي بالنقد أو المساءلة والرقابة، حيث تحولت حقوق المواطن السياسية إلى حقوق انتخابية موسمية وليست حقوقاً مستمرة ومباشرة تمكنه من نقد خيارات التدبير والتسيير المحلي عن قرب‏[6].

يفترض التفكير السليم أن تنبع القرارات التي تعني القاعدة منها كونها الأدرى بحاجاتها والأقدر على صياغة توجهات ترضيها، حيث يقع مناقشتها ضمنها لتحال بعد ذلك إلى السلطة العمومية المخولة لتقنينها. وهو الشيء غير المتبع حالياً، حيث تصدر القرارات من القمة ويتم إلزام القاعدة على الرغم أنه لم تتم استشارتها أو الأخذ برأيها بل تم الاكتفاء بتشريك ممثلها في البرلمان أو المجلس البلدي الذي قد لا يدرك انعكاسات القرار على المواطنين أو المعنيين به.

تمكن الديمقراطية المباشرة من وضع المواطنين في موقع يتمكنون من خلاله من فهم وتبادل الآراء والتصرّف بمسؤولية في صنع القرارات السياسية وصياغة القوانين. وتمكن هذه المشاركة الفاعلة من ضمان أن يكون القرار الذي يصدر معبراً عن الإرادة العامة وليس بناءً على رغبات نخبة معيَّنة. ولا يعتبر القرار الذي يصاغ وفق هذه الطريقة قرار أغلبية أو أقلية وإنما قرار كامل أفراد المجتمع الذين شاركوا في الصياغة.

ثانياً: الميزانية التشاركية: المفهوم والمنهجية المعتمدة

 

1 – الإطار المفاهيمي

لقد تزامن ظهور مفهوم الموازنة التشاركية مع مفهوم الحكم الرشيد الذي أطلقته مجموعة من المانحين الدوليين في أواسط ثمانينيات القرن الماضي في ظلّ حرصها على إحكام التصرف في الاعتمادات والمساعدات التنموية (L’aide internationale au développement).

توجد الكثير من التعريفات للميزانية التشاركية وتنبع الاختلافات الموجودة في التعريفات من اختلاف بيئة تطبيقها. وعموماً تعرّف الميزانية التشاركية على أنها الآلية التي يساهم من خلالها المواطنون في مسار اتخاذ القرار المتعلق بكيفية صرف جزء أو كلّ الميزانية المتاحة لعملية المشاركة. وهي بذلك التجسيم الأصيل للديمقراطية المباشرة، حيث تتاح للسكان من خلالها أن يقرروا مآل الأموال المرصودة وفق حاجاتهم وتطلعاتهم، مع التزام الهيئات المنتخبة بتنفيذ ما تم إقراره من طرفهم.

وتعتبر مدينة بورتو أليغري أول مدينة في العالم تبنت هذه الآلية منذ سنة 1989. وكانت البداية بمدينة صغيرة تتبعها وتسمى غارفاتات GR VATAT وتحتوي على 230 ألف ساكن.

ومن الناحية التاريخية نسبت الميزانية التشاركية لأحزاب اليسار البرازيلية باعتبارها الأغلبية الحاكمة في المجلس البلدي لبورتو أليغري في ذلك الوقت. ففي الوقت نفسه الذي ينتخب سكان مدينة بوررتو أليغري فيه رئيس البلدية الذي يتعاطف مع احتياجاتهم، باعتباره من اليسار المعروف بالانحياز لمشاغل الفئات المسحوقة، كانت عملية إعداد الموازنات بالمشاركة في البرازيل من وجهة نظر حزب العمال بمثابة أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، كونها تمكن من إعادة توزيع الموارد العامة على الفقراء الذين حرموا منها. كما تم اعتبارها وسيلة تحقيق العدالة السياسية، لأنها تتيح للمواطنين، من دون تمييز حق المشاركة والمناقشة في بلورة السياسات والتوجهات التنموية والذي حرموا منه من قبل.

على الرغم من وجود صبغة سياسية لعملية تجريب الميزانية التشاركية منذ نشأتها، فقد تحولت عملية إعداد الموازنات بالمشاركة من اتجاه سياسي إلى منهج في تدبير المالية العمومية، وأصبحت العملية بسبب تبنيها من الجميع ثمرة للحركات الوطنية. وانتفى اللون السياسي للنشأة والظهور.

وتطبيقاً لهذه الآلية في البرازيل يتم علاوة عن المجلس البلدي المنتخب بطرق ديمقراطية تقليدية تمثيلية إحداث مجلس للميزانية منبثق مباشرةً من القاعدة الشعبية، مكون من نواب الأحياء الذين وقع انتخابهم في أحيائهم. ويقوم النواب طوال فصل الصيف بتنظيم نقاشات حول الميزانية مع المجلس البلدي، وخصوصاً مع رئيس البلدية من أجل تحديد تفاصيل وأوَّليات ذلك القسم من الميزانية الذي انتزعته الجماهير بطريقة ديمقراطية سلمية لتقرر مآله وفق حاجياتها وانتظاراتها. ويقوم نواب الأحياء بالرجوع دوماً إلى حلقات اللقاء الصغيرة في الأحياء ليقدموا لها تقريراً عما توصلوا إليه، وهو ما يعزز مبادئ المساءلة والشفافية والثقة بين المواطنين والسلط العمومية.

وفي نهاية الدورة السنوية لإعداد الميزانية‏[7] يتبنى رئيس البلدية القرارات التي تنتج من منتديات الأحياء ويدرجها في ميزانية البلدية ويقوم بتنفيذها. ويكمن التفرد في تجربة بورتو أليغري في ذلك العدد الكبير من فئات العمال من الرجال منهم والنساء ومن جميع الأقليات التي تنخرط في هذه العملية الديمقراطية وتتابعها في مراحلها كافة.

ويؤدي إعداد الموازنات بالمشاركة، بحسب عدد من التجارب العالمية في الميدان إلى:

– تحقيق النجاعة الاقتصادية: حيث تعمل المشاركة على ترشيد القرارات وترتيب الأولويات بحسب حاجات السكان، مما يحقق نجاعة في الاستخدام الأمثل للموارد المحلية المتاحة. كما تتيح المشاركة توفير المعلومات المتعلقة بواقع عيش السكان بما يضمن اتخاذ القرارات الصائبة في الغرض.

– ضمان التأييد الشعبي للمشاريع المنجزة: تعتبر المشاركة وسيلة لتقريب حاجات السكان ومطالبهم من دوائر القرار مما يحقق رضى السكان المحليين ودعمهم للمشاريع التنموية.

– ترسيخ قيم المساءلة الاجتماعية: يستلزم تطبيق الموازنة التشاركية تكريس الشفافية في مختلف تعاملات السلط العمومية بما يخلق ثقة في طرائق التصرف في الأموال العمومية، وهو ما يحفز المواطنين على أداء واجباتهم الضريبية، وبذلك زيادة الإيرادات التي ستخصص حتما لتحسين ظروف عيش المواطنين.

يبرز جلياً مما تقدم، أهمية اعتماد هذه المقاربة، وخاصة في البلدان العربية التي عرفت ثورات على أنظمة الحكم الاستبدادي الحاكمة فيها منذ سنوات على غرار تونس ومصر، وخصوصاً بعد ظهور مجتمع مدني نشيط يقوم بالضغط على الحكومات من أجل الإصلاح والتغيير عبر تنظيم حملات المناصرة وحشد التأييد العام والنضال السلمي من أجل القطع مع الممارسات القديمة في تدبير الشأن العام. كما يمكن أن تبرز أهمية هذه التجربة ضمن البلدان العربية التي تعرف أنظمة سياسية مستقرة وتقدمت أشواطاً ضمن وضع برامج إصلاحية في تطوير أنماط الحوكمة العمومية على غرار المغرب والأردن ولبنان.

2 – المنهجية المعتمدة ومجالات التطبيق

تختلف المنهجيات المعتمدة في تطبيق الميزانية التشاركية تبعاً لخصوصية كل تجربة ولبيئة تطبيقها. ويكمن الاختلاف في عدد المراحل الواجب اتباعها وحتى في مضمونها وفي ترتيبها زمنياً. ولكن رغم ذلك، تشترك كل المنهجيات الموجودة في أدبيات التجارب الناجحة في تجريب الميزانية التشاركية في وجود ثلاث مراحل أساسية تستند إلى تقسيم خطوات تطبيق المنهجية بحسب موقع منتديات الأحياء نظراً إلى اعتبارها المرحلة العملية للمشاركة المواطنين. فيتم تمييز المرحلة التي تسبق عقد منتديات الأحياء من مرحلة عقدها، ثم المرحلة التي تلي ذلك.

ويمكن اعتبار هذا التقسيم الأكثر واقعية باعتبار أن الاعتماد على الوسائل لوصف المنهجية غير ذي معنى لكون الوسائل المستعملة كالاتصال والمرافعة، نجدها في المراحل كافة، بحسب عقد منتديات الأحياء.

– المرحلة الأولى: مرحلة التحضير والإعلام

يتم خلال هذه المرحلة التعريف بالمنهجية وبمبادئ عملية الإعداد ويتم التداول في نسبة الموازنة التي سيتم تنفيذها عبر الميزانية التشاركية ومجالات التدخل؛ سواء من الجانب الجغرافي أو القطاعي، فضـلاً عن مختلف المعايير والضوابط المرجعية المعتمدة في هذه العملية. وعادة ما يتم تقنين العملية بتداول المجلس البلدي في الغرض، التي يمكن اعتبارها إشارة انطلاق المسار.

تطبّق الميزانية التشاركية في جميع المناطق من دون الأخذ بعين الاعتبار عدد السكان أو المساحة الجغرافية أو غيرها. وقد أثبتت التجارب العالمية في الميدان أن هذه الآلية قد طبّقت في المدن الفقيرة والمدن الثرية وفي المدن الساحلية والداخلية وفي الأرياف أو المدن الأكثر تحضّراً. ويمكن تفسير تركز التجارب العالمية للميزانيات التشاركية في مستوى المدن الكبرى بوجود منظمات ومجتمع مدني قوي قادر على التعبئة، وهو الشيء الذي حصل في البرازيل من خلال حزب العمّال.

يستوجب تطبيق الميزانية التشاركية تقسيم المجال الترابي للبلدية إلى عدة أحياء مع مراعاة مبدأ التمثيلية‏[8] في مستوى كل حي. وليس من الإجباري أن يكون التقسيم المتبع مطابقاً لتقسيم إداري موجود صلب البلدية على غرار الدوائر البلدية أو الوحدات اللامحورية للبلدية والتي عادة ما نجدها في البلديات الكبرى قصد تقريب الخدمات من المواطنين‏[9]. ولا توجد معايير عالمية في تحديد طريقة تقسيم التراب البلدي، غير أن ذلك لا يمنع البلدية من الأخذ بعين الاعتبار عند تنظيم منتديات الأحياء تخصيص أماكن تقرب أكثر الإمكان من مقر سكن المواطنين.

على سبيل المثال، يمكن أن تحرص البلدية على أن تكون كل مقار الاجتماعات في شعاع لا يتجاوز 5 كلم من مقر إقامة سكان الحي ضماناً لحضورهم ولجدوى العملية الاتصالية التي يجب أن تسبق تاريخ عقد الاجتماع بمدة معقولة، حتى تؤدي الوظيفة المنشودة منها. وكذلك درءاً لفرضية عدم حضور الفئات الهشة للاجتماعات ومنتديات الأحياء على غرار النساء والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب عدم حوزتهم لمصاريف التنقل أو لبعد المسافة التي تتطلب مجهوداً بدنياً نظراً إلى حالتهم الصحية التي لا تمكنهم من ذلك.

تختلف طريقة تخصيص الاعتمادات بحسب البعد الجغرافي أو القطاعي وتُعتمد طريقة التخصيص بحسب البعد الجغرافي في وجود حاجة ملحة إلى النهوض ببعض المناطق التي تعاني تراكم مشاكل على غرار أحواز وأحزمة المدن الكبرى المنتصبة بصفة فوضوية والأحياء القصديرية وأحياء الصفيح والعشوائيات. بينما تُعتمد طريقة التخصيص بحسب القطاعات، وذلك سواء باختيار من السلطة بحسب أولويتها في الغرض التي تختلف من سنة إلى أخرى أو حتى تبعاً لرغبة المواطنين الذين يُستفتون بأي شكل من الأشكال في مجال التدخل. فيمكن أن تقتصر المبالغ المطروحة للمناقشة في الموازنات بالمشاركة على الموارد المخصصة لمجال واحد، مثل الترصيف أو الإنارة أو البرامج الاجتماعية أو الرعاية الصحية أو غيرها من المجالات. كما يمكن أن تشمل المشاركة أكثر من بند أو مجال في الوقت نفسه، وهو عادة ما يكون بعد تراكم الخبرة في اعتماد الآلية لعدة سنوات.

لا توجد معايير أو مقادير محددة لنسبة الميزانية التي ستتاح للمشاركة الشعبية، ولكن أثبتت التجارب العالمية في الميدان أن هذه النسبة تراوح بين 5 و10 بالمئة من الميزانية المنجزة فعلياً في السنة الفارطة (التي تختلف من الميزانية الأولية باعتبار ارتباطها بتحقيق التقديرات) بعنوانيها. وعلى الرغم من أن الميزانية التشاركية لا تهم إلا ميزانية الاستثمار أو التنمية، فإن أغلب التجارب تقوم باحتساب نسبة الاعتمادات المفتوحة بعنوان الميزانية التشاركية من مجمل الميزانية، وليس من مجمل ميزانية التنمية.

من جهة أخرى، توجد تجارب في العالم، وبخاصة في أفريقيا، تقوم بتخصيص جزء فقط من الاعتمادات المحالة من السلطة المركزية لعملية الميزانية التشاركية وتحتفظ بالمنهجية القديمة، بالنسبة إلى باقي اعتمادات ميزانيتها.

كما قامت الكثير من التجارب في العالم بتخصيص 100 بالمئة من المبالغ المخصصة لبعض البنود أو مجالات التدخل لعملية المشاركة. وهو أمر غير منصوح به على اعتبار أنه لا بدّ من أن تحتفظ الأجهزة الحكومية بهامش من سلطة القرار على الميزانية في كلّ البنود للقيام بتدخلات تفرضها معطيات هي ليست بالضرورة وليدة اختيار ديمقراطي، كما هي الحال بالنسبة إلى المشاريع الاقتصادية والصناعية وغيرها التي لا تكون عادة في جدول اهتمامات المواطنين.

على الرغم من عدم وجود أسباب تمنع من التداول في الميزانية التشاركية في اعتمادات بحسب خطة تمويلية ممزوجة متكونة من قرض ومنح وتمويل ذاتي على غرار ما هو معمول به في عدد من الدول لتمويل مشاريع البنية الأساسية، إلا أن التجربة العالمية تحبذ التداول في مبالغ متكونة بالأساس من التمويل الذاتي، وذلك على سبيل الحذر، إذ يمكن في حال وجود إشكاليات في استكمال الخطة التمويلية بعنصري المنحة أو القرض، أن ينعكس ذلك سلباً على تنفيذ المشروع وتنزيله على الواقع، بما له من أثر بالغ الأهمية في فقدان الثقة بين المواطن والبلدية واستحالة استرجاعها مستقبـلاً.

وبعد تحديد مختلف هذه المعايير وتبنيها من طرف المجلس البلدي بمقتضى مداولة في الغرض لإعطائها البعد الرسمي، يقع بعد ذلك إعلام العموم بما تم الاتفاق عليه من حيث الميزانية التشاركية‏[10] وذلك من خلال خطة اتصالية تستعمل فيها كل وسائل الاتصال المتاحة، بما يضمن إعلام العموم بالتوجه التي تبنته البلدية. وتعتبر هذه المرحلة الأكثر أهمية، حيث أثبتت التجارب الناجحة في الميدان أن نسبة المشاركة الفعلية في منتديات الأحياء مرتبط بكفاءة إدارة الحملة الاتصالية التي يجب أن تكون في متسع من الوقت، بما يتيح الفرصة لاستهداف أكبر قدر من المواطنين. من جهة أخرى، يوجد عدد من المعايير التي تؤكد أن الخطة الاتصالية الناجحة هي القادرة على استهداف 10 في المئة على الأقل من سكان المنطقة البلدية.

– المرحلة الثانية: مرحلة تنظيم المنتديات

يقع خلال هذه المرحلة تنظيم منتديات الأحياء التي سيتم من خلالها تجميع مقترحات المشاريع وانتخاب نواب الأحياء وهو ما يستلزم تحضيراً لوجستياً سابقاً يوفر ظروفاً ملائمة لعملية المشاركة. وتختلف مدة منتديات الأحياء، فيمكن أن تكون في يومين أو أكثر وبصفة متتالية او منفصلة.

وتؤكد التجارب الناجحة أنه وجب الحرص خلال الاجتماع الشعبي في كل حي على قيام البلدية بفتح بياناتها وتفسير طرائق عملها بشتى الوسائل المختلفة من خلال تنظيم عروض حول المالية المحلية والتصرف في المشاريع التنموية ومختلف جوانب التصرف العمومي بما يتيح للمواطن فهم الموضوع.

ويستوجب اعتماد التبسيط والاختصار واللغة المبسطة والمفهومة من العموم نظراً إلى طغيان الجوانب التقنية على عمل الهيئات العمومية، وخصوصاً في الجوانب المالية والتنموية.

ويتم خلال منتديات الأحياء انتخاب مندوبي كل حي من طرف السكان ليمثلوهم في مجلس الميزانية الذي تعهد إليه تحديد الأموال المفتوحة بعنوان الميزانية التشاركية. ولا بد من أن تكون عمليات الانتخاب شفافة ونزيهة ومفتوحة للمراقبة والملاحظة من طرف الجمعيات أو الهيئات المتخصصة في مراقبة الانتخابات، ويلتزم النائب بالدفاع عن المشاريع المقترحة من سكان حيه وإعلام هؤلاء بكل المستجدات.

ويجدر تأكيد أن الترشح لصفة مندوب حي، لا يمكن أن تكون إلا على سبيل التطوع ضماناً لحياد المسار. كما يجب الحرص على التمثيلية في مستوى الترشُّح لخطة مندوبي الأحياء بفرض تواجد المرأة والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة‏[11]، بما يضمن الاستناد إلى النوع الاجتماعي في العملية الانتخابية.

ويمكن أن تضع البلدية شروطاً يستوجب توافرها في المواطنين الراغبين في الترشح لخطة مندوب حي شرط أن يتم التوافق مع جميع الأطراف المشاركة فيها على أن لا تقصي أي طرف وأن تتلاءم مع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمدينة فلا يمكن أن تشترط مستوى تعليمٍ متقدمٍ في بيئة تغلب عليها الأمية.

ويلتزم المندوبون بإعلام سكان الحي بكل المستجدات التي يعرفها مسار التداول في الميزانية التشاركية، بداية من الإعداد ومروراً بالتنفيذ إلى غاية المراقبة والمتابعة، وهو ما يخلق اهتماماً وتفاعـلاً بين السلطة العمومية ومواطنيها، سينعكس إيجاباً على النجاعة الاقتصادية للمشاريع المبرمجة، والتي أصبحت بذلك تستجيب لحاجات المواطنين وتضمن تأييدهم لها وحرصهم على صيانتها والمحافظة عليها.

كما يؤدي ذلك إلى زيادة الموارد البلدية بسبب اقتناع المواطنين بشفافية مسار الإنفاق العمومي وأن الضرائب والرسوم التي يقومون بدفعها، ستعود إليهم في شكل استثمارات وخدمات ذات جدوى ولصالحهم وصالح المجموعة الوطنية، وهو ما يمكّن البلدية من إيجاد مصادر تمويل دائمة ترفع من قدراتها على الاستثمار والتداين بصورة مستديمة بفضل قدرتها على خلاص أقساط القروض وكسب ثقة الممولين والمقرضين.

وتعتبر نسبة المشاركة في منتديات الأحياء إحدى ركائز نجاح التجربة من عدمها، حيث إن المشاركة تضفي شرعية ومصداقية على التجربة برمتها. وهذه الشرعية يمكن تحقيقها من خلال جهود اتصال قوية من الأجهزة البلدية حتى يشعر كل فرد بأنه مدعو إلى المشاركة، وكذلك بتمكين المواطنين من الاطلاع على المعلومات المالية والقرارات التي يتم اتخاذها في عملية إعداد الموازنات بالمشاركة.

وبصفة عامة تكون المشاركة بنسبة أكبر في المدن الصغيرة أو عندما يتم عقد الاجتماعات في أماكن محدودة جغرافياً. ومن الضروري أن نلاحظ أن عدد المشاركين يختلف بصورة كبيرة من عام إلى آخر. هذا إضافة إلى أنه توجد درجة عالية من التغيير في المشاركين من سنة إلى أخرى، حيث تكون نسب الإقبال على المشاركة منخفضة في السنوات الأولى، ثم يبدأ عدد المشاركين في الارتفاع مع ترسخ العملية وتراكم التجربة واتساع دائرة المشمولين بعملية الإعلام والاتصال‏[12].

فقد شارك في السنة الأولى لتجربة مدينة بورتو أليغري، التي يسكنها 1.2 مليون نسمة نحو 1000 مواطن فقط. وقد وصل معدل المشاركة في سنة 2010 إلى 40000 مشارك. وليس من الضروري أن ينتمي الفرد إلى أي منظمة لكي يشارك. وعلى الرغم من أن المنظمات ومكونات المجتمع المدني الأخرى تؤدي دوراً مهماً، فهي ليس لها أي امتيازات في مسار إعداد الميزانية رغم تواجدها الكثيف.

ويتم تتويج هذه المرحلة باختيار المشاريع التي سيتم تنفيذها بحسب ما تتيحه المبالغ المرصودة للغرض، وذلك بعد ترتيب كل المقترحات التي تمت إحالتها من الأحياء والتداول في شأنها من طرف مجلس الميزانية والمتكون من نواب الأحياء والاقتراع في نهاية المطاف على المشاريع التي سيتم تنفيذها ضمن الميزانية المقبلة. ويكمن التفرد في هذه الآلية في ترسيخ مبادئ الديمقراطية من خلال ترتيب مختلف المشاريع وإعطائها أولوية بما يجعل النواب في آخر المطاف يصوتون لمشاريع ليست بالضرورة في أحيائهم وتنتفي بذلك كل أشكال التعصب والاستبداد بالرأي المبني على المصلحة الضيقة لتشمل أفقاً أرحب.

ولا يمكن أن نغفل خلال هذه المرحلة الدور المهم الذي تؤديه الإدارة البلدية عبر المساندة الفنية التي تقدمها لمجلس الميزانية التشاركية من خلال احتساب الكلفة التقديرية للمشاريع المقترحة والتأكد من جميع جوانبها الفنية من حيث الجدوى وقابلية الإنجاز وتوافر المقاولات والمواد الخام والتكنولوجيا والأثر في البيئة والمحيط، وغيرها من الدراسات التي تسبق تنفيذ المشاريع التنموية باختلاف مجالاتها.

– المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد المنتديات

يتم خلال هذه المرحلة إدراج مشاريع الميزانية التشاركية ضمن الميزانية البلدية ويتم المصادقة عليها من طريق الجهاز المنتخب مثلما تنص عليه التشريعات الوطنية. كما يقع خلال هذه المرحلة الاتفاق على رزنامة تنفيذ المشاريع التي تلتزم الجهات المسؤولة باحترامها والتقيد بها من أجل الحفاظ على مصداقية المسار. ويقع الحرص على حضور نواب الأحياء المنتخبين من طرف المواطنين دورة المجلس البلدي المخصص لذلك لممارسة الرقابة المستوجبة على الآلية. كما تحرص الجهات الحكومية على إتاحة الفرصة للنواب، قصْد معاينة جميع الإجراءات المتعلقة بالشراءات العمومية، وذلك ضماناً لشفافية الإجراءات وتفعيل المنافسة وضمان اختيار المقاولين والمزودين الذين تتوافر فيهم المؤهلات الفنية المستوجبة في مثل تلك الأعمال. كما يتاح للنواب فرصة التواجد في حضائر الأشغال وإمكان الاطلاع على كل الأعمال المتعلقة بالتنفيذ، وذلك قصد القيام بالمتابعة والمراقبة بحسب المعايير المرجعية المضبوطة، ضمن كراسات الشروط التي كانت موضوع المنافسة والتي ساهموا في صياغتها.

كما ينطلق في الآن نفسه التحضير لمسار الميزانية التشاركية للسنة المقبلة بشكل يكرس هذا التوجه ويجعله من العادات المترسخة في طريقة تدبير الأمور في البلدية.

ثالثاً: عوامل نجاح تطبيق الميزانية التشاركية

إنّ نجاح آلية الميزانية التشاركية بحسب ما تم تقديمه سابقاً، يتطلب توافر عدد من المقوّمات والشروط والتي يمكن عرضها كما يلي:

1 – وجود الالتزام السياسي أو الإرادة السياسية من طرف الجهاز المنتخب

وهو ما يمكن استخلاصه من خلال اقتناع صنّاع القرار بقواعد هذه الآلية، وما يترتب عنها من تخلٍ عن بعض الصلاحيات لفائدة المواطنين مع الانصياع التام لقراراتهم في ما بعد.

هذه الإرادة لا بد من أن تترجم بإصدار قرار اعتماد الآلية بعد التداول في الموضوع من الطرف الجهاز التداولي. ويترتب على ذلك أن هذا المسار غير ذي رجعة ومتواصل لكون القبول بالانخراط فيه يقتضي موافقة ضمنية على استدامة المسار وتقويته من سنة إلى أخرى واتباع منهج الشفافية وقبول المسائلة في جميع الأعمال المتخذة من طرف المواطنين.

في السياق نفسه، لا يمكن الجزم بأن سن قوانين خاصة بعمليات إعداد الموازنات التشاركية على غرار ما هو معمول به في البيرو والمملكة المتحدة من مقتضيات نجاح هذه الآلية، حيث إن عملية إعداد الموازنات بالمشاركة في معظم المدن البرازيلية ليست مؤسسية ولا تشريعية. وتعتمد على إرادة هيئات الحكم أو الإدارة المحلية من خلال حثها المواطنين على المشاركة والتفاهم على قواعد وإجراءات لخوض تجربة الميزانية التشاركية. ويكمن السبب في عدم إضفاء الصفة المؤسسية على عملية إعداد الموازنات بالمشاركة في الحرص على حفظ دينامية العملية وتجنب البيروقراطية والروتين الإداري. وتسمح المناقشات السنوية – بهدف تعديل قواعد الإجراءات بما يتناسب مع الواقع المحلي – بالتنظيم التلقائي للعملية والمحافظة على طبيعتها الإبداعية.

يلاحظ في هذا السياق أن عدداً من البلدان العربية قد جعلت من المشاركة مبدأً دستورياً لإبراز الأهمية التي يكتسبها ضمن سياستها العمومية على غرار تونس والمغرب والأردن. كما تبرز هذه المكانة المتميزة للمشاركة من خلال معرفة حجم التمويلات المتاح للهيئات المحلية بالمقارنة مع جملة الإنفاق العام. فعلى سبيل المثال، تخصص المغرب أكثر من 11 بالمئة من الميزانية العامة لفائدة القطاع المحلي بما يحفز المواطنين على المشاركة تبعاً لحجم الاستثمارات.

2 – اهتمام المجتمع المدني

يؤدي المجتمع المدني دوراً بارزاً في مسار الموازنة التشاركية، وبخاصة من خلال تعبئة الرأي العام للانخراط في الآلية مع بيان أهميتها في تحسين تدبير شؤون المدينة. ويقوم من أجل ذلك بحملات المناصرة والمرافعة من أجل فرض اعتماد هذه الآلية من طرف السلطة المحلية التي لم تبادر من تلقاء نفسها إلى ذلك، مع الحرص على فتح البلديات بياناتها للعموم وتقديم المعلومات المتعلقة بالتسيير العمومي للمواطنين بصورة مفهومة ومبسطة تحفز المواطن على المشاركة، مع وجوب إلغاء كل القيود الموجودة أمام المواطن للنفاد إلى المعلومة ومعاقبة المخالفين في حال تعمدهم ذلك.

كما تؤدي مؤسسات المجتمع المدني دوراً مهماً في تثقيف المواطنين في المجالات المرتبطة بتسيير الشأن العام على غرار المالية وبرمجة المشاريع وغيرها. ويبرز ذلك جلياً في بلدان الوطن العربي، وذلك من خلال الحراك الذي يعرفه المجتمع المدني في كل من تونس والأردن والمغرب ومصر. فعلى سبيل المثال، تضاعف عدد الجمعيات في تونس خلال السنوات الأربع الأخيرة ليبلغ نحو 18000 جمعية.

3 – اعتماد خطة اتصالية ناجعة تستهدف الجميع

يعتبر هذا الجانب من أكثر الجوانب أهمية في نجاح التجربة من عدمها. وقد أثبتت التجارب الأجنبية في هذا المجال، أن إعداد خطة اتصالية مدروسة تضمن حظوظاً وافرة في النجاح. وتشمل الخطة الاتصالية تحديد الفئات المستهدفة بالخطاب واستعمال جميع الوسائل والوسائط المتاحة على غرار البلاغات الكتابية والنشريات والمطويات والمعلقات ومضخمات الصوت المحمولة على السيارات ووسائل الاتصال الاجتماعي ومواقع الويب والبريد الإلكتروني ومقاطع الفيديو والأفلام والموزعات الصوتية والبرامج الإذاعية والتلفزية والاجتماعات العامة والتعليق في المقار والأسواق الأسبوعية واليومية والمقاهي والمنتزهات، وكل الاماكن كثيرة الارتياد.

وتعتبر استطلاعات الرأي العام وسبر الآراء وبطاقات التقييم المجتمعي أدوات مناسبة أخرى، يمكن أن تستخدم للتحقق من مستوى الإدراك بالعملية وشرعيتها بين المواطنين، فضـلاً عن الاستفتاءات الشعبية بما يسمح بالتصويت على قرارات مهمة معينة والتي تعرفها الكثير من الدول على غرار سويسرا وأضحت تقليداً في تدبير شؤون المدينة. والهدف المهم الآخر هو أن تشمل المشاركة على الرغم من محدوديتها المواطنين من كل فئات المجتمع ولا تستثني أحداً من العملية. لهذا السبب يجب أن توجه عناية خاصة لإشراك النساء والشباب والفقراء والأقليات وأصحاب الحاجات الخصوصية. وتعتبر الأردن من الدول الرائدة في هذا السياق من خلال التقدم في مجال المساءلة الاجتماعية واعتماد بطاقة التقييم المجتمعي في عدد من القطاعات، فضـلاً عن المسوحات الدورية المقامة لقياس درجة رضى المواطنين من الخدمات العمومية المقدمة.

4 – الإعداد الجيد للمسار

يكون ذلك من خلال الإلمام بكل التفاصيل وبخاصة من خلال إحداث هيئة قيادة مكلفة بالموضوع تعهد إليها عملية التنسيق بين مختلف الأطراف الفاعلة في الموضوع وبخاصة الإعداد اللوجستي للاجتماعات من حيث توافر المقار والكراسي وأدوات العرض وتوفير ميسيرين محترفين لإدارة منتديات الأحياء وضمان حياد المسار في مراحله كافة.

ويقتضي التطبيق المحكم لآلية الموازنة التشاركية توافر عدد من المتطلبات:

  • وجود فريق عمل محلي مدرب على تنفيذ العملية ويقبل العمل ليـلاً وفي عطلات نهاية الأسبوع.
  • وجود وسيلة نقل للسماح بالتجول بين الأحياء وانتقال فريق العمل.
  • موارد اتصال موسعة تسمح بتشارك المعلومات مع المواطنين
  • إدارة بلدية تقوم بإعداد دراسات فنية واقتصادية ودراسات جدوى لأولوية الطلبات. كما يقومون بتسريع العملية وضمان جودتها.

ومن الضروري توفير وسائل مواصلات لنقل الأشخاص الذين يسكنون في مناطق بعيدة إلى مناطق الاجتماعات. وكذلك لتدريب الموظفين والمواطنين والنواب بصفة خاصة على عملية إعداد الموازنات بالمشاركة. وبوجه عام، واجهت المدن التي لم تخطط لهذه التكاليف صعوبات، وفي بعض الحالات وصل الأمر إلى إيقاف العمل. وتالياً فإنه من الضروري إجراء تحليل للنفقات والعوائد قبل اتخاذ قرار بتنفيذ عملية إعداد الموازنات بالمشاركة.

خاتمة

تعرف الديمقراطية التمثيلية في كل أنحاء العالم أزمة منذ سنوات وذلك بسبب وجود فارق شاسع بين انتظارات المواطنين وأداء الهيئات المنتخبة؛ سواء كان وطنياً أو محلياً. ويتجلى ذلك بالأساس في قلة الإقبال على الانتخابات على جميع المستويات وضعف النتائج المسجلة ضمنها. وهو ما أكسب الديمقراطية المباشرة تاييداً منقطع النظير في كل الأوساط، وهو ما جعلها تقترح كحل لتلافي السلبيات التي تعرفها الديمقراطية التمثيلية في إطار من التكامل وليس التنافس.

وقد اخترنا في هذا المقال الحديث عن الميزانية التشاركية بوصفها أكثر الآليات استعمالاً لتطبيق الديمقراطية المباشرة على الرغم من وجود آليات أخرى على غرار مجلس المواطنين أو هيئة الموطنين الخبراء وهي الآليات الأكثر نفساً تشاركياً بالمقارنة مع الإعلام والاستشارة والتشاور.

وقد تم عرض أهمية الآلية ومنهجية تطبيقها ومقومات نجاحها بالاعتماد على التجارب الأجنبية الناجحة في الغرض والتي يمكن لدول الوطن العربي اقتباسها وتطبيقها باعتبار وجود تشابه بينها وبين واقع أمريكا اللاتينية وبخاصة من خلال نقص الإمكانيات. وكذلك تبعاً للتحولات التي عرفتها دول الربيع العربي من حيث إصدار دساتير وتشريعات تكفل حق المواطن في المشاركة والنفاذ إلى المعلومة وتكرس مبادئ الشفافية والمساءلة الاجتماعية، وبخاصة حرية تأسيس الجمعيات المدنية وعدم فرض قيود على نشاطاتها. كما تقدمت عدد من البلدان العربية الأخرى والمتسمة بالاستقرار السياسي على غرار المغرب والأردن ببرامج إصلاح للقطاع العام مهد لتطوير أساليب التسيير باعتماد مبادئ الحوكمة، وهو ما يحفز على المشاركة وترسيخ الديمقراطية التشاركية

ورغم النجاح الباهر الذي عرفته هذه التجربة في كل أنحاء العالم وتزايد عدد المتبنين لها يوماً بعد يوم وإمكانية استفادة أغلب البلدان العربية منها في تدبير الشؤون العمومية، فيجب أن لا يحجب ذلك وجود بعض المخاطر لها التي لا بد من أخدها بعين الاعتبار. ومنها على سبيل المثال إمكان الإضرار بالخطط التنموية والاستراتيجيات بعيدة المدى التي رسمتها السلطة بالاستعانة بالخبراء، وذلك بسبب قصر نظر المواطنين لخطط التنمية المحلية وضعف قدراتهم التشخيصية للظواهر.

كما يمكن أن تؤدي هذه الآلية إلى خلق مواطنين يستقطبون المجتمع ويهيمنون على القرار ويحتكرون دور المشاركة المجتمعية في أنفسهم، وهو ما يتسبب في الإضرار بشرعية السلطة المنتخبة وصورتها لدى المجتمع. كما قد تظهر بين المواطنين صراعات وخلافات قد تؤدّي إلى ارتداد تنموي، ينتهي بفشل التجربة الديمقراطية التشاركية المباشرة، إضافة إلى احتمال مجانبة المواطنين للموضوعية في حال تأسيس مصالح فئوية أو شخصية أو عشائرية أو قبلية ضيقة.

 

قد يهمكم أيضاً  الديمقراطية المحْدّثة: سياق أزمة ومحاولات انبعاث

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الميزانية_التشاركية #الديمقراطية #الديمقراطية_المباشرة #الديمقراطية_التشاركية