مقدمة:

بقي الموروث الأندلسي نسياً منسياً في الذاكرة والثقافة العربية منذ نهاية القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، بحيث لم يكن يتجاوز ذكره إشارات مبعثرة في كتب الأدب والفقه والتاريخ والرحلات السِفارية‏[1]. وكان الاستثناء الوحيد الذي يمكن اعتباره كتاباً متخصصاً في الثقافة الأندلسية طوال هذه المرحلة الطويلة، هو نفح الطيب الذي ألفه المقري في الثلث الأول من القرن السابع عشر‏[2]. ولملء هذا الفراغ، كان لزاماً انتظار القرن العشرين، الذي تجدد معه حضور الأندلس في الذاكرة الجماعية العربية، وفي الوقت نفسه، سيظهر اهتمام علمي من طرف المثقفين العرب بتخصصاتهم المختلفة، بهذا الموروث الحضاري.

لماذا انبعث هذا الاهتمام بشكل نكاد نقول إنه مفاجئ؟ هل هو نتيجة ظهور نخبة ثقافية «مُكْتَشِفَة» للموروث؟ وكيف تمثلت تلك النخبة هذا الموروث؟ وهل حاولت أن تعثر من خلاله في الماضي على ما لم تعثر عليه في الحاضر؟

ذلك ما سنحاول مناقشته في هذا البحث، الذي قسمناه قسمين؛ يتناول الأول الأندلس في الذاكرة العربية، ويتناول الثاني الأندلس في الكتابات العربية؛ والتي ميزنا فيها حقولاً معرفية من إبداعية مختلفة، هي: التاريخ والأدب والمسرح والفلسفة. وقد انتقينا لأجل ذلك مجموعة من الأعمال أخذناها كنموذج للتحليل؛ إما بسبب طول باع أصحابها وعمق درايتهم بالموضوع، وإما لأنهم أول من كتب في القرن العشرين عن حقل من حقول المعرفة الأندلسية، وإما لأنه تيسر لنا الوصول إلى إنتاجهم الثقافي، ولم يتيسر لنا الوصول إلى إنتاج غيرهم.

أولاً: الأندلس في الذاكرة العربية

تُعَبِّرُ الأندلس في الذاكرة الجماعية العربية عن مشاعر متضاربة، وتُوَلِّدُ مواقف متضاربة كذلك؛ فهي تعني الانتماء إلى حضارة عريقة، لكن في الوقت نفسه، تعني نوعاً من نهاية التاريخ عند العرب، بحيث تجعلهم يشعرون أن حضارتهم لا يمكن أن تتجاوز ما وصلت إليه في الأندلس، وهذا يحوّل الحضارة العربية في الوقت الراهن إلى حضارة شبه ميتة. إنها قضية منتهية في الزمن حاضرة في الوجدان، وذلك ما نلمسه عندما نتجول في أيّ مدينة عربية؛ بحيث يصادفنا اسم الأندلس وقد أُطلق على مسميات لا يربط بينها رابط، فهو اسم لمسجد، ولكباريه، ولفرقة موسيقية، ولدار بيع الكتب، ولمطعم، ولدكان ميكانيكي، ولنوع من أنواع المواد الغذائية المعلبة المعروضة في أي «سوبر ماركت».

لقد ساهم إلى حد بعيد في بلورة هذا الإحساس الذي يسبب اضطراباً في شعورنا، الكيفية التي نقدم بها الأندلس في الكتاب المدرسي العربي بمختلف مستوياته، والطريقة الرومانسية التي نَدْرُس بها تاريخها في تعليمنا الابتدائي والثانوي بل الجامعي أيضاً. وقد واكبتُ ذلك عن قرب على امتداد ربع القرن الأخير، حيث أقوم بتدريس تاريخ وحضارة الأندلس بجامعة محمد الخامس، قسم الدراسات الإسبانية، من دون انقطاع منذ سنة 1990. وجرت العادة، في الحصة الأولى، أن يُسَلِّم طلبة المادة ورقة للأستاذ، يسجّلون فيها، باختصار، ما يعرفونه عن الأندلس. الغاية من ذلك هي تقييم مستواهم، بما يساعد الأستاذ على تحديد الموضوعات المزمع تدريسها. عندما أعود إلى أوراق بعض السنوات التي احتفظت بها، وأقارنها بعضها ببعضها الآخر، يتبين لي بعامة، تكرار المعلومات التي تتضمنها، وتشابه الرصيد المعرفي للطلبة، الذي لم يتغير رغم مرور خمس وعشرين سنة. إنها الاقتناعات الحالمة البعيدة عن الواقع التاريخي نفسها، التي تكرس أطروحة الفردوس المفقود المتجذرة في الذاكرة الجماعية العربية.

أَثَرتُ هذه المسألة، في بعض المناسبات، مع زملائي أساتذة المادة ببعض الجامعات العربية، فأكدوا لي أن المشاعر نفسها رصدوها لدى طلبتهم، وهو ما يعني أننا لم ننجح حتى في الجامعة، وليس في التعليم الابتدائي والثانوي فقط، في عقلنة الدراسات الأندلسية، بما يجعلنا نخلق مسافة بين التاريخ والعواطف، أو على الأقل نتعامل مع الحدث التاريخي من دون أن نحمّله حمولة هو بريء منها. والحال هذه، تصبح الجامعة في البلدان العربية، مطالبة ليس بتلقين تاريخ الأندلس فقط، وإنما بتصحيح ما في ذهن الطالب العربي من تراكمات تنتمي إلى مراحل تعليمه الأخرى. هذا ليس بالأمر الهين، لأن ما يتلقاه الطفل أو المراهق من معلومات في سنوات حياته الأولى، يرسخ في لا شعوره ويتشبع به، وقد لا يقبل التنازل عنه، بل قد يتحول إلى قيم ترافقه طوال حياته.

في إثر الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، نزلت إحدى القنوات الفضائية العربية إلى الشارع، لتسجيل انطباعات سكان بغداد، وكان تصريح أحدهم معبراً، فقد علق على التحالف الأمريكي – البريطاني – الإسباني، الذي قاد الغزو، بقوله، إنه لا يستغرب أن تفعل الولايات المتحدة وبريطانيا ذلك، فسياستهما الإمبريالية في المنطقة معروفة، ولكنه يتأسف أن «يقوم بذلك إخواننا الذين جاؤوا من الأندلس». ومن المفارقات أن قاعدة العمليات العسكرية الإسبانية في العراق آنذاك، كانت تحمل اسم «الأندلس». وعلى امتداد عقود طويلة من القرن العشرين، كانت لإسبانيا مكانة خاصة لدى المواطن العربي، بسبب ما يسمى التاريخ المشترك. كانت إسبانيا آخر بلد أوروبي يقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل؛ فعلت ذلك في عام 1986، أي بعد سنوات من إقامة علاقات دبلوماسية بين مصر وإسرائيل.

بعد عزل محمد مرسي، وفي خضم المواجهة التي انتقلت إلى وسائل الإعلام بين المؤيدين والمعارضين لما عرفته مصر عقب 30 حزيران/يونيو 2013، نقلت القنوات التلفزيونية المصرية وبعض الفضائيات العربية، وجهة نظر إعلامي مصري موالٍ للنظام الجديد، وهو يقسم بالله ويكرر الجملة التالية: «من يقرأ تاريخ الأندلس سيعلم أن الإخوان المسلمين كانوا هم سبب سقوط الأندلس!»‏[3]. هذا النوع من اليقينيات ليس جديداً؛ فهناك تفسيرات تنحو هذا المنحى، وتعتبر أن الدور الذي أدّاه رجال الدين المتزمّتون خلال بعض مراحل التاريخ الأندلسي، كان سبباً في انهيار الكيانات العربية بالأندلس، وفي تزايد وتيرة «الريكونكيستا» (حروب الاسترداد) التي أدت في نهاية المطاف إلى سقوط الأندلس.

إنه موقف ينم عن جهل كبير بالواقع التاريخي للأندلس. صحيح أن الفقهاء المتزمتين أدّوا دوراً سلبياً في تاريخ الأندلس، إلا أنه لم تكن لهم إلا مسؤولية محدودة في ضعف الدول، بل نسجل أحياناً، أنه خلال بعض المراحل التي كان لهم فيها نفوذ، ازدادت قوة الدولة وتوقفت «الريكونكيستا»، كما هي الحال على عهد المرابطين؛ فقد منح سلاطين هذه الدولة نفوذاً غير مسبوق لفقهاء المالكية، وتراجع التسامح مع أهل الديانات الأخرى الذي عرفته الأندلس من قبل، ولكن في المقابل، أصبحت هناك دولة إسلامية قوية. وبفضل التدخل المرابطي، الذي تم بإلحاح من فقهاء الأندلس الذين ينعتون بالمتزمتين‏[4]، عاشت هذه الأرض أربعة قرون أخرى تحت راية الإسلام.

إن الدولة في الأندلس استمدت قوتها من تنظيمها العسكري المحكم، ومن انتصاراتها الميدانية، ومن قمع أية معارضة دينية أو دنيوية، وليس من موقف الفقهاء. والدليل أن الموحدين الذين جاءوا بعد المرابطين، رفضوا المذهب المالكي، وأحرقوا كتب المالكية، وكان الإعدام أو النفي والتشريد هو مصير كل فقيه أو داعية يرفع شعار المالكية، ومع ذلك استمرت الدولة قوية، بل كوّن الموحدون أقوى دولة في تاريخ الغرب الإسلامي؛ تمتد من إسبانيا شمالاً إلى الحدود المصرية – الليبية شرقاً.

إن هناك توظيفاً مثل الذي سلف ذكره للأندلس وتاريخها، من طرف بعض العلمانيين في العالم العربي المعاصر؛ وهناك توظيف مناقض من طرف السلفيين ودعاة الإسلام السياسي، الذين يعتبرون أن سبب سقوط الأندلس هو تخلي حكامها عن الإسلام كما يفهمونه هم. وقد ذهب بعضهم إلى الدعوة إلى استعادة الأندلس من خلال «الجهاد»، في ظل خلافة إسلامية. بدأ هذا الخطاب يتبلور عقب تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر، حيث تحدث بن لادن آنذاك، عن ضياع الأندلس، واعتبر أيمن الظواهري أن «من واجب المسلمين استعادة الأندلس»‏[5]، وأن ذلك «أمانة على أكتاف الأمة». وقد لقيت الدعوة تجاوباً من قبل بعض «الجهاديين»، الذين شكلوا خلايا إرهابية لهذه الغاية‏[6]. ويعتبر بعض المنتمين إلى ما يعرف بتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، الأندلس جزءاً من دولة الخلافة التي يحلمون بإقامتها‏[7].

كل هؤلاء ما كانوا ليتبنوا هذا النوع من الاقتناعات، لولا استنادهم إلى أفكار توجد في بعض كتب التاريخ، تحمّل مسؤولية سقوط الأندلس لتحالف ملوك الطوائف مع ملوك النصارى. إنه طرح لا يستند إلى أي أساس علمي، بل هو مجرد تصور مثالي تركيبي، ترسخ في المخيال العربي انطلاقاً من تصورنا الفردوسي للأندلس، وانطلاقاً من فهمنا المغلوط للجهاد، لأن التحالف مع النصارى عرفته الأندلس على امتداد تاريخ الوجود الإسلامي، منذ عصر الولاة، الذي أعقب الفتح مباشرة، ثم خلال مرحلتي الإمارة والخلافة الأمويتين، وعلى عهد المرابطين والموحدين والمرينيين ودولة بني الأحمر. لقد حارب الجميع – بمن في ذلك ملوك الطوائف – النصارى، ولكن الجميع تحالف – وليس ملوك الطوائف وحدهم – مع النصارى عندما اقتضت المصلحة السياسية ذلك. وجعل أمراء وخلفاء بني أمية حرسهم الخاص وأهل ثقتهم من النصارى، وجعل المرابطون صفوة جيشهم من «الروم»، والشيء نفسه بالنسبة إلى الموحّدين الذين دخلوا في تحالفات مع مملكة ليون النصرانية ضد مملكة نصرانية أخرى هي قشتالة، وكان عدد من كبار قادتهم من النصارى.

ومن المفارقات التاريخية، أن أول من أوحى إلى العرب بحلم العودة إلى الأندلس، هو دكتاتور إسبانيا «فرانكو»؛ فالانقلاب العسكري الذي قام به في صيف عام 1936، وتسبب في اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، كان انطلاقاً من المغرب الخاضع للحماية الإسبانية. وقد نجح «فرانكو» في إقناع آلاف المغاربة الذين شاركوا في الحرب إلى جانبه، بأن تلك الحرب هي بين المسيحيين الذين يؤمنون بإله المسلمين نفسه، وبين الملحدين الشيوعيين الذين لا إله لهم. ذهب بعض شيوخ الزوايا الذين تحولوا إلى أبواق تنطق باسم فرانكو، إلى أن الأمر يتعلق بجهاد في سبيل الله وبإنقاذ الأندلس ومعالمها الإسلامية الخالدة التي يهددها الملحدون بالدمار‏[8].

بفضل هذه الدعاية، أصبح اسم زعيم التمرد الجنرال «فرانسيسكو فرانكو» يذكر في المساجد بكثير من التبجيل. وكان قادة القبائل يروجون عنه أنه اعتنق الإسلام وأدى فريضة الحج، وأصبح يعرف باسم «الحاج فرانكو». وكانت قضية مناسك الحج من القضايا التي تم استغلالها بدهاء من طرف قادة التمرد، الذين خصصوا سفينة سنوية، تحمل أعيان المغاربة والمتعاطفين مع المتمردين لأداء فريضة الحج، وعينت حكومة فرانكو قنصـلاً لها في جدة، ليسهل الإجراءات الإدارية. وبعد العودة من الحج، كان «فرانكو» يستقبل ممثلي الحجاج في القصور التي خلفها العرب بالأندلس‏[9].

إن ذلك لم يكن أكثر من دعاية تخدم الدكتاتورية الفرنكاوية زمن الحرب، وتضمن ولاء الجنود المغاربة المقاتلين بجانبها، ولكنها ساهمت، من جهة، في انبعاث الإسلام بمنطقة الأندلس، وخصوصاً أن النظام وافق على بناء بعض المساجد الجديدة بإسبانيا، ووعد الجنود بالصلاة في مسجد قرطبة الأموي بعد نهاية الحرب. كما ساهمت، من جهة أخرى، في تزايد الاهتمام بأقلية عرقية – ثقافية، عاشت على هامش التاريخ، منذ قرار الطرد الذي أصابها في مطلع القرن السابع عشر؛ يتعلق الأمر بالموريسكيين، الذين لهم حضور، إضافةً إلى المغرب، في بلدان مثل الجزائر وتونس وتركيا. ويُعتبر الموريسكيون، اليوم، ضحايا أول حرب أهلية عرفتها إسبانيا، وأن تهجيرهم لا يختلف من ذاك الذي أصاب من طرد من إسبانيا عقب الحرب الأهلية التي انتصر فيها فرانكو.

وكان شخص موريسكي هو محمد قشتيليو قد أثار الانتباه للقضية الموريسكية بالأوساط الأكاديمية الإسبانية منذ أربعينيات القرن الماضي، عندما انتقل من المغرب إلى إسبانيا للدراسة، ثم للتدريس بجامعة مدريد المركزية، وهي المدينة التي تقع بمنطقة قشتالة مسقط رأس أجداده. وقد ألف كتاباً في الموضوع، نقرأ فيه: «عندما كنت طالباً ومدرساً مساعداً بجامعة مدريد في أربعينات القرن الماضي، كان رفاقي يمطرونني بوابل من الأسئلة عن حملي للقب إسباني محض، والحال أنني مغربي، لغته العربية ودينه الإسلام، فكنت أجيبهم بأن أصلي من هذا البلد الذي هم منه، وأن أجدادي هاجروا منه إلى المغرب في أيام المحن والاضطهاد. كما كانوا يحاصرونني بأسئلة أخرى عديدة ومتنوعة، كنت لا أجد لها إلا جواباً واحداً، هو أنني أجهل كل شيء، وأن كل ما أعرفه هو أنني من أصل أندلسي، من منطقة قشتالة، اعتباراً للقب الذي أحمله. كل هذه الأشياء خلقت لدي فضولاً خاصاً للبحث في موضوع أولئك الذين غادروا وطنهم فراراً بعقيدتهم الإسلامية»‏[10].

ويقدم لنا محمد قشتيليو، انطباعاً معبراً عن صدمة اللقاء الأول بأرض الأجداد بعد قرون من التهجير: «أول مرة زرت الأندلس كنت مع وفد من طلبة معهد ثانوي بمدريد، وكنت مشرفاً على بعثة طلابية مغربية بنفس المعهد. وكان أول ما زرناه هو مدينة قرطبة، وأول مأثرة دخلناها هي المسجد الجامع الشهير، الذي وبعد طوافي به وصلت إلى محرابه حيث توجهت إلى القبلة وصليت ركعتين، آنذاك اغرورقت عيناي بالدموع وصرت لا أعي ما أقول وما أتلو من آيات في صلواتي. فتخيلت الأجداد هناك صفاً واحداَ يؤدون فريضة الصلاة أيام العز والجاه في عصر الخلفاء، بذلك الصرح العظيم»[11].

إن وجود الأقلية الموريسكية في المجتمعات المغاربية، وإحساسهم أنهم أقدم أقلية عرقية هضمت حقوقها في إسبانيا، بعد عملية الطرد الجماعي في مطلع القرن السابع عشر، يجعل إثارة الموضوع في الكثير من الأحيان، يمتزج فيه الواقع التاريخي بالجانب العاطفي؛ فبعض المنحدرين من أصول موريسكية بالمغرب لا يزالون يحتفظون بمفاتيح بيوت أجدادهم في غرناطة، وهم يحلمون يوماً ما باستعادة تلك البيوت التي توجد بحسبهم، بحي البيازين، ويرى بعضهم أن هذا الحق لا يسقط بالتقادم. وقد ظهرت جمعيات تدافع عن حقوقهم. ويأخذ الموضوع منحى سياسياً عندما تبدأ المقارنة بينهم وبين اليهود السفارديم؛ فيرى الموريسكيون أن السلطات الإسبانية تمارس عنصرية دولة في تعاملها مع الملفين، فقد اعتذرت لليهود باسم ملك إسبانيا سنة 1992، بمناسبة مرور خمسة قرون على طردهم، بينما لم تفعل الشيء نفسه مع الموريسكيين، وإنما اكتفت سنة 2009، بعد مرور أربعة قرون على طردهم الجماعي، بمشروع قانون صادق عليه البرلمان الإسباني، يتحدث عن الحيف التاريخي الذي ارتكب في حقهم، لكن لم يقدم لهم الاعتذار، كما حدث مع اليهود. ويرى الموريسكيون أنهم أحق بالاعتذار، لأن عدد الذين طردوا منهم كان أكبر كثيراً من عدد اليهود، كما أن مسلسل الطرد استمر من نهاية القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن السابع عشر، بينما طرد اليهود حدث مرة واحدة فقط سنة 1492. وقد تجدد الجدل سنة 2015، بعدما صادق البرلمان الإسباني بالإجماع، على منح الجنسية الإسبانية لليهود المنحدرين من أصول سفاردية في أي مكان في العالم وجدوا فيه، ولم يفعل الشيء نفسه مع الموريسكيين.

ثانياً: الأندلس في الاستريوغرافيا العربية

في سنة 1939 نشر الأمير شكيب أرسلان كتابه الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، وهو من أول المصادر التاريخية العربية في القرن العشرين التي حاولت الإحاطة بتاريخ الأندلس من الفتح إلى السقوط. وكانت هناك أسباب متعددة دفعت بأمير البيان إلى الخوض في حقل لا يدخل ضمن مجال تخصصه المباشر، على رأسها، إضافةً إلى انتمائه القومي، جهْل العرب هذه المرحلة من تاريخهم، وغياب المصادر حولها. من أجل تلك الغاية، انتقل إلى إسبانيا ليشاهد من كثب ما خلفه العرب من عمران، وكذا يتصل ويناقش مع الباحثين الإسبان، المهتمين بالتراث الأندلسي، مختلف القضايا التي أثاروها في كتاباتهم عن الأندلس‏[12].

يقسم الكتاب ثلاثة أجزاء، يشير المؤلف إلى أنه وازن فيها بين التاريخ والجغرافيا، وهذا ما فرض عليه تصنيف كل ما عرفته الأندلس ضمن واحد من هذين التخصصين. وقد عاد إلى أمهات المصادر العربية، وقارنها بالمصادر الغربية التي كتبها المستشرقون، وعلى رأسها المصادر الإسبانية التي تُرجم بعض ما تضمنته له بخاصة. وكان حريصاً أثناء معالجته أي موضوع، على عدم استعمال الاقتباسات المبتورة لدعم وجهة نظره، بل كان يسوق حول ظاهرة معينة، كل ما قاله غيره، وخصوصاً الأندلسيين، ثم يعلق عليه، وذلك حتى لا يسقط بحسب تعبيره، في ما يشبه «ولا تقربوا الصلاة…»‏[13]. هذه المنهجية كانت مفيدة وقت صدور الكتاب، لأنه في تلك المرحلة من القرن العشرين، لم يكن بالإمكانية الوصول إلى المصادر التي اعتمدها شكيب أرسلان، لأن معظمها كان لا يزال مخطوطاً أو طبع طبعات محدودة أو نشر بلغة غير العربية. ولم يكتفِ المؤلف بإيراد نصوص المؤرخين الأندلسيين ومعاصريهم، بل كان يمازج بينها وبين مشاهداته الشخصية، وخصوصاً عندما يتحدث عن المدن التي زارها بالأندلس، والتي تتحدث عنها تلك المصادر.

لم يستطع الكتاب التخلص من عقدة بكاء المتباكين على الفردوس المفقود، والتعامل مع الأحداث من وجهة نظر تاريخية صرفة، حيث نقرأ جمـلاً من قبيل: «ولما كنت من جملة هذه الأمة الباكية على الفردوس الضائع، أولعت من أوائل صباي بقراءة تاريخ الأندلس… ولا أكتم القارئ الذي هو خليق بأن لا يخفى عليه ذلك، بشفوف بصره ولطف حسه، أن الأمر غير خال في هذا الإملاء، من نزعة جنسية، وحنوة عصبية، وهفوة للفؤاد وراء آثار بني الجلدة»[14]. هذا الإحساس الذي كان يختلج شكيب أرسلان، هو شيء طبيعي إذا أخذنا في الحسبان المرحلة التي صدر فيها كتابه، التي لم يكن خلالها جل المثقفين العرب ينظرون إلى تاريخ الأندلس بطريقة مختلفة من تلك التي نظر إليه بها أمير البيان، الذي يبقى له قدم السبق في الكتابة التاريخية العربية عن الأندلس في القرن العشرين. كما أن قيمته الاعتبارية، كرمز من رموز النهضة الثقافية والقومية العربية، تجعل الاطلاع على الحلل السندسية ضرورة لا مناص منها.

أما أول باحث عربي وضع أسس الكتابة التاريخية الأكاديمية عن الأندلس في القرن العشرين، فهو من دون شك محمد عبد الله عنان، الذي يرجع إليه الفضل في اكتشاف مكنونات المصادر العربية في الخزانات الإسبانية، وذلك منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تزامنت أولى رحلاته العلمية إلى إسبانيا مع اندلاع الحرب الأهلية سنة 1936، غير أن ذلك لم يحل دون وصوله إلى خزانة الإسكوريال، وخزانة الأكاديمية الملكية للدراسات التاريخية، وخزانات غرناطة، وغيرها من المدن الإسبانية. وقد قام بموازاة ذلك، بدراسات ميدانية في عدد من قلاع الأندلس وقراها، ليقف على تضاريسها، التي سمحت له بإعادة تركيب المعارك التي وقعت فيها، بما هو مخالف لما ورد في المصادر الأندلسية القديمة. كما قام بتحقيق أسمائها، والكيفية التي تم تحويرها إلى اللسان الإسباني. وفي إسبانيا كذلك، اختلط هذا المحامي المصري الذي اتخذ من صنعة التاريخ مهنة ثانية، بسكان الأندلس، ليتعرف من خلالهم إلى ما بقي من عادات العرب وتقاليدهم في اللباس والطبيخ وغيرهما من مظاهر الحياة اليومية. وقد ساعده كل ما سمعه عن الموروث العربي، وما نسخه من مخطوطات خزانات إسبانيا والمغرب، على تحرير موسوعته الجامعة دولة الإسلام في الأندلس (ثمانية أجزاء)، التي صدر الجزء الأول منها سنة 1943 والجزء الأخير سنة 1965. وتعتبر هذه الموسوعة إلى اليوم، أوفى ما كتب بالحرف العربي، عن تاريخ الأندلس العام‏[15].

ويأتي حسين مؤنس، في المرتبة الثانية كرونولوجياً، بالنسبة إلى العرب الذين تركوا دراسات حول الأندلس تحترم المعايير الأكاديمية، وقد استفاد هو الآخر من وجوده في إسبانيا لسنوات طويلة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كان يدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية، الذي افتتحه وزير المعارف طه حسين سنة 1950‏[16]. ومن أشهر مؤلفات مؤنس عن الأندلس، موسوعة تاريخ الأندلس (في جزأين)‏[17]، التي تتضمن مختلف مظاهر الحياة الأندلسية من تاريخ وفكر وحضارة وتراث. ويغطي الجزء الأول المرحلة الممتدة من الفتح إلى عهد ملوك الطوائف، والجزء الثاني المرحلة الممتدة من عصر المرابطين إلى سقوط غرناطة سنة 1492.

يرى حسين مؤنس أن الأندلس تمثل بالنسبة إلى العرب بلاد ما وراء البحار. وكان الأندلسيون على وعي أنهم يوجدون بين «فكي الأسد»‏[18]، وأن التواصل مع أرض العرب الأخرى، ليس بالأمر الهين، بسبب وجود هذا البحر، الذي حوَّلهم إلى «أيتام»، وحول جزيرتهم إلى «يتيمة»‏[19]. وقد خلق لديهم ذلك إحساساً بالحاجة إلى هوية خاصة، تختلف من غيرها، هذه الهوية سمحت بظهور «حضارة زاهرة لا تقل بحال، لِما تحقق في غير الأندلس من بلاد العروبة والإسلام»‏[20].

إضافةً إلى حسين مؤنس، سيرافق طه حسين إلى مدريد في رحلته التأسيسية تلك، مجموعة من الطلبة لتحضير دكتوراه عن التاريخ الأندلسي، وسيصبح لبعضهم شأن في حقل الدراسات الأندلسية، مثل محمود علي مكي، الذي سيعين بعد مناقشة دكتوراه بجامعة مدريد المركزية، في موضوع «دور المشرق في الثقافة الإسبانية المسلمة إلى نهاية القرن العاشر الميلادي»، سيعين نائباً لمدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية، ثم مديراً له. أثناء سنوات إقامته الطويلة في إسبانيا، سيتمكن من اكتشاف الكثير من المخطوطات العربية وتحقيقها، من تلك التي توجد في خزائنها، مثل ديوان ابن دراج القسطلي. كما ألف كتاباً عن مدريد العربية العاصمة الوحيدة في أوروبا التي أسسها العرب وتحمل اسماً عربياً. وعن تجربته الأندلسية تلك، يقول محمود علي مكي: «إن وجودنا على أرض الأندلس هو الذي سمح لنا باكتشاف تراثها اكتشافاً حقيقياً، وقد بدأنا منذ سنتنا الأولى هناك، بإعداد برنامج طويل الأمد لزيارة كل مكان في الأندلس، بما في ذلك البلاد الشمالية التي وجدت فيها ممالك وإمارات كانت تناهض الأندلس الإسلامية، وقد ساعدنا ذلك على تكوين صورة مختلفة تماماً عما نقرأه. إضافةً إلى هذا، بدأنا باعتماد المصادر المكتوبة باللغة الإسبانية، التي تتضمن معلومات جديدة ومهمة لا يغني عنها ما نقرأه في المصادر العربية. لقد كانت تجربة على درجة كبيرة من الأهمية، وذخيرة نفعتنا بعد ذلك في كل ما أنجزناه، وهو قليل من كثير مما يجب أن يبذل في سبيل التعريف بالحضارة الإسلامية في الأندلس»‏[21].

من بين الطلبة الآخرين الذين كانوا ضمن البعثة المصرية سالفة الذكر، أحمد المختار العبادي، الذي سيساهم في وضع أسس الدراسات الأكاديمية الأندلسية بالمغرب، خلال خمسينيات القرن العشرين، حين عيّن، بعد مناقشة أطروحة الدكتوراه بجامعة مدريد المركزية، عن أسرة بني الأحمر، أستاذاً بكلية الآداب بالرباط (في سنة تأسيسها نفسها)، ثم نائباً لعميدها. وسيكون له فضل الإشراف على أطاريح دكتوراه مجموعة من الباحثين، سيصيرون من كبار المتخصصين المغاربة في حقل الدراسات الأندلسية وتاريخ المغرب الوسيط والحديث، من أمثال عبد الهادي التازي ومحمد حجي، ومحمد بنشريفة الذي يُعَد أول عربي درس بنية المجتمع الأندلسي، من خلال أطروحته التي تناول فيها قضية الأمثال الشعبية في الأندلس؛ هذه الأطروحة كانت النواة التي سمحت بعد ذلك بصدور عمل موسوعي في الموضوع‏[22].

وسيؤدّي باحث مصري آخر دوراً مشابهاً في تطوير الدراسات الأندلسية داخل الجامعة المغربية في السبعينيات والثمانينيات، يتعلق الأمر بمحمود إسماعيل الذي أثار انتباه الطلبة بمنهجه العقلاني، ومقارباته غير المعهودة لقضايا متعلقة بتاريخ الأندلس. كان الطلبة والمهتمون بالتراث الأندلسي يأتون من مختلف جهات المغرب للاستماع إلى محاضراته التي يلقيها على طلبة جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. وسيسجل عدد من هؤلاء تحت إشرافه أطاريح جامعية سمح صدورها بتغطية فراغ كبير في حقل الدراسات الأندلسية‏[23].

إضافةً إلى أولئك الذين حضَّروا أطاريحهم في بلدانهم الأصلية، واصل باحثون عرب آخرون الذهاب إلى إسبانيا للغاية نفسها. كان المشارقة منهم، وخصوصاً المصريين، يستفيدون من التقليد الذي بدأ في خمسينيات القرن العشرين مع تأسيس المعهد المصري بمدريد كما مر بنا. أما المغاربة، فقد استفادوا من العلاقات الثقافية القائمة بين البلدين منذ مرحلة الحماية، ومن وجود بعثة ثقافية إسبانية بالمغرب، تعد الأقدم بأفريقيا والوطن العربي.

سجل باحثون عرب آخرون، أطاريحهم في بلدان أوروبية مثل فرنسا وإنكلترا، وقد صار لبعضهم شأن في حقل الدراسات الأندلسية، مثل العراقي عبد الواحد دندون طه الذي ناقش رسالة دكتوراه سنة 1978، بجامعة «إكستر» الإنكليزية، في موضوع «الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس»، والمغربي امحمد بن عبود الذي ناقش في السنة نفسها أطروحته بجامعة «أدنبره» الإنكليزية، في موضوع «التاريخ السياسي والاجتماعي في عهد بني عباد»‏[24].

في الوقت الحاضر، لم يعد حقل الدراسات الأندلسية مقتصراً على الجامعات المغربية أو المصرية، كما كان الأمر في الماضي، بل نجد باحثين مهتمين بهذا التراث في مختلف الجامعات العربية، بما في ذلك جامعات بلدان الخليج العربي‏[25]، التي اكتفت في مرحلة أولى بالتعاقد مع باحثين من بلدان عربية أخرى، ساهموا في تطوير الدراسات الأندلسية. وتقوم مجموعة من دور النشر ومراكز البحث المتخصصة التي تأسست في عدد من البلدان العربية، هي الأخرى، بدور محمود في التعريف بالتراث الأندلسي، من خلال أنشطتها المتعددة (تحقيق مخطوطات، تنظيم ندوات، نشر أطاريح جامعية، إنتاج أفلام وثائقية…).

 

ثالثاً: الأندلس في الدراسات الأدبية

 

1 – النقد الأدبي

يُعتبر إحسان عباس ذاكرة الأدب الأندلسي بامتياز، وهو إضافة إلى التحقيقات الكثيرة التي قام بها‏[26]، ترك مؤلّفاً يعتبر إلى اليوم، وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على صدوره، من أهم ما نشر عن الأدب الأندلسي؛ يتعلق الأمر بـ تاريخ الأدب الأندلسي، الذي يقع في جزأين: يغطي الأول منهما عصر بني أمية، والثاني عصر الطوائف والمرابطين‏[27].

وبخلاف الجزء الأول، الذي خُصص حيز مهم منه للسير الذاتية لشعراء الأندلس وأدبائها، أحجم المؤلف في الجزء الثاني عن ذلك، بحيث اكتفى بإشارات حول حياة هؤلاء، جاء أغلبها في سياقات عامة. نظن أن السبب هو توافر مادة علمية غزيرة أثناء تحريره هذا الجزء الثاني، مثل الكتاب الموسوعي الذخيرة (ثمانية أجزاء) لابن بسام، وذلك ما جعله يفضل الخوض في قضايا أدبية أكثر عمقاً من الترجمة لحياة الأشخاص.

نجح الكتاب بتناوله الشعر الأندلسي، في تقديم صورة مفصلة عن مجالاته الكبرى التي ميز فيها السياسة من الطبيعة والدين والخمر والفكاهة، كما تحدَّث بالتفصيل عن الموشحات والأزجال. أما في مجال النثر، فتوقف عند كيفية تطور هذا الصنف الأدبي في الأندلس، وكيفية الانتقال من مرحلة التقليد واتباع ما أنتجه المشرق، إلى مرحلة تكوين الشخصية الأندلسية. وقد أخذ كنموذج للتحليل، اثنين من كبار أدباء الأندلس، هما ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، وابن شهيد وكتابه التوابع والزوابع.

وفي علاقة الأدب – شعراً ونثراً – بالهوية الثقافية الأندلسية، يقدم المؤلف خلاصة معبرة، يقول فيها: «قد يذهب بعض الدارسين إلى أن لفظة «أندلسي» حين تتخذ صفة للأدب من شعر ونثر، تشير إلى نتائج أجيال ولدت في الأندلس، وتشربت خصائص البيئة الأندلسية بالولادة والنشأة، ونقلت إلى حدّ ما سمات تلك البيئة في ما قدّمته من صور التعبير، وليس هذا التحديد خاطئاً، ولكنه حين يوضع موضع الاختبار، يعجز عن استيعاب الحقيقة كاملة. ولو ألقينا على أنفسنا الأسئلة الآتية: هل يُدرّس ابن هانئ بين شعراء الأندلس؟ هل يعد نتاج أبي علي القالي مشرقياً؟ هل يعد الخشني قيروانياً؟ لو فعلنا ذلك لاتضح لنا أن التحديد السابق للفظة «أندلسي» قاصرٌ تماماً عن الوفاء بمعنى «الأندلسية» في إحاطة وشمول…»‏[28].

2 – الرواية

منذ مرحلة مبكرة من القرن العشرين، ظهرت الأندلس في الرواية العربية. ويعتبر جرجي زيدان، رائد الرواية الأندلسية في الوطن العربي، حيث كتب ثلاث روايات تتناول هذا الموضوع هي: فتح الأندلس، وشارل وعبد الرحمن، وعبد الرحمن الناصر. شكلت هذه الروايات جزءاً من مشروعه المعروف بـ «روايات تاريخ الإسلام»، الذي وضع فيه أسس كتابة الرواية التاريخية العربية. وقد حرص هذا المثقف النهضوي في جل رواياته، على «دمج قصة غرامية تشوق المطالع قراءتها»‏[29]، يطلع من خلالها على أحداث التاريخ، لكن من دون تقيد بذلك التوثيق الصارم الذي قد يحس معه القارئ غير المتخصص بالملل.

تتناول رواية فتح الأندلس، موضوع الفتح الإسلامي لإسبانيا ونهاية حكم القوط ونشوء حضارة جديدة، هي الحضارة العربية – الإسلامية. ورغم أن بطل الفتح هو طارق بن زياد، فإن جرجي زيدان وبحدس روائي، أدرك أن الشخصية المحورية في الرواية، يجب أن تكون امرأة مثيرة بجمالها ومسارها، امتزج وجودها في التاريخ الإسباني والعربي بالأسطورة أكثر من الحقيقة التاريخية، هي «فلوريندا»، ابنة الكونت يوليان حاكم سبتة، الذي تقول المصادر التاريخية إنه أرسل ابنته إلى بلاط طليطلة لتتلقى هناك تربية تليق بأصلها النبيل، غير أن سيد القصر وآخر حكام الكونت رودريك، تحرَّش بها وابتغى اغتصابَها. ورغبة من الكونت في الانتقام، دخل في اتصالات مع المسلمين وبالغ في امتداح ثروات الأندلس وبهائها، ليغريهم بالفتح، الذي تحقق بمساعدته.

في رواية شارل وعبد الرحمن، يتحدث جرجي زيدان عن تجربة فريدة أخرى من تاريخ الأندلس، تلك التي حاول من خلالها الوالي عبد الرحمن الغافقي التوغل في فرنسا، وكان مشروع الفتوحات الإسلامية يعتبر أرض الأندلس مجرد محطة من المحطات، وأن هذه الفتوحات لا بد من أن تواصل طريقها، لتعود جيوش المسلمين إلى دمشق عن طريق الغرب. ويصور جرجي زيدان، بكيفية يمتزج فيها الحدث التاريخي بالخيال الروائي، الصراع بين المسلمين ونصارى ما وراء جبال البرانس، ومعركة بلاط الشهداء، وانتصار «شارل مارتل» على الغافقي، وتبخر حلم الإمبراطورية الإسلامية في أوروبا إلى الأبد.

أما في رواية عبد الرحمن الناصر، فيمزج جرجي زيدان بين وقائع تاريخية معروفة عاشتها الأندلس، على عهد مؤسس الخلافة الأموية، وبين مختلف مظاهر الحضارة الأندلسية، خصوصاً حياة البذخ والترف داخل القصور، وحضور الحريم فيها، والدسائس والمؤامرات التي تحاك داخلها بغية الظفر برضا الخليفة. كما تسلط الرواية الضوء على بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في الأندلس، من أعراف وتقاليد وأنماط عيش.

كان الأمير شكيب أرسلان، قد تنبه هو الآخر إلى أن الرواية كجنس أدبي، يمكن أن تقدم مادة مهمة لفهم تاريخ الأندلس، وهذا ما دفعه إلى ترجمة أشهر رواية عن الأندلس صدرت في الغرب، وهي آخر بني سراج للفرنسي شاتوبريان (Chateaubriand)، حيث نشر طبعتها العربية الأولى سنة 1897‏[30].

تدور أحداث الرواية في غرناطة بعد سقوطها بيد النصارى. بطلها هو ابن حامد، أحد أفراد أسرة بني سراج النافذة، التي تولت الوزارة في الأندلس قبل المجزرة التي أتت على معظم أفرادها. عقب سقوط غرناطة، رحل من بقي من الأسرة إلى تونس، وكان من بينهم الطفل ابن حامد الذي حن بعد ذلك إلى مرتع طفولته وصباه، فأبحر قاصداً الأندلس مقتفياً آثار الأسلاف. وفي عاصمة بني نصر القديمة، التقى بفتاة مسيحية هي أدماء، سمعها تنشد زجـلاً قشتالياً فيه ذكر للحروب التي دارت بين أسرتي بني سراج وبني الثغري، فعشقها وعشقته، ولكن العاشق المسلم قرر الانسحاب بشهامة، بعدما أدرك أنه لن يستطيع الصمود أمام ثقل التاريخ وصدام الأديان ومنافسة غريم يزاحمه حب عشيقته المسيحية.

من خلال هذه الرواية، نظر «شاتوبريان» إلى الثقافة الأندلسية بحب لا مكان فيه لأي تصوير قدحي أو وصف استصغاري، بخلاف ما فعل عند حديثه عن الشرق العربي الذي زاره عندما كان خاضعاً للإمبراطورية العثمانية‏[31]. ولعل هذا هو مصدر إعجاب شكيب أرسلان بالرواية، التي يبرر ترجمته لها على النحو التالي: «أصبت هذه الرواية في بعض المظان فاخترت نقلها إلى اللسان العربي المبين، للطف معناها وشرف مغزاها وما تضمنته من آداب المحبين، وإيثاراً لما فيها من مكارم الأخلاق، ومزايا الأشراف من الفرسان… وتلذذاً بذكرى السلف، واستقراء لآثار العرب، على نحو الغرض الذي حدا بقية بني سراج»‏[32].

مرحلة أفول الأندلس التي وقعت فيها أحداث الرواية سالفة الذكر، كانت موضوع اهتمام عدد من الروائيين العرب في العقود الأخيرة، من بينهم رضوى عاشور، في ثلاثية غرناطة‏[33]، التي تغطي أحداثها المرحلة الممتدة من سقوط المدينة إلى نهاية القرن السادس عشر. وهو عمل يشد القارئ إليه منذ البداية، حيث يَرى أحد أبطالها، أبو جعفر الوراق، ذلك الشخص الزاهد الذي يقطن حي البيازين، يرى في ما يراه النائم، امرأة غريبة عارية نازلة من منحدر، وقد حاول أن يسترها بردائه الأبيض، غير أنها لا تلتفت إليه ولا تجيب عن أسئلته حول من تكون وإلى أين تقصد. ولم تكن تلك المرأة غير غرناطة، وقد سقطت من عليائها إلى المنحدر، وتجردت من مجدها وتاريخها وعزها: «غرناطة العرب صارت كالغانية ترقص وتتعهر إرضاء لأسيادها لأنها خائفة».

حياة شخصيات الرواية أغلبها رمزية على غرار تلك المرأة العارية؛ فسُمية التي تُجري التجارب الطبية اعتماداً على الأعشاب وتصبح طبيبة مشهورة، يتم إلقاء القبض عليها بتهمة الشعوذة والانتماء سراً إلى الإسلام، وبعد أن يحكم عليها بالإعدام، تقاد إلى المحرقة، لكنها تقاوم الموت بشموخ، بحيث تصل إلى الأسماع طقطقة النار المشتعلة في الحطب وفي جسدها وهي مرفوعة الرأس. الصورة نفسها من الشموخ نجدها عند «علي»، الذي لا يواجه الموت بالفرار، فهو يرفض الرحيل، ويدرك بخلاف غيره، أن الموت يكمن في الرحيل، وليس في المكوث، فيقرر البقاء في أرض الأجداد، ومواجهة محاكم التفتيش والاجتثاث الثقافي والديني.

إنّ مرحلة الأفول هذه، كتب عنها روائيون عرب بلغات أوروبية، من بينهم أمين معلوف، الذي نشر بالفرنسية، ليون الإفريقي، التي تدور أحداث الجزء الأول منها في غرناطة التي ولد فيها بطل الرواية. ويقدم أمين معلوف تصويراً دقيقاً للحياة داخل قصر الحمراء، حيث يحتدم الصراع بين المتزمتين المتمسكين بالعقيدة السلفية، الذين لا يتركون مجالاً للعقل، وبين المتفتحين دينياً تفتحاً يصل أحياناً إلى درجة الانحراف الخلقي. كلا الفريقين يتألم من الحال التي آلت إليها غرناطة، وكلاهما يفسر تلك الحال المزرية بما يتماشى مع مصلحته، وكلاهما مقتنع بأن غرناطة ساقطة لا محالة؛ سقوط ساهم فيه سلطانها الغارق في حياة المجون: «فقد دعا المتكبر الفاسد المفسد أبو الحسن (السلطان)… ذات صباح أفراد حاشيته ليشاهدوا زوجته ثريا – إزابيل دي سوليس – وهي تستحم. وإذا انتهت عملية الاستحمام، دعا الأمير كل واحد من الحاضرين إلى شرب طاس من الماء الذي خرجت ثريا منه، وهللوا جميعاً نثراً وشعراً للطعم الزكي الذي اكتسبه ذلك السائل، ما عدا الوزير أبا القاسم بنيغش الذي بقي في مكانه بكل وقار من غير أن ينحني فوق البركة. لم يفت هذا التصرف السلطان، فسأله عن السبب، فأجاب أبو القاسم قائلاً: أخاف يا مولاي إن أنا ذقت المرق أن تعتريني رغبة الحجل»‏[34].

رواية أخرى كتبها صاحبها بالفرنسية كذلك، جعلت من المرحلة اللاحقة لسقوط غرناطة مادة إبداعية؛ يتعلق الأمر بـ «الموريسكي» لحسن أوريد: بطلها شخصية واقعية لا تقل غرابة عن ليون الإفريقي، هي شهاب الدين أفوقاي، وهو موريسكي، فر من بلاده في نهاية القرن السادس عشر، متخفياً في لباس مسيحي عجوز، ولما حل بالمغرب، وبسبب علومه الغزيرة، قربه منه السلطان المنصور الذهبي. وقد بقيت لديه الحظوة نفسها على عهد السلطان الذي عيّنه سكرتيراً خاصاً ومترجماً، كما بعثه في سفرات إلى فرنسا وهولندا.

من خلال هذه الشخصية الطريفة، يحاول أوريد أن يسلط الضوء على الموريسكيين الذين طردوا، وعن مأساتهم: «من المادة المتاحة في كتاب أفوقاي، صغت شخصية روائية أملأ منها فراغات نص صاحبها… صغت رواية تقف عند مأساة الموريسيكيين التي تختلط في أذهان الكثيرين بمن رُحّلوا بعد سقوط غرناطة مباشرة أو قبلها»‏[35]. لكن أوريد يوظف كذلك شخصية «الموريسكي»، ليتحدث عن أزمة المثقف العربي: «فالموريسكي، في نحو من الأنحاء، هو «نحن» المرحلون من ثقافتنا الأصلية»‏[36]، والموريسكي هو «انتفاضة ضد وضع جامد يتكرر بوجوه جديد»، وضع تزحزح مع اندلاع «الربيع العربي» بتداعياته المأساوية: «تكاد تكون لعنة، ولكن الموريسكي لا يستكين لهذا القدر.. في قرية من قرى جنوب تونس، توزر، يسدل شهاب الدين أفوقاي سجادته عقب كل صلاة الفجر، ويرمق الشفق، كأنما ينتظر شيئاً ما، وفي قرية من قرى جنوب تونس، سيدي بوزيد، تحرك التاريخ، لكي يزعزع الوضع القار الذي كان سبب آهة موريسكيينا»‏[37].

عمل إبداعي آخر حاول أن يكتب سيرة ذاتية روائية لشخصية أندلسية محورية، هو هذا الأندلسي لابن سالم حميش، الذي حلّق من خلال شخصية ابن سبعين (قطب الدين وشيخ السبعينية)، في سماء التاريخ والسياسة والفلسفة والتصوف، إبان مرحلة ضعف دولة الموحدين. وقد رافق حميش بطل روايته في رحلة شيقة من الأندلس إلى المغرب إلى مكة. يصور العمل ابن سبعين في ثلاث شخصيات متداخلة تتبادل المواقع، أكثرها إثارة من دون شك، شخصية «الإنسان الكامل» الذي ينظر إلى الخير فيكون جزءاً منه، وينظر إلى الجمال فيصبح جميـلاً، وتجذبه المعرفة، فيموت وهو في الطريق إليها.

يوظف حميش «الإنسان الكامل» القريب من الله البعيد من الحكام المستبدين، ليخلق توازياً خارج الزمن؛ توازياً بين الزمن الأندلسي والأزمنة الأخرى؛ لأن «لكل زمن أندلسه الذاهبة إلى الغرق»، ولأن موت ابن سبعين في مكة هو موت واقعي ورمزي في الوقت ذاته: «للأندلسي الغريب المغترب زمن محدد خاص به»، و«زمن المثقف الحديث المتمرد استمرار لزمن المتصوف القديم»، زمن «الإنسان الكامل» هو «مرآة لزمن محتمل، يأتي ولا يأتي ويظل معلقاً في سماء جميع الأزمنة»‏[38].

3 – المسرح

بدأ اهتمام المسرحيين العرب بالأندلس مع نشأة المسرح العربي، حيث كتب مصطفى كامل في مطلع القرن العشرين مسرحية فتح الأندلس، وهي أول مسرحية عربية. وقد اعتبر هذا العمل بمنزلة دعوة إلى مقاومة الاستعمار البريطاني، والتذكير بأن العرب كانوا فاتحين في الماضي وأصبحوا مستعمرين في الحاضر. غير أن مسرحية مصطفى كامل، وعلى الرغم من أهمية الموضوع الذي تناولته، ومن القيمة الاعتبارية لمؤلفها كرائد للوطنية المصرية، فإنها من الناحية الإبداعية تبقى محدودة الأهمية، وخصوصاً أن المؤلف لا يمثل ثقـلاً كبيراً في مجال الإبداع الأدبي. لذا فإن أول مسرحية عربية تتحدث عن الزمن الأندلسي، توافرت فيها شروط العمل المسرحي هي ابن حامد أو سقوط غرناطة، للشاعر المهجري فوزي المعلوف، التي ألفها بالبرازيل في عشرينيات القرن الماضي، ولم يكن قد تجاوز العشرين من العمر. تقع في خمسة فصول، وقد مثلت على المسارح البرازيلية، وتأخر نشرها إلى بداية الخمسينيات، حيث تم ذلك على صفحات مجلة العصبة الأندلسية.

إن موضوع المسرحية مستوحى من روايتين فرنسيتين، صدرت الأولى منهما في نهاية القرن الثامن عشر، والثانية في مطلع القرن التاسع عشر، وتعتبران من الكلاسيكيات التي ساهمت في وضع أسس الاستشراق الرومانسي حول الأندلس‏[39]. تدور أحداث مسرحية فوزي المعلوف داخل قصر الحمراء، وموضوعها هو صراع المتناقضات: الحب والحقد، العقل والمتعة، المروءة والدناءة. ذلك كله، يتم تشخيصه من خلال صراع غير متكافئ للظفر بقلب امرأة، بين ملك (أبي عبد الله) وأحد رعاياه (ابن حامد)، صراع ينتهي بإعدام هذا الأخير، وبانتحار الحبيبة المعشوقة (دريدة)، وبسقوط غرناطة بيد الأعداء؛ المدينة التي لم تكن في النهاية غير الحبيبة المنتحرة التي يتنازعها العشاق.

إن قوة هذا العمل المسرحي تكمن من دون شك في لغته الشعرية الرائقة التي لا تُقربنا فقط من الأحداث التي عرفتها مملكة غرناطة قبل ذلك السقوط التاريخي، وإنما تسمح لنا باكتشاف ذلك العشق الجارف الذي كان يحس به فوزي المعلوف، حيال تلك المدينة التاريخية:

جننت بها، والحسن كم ضيع الحجى!

جنون الهوى لا ينتهي بي إلى حد

إنّه عشق رافق المؤلف إلى آخر رمق في حياته، وكان يحس بحسرة كبيرة لتبخّر حلم زيارة المدينة والتجوال بقصر الحمراء الذي تدور فيه أحداث مسرحيته، وذلك بسبب المرض الذي ألمّ به بصورة مفاجئة، وأودى بحياته وهو في ريعان الشباب، سنة 1930. ويقدم الشاعر الإسباني فرانسيسكو بياسبيسا (Francisco Villaspesa)، صورة صادقة عما كان يختلج رفيق دربه العربي، وكان كل واحد منهما يرى في الآخر رمزاً من رموز الحضارة الأندلسية: «ذلك الإعداد وبقلق غريب لكل جزئيات سفره إلى إسبانيا، وخصوصاً إلى تلك المدينة الرائعة والفريدة من نوعها التي أحبها إلى درجة الجنون… سوف أحمل معي عندما أعود إلى إسبانيا وإكراماً لذكراه، تلك الوردة التي حلمت يداه بغرسها قبل أن يلتهمهما الردى، لأغرسها في الحديقة الأكثر استقطاباً للزوار في قصر الحمراء… ستبقى ذكراه خالدة، لأن فوزي المعلوف ولد وعاش ومات في ديانة الشعر المقدسة، ديانة الروح الحقيقية، ديانة الجمال والطيبة والحب، الديانة الوحيدة السامية في هذا الكون»‏[40].

نجح الشاعر الإسباني في إقناع سلطات مدينة غرناطة، بالحب الذي كان يكنه لها فوزي المعلوف، وبفضل ذلك تم تخليد ذكراه، وذكرى مسرحيته بجنة العريف داخل قصر الحمراء من خلال لافتة من السيراميك. وهو اليوم العربي الوحيد من القرن العشرين الذي نال شرف الحضور الرمزي بالقصر، حيث تجاور ذكراه، ذكرى ابن الخطيب وابن زمرك وابن الجياب، شعراء الحمراء، الذين تزدان جدران القصر الأسطوري بقصائدهم الشعرية.

كان أحمد شوقي أوفر حظاً، لأنه تعرف إلى قصر الحمراء، وإلى معالم الحضارة الأندلسية، التي زار أهمها خلال سنوات نفيه الطويلة بإسبانيا. وكانت مسرحية أميرة الأندلس التي نشرها سنة 1932، نتاجاً لذلك اللقاء المباشر مع مخلفات الحضارة الأندلسية، وخصوصاً مدينة إشبيلية.

تصور المسرحية مأساة الملك الشاعر المعتمد بن عباد وزوجته الشاعرة اعتماد الرميكية، وقد مرت حياتهما من المجد والرفاه في قصور إشبيلية إلى الخذلان والبؤس في سجن أغمات. المسرحية هي كذلك، وصف لحالة التشرذم التي عاشها بقية ملوك الطوائف، الذين لا يتردد أمير الشعراء رغم تعاطفه معهم، في توجيه اللوم إليهم، فقد «كان هؤلاء الملوك على شرف بيوتهم، وتميز شخصياتهم ونبوغهم في كل علم وأدب، أصحاب بذخ وترف، وأخذان صبوة وخلاعة، لا حظ لهم من همة الملك، ولا نصيب من مراشد السلطان»‏[41].

حرص أحمد شوقي، من خلال استحضار الزمن الأندلسي في مرحلة ضعفه، أن يستحضر كذلك الواقع العربي الذي كتب له هو أن يعيشه، حيث أصبح العرب فريسة أطماع استعمارية، لا تختلف كثيراً من تلك التي كانوا عرضة لها في القرن الحادي عشر. ويقدم لنا صورة معبرة عن واقع الحال، على لسان الأميرة بثينة بنت المعتمد بن عباد، وهي تبكي حظ أخيها والي قرطبة، بسبب القلاقل والدسائس التي أصبحت المدينة عرضة لها: «ويلي على أخي الظافر من هذه الولاية الحمراء التي لم يقلدها أمير إلا قتل أو عزل… عرش يضرب تحت كل جالس، وتاج لا يستقر على رأس كلِّ لابس»‏[42]. ولا يفوت شوقي أن يشن حملة شعواء على الفقهاء المتزمتين الذين يحملهم مسؤولية التطرف الديني، وخصوصاً مع التأثير الذي أصبحوا يمارسونه على أمرائهم، في وقت أصبحت فيه قرطبة الأمجاد، مهد الفكر المستنير والتسامح الديني، مجرد ذكرى بعيدة. قرطبة التي يتحدث عنها شوقي على لسان أميرة الأندلس أصبحت شيئاً آخر: «وجدتُ طرقاتها تموج بالفقهاء، يعرفهم الناظر بزيهم، فتذكرت عندئذ شهرة هذا البلد بالفتنة والتشغيب وجرأة أهله على أمرائهم وحكامهم»‏[43].

إن تقاطعات الماضي الأندلسي وواقع الوطن العربي المعاصر، جعل بعض المسرحيين العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يبحثون عن إيحاءات أندلسية، لمعالجة إحباطات الشعوب العربية التي ناضلت من أجل الاستقلال، والتي فشل حكامها في تحقيق الإقلاع السياسي والاقتصادي. ومن المفارقات التاريخية، أن عدد الدول في الوطن العربي خلال القرن العشرين، هو نفس عدد ممالك الطوائف في القرن الحادي عشر (22 مملكة).

تتحدث مسرحية غروب الأندلس التي كتبها عزيز أباظة قبيل ثورة 23 تموز/يوليو، عن مصير آخر ملوك الطوائف، غير أن هذه المسرحية مليئة بالإيحاءات الرمزية، بحيث تدفعنا إلى النظر إلى مصر أسرة محمد علي، وكأنها تقمصت دور أندلس أسرة بني الأحمر في مرحلة انحطاطها، وتدفعنا إلى النظر إلى الملك فاروق الأول، وكأنه ارتدى جلباب الملك أبي عبد الله الصغير. وقد تنبه طه حسين إلى هذا التقاطع، وكتب عن المسرحية ما يلي: «وما أكثر ما نسأل أنفسنا، أيتحدث الشاعر عن خطوب تتابعت في مدينة من مدن الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، أم يتحدث عن خطوب تتابعت في منتصف القرن العشرين بمدينة القاهرة، فذلك القصر… الذي امتلأ فساداً، والذي أقبل صاحبه على اللهو في غير تحفظ ولا احتياط، والذي أحاطت به الكوارث من جميع أقطاره، وجاءته النذر يتبع بعضها بعضاً، فلم يحفل بها، ولم يأبه لها، ولم يعظه نصح ناصح، ولم ينفعه تحذير محذر، وإنما يمضي في لهوه ولا يلوي على شيء، مبغضاً للناصحين، منكراً للمحذرين، باطشاً بالمشفقين، مستهيناً بكل خلق، مزدرياً لكل عاطفة، لا يسمع إلا نفسه، ولا يتبع إلا شهواته الجامحة»‏[44].

إن ضياع الأندلس هو تاريخ أزلي، تاريخ مسدود، وضياع فلسطين، ما هو إلا ضياع الأندلس بتلوين مختلف، إنه تاريخ لم يُعِد نفسه وإنما رجاله هم الذين أعادوا أخطاءهم ولم يتعلموا من ماضيهم. هذا ما يصوره محمد الماغوط في مسرحيته «المهرج»؛ مهرج يسافر في الزمن إلى عصر عبد الرحمن الداخل، مؤسس دولة الأندلس، ليروي له ما أصبح عليه بنو جلدته من ضعف وتشرذم وتفرق في الكلمة، بعد أن استولى الأعداء على الأندلس وفلسطين والاسكندرونة. يغضب صقر قريش لما سمع، ويقرر العودة مع المهرج إلى زمنه، ليحرر الأندلس وفلسطين بمساعدة أحفاده، لكن هؤلاء يتآمرون عليه، ويسلمونه إلى السفير الإسباني مقابل 30 ألف طن من القمح! إنها دلالة رمزية رائعة، لتحالف الدول العربية التي حلمت شعوبها بالحرية وكافحت من أجل تحقيق الاستقلال، مع الدكتاتور «فرانكو» الذي حرم شعبه الحرية، وكان حكام العرب من بين القلائل الذين قبلوا إقامة علاقات دبلوماسية معه، بعدما طُرد من المحافل الدولية، وعاشت إسبانيا في عهده عزلة استمرت لعقود.

4 – الشعر

أطلق شعراء المهجر في البرازيل على ناديهم الأدبي اسم «العصبة الأندلسية»، وأصدروا مجلة تحمل الاسم نفسه، كما أصدر الشاعر شكر الله الجر جريدة حملت اسم الأندلس الجديدة، وكان أحد شعراء العصبة، يوقع قصائده باسم «الأندلسي».

تأثر شعراء المهجر بالشعر الأندلسي، وقد جددوا في الشعر العربي كما فعل الأندلسيون، وأقبلوا على الموشحات مثلهم. وكانوا يحسون أنهم مثل الأندلسيين، حافظوا على الثقافة العربية في أرض بعيدة من الأرض التي ولدت فيها هذه الثقافة. وفي أمريكا الجنوبية، اختلطوا بالمهاجرين الإسبان، وخصوصاً القادمين من أرض الأندلس، وكانوا يرون فيهم رمزاً للتاريخ المشترك الذي يربط الإسبان بالعرب. وترجم بعض شعراء العصبة الأندلسية، أعمال شعراء إسبان يتغنّون فيها بالأندلس العربية، كما فعل فوزي المعلوف مع قصيدة الشاعر «فرانسيسكو فياسبيسا»، التي يرثي فيها هذا، الأخيرة مدينة غرناطة:

غرناطة أواه غرناطة،

لم يبق شيءٌ لك من صولتك

هل نهرك الجاري سوى أدمعٍ

تجري على ما دال من دولتك

والنسمة الغادية الرائحة

هل هي إلا زفرة نائحة‏[45]

تغنى بالأندلس وحضارتها، شعراء آخرون من العصبة الأندلسية، من بينهم إلياس فرحات، وإلياس طعمة، والشاعر القروي، رشيد سليم الخوري، الذي له موشح يحمل عنوان «تحية الأندلس»، يعبر فيه عما يختلج أدباء المهجر البرازيلي، من مشاعر حيال الأندلس‏[46]:

خبرينا كيف نقريك السلاما

طيب النشر كأنفاس الخزامى

والشذا المحيي بسوريا العظاما

غادر الشام وبيروت وهاما

في بلاد حرة لم تحنِ هاما

وأنوف لم يقبلن الرغاما

خبرينا كيف نقريك السلاما؟

بالنسبة إلى شعراء العربية في القرن العشرين، الذين عاشوا في إسبانيا، مثلت الأندلس بالنسبة إليهم تراجيديا التاريخ التي تذكرهم بها المعالم العمرانية. هذا ما نسجله عند أحمد شوقي الذي يتناول في سينية من نحو مئة بيت، روعة قصر الحمراء، لكن من دون أن ينسى البكاء على الأمجاد الغابرة التي يتداخل فيها تاريخ الشرق والغرب. من هنا، تتقاطع قصيدته مع نونية أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس. ومما نقرأه عند شوقي، بخصوص هذه النقطة:

أين (مروان) في المشارق عرش

أموي وفي الـمغارب كرسي؟

سقمت شمسهم فردّ عليها

نورها كل ثاقب الرأي نطس

ثم غابت وكل شمس سوى هاتيك

تبلى، وتنطوي تحت رمس‏[47]

قصائد نزار قباني لا تخرج كثيراً عن هذا السياق، على الرغم من أن إقامته في إسبانيا تأخرت أكثر من نصف قرن عن إقامة أحمد شوقي، وقد عشق هو الآخر قصر الحمراء، ذلك البناء الشامخ الذي كان مصدر نزاع تاريخي بينه وبين الإسبانية الحسناء التي عشقها، لأن كـلاً منهما يعتبره جزءاً من أمجاده‏[48]:

قالت هنا الحمراء زهو جدودنا

فاقرأ على جدرانها أمجادي

أمجادها؟ ومسحت جرحاً نازفاً

ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي

يا ليت وارثتي الجميلة أدركت

أن الذين عنتهم أجدادي

كانت الأندلس بالنسبة إلى نزار قباني «وجداً ومستحيـلاً» وتاريخاً محطماً، تعكسه تلك الانحناءة المهينة لآخر ملوكها أمام الملكيين الكاثوليك من أجل تقبيل يديهم وتسليمهم مفاتيح غرناطة، قبل أن يأخذ طريق المنفى‏[49]. تلك هي الصورة التي يقدمها في قصيدة «أحزان في الأندلس»، التي تذكرنا كذلك بأن العرب كتب عليهم البقاء حبيسي صراعاتهم القبلية؛ فهم لم يصلوا بعد إلى وعي بالعروبة، ووعي القبيلة الذي مزق كيانهم في الأندلس منذ أن فتحوها، هو الذي لا يزال مسيطراً:

مذ رحلَ «الخليفةُ الصغيرُ» عن إسبانية

ولم تزل أحقادنا الصغيره…

كما هي…

ولم تزل عقليةُ العشيره

في دمنا كما هي

حوارُنا اليوميُّ بالخناجرِ…

أفكارُنا أشبهُ بالأظافرِ

مَضت قرونٌ خمسةٌ

ولا تزال لفظةُ العروبه…

كزهرةٍ حزينةٍ في آنيه…

كطفلةٍ جائعةٍ وعاريه

نصلبُها على جدارِ الحقدِ والكراهيه…

مَضت قرونٌ خمسةُ… يا غاليه

كأننا… نخرجُ هذا اليومَ من إسبانيه

تأمل عبد الوهاب البياتي كذلك، وهو الشاعر العربي الذي أقام أطول مدة في إسبانيا، قصر الحمراء واستوحى دلالاته، واعتبره منبع الحضارة: «عندما زرت الأندلس لأول مرة وتأملت قصر الحمراء رأيت أن نقطة البداية التي كان يجب أن تبدأ بها الإنسانية مسيرتها هي قصر الحمراء، لأن قصر الحمراء ليس مجرّد حجارة وزخرفة وهندسة معمارية بل هو أجمل قصيدة كتبها شعب، وهو الشعب العربي، وهذه القصيدة موجهة إلى المستقبل. لو انطلقت الحضارة الأوروبية الحاضرة من فكرة رسالة قصر الحمراء، أو من هذه القصيدة الموجهة إلى المستقبل، لتغيّر وجه العالم، وتغيرت التقسيمات الجغرافية والتاريخية»‏[50].

نظر البياتي إلى الأندلس من الناحية الفنية والشعرية – كما قد يفعل كل شاعر وفنان – وبحث فيها عن المدينة الفاضلة، وعن الوطن، وعن الثورة، وعن المستقبل. الأندلس هي: «قصيدة المستقبل، وقصيدة المستقبل هي ليست الكلام الموزون والمقفى فحسب، بل هي المستوى الفكري الثوري والفني والحضاري أيضاً»‏[51].

بالنسبة إلى محمود درويش، شاعر القضية الفلسطينية، لم يكن بإمكانه أن ينظم شعراً عن الأندلس من دون مقارنة ضياعها بضياع فلسطين، وذلك ما توحي به قصيدة «أحد عشر كوكباً»‏[52]:

كانَ تاريخَنا حَوْلَ تاريخِكُمْ في الْبلاد الْبَعيدَة

وَسَنسْأَلُ أَنْفُسَنا فِي النِّهايَة: هَلْ كَانَتِ الأَندلس

هنا أَمْ هُنَاكَ؟ عَلى الأَرضِ… أَمْ في الْقَصيدَة؟

كما توحي به قصيدة «الكمنجات‏[53]»

الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس

الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس

الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود

الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود

 

رابعاً: الأندلس في الدراسات النظرية

يميز عبد الإله بلقزيز في دراسته النقدية للكتابات العربية التي تناولت موضوع التراث، تلك التي نبهتنا إلى وجود هذا التراث، وربما أعادت اكتشافه، وظهر بعضها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من تلك التي تناولت موضوع التراث كإشكالية، وقد ظهرت عقوداً بعد ذلك، وتبلورت بوضوح منذ ستينيات القرن العشرين‏[54]. هذا التصنيف يسري إلى حد كبير على تلك التي تناولت التراث الفكري الأندلسي. وبما أن المجال الذي خصصناه لهذه النقطة لا يسمح إلا بشيء هو أكثر قليلاً من إشارات، فإننا سنتوقف عند نموذجين فقط، ينتمي كل منهما إلى واحد من التصنيفين المذكورين، هما أحمد أمين ومحمد عابد الجابري. وقد وضعنا لتجربة كل واحد منهما عنواناً، استعرنا بعض كلماته من بلقزيز.

1 – الأندلس وتأسيس الوعي بالتراث

تمكن أحمد أمين، من خلال نشره الجزء الثالث من ظهر الإسلام، من إعادة اكتشاف الحياة العقلية في الأندلس. كان ذلك في إطار مشروعه الفكري التراثي الذي تضمنته موسوعته الإسلامية الجامعة، التي غطت الحياة العقلية لدى العرب في مختلف مراحل تاريخهم‏[55]. في ما يتعلق بالأندلس، كان أمين ينوي في البداية التركيز على القرن الرابع الهجري وما بعده، على اعتبار أن الثقافة الأندلسية لم تتخذ طابع الأهمية إلا ابتداءً من هذا القرن، لكنه قرر بعد ذلك أن يغطي مختلف مراحل التاريخ الثقافي الأندلسي من الفتح إلى نهاية الحكم الإسلامي، والسبب هو الفراغ الذي كانت تعرفه الخزانة العربية وقت صدور الجزء الثالث من ظهر الإسلام (مطلع خمسينيات القرن العشرين)، بحيث يمكن القول إنه لم يكن لدى الإنسان العربي في تلك المرحلة وعي بالتراث الفكري الأندلسي.

قام أحمد أمين بدراسة كل حقل معرفي منفصـلاً من الآخر، حيث يبدأ بالحديث عن هذا الحقل ومراحل تطوره إلى أن يصل إلى الأعلام الذين عاشوا في المراحل الأخيرة من الوجود العربي بالأندلس. وبانتهاجه هذا المنهج، سار على طريقة ابن صاعد الأندلسي، وكان أول من أرّخ للحياة العقلية في الأندلس، حيث ترجم في كتابه طبقات الأمم‏[56]، لعلماء وفلاسفة ومثقفي الأندلس منذ الفتح حتى المرحلة التي عاش فيها (القرن الخامس الهجري).

تسمح لنا المنهجية التي يستعملها أحمد أمين بالخروج بخلاصة واضحة عن الحياة الدينية، وعن المذاهب السائدة، والصراعات بينها. الكتاب هو كذلك قراءة في الذهنيات والعصبيات التي فرض عليها أن تتساكن على أرض الأندلس؛ تساكن صعب أحياناً، سلس أحياناً أخرى. يفسر أحمد أمين مثـلاً، وبطريقة لا نجدها عند المؤرخين التقليديين، أسباب الصراع بين العرب والبربر، حيث يرجع ذلك إلى تشابه المزاج والطباع؛ فالبربر «يشاركون العرب في البداوة والإسلام، والعصبية القبلية والشجاعة، ولذلك وجد منهم العرب الأمرين»‏[57].

يتحدث أمين كذلك عن تبلور الهوية الأندلسية؛ هوية معتزة بذاتها رافضة الخضوع لغيرها. وسيجد الأندلسيون في بلادهم، وأحياناً في مدينتهم أو قريتهم، عنصراً لحماية هذه الهوية، وقد لفت انتباهه كيف أن علماءهم يحملون عادة اسم مدينتهم أو قريتهم (المالقي، البلنسي، الشاطبي، الغرناطي…). وهم يحرصون في كتاباتهم، على إبراز تفوق مدنهم في مجال معين من مجالات العلوم والثقافة. بسبب هذا الاعتزاز، حرص رموز الثقافة في الأندلس على التقليل من قيمة العلوم التي أدركوا أن المشارقة يتفوقون عليهم فيها، مثل علم الكلام. يسوق أمين في هذا السياق شهادة ابن حزم، أحد أكثر المعتزين بالهوية الأندلسية، ويلخص كلامه على النحو التالي: «في المشرق ملأ (علم الكلام) العقول آراء لا طائل تحتها، وعلم الناس السفسطة، ولعل سبب انتشاره في المشرق دون الأندلس أن المشارقة من قديم، ورثوا آراء قديمة عن زرادشت ومزدك وغيرهما»‏[58].

كما كان للأندلسيين إحساس بالتفوق على العنصر العربي المشرقي، كان لهم، بحسب أحمد أمين، إحساس بالتفوق على العنصر البربري المقبل من المغرب، ولم يكن المرابطون والموحدون رغم تفوقهم العسكري: «من سعة الأفق والعراقة في المدنية والحضارة»‏[59]، كما كان لهم إحساس بالتفوق على العنصر المسيحي الآتي من الشمال، والذي كان يقلدهم في لغتهم، ولباسهم، وأكلهم، ونمط عيشهم. ويوجه أحمد أمين نقداً لاذعاً لكبار مثقفي الأندلس بسبب إحساسهم بهذا التفوق، ويعتبر أن ما يذهبون إليه: «ليس منهجاً علمياً دقيقاً، وإنما هو كلام يقال، فمن الصعب جداً الحكم بأن فرداً أذكى من فرد، فكيف الحكم بأمة أذكى من أمة… ومسلكهما (ابن حزم وابن الخطيب) وغيرهما، أنهما يحكمان حكماً كلياً، ثم يستدلان عليه بمسألة جزئية، فيقولون إن أهل الأندلس عرفوا بعلو الهمة، أو الاعتناء بالنظافة، وشدة الحفظ والذكاء، ويستدلون على ذلك بحادثة حدثت لرجل أو من رجل، فكيف يصح ذلك في العقل»‏[60].

2 – الأندلس وإشكالية التراث

في إطار دراسته إشكالية التراث، يتحدث محمد عابد الجابري عن نشوء وتطور الفلسفة في الأندلس، ويرى أن ذلك النشوء جاء في سياق مختلف عن الذي نشأت فيه الفلسفة في المشرق، لذا جاءت هذه الفلسفة مختلفة التوجه والاهتمامات والأهواء؛ فليس هناك مثـلاً تلك الحدة في الجدل بين العقل والنقل الذي أفرز علم الكلام في المشرق، بمهمته الرئيسة التي هي الدفاع عن العقائد الإيمانية بالحجج العقلية‏[61]، ولعل غياب هذا السياق في الأندلس، هو الذي جعل الأندلسيين لا يهتمون بعلم الكلام، كما سلفت الإشارة.

إننا أمام فلسفتين مختلفتين في جوهرهما، الأولى لاهوتية الإيبيستيمي والاتجاه، والثانية «علمية الإيبيستيمي علمانية الاتجاه»‏[62]. من هنا، يرفض الجابري اعتبار فلسفة ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، امتداداً في الزمان لفلسفة الكندي والغزالي وابن سينا. وبسبب هذا الاختلاف، كانت هناك قطيعة إيبيستيمولوجية بين الفلسفتين، وهي قطيعة تعني في الوقت ذاته، أنهما تنتميان إلى الثقافة نفسها، لأن القطيعة الإيبيستيمولوجية، لا يمكن أن تحدث إلا داخل الثقافة الواحدة.

وعند حديثه عن رموز الفلسفة الأندلسية، لا يرفض الجابري ما هو متداول من أن ابن باجة هو أحد روادها، وأنه أول من أخرج الفلسفة الإسلامية بعامة، من حقل الجدل الذي كان يميزها، إلى حقل الرياضيات والطبيعيات، وأن له الفضل في جعلها فلسفة عقلية، وأنه كان من الأوائل الذين فصلوا الدين عن العقل. غير أن الجابري يرفض ما ذهب إليه ابن طفيل، وكان من أكبر المتأثرين بابن باجة، من أن هذا الأخير هو مؤسس الفلسفة الأندلسية، ويرى أن هذه الفلسفة ظهرت قبل ابن باجة بمدة طويلة. ويوثق كلامه، من خلال العودة إلى كتاب طبقات الأمم سالف الذكر، الذي ترد فيه إشارات لفيلسوف أندلسي يدعى أحمد البلنسي (توفى سنة 295هـ)، كما يتحدث الجابري عن تجربة ابن مسرة (توفى سنة 319هـ)، الذي يُعتبر المؤسس الفعلي للفلسفة الباطنية الأندلسية‏[63].

ورغم حديثه عن هذه النماذج التي تؤكد قدم الفلسفة الأندلسية، يقر الجابري بأن الأندلس لم تبدأ بالاهتمام بعلوم الأوائل (الفلسفة)، إلا في وقت متأخر: «وكان ذلك بسبب التضييق الذي مورس عليها من طرف الماسكين آنذاك بزمام السلطة الثقافية والسياسية من فقهاء وحكام، والذين فضلوا أن يشتغل أهل العلم في الأندلس بالعلوم «الحيادية» التي لا تثير الجدل في الدين وبالتالي في السياسة، مثل الطب والحساب والفلك؛ علوم لا خطر فيها على «سلطة الحكام السنيين» وسلطة «الفقهاء المتزمتين»»‏[64].

ومن بين كل فلاسفة الأندلس، أولى الجابري اهتماماً خاصاً بابن رشد، حيث عمل على نشر مؤلفاته الأصيلة: «التي كتبها ابتداءً وليس شرحاً أو تلخيصاً»‏[65]، كما نشر عنه مجموعة من المقالات في الصحافة. وفي مجلة فكر ونقد التي كان يديرها، خصص عدداً من الافتتاحيات التي دأب على كتابتها، لفلسفة ابن رشد وفكره، وكان يستهلها بعبارة: «قال ابن رشد».

في كتابه: ابن رشد: سيرة وفكر، سلك الجابري منهجاً لا نجده في كتبه الأخرى، فقد وفق بين فلسفة ابن رشد التي اعتمد فيها على تحليله لنصوص هذا الأخير، وبين سيرته الذاتية التي استقاها من هذه النصوص ومن المصادر التاريخية. ورغم أن الجابري يقول إنه وجد نفسه مضطراً إلى استعمال هذه المنهجية: «والحق أن هذا المسلك قد فرضه علينا ابن رشد نفسه، أعني كون سيرته الذاتية هي مسيرته العلمية نفسها، فلا يمكن الحديث عن الواحدة منهما بمعزل عن الأخرى»[66]. فإننا نظن أن المحبة التي يكنها الجابري لابن رشد، وما نما بينهما من ود وألفة بسبب سنوات العشرة الطويلة، هو الذي جعل الفيلسوف المغربي يحرص على تخليد ذكرى سلفه الأندلسي، في سيرة ذاتية فلسفية، أراد أن يعيد إليه من خلالها بعض الاعتبار. وهذا ما يتجلى لنا مثـلاً عند حديثه عن النكبة التي حلت بفيلسوف قرطبة؛ فبعد أن يحلل مختلف المصادر القديمة التي أماطت اللثام عن أسبابها، لا يقتنع بأية واحدة منها اقتناعاً كبيراً، ويصل إلى خلاصته هو؛ ومفادها أن هذه النكبة لها علاقة بكتاب الضروري في السياسة، الذي يندد فيه ابن رشد باستبداد الحكام في بلده وزمانه: «هذا الكتاب الذي يسجل استثناءً في التراث العربي الإسلامي، الفلسفي وغير الفلسفي، يستحق أن يبعث حياً، ليس فقط بكلماته ومعانيه، بل أيضاً بمناسبته، فابن رشد، لم يحاكم ولم تصادر كتبه ولم تحرق بسبب «الدين»، الذي اتخذه خصومه غطاءً، ظلماً وعدواناً، كما جرت بذلك عادة المستبدين وسدنتهم، وإنما حوكم بسبب هذا الكتاب الذي أدان فيه الاستبداد بدون هوادة»‏[67].

خاتمة

مرت الكتابة التاريخية حول الأندلس في القرن العشرين في الوطن العربي بمرحلتين، الأولى افتقرت إلى منهج علمي مضبوط، وكانت بمثابة امتداد للكتابة التاريخية التقليدية، والثانية تمت وفق الأعراف الأكاديمية المعمول بها في الأبحاث العلمية المعاصرة، وقد شملت هذه الأبحاث تحقيق مخطوطات كان الكثير منها لا يزال في حكم المجهول. يسري هذا الكلام كذلك على الكتابة في مجال النقد الأدبي، التي سمحت لنا باكتشاف جزء من التراث الأدبي الأندلسي في مجالي الشعر والنثر.

هذه المهمة التي اضطلع بها المؤرخ والناقد الأدبي، كانت موازية لتلك التي اضطلع بها المبدع؛ ولم يرَ شعراء العربية المعاصرون، في الأندلس، مادة تاريخية أو عمرانية فحسب، وإنما صورة فنية أو شعرية، وعلى هذا الأساس نظموا قصائد تتغنى بالأندلس من الناحية العمرانية والحضارية. وقارنت بعض هذه القصائد بين ضياع الأندلس، وضياع أجزاء من الوطن العربي المعاصر.

لم يخرج المسرح العربي كثيراً عن هذا المنحى، فقد استحضر هو الآخر الماضي الأندلسي، من خلال إيحاءات رمزية، موجهة إلى المستعمر – خلال المرحلة الاستعمارية، وموجهة إلى الحاكم المستبد، عندما حل الاستبداد محل الاستعمار في الوطن العربي.

بالنسبة إلى الرواية العربية المتعلقة بالأندلس، هي في مجملها رواية تاريخية، اعتمدت شخصية البطل، لتقريب القارئ من الماضي الأندلسي، وخصوصاً السياسي والثقافي. وقد نجح عدد من الروائيين في تمرير خطاب رمزي إيحائي، يربط الأندلس بواقع الحال في الوطن العربي المعاصر.

في ما يتعلق بالحياة العقلية الأندلسية، فقد تناولها المثقفون العرب كجزء من التراث الثقافي العربي – الإسلامي، واقتصرت مهمة بعضهم على إعادة اكتشاف هذا التراث، بينما تجاوز الأمر ذلك لدى آخرين، طرحوا الحياة العقلية الأندلسية كإشكالية تراثية.

أما الحقل الذي لم نسجل فيه حضوراً واضحاً للأندلس في الكتابات العربية، فهو الفن من زخرفة ونقش وعمارة وغيرها، بحيث إذا ما استثنينا المعالم العمرانية الكبرى، مثل قصر الحمراء ومسجد قرطبة وصومعة لاخيرالدا، التي نشرت بصددها بعض الدراسات، فإن بقية المعالم العمرانية والآثار الفنية، يكتفي المهتمون العرب بدراستها من الناحية التاريخية والثقافية، وليس من الناحية الفنية. يعود السبب في ذلك من دون شك، إلى النقص في هذا التخصص في الوطن العربي.

إن الخلاصة الرئيسة التي خرجنا بها في هذا البحث، هي وجود تطور في تمثل المثقف العربي في القرن العشرين للأندلس، بحيث إنه مع تقدم هذا القرن، بدأت تحل الصورة الواقعية العلمية محل الصورة الرومانسية الخيالية، بعدما أدرك هذا المثقف أن التباكي يقتل العلم، وأن علم التاريخ ليس له قلب، وإنما له عقل‏[68]. ومع ذلك، فقد كان تمثل المثقف العربي المعاصر للأندلس يتم من خلال مرجعيته وهويته العربية، حتى ولو أنّ ثقافته غربية، ولو أنجز أبحاثه الأندلسية في جامعات غربية وتحت إشراف مؤطرين غربيين. بسبب ذلك، جاء هذا التمثل مختلفاً من ذاك الذي ينظر به مثـلاً المثقف الإسباني إلى الأندلس التي يعتبرها تاريخاً مشتركاً بين العرب والإسبان.

لكنّ تمثل المثقف العربي للأندلس مختلف كذلك من تمثل الذاكرة الجماعية العربية للأندلس؛ فهذه الذاكرة عادة ما يحلو لها استحضار الأندلس، للهروب من خلالها إلى الزمن الحضاري القديم والتغني بأمجاده، بعدما لم تجد مكانها في الزمن الحضاري الراهن. إن الكثير من الشعوب التي لها وزن في الزمن الراهن، لها ماضٍ لا يقل إشعاعاً عن الماضي الأندلسي؛ فإيطاليا صنعت أهم حضارة في البحر الأبيض المتوسط خلال العصور القديمة، وكانت مهد النهضة الأوروبية بعد ذلك، وصنعت أهم قوة في المحيط الأطلسي خلال القرن السادس عشر، وامتد وجودها السياسي وإلى حد ما الثقافي، إلى أربع قارات. كذلك، إنكلترا، التي قادت العالم في مختلف المجالات خلال الأزمنة الحديثة، وأسست إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. كما أن فرنسا أسست لعصر الأنوار الذي أفرز الثورة الفرنسية التي لا تزال «الجمهورية» إلى اليوم تقتاد بمبادئها. إنّ الذاكرة الجماعية في هذه البلدان، ومع اقتناعها بأهمية تلك المراحل في تاريخها، وفي تكوين شخصيتها، وصقل هويتها، لا تنظر إليها بحسرة وعواطف، كما تفعل الذاكرة الجماعية العربية مع تاريخ الأندلس.

 

قد يهمكم أيضاً  طه عبد الرحمن والقراءة التداولية للتراث

أيضاً تمتعوا بقراءة  العمارة العربية – الإسلامية: التفسير التاريخي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأندلس #الذاكرة_الجماعية_العربية #تاريخ_العرب #الثقافة_العربية_المعاصرة #الهوية_العربية #التراث_العربي #دراسات