مقدمة:

إنّ طبيعة المعرفة المحلّية المتوافرة حول القطاعات والمنظمات الإدارية المختلفة في البلدان النامية بالنسبة إلى صانعي السياسات التنموية والجهات المانحة، تُؤثّر تأثيراً كبيراً في نتائج برامج المانحين وفاعليتها، وفي مستوى فاعلية تدخلات المانحين في إصلاح القطاع العامّ في البلدان النامية أيضاً.

وتؤكّد إينهورن أن هناك إدراكاً متزايداً لأهمية بناء مؤسسات ومنظمات رسمية ذات فعالية عالية (Formal Organizations and Institutions) لدى مجتمع المانحين، ولكن في المقابل، هناك القليل من الاهتمام بين أوساط الدول والمنظمات المانحة، بشأن الكيفية التي يُجرى من خلالها إنشاء مثل هذه المؤسسات والمنظمات الفعّالة، في بيئات سياسية واجتماعية صعبة في الدول المستقبلة للمساعدات‏[1]. ويجادل كلّ من جنكينز وبلودن في أنّ إدماج معلومات حول المعرفة المحلّية عند تصميم سياسات المساعدات الخارجية وتنفيذها، هو الضمان الوحيد لبناء مؤسسات ذات جودة عالية وإحداث التغييرات المؤسسية الفعلية في البلدان النامية‏[2].

من جهة أخرى، توصَّل الباحثان علاية وباميريزيفيا إلى أنّ الدول المانحة بدلاً من ذلك، ما زالت تستخدم نماذج إصلاحيةً دخيلة شكّلتها مجموعاتٌ معينة من النظريات الغربية المشتركة في قواعد وافتراضات التغيير غير الواقعية للتطبيق في البلدان النامية. أكثر من ذلك، إنّ الجهات والدول المانحة في ممارساتها وتدخلاتها التنموية، اعتمدت على مبدأ «مقاس واحد يناسب الجميع»؛ ما أدَّى إلى حالةٍ من الفوضى ونتائج غير ملائمة، وعشوائية في تقديم سياسات المساعدات الخارجية وبرامجها المختلفة، ومن ثمّ عدم ملاءمتها الأوضاع الداخلية بالنسبة إلى البلدان النامية المُستهدفة‏[3].

إنّ الحصول على معلومات دقيقة حول المعرفة المحلّية في بناء الإطار النظري للسياسات، وفي عملية رسم وتصميم السياسات والبرامج التنموية بالنسبة إلى المانحين مبدأ ضروري لا بدّ من تطبيقه، ولكن، حتى الآن، لم يتمَّ تطبيق هذا المبدأ. والسؤال الرئيس هو: لماذا لم تنل المعرفة المحلّية الاهتمام الكافي من صانعي السياسات التنموية؟

إنّ الهدف الرئيس من هذه الدراسة، هو النظر إلى عدسة التفكير الاستراتيجي، وعمليات صنع السياسات التنموية للمانحين. ومن خلال هذه العدسة، سوف ننظر في المبادئ، والأولويات، ومحتوى البرامج ومناهجها، والسياسات التنموية الهادفة إلى إحداث إصلاحات في «القطاع العامّ في البلدان النامية»، واستكشاف نوع المعلومات، التي كثيراً ما تكون متاحةً لدى صانعي السياسات التنموية، وأسباب التقليل من شأن المعلومات المتعلّقة بالمعرفة المحلّية‏[4].

أولاً: مفهومَا المعرفة المحلّية ومتلازمتها وصنع السياسات التنموية الخارجية

قبل أن نُعرّف مفهوم متلازمة المعرفة المحلّية، ضمن الخطاب المعرفي للمساعدات التنموية الخارجية، فإنّ الأمر يستحق، في إيجاز، تعريف مفهومَي المعرفة والمعرفة المحلّية.

إنّ مصطلح المعرفة، وفقاً لهيلاري ومارتن، هو أكثر من مجرد مجموعة من الحقائق والتصوّرات العامّة في مجتمع ما عن نفسه وعن العالم وعمّا حوله فحسب. فمفهوم المعرفة يشير إلى زيادة معلوماتنا وخبراتنا لكي نعرف Know-how. ومن ثَمّ لا يمكن أن تُختزل المعرفة في إطار الحصول على معلومات‏[5]، بل إنّ مفهوم المعرفة يشير إلى إدراك الواقع في حقبة زمنية معينة وفهمه.

لقد استرجع سكوت الكلمة اليونانية «ميتس» Métis لشرح مفهوم المعرفة المحلّية التي تضمّ معرفة الجذور العميقة والتغيرات المتلاحقة عبر الزمن، والتي تُشكل مضمون المعرفة العامّة في حدّ ذاتها في أيّ مجتمع أو منظمة عامَّة. فالمعرفة المحلّية بالنسبة إلى سكوت: مجموعة واسعة من المهارات العملية المتوارثة والمكتسبة، التي هي في حالة ارتداد مع البيئة الطبيعية والبيئة البشرية المتغيرة باستمرار. ويؤكِّد سكوت أنّ درجة كبيرة من الـ «ميتس» ضرورية لجميع الأنشطة البشرية، ولكنّ بعض الأنشطة يتطلب أكثر من ذلك، من بينها أنشطة المساعدات الدولية على سبيل المثال‏[6].

إنّ التغييرات في طبيعة المعرفة المحلّية المستمرّة تؤدِّي إلى تطور مستمرّ مع مرور الوقت، ومن ثَمّ إلى اكتساب خبرات جديدة. لذا، على الجهات والدول المانحة تقييم الـ «ميتس» تقييماً مستمراً. ومن ثمّ تعرف مدى انسجام طبيعة هذه المعرفة المحلّية مع توجهات المانحين وملاءمتها برامج التنمية الممولة من جهتهم المستهدفة لإحداث تغيرات في البيئة والمؤسسات الرسمية‏[7]. وقد أكّد بوتكي وكوين أيضاً، أهمية الـ «ميتس»، لإنشاء مؤسسات رسمية جديدة وفعّالة تكون ملائمةً للبيئة المحلّية‏[8].

تطرح النظرية المؤسسية، بطرائق مختلفة، تعريفاتٍ متعدّدةً لمفهوم المؤسسات. والتعريف الأكثر شيوعاً هو لدوغلاس نورث الذي يُعرف المؤسسات بما يسمّى «قواعد اللعب»، أو «القيود الموضوعة إنسانياً»، وهي تُشكل التفاعل البشري والاجتماعي وتنظّمه، وتحدد أنماط السلوك المختلفة في مجتمع معيّن (منظمة حكومية مثـلاً) ينضم إليه أفراد محدّدون. ويمكن أن تكون قواعد اللعب رسميةً أو غير رسمية (Formal-Informal)‏[9]، وعادةً ما يُنظر إلى المؤسسات الرسمية على أنها تشبه القواعد المأسورة في هياكل رسمية؛ مثل الدساتير، والمؤسسات السياسية، والنظم الرسمية، والحقوق القانونية، والقوانين، واللوائح، والمواثيق. وتُفرض المؤسسات الرسمية من الجهات الرسمية؛ مثل القضاة والمحاكم والحكومات والوزارات والبيروقراطيين. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ المؤسسات غير الرسمية هي أدوات للمسؤولية، والتعامل والتفاعل غير الرسمي، مثل العلاقات الزبونية، أو الشبكات الاجتماعية والسياسية، وكذلك أنماط السلوك غير الرسمية والأعراف والتقاليد، ومعايير السلوك الناتجة من البيئة المحيطة‏[10]. في حين لا يجرى عادةً إيجاد تنظيم وقوالب رسمية للمؤسسات غير الرسمية. وعلى الرغم من ذلك، يوجد اعتراف على نطاق واسع، بأنها ذات مشروعية، ومن ثمَّ، فهي تمثّل القواعد المنظّمة للتفاعل، والعمل في المؤسسات الرسمية، وذلك بدلاً من استخدام القواعد الرسمية المكتوبة، وهذا الوضع تسِمه أوستروم بـ «القواعد المعمول بها من دون مشروعيتها الرسمية، ولكن لديها مشروعية غير رسمية»‏[11].

علينا أن نعترف بأنّ المؤسسات غير الرسمية تؤدّي دوراً مهماً في العديد من البلدان النامية والمجتمعات التقليدية الصغيرة. فالمؤسسات الرسمية هي أقل قيمةً وتأثيراً، والقانون الرسمي مهمّش وسُلطة الدولة ضعيفة جداً. فالتنمية لا يمكن أن تتحقّق؛ أكثر من ذلك أنها عملية شاقة بالنسبة إلى ما ينطوي منها على علاقات السُلطة المختلفة؛ كعلاقات المحسوبية التي تُمكّن من اختيار أشخاص للمراكز السياسية والإدارية والاقتصادية لخدمة توجهات السُلطة القائمة على المدى الطويل، وخصوصاً من يقبعون في رأس هرم السُلطة‏[12]. تنشأ متلازمة المعرفة المحلّية LKS في هذه الدراسة عندما تتجاهل السياسات التنموية للمساعدات من جهة المانحين دور مؤسسات نظم السُلطة غير رسمية وهياكلها، وتعتمد على المؤسسات الرسمية (الضعيفة) بدلاً من ذلك‏[13]. فمن الضروري بشأن تنمية المجتمعات وتعزيز الإصلاحات الفعّالة في القطاع العامّ في البلدان النامية، إدراك أنّ المؤسسات والمنظمات غير الرسمية لا تقلّ أهميةً عن المؤسسات والمنظمات الرسمية، إن لم تكن أكثر منها. فالنظم والهياكل غير الرسمية، تؤثّر في القواعد الرئيسة التي تتمّ من خلالها إدارة معظم الجهات الحكومية في البلدان النامية.

وإذا كان المشاركون من صانعي قرار ومنفذين في برامج المساعدات على بيّنة من طبيعة البيئات المحلّية في هذه الأنظمة، فإنهم سيكونون ناجحين في تصميم الإصلاحات وتعزيزها، وإحداث «التغيير المؤسسي» في بيئات غير شفافة‏[14]. إنها ليست مهمّةً صعبةً بالنسبة إلى صانعي سياسات المساعدات لاستيعاب المعرفة المحلّية الصريحة وفهمها من المؤسسات والمنظمات الرسمية؛ لأنها كثيراً ما تكون متاحةً على الورق، أو من خلال الوسائل المادية الأخرى. أمّا المعرفة المحلّية الضمنية (المؤسسات والمنظمات غير الرسمية)، فهي صعبةٌ جدّاً في عملية الاستيعاب والفهم؛ لأنها غير مكتوبة، ولا يمكن النظر إليها على نحوٍ مباشر. ومن ثَمّ، فهي تتطلب قدراً معيّناً من الجهد من جهة المشاركين في صنع سياسات المساعدات الخارجية وتنفيذها، وذلك من أجل العثور عليها وإدراجها. والمعرفة الضمنية تقطن في عقول الأفراد وتنعكس من خلال السلوك البشري المباشر وغير المباشر. هي معرفة غير ظاهرة، ولكنها خفيّة، ولا يمكن كتابتها؛ لأنها تتغير من وقت إلى آخر ومن مكان إلى آخر وفقاً لمؤثرات مختلفة. ومن ثمّ لا يمكن نقلها أو إبرازها إلا من خلال التفاعل الاجتماعي المباشر، في وقت ومكان محدّدين.

يخدم التفاعل المباشر وغير المباشر بين أصحاب المصلحة وطرفَي المعادلة المستفيدين في البلدان النامية والمانحين في الدول المانحة، على نحوٍ جيّد، عمليات نقل المعارف المحلّية، وخصوصاً المعرفة الضمنية منها التي تشكل قواعد اللعب في المؤسسات والمنظمات المختلفة في معظم البلدان النامية، وتبادل الحلول حول الأوضاع المحلّية‏[15]. وقد وضّح أوستروم وآخرون طبيعة العمل في أيّ منطقة غير مألوفة، وهذا ينطبق على المانحين على نحوٍ مباشر. ويخلق هذا الوضع نقصاً من المعرفة المحلّية لدى الجهات المانحة، ومن ثمّ لا يمكن التغلب على مشكلة نقص المعرفة المحلّية، إلا من جهة الأشخاص الذين يدركون مدى أهمية التعرّف إلى موقعهم الاجتماعي والمادي الجديد‏[16].

يتطلب الدمج الفعال للمعرفة المحلّية، عموماً، اتصالاً وتفاعـلاً شخصياً واسعاً ومنتظماً، ويتطلب قبل كلّ شيء ثقةً متبادلةً بين الجهات والأشخاص المتفاعلين‏[17]. ويمكن دمج المعرفة المحلّية، والكشف عنها من خلال الممارسة في سياق اجتماعي معيّن، وهي تنتقل من خلال خلق شبكات التفاعل الفاعلة والقوية حول البرامج والسياسات التنموية التي تستهدف تغيرات قيمية وسلوكية في المجتمعات المُستهدفة‏[18]. ويبدو أنّ الطريق لا تزال وعرةً أمام الجهات المانحة في علاج متلازمة المعرفة المحلّية، ومحاولة تصميم سياسات تنموية فاعلة تتوافق مع البيئات والمتطلبات المحلّية في البلدان النامية.

توجد عوامل متعدّدة في كلّ مراحل التصميم والتنفيذ لسياسات المانحين وبرامجهم التنموية في البلدان النامية. وفي هذه الدراسة سنركّز على العوامل التي حالت دون علاج متلازمة المعرفة المحلّية في مستوى التفكير الاستراتيجي، ومستوى صنع السياسات التنموية الخارجية للمانحين، وبذلك سيكون من المهمّ تعريف صنع السياسات التنموية في إطار المساعدات الخارجية، وشرحه شرحاً مبسّطاً.

إنّ مفهوم صنع السياسات التنموية، مفهوم مختلف من حيث لغته، ومجاله النظري، ومبادئه التي تحكمه، عن مفهوم صنع السياسات المتعارف عليه في علمي السياسة العامّة والعلوم السياسية. وهذا الاختلاف ناتج من عدّة أسباب، أهمها أنّ السياسة التنموية في المساعدات الخارجية هي عملية موجهة نحو الحفاظ على الحكومة المستهدفة، أو إصلاحها، أو تغييرها‏[19]. وكذلك الأمر في الجانب العملي المتعلّق بعملية صنع السياسة التنموية التي تجرى بطريقة مختلفة، وخصوصاً أنّ الحكومات المانحة، أو من ينوب عنها من الجهات المانحة وغيرها من الأطراف الفاعلة والخبراء – ولا سيَّما الاقتصاديين منهم – هي التي تُحدد المشكلات، وتصوغ مشاريع السياسات، وتضع جدول الأعمال، وتتخذ القرارات. وفي نهاية الأمر، تُدعى الجهات الغربية المنفّذة‏[20] مع نظرائها في البلدان النامية لتحمّل مسؤولية تنفيذ السياسات الجاهزة، وكأنّ هذه السياسات الحلّ السحري لمشكلات البلدان النامية. بمعنى آخر، يتمّ التخطيط والرسم لسياسات المساعدات التنموية في البلد المانح في المقام الأول. أمّا التنفيذ، فيتمّ في البلد المستقبل‏[21].

إنّ صنّاع السياسات في البلدان المانحة، كما ذكرنا سابقاً، كثيراً ما يكونون عاجزين، وعلى غير علمٍ كافٍ بالمعلومات والمعارف المحلّية في البلدان النامية. وفي أغلب الأحيان نجد التماثل المعياري، أو السلوك المتماثل في نشر الافتراضات بشأن إصلاح القطاع العامّ في البلدان النامية الذي يحدث من جهة منظمات المساعدات الخارجية المتعدّدة الأطراف والمهيمنة على ساحة المساعدات الخارجية. على سبيل المثال، نذكر في هذا السياق البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ومن ثمّ يجرى اتباع ذلك السلوك من الدول المانحة المختلفة‏[22].

يوجد افتراض أساسي ومحيّر في الوقت نفسه مفاده أنّ المانحين يعرفون كيفية إصلاح مشكلات البلدان النامية التي لم تصلْ إلى مرحلة التطور على نحوٍ كافٍ، وهذا الافتراض قد أخذه مجتمع المانحين في حسبانهم، وفي سياساتهم وخططهم التنموية. وهذا يعني وجود مجموعة من القواعد المشتركة بين الجهات المانحة، وخصوصاً على مستوى السياسات‏[23].

وبدلاً من إجراء البحوث، وتحليل الأوضاع، وتحديد المشكلات الرئيسة للبلدان النامية، والحصول على معلومات بخصوص المعرفة المحلّية، فإنّ صنّاع السياسات التنموية في إطار المساعدات الخارجية، أو السياسيين في البلدان المانحة، يفترضون العقلانية في السياسات والخطط المعتمدة من جهتهم التي هي في الأصل معقَّدة، وقائمة على الأفكار والتكهنات المتصورة مسبقاً، مع فهم قاصرٍ للمؤسسات والعمليات المؤسسية في البلدان النامية. وترتكز معظم السياسات التنموية على المعرفة العلمية، ونظريات التنمية غير الملائمة التي جرى تطوير معظمها واختبارها في الدول الغربية مع المجتمعات الحديثة المزدهرة. وتستند هذه النظريات إلى نماذج مثالية الحكم في البلدان المتقدمة، إضافةً إلى أنها من النادر أن تقدّم توجهات إصلاحيةً لإحداث تغييرات فعلية في المجتمعات والحكومات المستفيدة‏[24]. وقد لاحظ شنايدر وإنغرام أنّ عملية صنع السياسة هي عملية دينامية، لا بدّ من أن تكون ملائمةً للسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المستهدف. فقد يكون لدينا تصميم لسياسة تنموية ممتازة في سياق معيّن، ولكن ربما يكون هذا التصميم سيّئاً في بلد أو سياق آخر‏[25].

ويمكن تفسير سلوك المانحين في اعتماد الافتراضات النظرية عند تصميم السياسات التنموية، بأنه يُعبّر عن توجهات سكوت في نموذج الهندسة الاجتماعية ومنطلقاته‏[26]. وقبل ذلك من المهم تقديم تحليـل وشرح عملي لواقع التفكير الاستراتيجي المتعلّق بالسياسات التنموية الخارجية في ثلاث «موجات» منذ عام 1950، والكيفية التي صاغت السياسات الخاصة بالمعونات الخارجية. وسيجري التركيز في تجربة الإصلاحات المؤسسية التي تدعمها الجهات المانحة في البلدان النامية، من خلال مقارنة سياقات الإصلاحات المختلفة بالأفكار والنظريات التغييرية التي ارتكزت عليها كلّ موجة من الإصلاحات، ومضمون هذه الإصلاحات ونهجها، والنتائج والدروس المستفادة منها.

 

ثانياً: ثلاث موجات من أجندة الإصلاح الخارجية ومتلازمة المعرفة المحلّية

لا يتّسع المقام في هذه الدراسة لمراجعة جميع التغييرات في سياسات المساعدات الخارجية منذ عام 1950. فمثل هذا الأمر يحتاج، في الواقع، إلى دراسة كاملة. وعلى الرغم من ذلك، سنحاول تقديم تلخيص لكلّ موجة، بحسب ما يتوافق مع موضوع الدراسة ومتلازمة المعرفة المحلّية.

بدأت الموجة الأولى عام 1950، وانتهت عام 1970، وقد هدفت معظم الإصلاحات إلى إصلاح الاقتصاد الكلّي، وبناء البنية التحتية، والطرق، وتوليد الطاقة في البلدان النامية، والشروع في إعادة بناء القدرات المالية لهذه البلدان، كما جرى ذلك في الدول الأوروبية التي تمّت مساعدتها في جوانب السياسات المالية والاستثمارية ضمن مرحلة إعادة الإعمار الخاصة بالحرب العالمية الثانية‏[27].

كان المانحون ينظرون إلى العملية التنموية بوصفها عملية تحديث للنظام التقليدي في البلدان النامية. وكان من الأسباب التي أوجدت هذه النظرة التنموية، تخلّف المؤسسات الحكومية والقدرات في البلدان النامية وضعفها. وهكذا تمحورت الحلول في إطار المساعدات الخارجية في هذه الموجة حول زيادة القدرات في البلدان النامية لتطوير المؤسسات الحكومية الحديثة، في نطاق التركيز في الإصلاح والتطوير التنظيمي في القطاع العامّ. وقد اشتُق هذا النهج التنموي من النظريات الغربية؛ مثل نظرية التحديث، ونظرية الإدارة العلمية. وهكذا، ركّزت إصلاحات قطاع التنمية الإدارية في البلدان النامية، من خلال استيراد نماذج الإصلاح المؤسسية والتنظيمية الغربية من الخبراء الأجانب، في محاولةٍ لخلق تأثير شامل في النظام العامّ في البلدان النامية‏[28].

في مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين، إذاً، تمّت إعادة بناء أنظمة الحكم الحديثة في بلدان أوروبا الغربية (بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً). وتكمن المشكلة في أنّ مضمون الإصلاحات الذي يُطبّق في البلدان الأوروبية هو نفسه الذي يُطبّق في البلدان النامية وسياساتها، من دون الأخذ في الحسبان النُظم السياسية الناشئة والمتخلفة، والقائمة مع السياقات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة في البلدان النامية. وقد جرى تنفيذ برامج هذه المساعدات، على نحوٍ رئيس، من جهة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) على أساس مشروع مارشال لمساعدة أوروبا.

نجحت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية نجاحاً كبيراً في إعادة بناء اقتصادات أوروبا، وأصبح النظام الأمريكي للإدارة العامّة لإصلاح القطاع العامّ النموذج الرائد لدى منظمات المساعدات الخارجية في البلدان النامية أيضاً. وأعقب هذا الأمر اعتماد منظّمات المساعدات الأوروبية لهذا النموذج الإصلاحي. وهكذا، فإنّ عدم إيلاء اختلافات الأوضاع والحاجات في البلدان النامية الاهتمام اللازم، أدّى إلى عراقيل متنوعة في هذه البلدان، وحال دون تحقيق مستوًى عالٍ، أو نتائج تُذكر، أو ذات فاعلية، في ما يتعلّق بتقديم برامج المساعدات الخارجية في مجال الإصلاحات المؤسسية‏[29].

لقد كان كلّ من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وكبار العلماء والخبراء الاقتصاديين الغربيين، خلف ظهور ما يسمّى الموجة الثانية من الإصلاحات (1980 – 1997). وفي هذه الموجة، كان التركيز، على نحوٍ مباشر، في النمو الاقتصادي، والإصلاحات القطاعية في القطاعات العامّة، مع تحوّل مُهمّ في إيلاء القطاع الخاص مجالاً أكبر، من خلال المساهمة في التنمية والأنشطة العامة. فقد كانت الفكرة، أنّ خصخصة المؤسسات العامّة، من شأنها أن تؤدِّي إلى التنمية الاقتصادية.

أمّا المدارس النظرية ونظريات التغيير الأكثر تأثيراً في تحديد مضمون السياسات الإصلاحية في الموجة الثانية، فهي متمثّلة بنظرية الاقتصاد التقليدي، ونظرية الاختيار العامّ، ونظرية الإدارة العامّة الجديدة. وهكذا، نجد أنّ معظم التدخلات الخارجية في إطار المساعدات التنموية قد هدفت إلى رفع القيود الحكومية، واللامركزية، والخصخصة، والاقتصاد الكلّي، وتحرير البيروقراطية الحكومية وتقليصها، والتركيز في النتائج، واستيراد النماذج المؤسسية الغربية ومبادئ القطاع الخاص إلى البلدان النامية‏[30].

في الموجة الثانية كان الاهتمام بإصلاح الإدارة العامّة ضعيفاً جداً، واتجه التركيز إلى إصلاح القطاع الاقتصادي على نحوٍ خاصّ. وفي نهاية الأمر، أدركت الجهات المانحة المعادلة التي تقول: إنّ عملية التنمية لا يمكن أن تحدث في أيّ بلد من دون نظام إدارة جيّد وفعّال، وقد حفّز هذا الإدراك الموجةَ الثالثة من الإصلاحات، وأصبحت حزمة برامج الحكم الرشيد وسياساته نقطةَ ارتكاز الجهات المانحة في تحركاتها، وتدخلاتها التنموية في البلدان النامية.

لقد افترض الإصلاح الرئيس للموجة الثالثة (من عام 1997 فصاعداً) أنّ السبب الرئيس للتخلف والفقر المدقع في البلدان النامية هو سوء الإدارة الفاعلة والحكومات والمؤسسات الحكومية الفعّالة أو غيابها. أمّا المدارس المؤثرة في أفكار الإصلاح وافتراضاته، أو نظريات التغيير في الموجة الثالثة، فهي «نظرية الاختيار العامّ» و«الإدارة العامّة الجديدة».

اعتُمدت هذه التوجهات الإصلاحية، أوّل مرة، من الجهات المانحة المتعدّدة الأطراف والأكثر تأثيراً؛ مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، وجرى التركيز، على نحوٍ رئيس، في استفادة البلدان النامية من أفضل الممارسات والإصلاحات التي جرت في البلدان المتقدمة‏[31].

وفي مجال المساعدات الخارجية، من الصعب تشخيص مصطلح «الحكم الرشيد»، على الرغم من أنّ تقارير التنمية في العالم مع مرور الوقت، وضعت قائمةً طويلةً من الشروط المؤسسية المسبقة لتحقيق الحكم الرشيد. وقد كان عدد الشروط المسبقة 45 شرطاً عام 1997، ثمّ صار 116 شرطاً عام 2002‏[32]. ولاحظ غريندل أنّ هذه الشروط المسبقة تشمل جميع جوانب القطاع العامّ (هيكل صنع القرار، وإدارة الموارد البشرية، والتفاعل بين العاملين في القطاع العامّ والمواطنين)‏[33].

ضمن شروط الحكم الرشيد، أُدخلت عناصر جديدة في برامج المساعدات الخارجية التي تُعَدُّ موضوعات ساخنةً في الدول المانحة نفسها؛ مثل المساواة بين الجنسين، والديمقراطية. وتحوّل التركيز في الوقت الراهن، تحت تأثير الأزمة الاقتصادية في الدول الغربية وموجات الربيع العربي، نحو تحقيق الاستقرار، وتجاهل الحكومات في البلدان النامية، والتركيز على نحوٍ مباشر في شؤون الشباب بوجه عامّ، والشباب من أعضاء الأحزاب السياسية بوجه خاصّ، والعاطلين من العمل‏[34].

يمكن أن نستنتج أنّ الموجة الثالثة قد أولت اهتماماً لإصلاح كلا الجانبين السياسي والإداري في عملية الحُكم. ويهدف هذا النهج الإصلاحي إلى تعزيز المؤسسات الحكومية والقدرة والمساءلة، والشفافية، فضـلاً عن رفع القيود الحكومية والخصخصة، وتشجيع المشاركة المجتمعية.

وقد استُهدفت المنظمات الطوعية أو غير الحكومية التي توصف عادةً بـ «المجتمع المدني»، على نحوٍ مباشر أيضاً، من خلال رفع قدرتها، وزيادة نشاطها السياسي والخدمي. وهكذا، فإنّ كلّ هذه الشروط هدفت إلى تنمية القدرات، وزيادة جهد المانحين، لتعزيز قدرة الحكومات في البلدان النامية؛ من أجل إعادة الهيكلة المؤسسية ونقل المهارات والتجهيزات المختلفة‏[35].

بعد أن أخفقت موجتَا الإصلاح، الأولى والثانية، في تغيير الحكومة، أو حَفْز القطاع الخاص لإحداث التغيير في البلدان الفقيرة والهشّة، اقتنعت الجهات المانحة، في محاولةٍ لتغيير توجهاتها الإصلاحية، بالوصول نحو تغيير كاملٍ لنظام الحكم كلّه في البلدان النامية. وعلى الرغم من ذلك، لم يحدث هذا التغيير في التوجهات والسياسات التنموية الخارجية في الموجات الثلاث، بناءً على البحوث التجريبية والعملية التي يمكن أن تعكس المعرفة المحلّية، ولكن هذه التحولات في التوجهات الإصلاحية، كما أشرنا إلى ذلك من قبلُ، كانت مبنيةً على التغيرات في الافتراضات والنظريات الغربية الهادفة إلى تطوير أنظمة الحكم في الدول المتقدمة قبل البلدان النامية‏[36].

لم يُؤخذ فهم الواقع المحلي والنظام غير الرسمي، على محمل الجدّ. وكانت الموجتان، الأولى والثانية، متضمنتين للمفاهيم والنظريات الأجنبية التي اعتمدت لإصلاح النظم الاقتصادية والإدارية والسياسية في البلدان النامية، وحتى الموجة الثالثة التي سُميت موجة سياسات الحكم الرشيد والتغير الكلّي، تُعدّ نتيجةً للموجتين الأوليين. فهي، إذن، غريبة المنشأ والتوجه أيضاً‏[37].

ثمّة من يجادل في أنّ أجندة الحكم الرشيد ذات صبغة إصلاحية طموح. وبالفعل، فقد أصبحت محاولة استبدال نظام الحكم برمته، أو إصلاحه، تحدياً كبيراً في موضع التنفيذ. وربما يتضمن برنامج الحكم الرشيد كلماتٍ جميلةً، وذات رونق عالٍ على الورق، ولكنّ هذه الكلمات ليست كافيةً في ما يتعلّق بتطبيقها من الناحية العملية‏[38]. وتشير تجارب أجندة إصلاح إدارة الحكم في البلدان النامية إلى تخبّط واقعي ظلّت تعانيه الجهات المانحة، في حين أنّ التخطيط للأنشطة والبرامج التنموية، قد يكون جيداً. غير أنّ هذه الخطط والبرامج تصطدم بالواقع المحلي في البلدان النامية. ومن ثَمّ يحصل الإخفاق في مرحلة التنفيذ. علاوةً على ذلك، توجد بعض الأنشطة الأخرى التي توصف بأنها غير ملائمة، وخاطئة في المقام الأول، أو حتى في مرحلة التخطيط. وقد أخذ صانعو القرار في الدول المانحة بعض المعلومات في الحسبان بخصوص الأوضاع المحلّية في البلدان النامية، وجرى التركيز في افتراضات إصلاحية متفائلة جداً بشأن قدرة برامج الإصلاح على التأثير في سلوك الناس والوقت الذي سيستغرقه، لوضع المنظّمات العامّة في البلدان النامية في طور العمل الفعّال والإنتاج المثمر‏[39].

إنّ متلازمة المعرفة المحلّية، في واقع الأمر، ليست جديدةً، ولكنها ذات حساسية، ولم تظهر على السطح؛ لأنّ من يساعد هو الطرف الذي يملك القوة والكلمة، والقادر على توجيه مبالغ المساعدات في الأُطر التي يرى أنها ملائمة لسياساته المختلفة‏[40].     وقد جرى التطرق إلى متلازمة المعرفة المحلّية، في العديد من الدراسات السابقة التجريبية والنظرية المتعلّقة بهذه الموجات الثلاث من السياسات التي تخصّ المعونات الخارجية، والتي عرضت الدروس والتوصيات لمساعدة واضعي السياسات في الدول المانحة، على نحوٍ يضمن إدخال معلومات حول المعرفة المحلّية، ودمجها في برامجها، وسياستها التنموية. وعلى الرغم من هذه التوصيات التي كانت متاحةً منذ الموجة الأولى من الإصلاح، فإنها لم تُوضع موضع التنفيذ.

لقد وضع أرجيريس الدرس الأول الذي دعا إلى تغيير الخطط الخاصة بالمساعدات الخارجية، من خلال الشروع في تغيير نُظم الحكم في البلدان النامية تغييراً كامـلاً (كما جرى في الموجة الثالثة)، بدلاً من التركيز في أجزاء متفرقة من النظام (كما هو الحال في الموجة الأولى والثانية)‏[41].

وتوصَّل إيفانز إلى نتيجة مفادها أنّ دمج المعلومات حول المعرفة المحلّية ذات أهمية، وأنه ينبغي لواضعي سياسات المساعدات الخارجية أن يحوّلوا نهجها في رسم خططها التنموية، وتنفيذها، من خلال زيادة المشاركة مع الجهات ذات العلاقة بتلك المساعدات في البلدان النامية‏[42]. وهذا يعني الحصول على المدخلات من المستفيدين المعنيين بهذه السياسات في جميع مراحل عملية وضع السياسات وتنفيذها، بدلاً من اتباع نهج تخطيطي وتنفيذ قائمٍ في اتجاه واحد (من أعلى إلى أسفل) ورسم السياسات من الخارج وتحديدها.

واهتمّت دراسات بتركيز المانحين في تغيير مراكز القوى، والتوزيع الحاليّ للقوة في البلدان النامية، بدلاً من استيراد نماذج الحُكم الغربية. وبما أنّ نظريات التغيير إلى سياقات سياسية واجتماعية مختلفة في البلدان النامية، فإنّ الأمر يقتضي أن يُؤخذ الطابع السياسي وسياق الإصلاحات في الحسبان‏[43].

ولئن جرى الجدال في أنّ نظريات التغيير الغربية يمكن أن توفر مناهج جديدةً لتنمية البلدان النامية، فإنّ استخدام «مقاس واحد يناسب الجميع» من الجهات المانحة في تقديم برامج المساعدات الخارجية ليس نهجاً دقيقاً لتطويع النظريات الغربية للتغيير وأقلمتها بطرائق ملائمة للسياقات المختلفة في البلدان النامية.

إنّ هذه المشكلة متوطّنة في أوساط سياسات المساعدات الخارجية وبرامجها. وقد نجد لذلك عدّة أمثلة، من بينها أنه يجري أحياناً تقديم برامج لدولة نامية، ومن ثَمّ يظهر هذا البرنامج نتائج فعّالة، ومن بعد ذلك يجري تقديمه على أنه البرنامج المثالي الذي يجب على كلّ المانحين ترويجه في جميع أنحاء العالم‏[44].

ثالثاً: السياسات التنموية الخارجية ما بين نموذجي الهندسة الاجتماعية والتنمية التشاركية

قدّم جيمس سكوت نموذج الهندسة الاجتماعية، مع شرحٍ نظريٍ واضحٍ لعلّة صَوْغ السياسات التنموية الخارجية؛ وذلك باستخدام نظريات تنموية، بدلاً من التركيز في السياقات الاجتماعية لهذه السياسات. يقول سكوت إنّ هذا النموذج هو نتيجة لسياسات التبسيط التي تعتمدها الدول المتقدمة في القرن العشرين، وفقاً لمشاريع الهندسة الاجتماعية المخططة مركزياً. ويحدد أربعة عناصر، توضّح طبيعة مشاريع الهندسة الاجتماعية.

فالعنصر الأول هو التنظيم الإداري للطبيعة والمجتمع، وهو يشير إلى سياسات التبسيط التحويلية للحقائق والواقع المعقّد؛ من أجل دولة ذات معرفة وأكثر وضوحاً في تطبيق سياساتها التنموية. وتهدف سياسات التبسيط إلى جعل الوضع الاجتماعي المعقّد وغيره من الممارسات الاجتماعية الإدارية والسياسية والاقتصادية والعلاقات غير الرسمية أكثر قراءةً ووضوحاً. ويجادل سكوت في أنّ هذه الدول مصابة بـ «العمى»، أو «فقدان النظر الجزئي»، وفي أنّ هذه الدول لا تعرف من شؤون مجتمعاتها المحلّية إلا القليل‏[45].

وضّح سكوت سياسة التبسيط من خلال النظر إلى التفاعلات بين أصحاب المعارف العلمية وأصحاب المعارف المحلّية أو العملية، وجادل في أنّ المجتمعات المحلّية معقَّدة، وفي أنّه ليس من السهل أن نفهمها. وهكذا، فإنّ الدول تمارس «أيديولوجيةً حداثيةً» تمثّل العنصر الثاني من الهندسة الاجتماعية، وتُسمى (المزيج الخبيث). ويظهر هذا المزيج عندما يوجد إيمان قويّ بالتقدّم العلمي والتكنولوجي والبشري على حساب واقع المجتمع ودارسة كيفية تغييره بطرائق ملائمة لخصائصه المختلفة. ويؤدِّي هذا الإيمان إلى النظر نحو التقدّم من ناحيته الجمالية – الحداثية، وليس من ناحيته الفعلية. بمعنى آخر، لا يتعلّق الأمر بمحاولة زرع خصائص وسمات جديدة، بل بالكيفية التي يجرى بها النظر إلى العملية التنموية بواقعية متأصلة في سمات المجتمع وخصائصه. أمّا العنصر الثالث، فهو متعلّق بأنّ للدول طبيعةً استبداديةً. ومن ثم، فهي مستعدّة تماماً لاستخدام جميع مصادر القوّة المتاحة التي تحت تصرفها في تنفيذ خطط الهندسة الاجتماعية. أمّا العنصر الرابع، فهو وجود مجتمع مدني ضعيف، غير قادر على مواجهة خطط الدولة المفروضة بهندسة اجتماعية بارعة‏[46]. ونتيجةً لهذه العناصر الأربعة، يرى سكوت أنّ خطط التنمية قائمة على التبسيط، وأنها تشتمل على تمييز «عنصريّ» مباشر ضدّ الذين تهدف هذه الخطط إلى مساعدتهم.

ربما لا يُفسر تنفيذ برامج التنمية المبسطة في المجتمعات المحلّية من خلال الدولة المركزية أنّ هذه الأجندات التنموية قد تخفق في نهاية الأمر. وفي هذا السياق، يتناول سكوت أسباب الإخفاق في القسم الأخير من كتابه، ويرى – كما ذكرنا سابقاً – في انعدام المعرفة العملية، أو المحلّية، سبباً رئيساً في عملية تصميم المخططات التنموية الفاشلة وغير المتوافقة مع البيئات المُستهدفة، كما أنه يرى أنّ المفكرين والمخططين لهذه الخطط التنموية «مذنبون» و«أصحاب غطرسة كبيرة»، أو أنهم نسُوا بشريتهم وتصرفوا كما لو أنهم آلهة‏[47].

ويوضح سكوت أنّ هذا السلوك البشري في التخطيط الرسمي على أساس تفاهمات مبسطة حول واقع معقّد، وإجراءات معقَّدة، سوف يكون دائماً غير كافٍ في إنتاج نظام اجتماعي فعّال، وأنّ ما يجرى تجاهله في إنشاء أيّ نظام اجتماعي هو العمليات غير الرسمية والمعرفة التي تضمن فعاليته، على أنّ البيئة التي نعيش فيها ليست ثابتة؛ إذ إننا نحتاج إلى إصلاحات اجتماعية حقيقية، تفتح للتفاعل ولانعكاساته الدينامية باباً واسعاً، لذا ينبغي أن تؤخذ البيئة في الحسبان، وخصوصاً ما يحدث فيها على المستوى الشعبي‏[48].

 

من الملاحظ، في إطار المساعدات الدولية، أنّ الدول والجهات المانحة الفاعلة، كثيراً ما تتخذ الخيارات على أساس المعرفة المنحازة، أو المعتمدة على نظرياتها التنموية غير المكتملة بشأن جميع البدائل الممكنة، أو على أساس خيارات أيديولوجية ومصلحية مقررة مسبقاً، بناءً على توجهات مؤسسات التنمية الدولية (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) ونتائجها المحتملة حول عملية صنع السياسات التنموية. وفي ظلّ المعرفة غير المكتملة المتمثّلة بالدمج والتنظيم بين المعرفة العلمية أيّاً كان مصدرها وتطورها والمعرفة العملية، تتبع الدول والجهات المانحة الفاعلة، في جميع المستويات، سياقات استراتيجيةً تنمويةً غير سليمة، تهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف غير مواكبة لتحقيق تغيير حقيقي في البلدان النامية‏[49].

في هذا السياق، يؤكِّد كريزنر أنه توجد قيود تُفرض بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، على القدرة على التنفيذ الفعّال لإجراءات الإصلاح التي تمّ التخطيط لها وفقاً للمعرفة العلمية. ويؤكِّد أيضاً استحالة تحقيق فاعلية في مثل هذه الإجراءات الإصلاحية. فمن الناحية المنطقية، تكون الهندسة الاجتماعية إمّا مهمّةً صعبةً وإمّا خياراً خاطئاً في السياسات التنموية.

ولتعزيز التنمية في مجتمع معين، يجب على واضعي السياسات تنفيذ الإجراءات التي تعتمد على المعرفة المحلّية في أيّ خطة. وتعتمد صحة الخطة نفسها اعتماداً كليّاً على صحة افتراض مفاده أنّ صانع السياسة يعرف بدقة الأوضاع المحيطة بقراراته المستقبلية. فإذا لم يكن صانع السياسة يعرف ما يسعى لتحقيقه، أو لا يعرف الموارد اللازمة لذلك، أو فعالية المصادر في ما يتعلق بعملية تحقيق الأهداف، ومسألة صَوْغ الخطة بعنايه، لا يكون من المرجح أن تؤدِّي هذا الحال إلى أفضل النتائج الممكنة‏[50].

إنّ انعدام أيّ نوع من الإطار الفكري الممزوج بالمعرفة العملية لعمليات الإصلاح في مستوى صنع السياسات التنموية أفسد باستمرار، بحسب سكوت، سياسات المانحين في إصلاح القطاع العامّ. ويمكن أن نلاحظ، في إطار المساعدات الدولية، أنّ عدم وجود الأدوات التحليلية العملية والمعارف المحلّية التي هي على أيّ حال غامضة وغير متّسقة، جعل من الصعب فهم السياسات التنموية، علاوةً على إجراء إصلاحات في الممارسة اليومية لدى الجهات والمنظمات المستهدفة من عمليات الإصلاح.

وفي الأساس، لا بدّ من أن توجد معرفة فعلية وعميقة لأوضاع المجتمع المعني لدى صنّاع القرار وغيرهم ذات علاقة بالبلدان النامية نفسِها، ولدى الجهات المانحة التي تعمل على مساعدة البلدان النامية، ولا بدّ كذلك من معرفة الديناميات والقدرة على توقّع المآلات المحتملة للتطور. وإنّ هذا الأمر يتطلب إنتاج أدوات تحليل ومعرفة ملائمة، تكون علميةً وموضوعيةً ومنتِجة؛ وذلك من خلال التفاعل بين النظري والعملي، وبين العامّ والخاص، وبين الكوني والوطني.

من ناحية أخرى، ستكون السياسات والبرامج التي لا تأخذ هذه المسائل في الحسبان معرّضةً للإخفاق، ولن يكون مضمون التوجهات التي تجرى وفق هذه الصيغة المفروضة من أعلى إلى أسفل تنمويةً، بل نكون إزاء تغييرات أو إصلاحات معينة، لا تقع بالضرورة ضمن نطاق التنمية، بل تكون مناقضةً لها أو مخالفةً لتوجهها. فليس كلّ ما تقوم به كلّ الجهات المانحة تنموياً أو مساهماً في التنمية، بل إنها في معظم الأحيان تقوّض عملية التنمية، وبدلاً من مساعدة الآخرين (البلدان النامية) يجرى إلحاق الضرر بهم. علاوةً على ذلك، تترتب على هذه العقبات صعوبات عديدة بالنسبة إلى واضعي السياسات متعلّقة بالتفاعل والتشارك على نحوٍ فعَّال مع «صنّاع القرار»، أو مع «المواطنين» في البلدان النامية، وبخاصة بشأن محاولة سدّ فجوة المعرفة المحلّية أو فحص مدى دقة المعلومات التي يحصلون عليها من صنّاع القرار المحليين‏[51].

وفي وقت نتبيّن فيه أنّ نموذج الهندسة الاجتماعية يوضّح جلياً أنّ التوجهات الاستراتيجية للمانحين لن تحلّ متلازمة المعرفة المحلّية ولن تعالجها، يأتي نموذج التنمية التشاركي الذي يوضح كيفية تعامل صانعي القرار ومهندسي السياسات التنموية مع متلازمة المعرفة المحلّية، ويبرز في الوقت نفسه عوامل متعدّدة تحول دون ذلك‏[52]. تتمثّل الفكرة الرئيسة لنموذج التنمية التشاركي‏[53] بأنّ معالجة متلازمة المعرفة المحلّية لا بدّ أن تكون من خلال التفاعلات الرسمية، وغير الرسمية، المادية وغير المادية، بين المؤسسات الحكومية والجهات الفاعلة وغيرها من أطراف معادلة سياسات التنمية الخارجية. ويركّز هذا النموذج على كيفية فهم طبيعة المعرفة المحلّية، ومن ثمّ العمل على تغيير توجهات السياسات والبرامج التنموية وأهدافها التي تتوافق مع الواقع في الدول المستقبلة، وخصوصاً المؤسسات المستفيدة المباشرة.

يركّز النموذج الذي يقترحه علاية على أنّ الحلول التنموية لا بدّ من أن تعكس متطلبات التنمية المحلية. لذلك، فإننا بحاجة إلى معرفة محلّية عميقة متعلّقة بمتطلبات التنمية في البلدان النامية والمؤسسات المستفيدة المباشرة. وهذا النموذج يقف أمام عملية إسقاط الحلول وفرضها بالقوة من الجهات المانحة كأنها حلول سحرية للمشكلات المختلفة في البلدان النامية. فالأمر يتطلب، إذاً، إيجاد تشارك وتفاعل بين طرفَي المعادلة في إطار برامج المساعدات الدولية ومربعات تنموية مصغرة؛ لكي تتمّ بلورةُ قاعدةِ معرفةٍ مشتركةٍ، وتفاهم مشترك، ورؤية تنموية موحّدة.

يحاول هذا النموذج التعديل في جوهر الخيارات والتوجهات التنموية عند عملية تنفيذ السياسات والبرامج. لذلك فهو يشترط لنجاحه التطبيق العملي، والمشاركة الفعلية من الجهات، ومن الأشخاص المعنيين بالأمر وذوي العلاقة به، سواءٌ كانوا من جانب المؤسسة المنفِّذة الراجعة بالنظر إلى الجانب المانح، أو من جانب المؤسسة المستفيدة الراجعة بالنظر إلى الجانب المستقبل. وما لا شكّ فيه أنّ عمليات التنمية التي تعكس أولويات التنمية في البلدان النامية وتلبّيها تتطلب تفاعـلاً ومشاركةً، بوصفهما أسلوب عمل ومنهج. وهكذا، نكون إزاء نموذج أكثر فاعليةً، وانفتاحاً، وتفاعـلاً، بل إنّ هذا النموذج يحاول استبعاد مساوئ نموذج الهندسة الاجتماعية.

ثمّ إنّ نموذج التنمية التشاركي يسهل بالنسبة إلى كلّ الأطراف الغوص في جوهر المعرفة المحلّية، ومحاولة تعرّفها، وخلق القواسم التنموية المشتركة. وفي الوقت نفسه، يُقدّم هذا النموذج حلولاً فعّالةً لمتلازمة المعرفة المحلّية، ولا يغفل الجوانب الإجرائية في تسهيل تنفيذ الخطط والسياسات والبرامج التنموية، بل يعمل على ضمان فاعليتها عند عملية التنفيذ.

إنّ المعرفة المحلّية، كما ذكرنا سابقاً، قد تنقسم إلى معرفة ضمنية وأخرى صريحة. وهي تتضمن، في جميع الأحوال، معلومات غير رسمية وغير مكتوبة، تختلف مع اختلاف المكان والزمان. لذا، لا بد من تفاعل على المستوى الاستراتيجي من أجل زيادة الفهم والتعلم، وتبادل الأفكار، ومن ثَمّ فتح صندوق التنمية الأسود من خلال بناء شبكات التفاعل، وتفعيل عمليات الاتصال على جميع المستويات وخصوصاً في مستوى المشروع الواحد أو في المستوى الصغير‏[54].

تستند شبكات التفاعل، أساساً، إلى التفسيرات والأدلة العلمية والمعرفية، إلى جانب تصورات الجهات الفاعلة المعنية وآرائها. ولنجاح مثل هذه الشبكات لا بدّ من وجود تكاتف نسبيّ يرتبط بالمفاهيم البنائية المختلفة؛ مثل التصورات والمفاوضات والدور المشترك، والاعتراف في نهاية الأمر بالمسؤولية، وهو أمرٌ يقتضي أن يُؤخذ في الحسبان إدماج المعرفة المحلّية، والأهمية المشتركة، وإنشاء شبكة تفاعل ناجحة. وإنّ المفتاح الرئيس لنجاح شبكة التفاعل على المستويات المختلفة، بحسب سكوت سميث، هو مدى وجود تحالفات، ومدى استدامتها أيضاً‏[55].

يسمح النموذج التشاركي بالنظر إلى ما وراء الاهتمام المحدود بشأن الأهداف المعلنة في مرحلة تصميم السياسات، ويهدف إلى إعادة النظر في السياسات المعتمدة في عواصم الجهات المانحة ومراكزها، على نحوٍ يتوافق مع المعرفة المحلّية في سياق زمني ومكاني معين. فالأفكار، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والأفراد، على سبيل المثال، جميعها عوامل مساهمة في أنشطة التنمية (المعرفة المحلّية الضمنية) لا بدّ من أن تكون السياسات التنموية للمانحين ذات إدراك تامٍّ لها أثناء عملية «انتقال» هذه السياسات أو «تنفيذها».

ومن أجل الحصول على تدخلات تنموية خارجية فعّالة وإدراك المعرفة الضمنية، لا بدّ من بناء تحالفات من الجميع أو ذوي المصلحة حول برنامج أو مشروع معيّن. كما يجب أن يكون التركيز في تقديمهم إلى طاولة المفاوضات، بدلاً من مواجهة الهياكل القوية والممثلين الأقوياء، الذين قد يمثّلون عائقاً، أو قد يشكّلون مقاومةً للتغيير. وهذا يتطلب وجود ممثلين فاعلين، وخصوصاً المقاولين من جانب المانحين أو منفّذي برنامج المساعدات في كلّ من الإدارة الوسطى ومختلف المستويات التنفيذية، ليكونوا أكثر فاعليةً خلال التعامل مع نظرائهم في الجانب المستقبل؛ من أجل تحقيق الاحترام وتطوير الثقة والالتزام المتبادل. توجد عدّة إجراءات قد تساعد على نجاح شبكة التفاعل بين ذوي المصلحة، منها المراقبة والسؤال عمّا هو غير واضح، وطلب توضيحات حول سبب تصرف نظرائهم بطريقة معيّنة تسهّل مناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها أو تجنّبها في البرنامج. بهذه الطريقة يكون الممثلون الفاعلون على معرفة بما هو صحيح وبما سيكون مآله النجاح. وعليهم أن يأخذوا في الحسبان أنّ البرامج التنموية لن تنجح من خلال قبول الافتراضات السائدة والأهداف التي تُعدُّ مسبقاً، والتي لا علاقة لها بالسياق المحلّي، بل إنّ من أسباب نجاحها تكيفها مع السياق المحلي. كما أنهم بحاجة إلى تشكيل فريق متعاون ومنسجم، يقيم تحالفاتٍ مع الجهات الفاعلة القوية، ويحاول أن يطوعها، لكي تكون جزءاً من عملية التغيير‏[56].

في الواقع، إذا كانت توجد شبكة تفاعل خلال «مرحلة صَوْغ سياسات المساعدات الخارجية» من الجهات ذات العلاقة في الطرف المانح، ومع المسؤولين الحكوميين وصنّاع القرار من الحكومة المحلّية في البلد المستفيد، فإنّ هذا التفاعل لا يستغرق إلّا مدّةً زمنيّةً قصيرةً. وإنّ التفاعل الذي يتمّ فيه تصميمٌ وصَوْغٌ كاملان لسياسات المساعدات الخارجية وبرامجها في خضم ثلاثة أسابيع فقط، يُعدّ تفاعـلاً سطحيّاً، وقصير الأجل بين المانحين والمتلقين على مستوى صناعة القرار الاستراتيجي، وهذا لا يفضي إطلاقاً إلى الاستغلال المثمر للمعرفة المحلّية‏[57].

إنّ العجز التامّ المتعلّق بدمج المعرفة المحلّية يتضح من خلال اللغة الدبلوماسية ولغة التنمية الصعبة وغير المفهومة‏[58]. فقد جعلت هيمنة اللغة الإنكليزية في مجال المساعدات التنموية الخارجية قضية التفاعل أكثر تعقيداً. فمعظم القادة السياسيين وقادة الأحزاب وأصحاب الرأي لا يتحدثون هذه اللغة. وهذا الأمر يَسِم عملية تقديم أفكارهم بعدّة صعوبات ويعسّر فتح رموز قواعد اللعبة والصندوق الأسود‏[59]. إلى جانب هذا، تعاني البلدان النامية نقصاً في نظريات التغيير التنموية، وهي في الأصل تعتمد على القوالب الخارجية الجاهزة. وإذا نظرنا بعمق إلى المعلومات المتعلّقة بالمعرفة المحلّية المتاحة في شبكات الإنترنت، وجدناها قاصرةً، لا تعكس واقع المجتمعات المحلّية. وهذا يُفسر حقيقة القصور في افتراضات الإصلاح وفرضياته التي تعتمد عليها سياسات المانحين التنموية، وهو أمر يسير جنباً إلى جنب مع نقص الذاكرة المؤسسية داخل وكالات المعونة والجهات المانحة المختلفة‏[60].

خاتمة

توصلنا في هذه الدراسة إلى عدّة نتائج توضّح طبيعة متلازمة المعرفة المحلّية في سياق برامج المساعدات التنموية الخارجية الهادفة إلى إصلاح القطاع العامّ، فضـلاً عن الإصلاحات المؤسسية في البلدان النامية. فصنّاع سياسات الجهات المانحة كثيراً ما يستخدمون منهج الهندسة الاجتماعية، ومن ثَمّ تتطلب معظم سياساتهم التنموية عند رسمها، أو تصميمها، معلومات متعلّقةً بالبيئة المحلّية، أو المعرفة المحلّية الضمنية التي تتمثّل بجانبها غير الرسمي، والتي تحدد في الوقت نفسه قواعد اللعب في المؤسسات العامّة للبلدان النامية.

وتوصلنا، من جانب آخر إلى أنّ المعرفة المحلّية الضمنية ذات طبيعة غير مكتوبة. ومن ثَمّ، فهي ببساطة غير متوافرة ماديّاً في معظم البلدان النامية. فالمعرفة المحلّية الضمنية التي تشكّل قواعد اللعبة في المؤسسات والمجتمعات المختلفة عادةً ما تقطن في عقول البشر، وهي تشكّل سلوكهم وتفاعلهم مع بعضهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهي معرفة خفيّة ولا يمكن كتابتها لأنها تتغير من وقت إلى آخر ومن مكان إلى آخر، وفقاً لمؤثرات مختلفة وروابط غير رسمية متعدّدة. لذا، لا يمكن نقلها أو إبرازها إلا من خلال التفاعل الاجتماعي المباشر في وقت ومكان محدّدين.

إنّ قدرة صانعي السياسات على التنبؤ والتحكم في نتائج الخطط الخاصة بالمساعدات، في ظلّ هذه الأوضاع المتّسمة بعدم اليقين، محدودة جداً. وقد أجبرت متلازمة المعرفة المحلّية الجهات المانحة على استخدام التخطيط المركزي. ومن ثَمّ، فإنّ واضعي السياسات يستخدمون كلّ المعلومات حول المعرفة المحلّية التي في متناول اليد، بغضّ النظر عن مدى ملاءمتها أو دقتها.

ومن خلال مراجعة ثلاث موجات من الإصلاحات المؤسسية المعتمدة من الجهات المانحة خلال العقود الستة الماضية، توصلنا إلى أنّ الجهات المانحة قد اعتمدت على أجندات الإصلاح التي تقوم على الافتراضات، ونظريات التغيير الغربية، وإلى أنّ معظم الأدبيات والنظريات في إطار المساعدات الخارجية قد جرى وضعها واختبارها، في أغلب الأحيان، في الدول الغربية/الديمقراطية، وهي دول تحضن مجتمعات مدنيةً مزدهرةً، وتحظى بنُظم الإدارة العامّة السليمة. وهكذا، لا يكون للجهات المانحة، وفقاً للنظريات المعتمدة في سياساتها التنموية، ما تقوله في ما يتعلّق بكيفية ترجمة برنامج الإصلاح في موضع التنفيذ.

استهدفت معظم برامج الإصلاح في البلدان النامية الممولة خارجياً، تغيير الهياكل والمؤسسات الرسمية، حتى صار هذا التغيير بمنزلة نهج تقليدي للإصلاح، من دون الأخذ في الحسبان قدرة البلد المتلقي على تحقيق هذه التغييرات. وفي جميع الموجات الثلاث من الإصلاحات، كانت توجد دروس تجاهلتها الجهات المانحة، حول محاولة التعامل مع متلازمة المعرفة المحلّية. بعبارة أخرى، جعل هذا الوضع الأمر أكثر صعوبةً لترجمة محتوى الإصلاحات ونهجها على أرض الواقع.

في الموجة الأولى، كان يوجد تركيز على تنمية قدرات المنظمات والأفراد. وفي الموجة الثانية كان التركيز على إعادة تنظيم القطاعين العامّ والخاص. ومنذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي وبداية الموجة الثالثة، انصب التركيز في إعادة تشكيل نظام الحكم على نحوٍ كلّي. وكان الافتراض الأساسي الذي تعتمده الجهات المانحة في الموجة الأولى من الإصلاحات متعلّقاً بفرض حلول نهائية، لتعزيز القدرة الإدارية للنظام الإداري ومنظمات معينة، وكان يُنظر إلى القطاع الخاص في الموجة الثانية بوصفه مفتاحاً لتعزيز التنمية الشاملة في البلدان النامية. أمّا الموجة الثالثة، فهي تستند إلى فكرة مفادها أنّ الحكم الجيد ضروري لوجود مؤسسات حكومية فعّالة لدفع عجلة التنمية.

لقد كانت كلّ هذه التغيرات بمنزلة نتيجة طبيعية لمزيج من العوامل، بما في ذلك النتائج السيئة للإصلاحات، وعدم امتثال الدول المستهدفة لسياسات المعونات الخارجية، والتحولات الأيديولوجية الكبرى، والنظريات الأكاديمية المؤثِّرة في جميع أنحاء العالم التي جرى تطويرها في البلدان الغربية. وفي المقابل لم يكن يوجد اهتمام واضح بدمج المعرفة المحلّية وتحليل الأخطاء في الموجات الثلاث، وفقاً للواقع المحلي في البلدان النامية.

ينبغي لصانعي السياسات العليا أن يقرّوا بالحاجة إلى عمليات تفصيل الإصلاح بحسب الحاجات، والسياقات القُطرية المحددة، بدلاً من نسْخ الحلول نفسها في جميع البلدان النامية. فهذه البلدان لكلّ منها أوضاع معيّنة من النواحي السياسية والإدارية والثقافية. وعلينا التأكد من أنّ الفجوة بين النظرية والتطبيق، هي أكثر جوهريةً. في حين أنّ ما يجري هو محاولة لنقل تقنيات غربية مختلفة عن السياقات الاجتماعية والسياسية في البلدان النامية، أو حتى داخل البلدان الغربية نفسها‏[61].

وينبغي للجهات المانحة إدماج المعرفة المحلّية في مرحلة تنفيذ السياسات التنموية، بدلاً من الاعتماد على نظريات التغيير الغربية وافتراضاتها. ففي هذه الحال، يتمّ الوصول إلى تعرّف نتائج لم تكن متوقعةً في التصميم. ومن ثَمّ تتحقّق مرونة متمثّلة بدمج مرحلتي التصميم والتنفيذ في مرحلة واحدة، ويمكن أن يؤدِّي هذا الأمر إلى تقليل الجهد في إعادة تصميم برامج المساعدات والمشاريع، وربما المزيد من النجاح والفعالية. وفي ذلك دلالة على أهمية دراسة مرحلة فاعلية لتنفيذ سياسات برامج المساعدات، ومتلازمة المعرفة المحلّية وتحليلها، بالنظر إلى أنّ ذلك يمكن أن يفتح الباب أمام التدخلات الفعّالة في مجال إصلاحات القطاع العامّ في البلدان النامية.

في مثل هذه الدراسة، نوصي بأن يجري التركيز في النموذج التنموي التشاركي، بناءً على أهميته وضمانه فعالية برامج المساعدات الخارجية وسياساتها في بيئات ضعيفة من جهة صنع سياسات تنموية فعّالة؛ من أجل تسليط الضوء على الحاجة إلى تشجيع المسؤولية المشتركة. أمّا مخرجات هذه الدراسة، فهي متمثّلة بآثار مهمّة بالنسبة إلى برامج التنمية الدولية، والمؤسسات الإنمائية الدولية، وصنّاع السياسات، والدول المستفيدة، فضـلاً عن أنها تُتيح فهماً للعوامل المؤثِّرة في نتائج مشاريع التنمية.

 

قد يهمكم أيضاً  الاقتصاد السياسي للتخلف مع إشارة خاصة إلى السودان وفنزويلا

أيضاً من الموضوعات ذات الصلّة  واقع وآفاق التنمية العربية في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #البلدان_النامية #الدول_المانحة #السياسات_التنموية #المعرفة_المحلية #الهندسة_الاجتماعية #القطاع_العام_في_البلدان_النامية #دراسات