المؤلف: عبد الإله بلقزيز
مراجعة: عبد السلام طويل(**)
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
سنة النشر: 2014
عدد الصفحات: 464 ص
ISBN: 9789953826912
على سبيل التقديم
يمثل عبد الإله بلقزيز امتداداً نوعياً لجيل الرواد المؤسسين لحقل الدراسات الفلسفية بالمغرب؛ أمثال محمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وعلي أومليل، وطه عبد الرحمن… ممن بلوروا مشاريع وأطروحات فكرية وفلسفية تأسيسية متنوعة ومتكاملة على صعيد الرؤية كما على صعيد المنهاج. فقد اشتغل على أكثر من جبهة معرفية، وعلى أكثر من مسار استشكالي؛ فإلى جانب تخصصه الأصلي في الفلسفة والفكر الإسلامي، أنتج في الفلسفة السياسية والفكر السياسي قديمه وحديثه؛ فبلور اجتهادات نظرية معتبَرة حول الدولة، والسلطة، والشرعية، والخلافة، والمجال السياسي، والديمقراطية، والمجتمع المدني، وإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة… إلخ. كما انشغل بمحاولة تفسير واقع التأخر التاريخي للأمة من خلال إجالته النظر في قضايا النهضة والتجديد والإصلاح ونقد الخطاب القومي في صلتها بإشكالية الحداثة والتحديث، وهي الإشكالية التي جعلته يوسع دائرة النظر إلى مختلف القضايا الاستراتيجية والجيواستراتيجية المتحكمة في المصير القومي للمجتمعات العربية الإسلامية. وفي هذا السياق نجد لديه مقاربات عميقة ونافذة لبنية النظام الدولي والعلاقات الدولية في صلتها العضوية ببنية النظام الرأسمالي المعولم.
كما اهتم بالمسألة الثقافية بمختلف تجلياتها وأبعادها، وأسهم إسهاماً جليلاً في التاريخ النقدي للفكر العربي الحديث والمعاصر من خلال مشاريعه، وأطروحاته، ومقولاته، واجتهاداته الأساسية… وفق مقاربة ارتفع فيها منسوب الموضوعية والتجرد إلى أبعد الحدود. وهو في كل هذه الاستشكالات، وعبر مساره المعرفي الغني والمتصاعد، ما فتئ يطوِّر ويجدد النظر في عدته العلمية؛ مفاهيم، ومقولات، ونظريات، ومقتربات، ومناهج.
وإلى جانب جهده لتأسيس قول فلسفي وفكري، اغتنى واتسع باتساع انشغاله بأهم القضايا والإشكاليات التي انتظم حولها الفكر العربي المعاصر في صلته بسياقه التاريخي والحضاري الخاص والعام، فقد تغلب على النزعتين النرجسية والإقصائية التي حكمت أصحاب جل المشاريع الفلسفية العربية المعاصرة في صلتهم ببقية المنتج الفكري والفلسفي الذي من المفترض أنهم يندرجون ضمن صيرورته وإشكالياته الكبرى؛ حيث قدم قراءة رصينة ووافية للفكر العربي المعاصر، تتمتع بنصاب وافر من الشمول والاستيعاب والتوازن والموضوعية النقدية.
ولا ريب في أن بلقزيز يمثل علماً من أعلامها. يتمثل ذلك أبرز ما يتمثل بمقاربته لتجليات الظاهرة السياسية في التجربة التاريخية الإسلامية قديماً وحديثاً من خلال مشروعه حول تكوين المجال السياسي الإسلامي، وكذا من خلال مشروعه العرب والحداثة الذي صدرت منه لحد الآن ثلاثة أجزاء؛ الأول: من الإصلاح إلى النهضة، والثاني: من النهضة إلى الحداثة، والثالث حول نقد التراث، بينما الرابع في طور الإنجاز وسوف يتمحور حول نقد المعرفة الغربية. وبذلك يكون قد بلور قراءة شبه شاملة لخريطة الفكر العربي المعاصر.
– 1 –
يدشن عبد الإله بلقزيز قوله في نقده للتراث مؤكداً أن التفكير في الحداثة، بما هي سؤال فكري في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، يعد بالأصالة: «تفكير في تاريخها؛ في الأشواط التي قطعها الانهمام بها، وفي الموضوعات والإشكاليات التي وقع الانكباب على طرقها وبحثها من أجيال مختلفة، متعاقبة، من المفكرين والباحثين العرب». وهو ما تناوله في الجزأين الأول والثاني من مشروع العرب والحداثة؛ حيث تصدى الجزء الأول للبحث في الخطاب الإصلاحي والنهضوي العربي على مدى زمني يمتد من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، أما الجزء الثاني فقد انصبَّ على تحليل خطاب الحداثة لدى رموزه الأساسيين على مدى زمني يمتد من النصف الثاني من القرن العشرين إلى العقد الأول من القرن الجاري(1).
لا يدعي المؤلف أن عمله العلمي هذا يستوعب مختلف قضايا الإصلاح والنهضة كما يعكسها الفكر العربي الحديث والمعاصر، وكما تتجلى في الواقع التاريخي لهذا الفكر، وإنما يؤكد، منذ البداية، أنه اختار، بكامل وعيه، وبناءً على اعتبارات الجدارة التمثيلية، عيِّنة منتخبة من هذه القضايا التي اعتبرها «الأميَز والأظهر في انشغالات المفكرين الإصلاحيين والنهضويين» (ص 10)، وذلك وفق منظور منهجي جدلي نقدي يسعى جاهداً ليكون القول في خطاب النهضة «مدخلاً تاريخياً لتبرير اتصاله، تاريخياً، بالخطاب اللاحق عليه»؛ أي خطاب الحداثة، وتمهيداً له، وفق استراتيجية معرفية تصر على قراءته بما هو جزء لا يتجزأ من منظومة الفكر الحديث في الثقافة العربية. كما تحرص على قراءة خطاب الحداثة مشددة على تميزه عن هواجس الحداثة في الفكر الغربي من حيث أسئلته وقضاياه.
ومن مظاهر التميز أن النظر في الحداثة، في سياقنا الثقافي العربي – الإسلامي، لا يعدُّ، من وجهة بلقزيز، نظراً في تاريخها فحسب، وإنما نظر وتفكير «في ما قبلها، أو قلْ في ما هو نقيضها، أو ما يبدو أنه كذلك»؛ أي بكلمة واحدة: التفكير في التراث.
غير أن بلقزيز، حينما يشدد على أن الحداثة تفكر في نفسها من خلال تفكيرها في التراث؛ أي من خلال التفكير في ما يُفترض أنه نقيضُها، لا يرمي من ذلك إلى أن الأمر يتعلق بمعادلة ذهنية، افتراضية، وإنما بواقعة تاريخية في الثقافة العربية، كما في غيرها من الثقافات التي عاشت مشكلة الصلة بين الحداثة والتراث، الحاضر والماضي. وضمن هذا الوعي التاريخي بالمسألة يعتبر أن «سؤال التراث يعْظُم أمرُهُ، ويتضخم أكثر، في حالة الثقافات المكتنزة بالتاريخ، والمسكونة به؛ أي في حالة المجتمعات التاريخية أو ذات الميراث التاريخي الكبير. وتلك حال الثقافة العربية في مجتمع يتنفس التاريخ» (ص 22).
يستشف الدارس للكتاب موضوع القراءة أن صاحبه يصدر من جهة أولى، عن وعي شديد بالسياق؛ السياق التاريخي والحضاري، وهو الوعي الذي ينطلق من التشديد على «مبدأ تاريخية الحداثة»، الذي بمقتضاه تغدو كل حداثة نتيجة لسياقاتها الاجتماعية والفكرية والثقافية الخاصة؛ فمع تسليمه أن «الحداثة ظاهرة كونية شاملة المجتمعات والثقافات كافة»، إلا أنه ينبه إلى وجود فارق جوهري لا ينطمس بين الكونية والمركزية الغربية. كما يصدر من جهة ثانية، عن حقيقة مفادها أن كل فكر وكل ثقافة، مهما بلغت درجة حداثتها، تظل منشدَّة إلى أصل تاريخي وحضاري يسندها ويحدد أصل نشأتها الأولى، ومنه تستمد جانباً هاماً من نسغها ودفق تجددها. وتفسير ذلك، من وجهة نظره، أن «حواراً مستمراً، من مستويات مختلفة، يظل يجري بين منظومة الحداثة ومنظومة الأفكار الكلاسيكية التي انفصلت عنها. يحدث ذلك في الفكر الغربي، كما يحدث في فكرنا العربي المعاصر» (ص 11). مدللاً على ذلك بعودة الفكر الغربي الحديث شبه الموصولة إلى الفلسفة اليونانية، وإلى النصوص التأسيسية الدينية «العهد القديم» (التوراة) و«العهد الجديد» (الأناجيل)، وإلى الفكر الديني للقديس أوغسطين، ومارتن لوثر، وكافن، وفلسفة الحق الطبيعي.
وفي ما يشبه البحث عن مشروعية لتأسيس الحداثة على التراث في مواجهة أدعياء القطيعة يتساءل الكاتب بصيغة استنكارية دالة: «إذا جاز ذلك لفكر الحداثة في الغرب، وهو الذي قطع أشواطاً تاريخية في الانفصال عن تراثه الماضي، فكيف لا يجوز لفكر الحداثة عندنا: حيث منظومتها حديثة عهد بذلك الانفصال، حتى لا تقول إنه كان عندها، وما برحَ، انفصالاً عسيراً؟». ليخلص إلى الجزم بأن التراث العربي الإسلامي، في مختلف أبعاده الدينية، والفقهية، والفكرية، والأدبية، والقيمية، «ليس معطى متحفياً من الماضي، وإنما هو حقيقة وجودية في يوميات الاجتماع والسياسة والثقافة والإيمان، ليس في المُكن تجاهلها أو السكوت عنها». أكثر من ذلك فإنه «يمارس سلطاناً حقيقياً على الأفكار والعلاقات والمؤسسات، ويوجه أفعال الأفراد والجماعات نحو هذه أو تلك من الخيارات».
إذا ما سلمنا بفرضية التلازم بين واقع الأزمة والتأزم من جهة، وبين تزايد سلطان التراث وحضوره من جهة أخرى، فلنا أن نتساءل عن المغزى التاريخي للأزمة المحددة لهذا الحضور، وعن الأدوات الكفيلة برصد هذا الحضور الطاغي للتراث وقياسه؟ وهل حضور التراث يتم في كليته أم في جانب جزئي أو قطاعي منه؟ وهل هذا الحضور يتم من تلقاء نفسه أم بناءً على طلب موضوعي متزايد عليه؟ وما وجه الإشكال في حضوره بهذا النصاب أو ذاك؟
يصدر بلقزيز في صياغته لهذه الفرضية عن تصور تاريخي موجب للأزمة؛ بوصفها أزمة انتقال من بنيات اجتماعية تقليدية متخلفة إلى بنيات حديثة متقدمة، كما يكشف أن هذا الحضور الطاغي للتراث يمثل تحدياً للحداثيين ممن «يجدون في تجدد سلطانه عائقاً أمام فكرتهم ومشروعهم الثقافي، أو مزاحمة لدورهم الذي انتدبوا أنفسهم للنهوض به» (ص 12). وهو ما يفرض عليهم الدخول في معترك الصراع على تأويله، سعياً لتملك رأسماله الرمزي في مواجهة التيار الأصالي. علماً أن هذا التملك «مشدود إلى استراتيجية أخرى غير معرفية هي استراتيجية السلطة»؛ ففي ما وراء هذا الصراع على التراث الذي يعد، من وجهة نظر بلقزيز، «صراعاً معرفياً ومنهجياً ورؤيوياً» يكمن «صراع مصالح واستراتيجيات وخيارات في السياسة والحياة»(2). وفي هذا السياق، لا يخفي الكاتب تثمينه عالياً لانخراط خطاب الحداثة معترك الصراع على التراث، وهو ما يمثل، من وجهة نظره، «منعطفاً كبير الأهمية في تاريخه الحديث»، مبرزاً كيف أن الموقف من التراث يختلف تبعاً لاختلاف البنيات الثقافية، واختلاف أزمنة الحداثة.
لقد أوضح بلقزيز كيف أن مسلسل الانهمام بالتراث قد انطلق، منذ القرن التاسع عشر، من قبل مفكرين كانوا، في زعم دعاة الأصالة، من «المتغربنين» و«المتفرنجة» من طراز بطرس البستاني، وفرح أنطون وجُرجي زَيدان. أما حين انتقل من الشام إلى مصر، انتقالاً دراسياً لا انتقالاً مكانياً، فقد أصبح أكثر نجاعة وأقدر على منافحةِ خصومه؛ وتفسير ذلك أن الخلفية العلمية لممثليه في مصر وبوجه خاص طه حسين وأحمد أمين والشيخ مصطفى عبد الرازق، ناهيك بانتمائهم الإسلامي، لم يترك كبير فسحة لأولاء الخصوم للطعن فيه، أو اتهامه بـ «التطفل» على تراث الإسلام.
وسعياً من مثقفي الحداثة المعاصرين لإثبات شرعية وجودهم أعلنوا أنهم لا يختلفون عن جيل الليبرالية العربية بين الحربين في إدراكهم لقيمة – وجدوى – العمل العلمي في مجال الدراسات التراثية إثباتاً لجدارة خطابهم، وأيلولته خطاباً تاريخياً مطابقاً.
ومع أن القارئ لهذا السفر، المكتنز رؤى وتحليلات، لا يسعه إلا أن يقف على مدى الجهد الذي بذله صاحبه، سواء على مستوى حجم المتن المدروس، أو المدى الزمني المتطاول الذي غطاه، أو غنى المقاربة التحليلية النقدية التي اعتمدها والمقارنات التي عقدها، إلا أن له الحق في أن يسائل الكاتب عن سر قصره لموضوع كتابه عن الأعمال الفكرية التي كتبت حول التراث من موقع خطاب الحداثة، دون أن نطالب الأستاذ بلقزيز بتأريخ فكري للتراث العربي الحديث والمعاصر، في مجال الإسلاميات والدراسات التراثية. ألم يكن من الأجدى علمياً توسيع الموضوع بعض الشيء ليشمل رصد البعد التجديدي «الحداثي» في المسألة التراثية لدى «الإسلاميين المستقلين» بمصر، أو «الإسلاميين التقدميين» بتونس، إلى جانب اجتهادات مالك بن نبي، ورضوان السيد، ومحمد عمارة؟ وهو توسيع لن يخلَّ بالتقسيم الذي اعتمده المؤلف لتاريخ الدراسات التراثية المعاصرة إلى ثلاثة أزمنة، أو ثلاث لحظات فكرية: لحظة التاريخ الثقافي، ولحظة نقد التراث، فضلاً عن لحظة نقد العقل؛ وهي اللحظة التي ارتقى بها بلقزيز إلى مستوى الاستراتيجية التي من شأنها أن تنتقل بدراسات التراث إلى «مرحلة إشكالية ومنهجية نوعية، ستفتح أمام البحث العلمي، في ميدان الإسلاميات، آفاقاً جديدة ورحبة» مبرزاً أن نقد التراث، ومنه نقد العقل، يعد جزءاً من فاعليات الحداثة، ومن تاريخها، بل يذهب إلى حد اعتبار أنها قد تشكل أهم فعالياتها تلك، وتفسير ذلك أنه «يطلعها على معدل انفصالها عن منظومته، وإقامتها منظومتها الخاصة» (ص 15).
ألا يؤدي الإصرار على قصر الموضوع على أصحاب المنظور الحداثي للتراث إلى تكريس حالة الانشطار الأيديولوجي غير الجدلي وغير المنتج الذي طالما عانته الثقافة العربية الإسلامية والفكر العربي الإسلامي؟ ألا يقتضي تجاوز واقع الأزمة تجاوز واقع الانشطار الأيديولوجي غير المنتج، وإعادة اللحمة إلى المرجعية العامة للمجتمع، وبخاصة أن المؤلف طالما دافع عن أيلولة التراث ملكية جماعية تتقاسم حيازتها تيارات الفكر العربي كافة؟
الواقع أننا نجد وعياً حاداً لدى بلقزيز بكون الثقافة العربية الإسلامية، شأنها في ذلك شأن المجتمعات العربية – الإسلامية، «استمرت عرضة للتوتر الحاد بين تيارَيْن وخطابَيْن تقاطبا على نحو جدي، ولم تستطع القراءة العقلانية المتوازنة أن تفرض روايتها عن التراث والحداثة، واتصال الواحد منهما بالآخر، في وجه روايتين متقابلتين ومتنابذتين: أصالية ومتغربنة. ونظير ذلك حصل في مجتمعات عربية ألفَت نفسها، فجأة، عُرضَةً لتجاذب تيارات القديم والحديث، في السياسة والاجتماع من دون أن تعثر على نقطة التوازن بين الحدين أو تهتدي إليها» (ص 31).
أكثر من ذلك، لا يرى من سبيل «إلى تحرير التفكير العربي في التراث من هذا الاستقطاب الأيديولوجي إلا بتأسيسه على قواعد البحث العلمي، على النحو الذي يجعل البحث في التراث بحثاً علمياً وموضوعياً غرضه المعرفة لا التوظيف السياسي والأيديولوجي» (ص 35).
خلافاً للرأي الشائع، فإن بلقزيز دلل على أن «قوى الحداثة الفكرية في أوروبا، فلم تكن قطيعتها مع الماضي عدمية ومتطرفة دائماً، وإنما هي اتسعت لأشكال مختلفة من الحوار والاستلهام المستمرَّين للماضي وتراثه الفكري»؛ إذ غالباً ما يتم استدعاء الفلسفة اليونانية قبل السقراطية، على سبيل المثال، في أعمال فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة المعاصرين؛ منذ نيتشه حتى جيل دولوز، وأن «يُعاد التفكير في التراث الديني المسيحي، بعيداً عن يقينيات النزعة الوضعية والعلمانية المتطرفة، بما هو جزء من الميراث الثقافي الغربي لا يقبل المحو أو البتر» (ص 21).
فما كان للمجتمعات الغربية أن تتصالح منذ قرنين مع تاريخها الماضي وتراثها الثقافي لولا تحررها المسبق من سلطانه؛ بحيث أمسى «من اليسير عليها أن تنظر إلى تاريخها الماضي وتراثها، نظرة متوازنة وسوية لا عصاب فيها؛ أي نظرة متحررة من حدين نقيضين: النزعة التبجيلية – التقديسية، والنزعة الإنكارية – الاحتقارية» (ص 21).
ومع وعي المؤلف الشديد بتعدد السياقات التاريخية والحضارية وخصوصياتها، إلا أنه يبرز أن سؤال التراث انطرح بنفس المنطق على فضاءات ثقافية غير غربية في آسيا، وأمريكا اللاتينية، والعالم السلافي؛ يشتد باشتداد الأزمة، أزمة الانتقال من القديم إلى الحديث، وتخف وطأته تدريجياً إلى أن تنجح هذه المجتمعات في تجاوز أزمة الانتقال وما تستلزمه من ترتيبات ومقتضيات وشروط، وتراكم.
وبينما درجت الأدبيات العربية ذات الصلة، في جلها، على الحديث عن مفهوم القطيعة والاستمرارية على وجه الإجمال والتعميم دونما تحديد، ودون عميق وعي باختلاف السياقات والأطر المرجعية، والتجارب، نجد المؤلف يرصد تجليات مفهوم القطيعة في نسبيته وتاريخيته، كما يقف على مختلف مظاهر الاستمرارية التاريخية؛ الدينية، والثقافية، واللسانية، إلى جانب ما عبَّر عنه بالاستمرارية في منظومة القيم الموروثة. وهي الاستمرارية التي يتضاعف معدل الشعور بها بفعل ما عبر عنه بلقزيز بـ «فشل الجراحة الحداثية» التي فرضها الاستعمار، واستكملتها النخب المحلية في حقبة الاستقلال الوطني، وبفعل «التراجع التدريجي لمكتسبات تلك الحداثة، مقترناً بعودة التقليد عودة ظافرة: من المجتمع، إلى الثقافة، إلى السياسة والدولة» (ص 22).
ووجه المفارقة هاهنا أن المكوِّن التقليدي في المجتمع يعتقد أنه قد هُمِّش بفعل هيمنة المشروع الحداثي الذي يشكل، من وجهة نظره، امتداداً للمصالح الاستعمارية، ويدلل على ذلك، في السياق المغاربي على سبيل المثال؛ بهيمنة اللغة الفرنسية، والنخب الفرانكفونية، والمنشأة الاقتصادية الفرنسية… في حين أن المكون الحداثي يعتقد أن سلطته هشة، وأن الهيمنة الثقافية تعود للتقليد.
والحاصل أن حالة التجاور غير الجدلي وغير المنتج بين البنيتين وبين المنظومتين التقليدية والحديثة، وحالة الانشطار الأيديولوجي العقيم المترتب عليها، جردت المجتمع من مكنة بناء توافقات تاريخية حقيقية تعبر عن اختيارات مطابقة لشروط ومحددات وجوده الموضوعية، وتتم بلورتها بفعل التدافع بين مختلف القوى الاجتماعية الحاملة لمنظومات قيم مختلفة، الأمر الذي أفضى إلى غياب أي سلطة فاعلة وموجهة في المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة.
ولكم أصاب المؤلف، وهو بصدد التأطير التاريخي لإشكالية التراث، حينما اعتبر أن المجتمعات التاريخية تستمد تاريخيتها من كثافة الشعور فيها بالتواصل المستمر مع ماضيها، وهو الشعور الذي يجد مصدره في الحاضر وليس في الماضي، بحيث «ليس يفسره أن وراء هذه المجتمعات خبرة تاريخية طويلة، بل لأنها تعيش ماضيها مجدداً في حاضرها، أو أقل تعيش حاضرها وكأنه يستأنف ماضياً لم يتوقف أو ينقطع». وهكذا «تُوَلِّدُ كثافة الشعور بالتاريخ في الوعي الجمعي كثافة سؤال التراث والماضي في الثقافة والإنتاج الفكري» (ص 22 – 23)، وقد بلغت هذه الكثافة قمتها مع صدمة الحداثة منذ بداية القرن التاسع عشر. وهي الكثافة التي تجد ترجمتها، منذ ذلك الحين في: «تدفق سيل الكتابات عن التراث: عن الإسلام، والتاريخ العربي، والثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية، والهوية الحضارية، وما شاكل ذلك، إلى حدّ أن ما كتب عن التراث، منذ قرنين، يكاد أن يعادل، كمّاً، نصوص التراث نفسه التي كتبت بين القرنين الثاني والثامن للهجرة/الثامن والرابع عشر للميلاد» (ص 23).
إن الصدمة الحضارية، إذاً، هي التي ولَّدت إشكالية التراث في صلتها التاريخية والعضوية بإشكالية الحداثة، الصدمة التي ولّدت دينامية البحث عن «مشتركات بين الماضي/التراث والحاضر/الحداثة، بين الإسلام والمدنية الأوروبية الحديثة. وهي المحاولة التي أسفرت عن أنماط من التفاعل والتواصل مع الموروث الثقافي والديني، وإلى إعادة تأويله في ضوء مفاهيم ومعطيات العصر.
وهكذا جرى البحث عن سند وأصل لمنظومة القيم والمؤسسات الحديثة في الخبرة التراثية عبر شتى عمليات التأويل والتأصيل. ليتأكد بذلك أن «الآخر/الغرب هو الذي حدّد وولّد سؤال الأنا التي ما كان لها أن تقرأ تراثها وماضيها إلا في مرآة هذا الآخر وتأثيره؛ فهو الذي حملها على تبيُّن الفارق بين مجتمعين، ومدنيتين، وثقافتين، وهو الذي جعلها تعي الفارق بين حاضرها وماضيها، وهو الذي جعلها تنهج سياسة دفاعية عن الإسلام وتراثه الديني والثقافي والحضاري. وهكذا كان على مفكري النهضة أن يكتشفوا ماضيهم وتراثهم من خلال الآخر وأسئلته، وأن «يقرأوه في مرآته كتحد للأنا، أو كقارئ في تراث المسلمين، أو كناقد لذلك التراث» (ص 24 – 28). غير أن هذا لا ينفي أن سؤال التراث سؤال نهضوي طرحه الفكر النهضوي على نفسه في سياق تفكيره وتفاعله مع الآخر (ص 30).
أكثر من ذلك، يذهب بلقزيز إلى حد التأكيد أن الجيلين الثاني والثالث من النهضويين العرب تلامذة للمستشرقين، سواء عبر القراءة والإطلاع، أو عبر التعلم والتلقي المباشر عنهم، وهو ما حصل مع الجيل النهضوي الثالث؛ جيل طه حسين، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وتلامذتهم من قبيل عبد الرحمن بدوي، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة… ممن درسوا مباشرة عن المستشرقين سواء في فرنسا أو في الجامعة المصرية التي كانت تعج بالمستشرقين في مرحلة ما بين الحربين. وقد أوضح المؤلف كيف «تلقوا من هذا التكوين اهتماماً شديداً بتراث الإسلام الثقافي، وتأهيلاً علمياً ومنهجياً مكنّهم من أن يخوضوا في التأليف في موضوعات شتى منه، ومن تحقيق عشرات النصوص من التراث، على نحو ما فعل عبد الرحمن بدوي وإحسان عباس، ناهيك بترجمة دراسات عميقة من عيون الاستشراق إلى اللسان العربي؛ عبد الرحمن بدوي، محمد عبد الهادي أبو ريدة… إلخ» (ص 28 – 29).
ومثلما تميزت مقاربة المؤلف للمشاريع الفكرية موضوع الدراسة بالموضوعية والاتزان في إصدار الأحكام وبلورة المواقف النقدية، فقد تميز موقفه من المستشرقين بالمنزع الموضوعي نفسه الذي يصل حد الاعتراف بالفضل؛ بحيث «أياً يكن الموقف من الاستشراق، ومن اختلاط دوافعه غير العلمية بالعلمية، تقتضي الأمانة والموضوعية الاعتراف للمستشرقين بجزيل الفضل في الاعتناء بالتراث الفكري والثقافي العربي، وبتاريخ الإسلام السياسي والحضاري، وبما أسدوه من خِدمات علمية جليلة في جَمع ما تفرق من تراث الإسلام، هنا وهناك، مما لم يكن يعلم بوجوده أحدٌ من العرب والمسلمين» (ص 29). أبعد من ذلك، فقد اعتبر عبد الإله بلقزيز أن مجرد انغماس نقاد الاستشراق في دراسة التراث يعد دليلاً دامغاً على أن عمل المستشرقين التأسيسي في مجال الدراسات الإسلامية نجح في توليد قضية فكرية بالغة الأهمية لم يتوقف العرب والمسلمون عن التفكير فيها منذ ما يزيد على قرنين، يتعلق الأمر بقضية التراث (ص 29).
بعد المرحلة النهضوية؛ فإن الاندفاعة الكبرى في مجال الدراسات التراثية هي تلكم التي حصلت في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، ومع بداية السبعينيات ازدادت وتيرة العناية والاهتمام العلمي بالمسألة التراثية وبوجه خاص من لدن محمد أركون، وحسن حنفي، ومحمد الطالبي، وعباس صالح، وغالي شكري، ومحمد عمارة، ومحمد عابد الجابري، وطيب تيزيني، وحسين مروة، وعلي أومليل، ونايف بلوز، ورضوان السيد، وخليل عبد الكريم، وعزيز العظمة، وسعيد بنسعيد العلوي، ومحمد المصباحي، وعبد المجيد الشرفي.
لقد أوردت هذه العيِّنة تماماً كما أوردها عبد الإله بلقزيز، مع فارق وحيد يتمثل بأنه بينما أوردتها هنا دون تصنيف، فإن المؤلف أدرج جميع الأسماء الواردة ضمنها رغم الاختلافات الواضحة فيما بينها، باعتبارها تحيل إلى «الباحثين والمثقفين المنتسبين إلى تيارات الحداثة» (ص 30)، مع ما قد يثيره ذلك من اعتراض.
– 2 –
من فضائل هذا الكتاب صدوره عن تصوُّر منهجي يحرص على ربط إشكالية التراث في بُعدها المعرفي النظري بمحدداتها التاريخية؛ وفي هذا السياق نقف على حقيقة ما يمكن التعبير عنه بـ «الثورة ووهم تجاوز إشكالية التراث»، بحيث ما إن بدأت حقبة الثورة، في مستهل النصف الثاني من القرن الماضي، واتسعت نطاقاً في الجغرافيا العربية، ومدى في الزمان غطى عقدين تقريباً (الخمسينيات والستينيات)، حتى ساد الانطباع بأن الثورة بصدد إنجاز المهمات التي طرحتها لحظة النهضة منذ القرن التاسع عشر، وبحيث بدَا كما لو أن «العرب بدأوا يتحررون من قيود الماضي: في الأفكار والقيم والمؤسسات، ويَنشدون العالمية من أوسع أبوابها، وأن خطاب رجل الدين ينسحب تدريجياً من المشهد، أو يكيف نفسه مع خطاب الثورة؟».
غير أن هزيمة عام 1967 سرعان ما «هزت، بنتائجها الصارخة، الكثير من اليقينيات الظفراوية، وكشفت عن تأخر البنى الاجتماعية والثقافية في المجتمع العربي، ووضعت الثورة بالتالي، ضمن حدودها التاريخية المتواضعة، كمحاولة ثانية للنهضة تعيش المخاض عينه الذي عاشته النهضة الأولى، في القرن التاسع عشر، من دون أن تملك القدرة الكافية على جَبْه معضلاتها كافة. ولقد كان من نتائج ذلك كله أن عادت إلى الواجهة أسئلة «نهضوية» سابقة معلقة لم يُجَب عنها؛ مثل سؤال الحرية (=الديمقراطية)، وسؤال العلاقة بالماضي (=التراث)» (ص 31 – 32).
وكان من النتائج المتوقعة لهذه الهزيمة التاريخية ما عبَّر عنه المؤلف بـ «عودة المكبوت»؛ عودته سياسياً من خلال نشأة ظاهرة الحركات السياسية الإسلامية، وعودته ثقافياً مع رشيد رضا. غير أن وجه الجِدَّة الذي تراءى للمؤلف مليّاً في هذه العودة أن «النخبة المثقفة الحداثية «دخلت على خط» العلاقة بالتراث، محاولةً البحث في أسباب تلك السلطة التي ما زال يملكها ذلك التراث في المجتمع والفكر، ومحاولة كسر احتكار التقليديين لهذا الرأسمال الثقافي» (ص 32).
بعدما شدَّد بلقزيز على حقيقة أن الحداثة لا تتحقق إلا من خلال تأصيلها واستنباتها من طريق نقد التراث والتحرر من سلطانه، نفى أن يكون «الطريق إلى الحداثة سالكاً ومستقيماً، مثلما ظُنَّ في حقبة الثورة، بل بات محفوفاً بالعوائق ومتعرجاً، ولا يمكن قطع شوطه الطويل إلا بإعادة مراجعة ونقد الموروث الثقافي في الوعي وفي الذهنية العامة».
وبصيغة في الحكم لا تفرط في التنسيب، يخلص المؤلف إلى أن النقد عند أكثر الباحثين الحداثيين الذين تصدوا لسؤال التراث لا يفيد الهدم، وإنما «فهم الموروث الثقافي في تاريخيته، وبيان حيويته الداخلية الدافعة، وحدوده المعرفية في الوقت عينه، ومساجلة القراءة التراثية الرائجة، والذاهبة إلى رفع التراث فوق شروط الزمان والمكان والتاريخ، وإعادة إحيائه للإجابة عن معضلات الحاضر والراهن» (ص 33).
ولا ريب في أن سيادة هذه القراءة التراثية للتراث على حد تعبير محمد عابد الجابري، هي التي مثلت الباعث الحاسم لتصدي مثقفي الحداثة لإعادة «قراءة الموروث الثقافي في ضوء معرفي ومنهجي جديد، لكسر احتكار التقليديين لمجال لم يعد ممكناً تجاهل تأثيراته الكبيرة في الثقافة والمجتمع».
وإلى جانب النزعة الماضوية التي حكمت قراءة جانب هام من الحداثيين للتراث، كما استخلص ذلك الجابري، فإن بلقزيز من جهته خلص إلى أن أكثر الحداثيين لم يتحرر من النظرة العدمية إلى التراث والماضي؛ مبرزاً كيف أن أغلبهم قد استصغر شأن التراث، ولم «يتحرج في القول إنه مضْيعة للوقت، وأن من مقتضيات الحداثة والكونية الإعراض عن الماضي ونسيانه بشجاعة» (ص 33).
في تأطيره النظري لسؤال التراث في الفكر العربي المعاصر يخلص بلقزيز إلى صياغة تركيبية لإشكالية الحداثة والتراث تنم عن استيعاب عميق لها؛ مفادها أن «الأنا، مثل الآخر، بنية غير مغلقة، تنطوي على تناقضات داخلية، وتتحكم فيها يقينيات، بعضها تكلَّس، وبعضها قابل للحياة (…) وكما يمكن أن نجد في الآخر وثقافته الحداثة ونقائضها، يمكن أن نجد في الأنا والموروث العقل واللاعقل، الاجتهاد والتحجر، التسامح والتعصب، الإبداع والاجترار. ليس في الصورة آخر كاملاً وأنا ناقصة، ولا العكس، ولا معنى للمقابلة والمنابذة بين حدّين وكأنهما مطلقان».
وبعد أن يشدد على تاريخية الحداثة ونسبيتها، يخلص إلى أن الحداثة لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، أن «تقوم على محو الموروث كله، لأنها لم تكن كذلك في موطنها الأصل»؛ ومثلما لا يمكن تصور الحداثة، ولا تحققها إلا من خلال الانخراط الفاعل في حركة التاريخ الحديث والمعاصر، وإلا من خلال تمثل منظومة المبادئ والأفكار والقيم الكونية، فإن المجتمعات التي تسعى إلى مثل هذا الانخراط لن يتأتى لها ذلك دونما تأهيل ثقافي متين؛ من مقتضياته مراجعة نقدية للذات وموروثها الثقافي، و«لمجموع العوائق التي تحول دونها والتجدد» (ص 34).
ومن المقدمات المنهجية التي يؤسس عليها بلقزيز تصوره النظري لإشكالية الحداثة والموقف من التراث، تمييزه بين ظاهرة الاهتمام بالتراث، وبين «إشكالية التراث»، وبين سؤال التراث وإشكالية التراث؛ فبينما بدأت ظاهرة الاهتمام بالتراث بشكل مبكر، فإن ميلاد إشكالية التراث جاء متأخراً نسبياً؛ وتفسير ذلك أنه «ليس من شأن أي اهتمام بقضية فكرية ما أن يؤسس إشكالية وإن بلغ من الكمِّ والكثافة مبلغاً».
إن الفارق كبير، إذاً، بين الاهتمام بالتراث وميلاد إشكالية التراث؛ و«الفارق هذا إنما هو بين هوى ثقافي وبين سؤال استراتيجي في المعرفة والفكر… والمجتمع استطراداً؛ فالذين انْهَمُّوا معرفياً بدراسة التاريخ الثقافي والفكري الكلاسيكي، قبل عقد الستينيات من القرن الماضي، كانوا يفكرون داخل نطاق اختصاص علمي هو تاريخ الفكر، أو التاريخ الثقافي، كأساتذة جامعات، أو كباحثين مختصين. لم يكن سؤال التراث عندهم قد فرض نفسه كسؤال سياسي – معرفي، مثلما أمسى عليه أمرُهُ في الستينيات». وبصيغة أكثر تحديداً، يبرز بلقزيز كيف أن سؤال التراث ظل سؤالاً ولم يتحول بعد إلى إشكالية؛ «كان سؤالاً مداره على العلاقة بالأنا، بالميراث الحضاري، والثقافي، وما كان سؤالاً عن علاقة الأنا الراهنة بالأنا التاريخية، ثم بالآخر، من منظور حاجات الراهن».
غير أن المؤلف ينبهنا إلى أن قليلاً من التفحص في بعض ظواهر الموجة الثانية من الاهتمام بالتراث، وبعض أسئلتها الصريحة والضمنية، ناهيك بالانتباه إلى شدة الإقبال على ميدان الدراسات التراثية وتاريخ الفكر، يجعلنا نتحقق من أننا بصدد إشكالية جديدة، بصدد «طفرة نوعية في علاقة الوعي العربي بالموروث الثقافي، وفي النظرة إلى موضوع التراث بوصفه موضوع صراع معرفي واجتماعي على المستقبل» (ص 38). وهو ما يفسر شدة الطلب والتدافع حوله وعليه؛ إلى درجة أن تاريخ الدراسات التراثية تراءت للمؤلف بمنزلة «تاريخ الصراع على تملك هذا الرأسمال واحتكاره، وتعظيم الفوائد الثقافية والاجتماعية الناجمة من النجاح في تحقيق ذلك المسعى. بهذا المعنى، يَسَع الباحث أن يرى في ظاهرة الطلب المتزايد على التراث، ظاهرة مزدوجة الطبيعة: ثقافية وسياسية في الآن عينه» (ص 41).
ومع أن التراث يعَدّ كائناً تاريخياً صامتاً، ليست له أية سلطة مفترضة على حاضر الناس، إلا أن المؤلف يبرز كيف أن «الناس هُمْ من يخرجونه من صمته ويُنْطِقونه أو ينطقون به» ويخوضون الصراع باسمه سعياً لتحقيق هيمنة رواية بعينها عن ذلك التراث، ودحض الرواية الأخرى التي تزاحمها على ساحة المعنى. وهو الصراع الذي يصل إلى حد «المعركة الكبرى»؛ المعركة التي عاشها الفكر العربي المعاصر، وما زال يعيشها اليوم، تحت عنوان قراءة التراث، وفهمه، وإعادة بناء معطياته في وعينا المعاصر… وهي المعركة التي لا تعدو أن تكون، من وجهة نظر الكاتب «معركة هادفة إلى الاستيلاء على التراث؛ إلى احتكار تأويله، وفرض الرواية «الصحيحة» عنه، من قِبل كل من فريقيها المنخرطين فيها»؛ ذلك أن الاستيلاء على الماضي أمسى يعبر عن أقصر الطرق للاستيلاء على الحاضر (ص 46). لذلك فإن مسألة التراث ليست محض مسألة فكرية في المقام الأول، كما أن الصراع عليه ليس مجرد صراع بين رأيين وقراءتين يختلفان في المنطلقات الفكرية، والمفاهيم، وأدوات التحليل، والمصادر النظرية، والأهداف المعرفية، وإنما هو أكثر من ذلك، وأبعد من ذلك صراع يستبطن أبعاداً سياسية وأيديولوجية فاقعة. وهو ما جهد المؤلف لتجاوزه، من خلال حمله وكشفه لشتى مظاهر الانتقائية، والإسقاط التاريخي، والتوظيف الفج للتراث في الجدل السياسي (ص 47).
وفي هذا السياق يقف بلقزيز مليّاً على موقف دالٍّ لرضوان السيد، ذهب فيه إلى أن «الدارسين العرب للتراث فريقان؛ فريق اشتغل، بهمة، ليثبت أن الإسلام هو الحل، وتلك سيرة الأصاليين من الأجيال كافة، وفريق انصرف إلى بيان النقيض، وإقامة الدليل على أن الإسلام هو المشكلة، وتلك مقالة الحداثيين أو قسم غير قليل منهم. والحال إن الإسلام، كما تبيَّن لرضوان السيد، لا هذا ولا ذاك، ولا يجوزُ بناءُ أي من الفرضين عليه؛ إذ المشكلة في واقعنا وحاضرنا: السياسيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والحل فيه» (ص 47).
وفي المنحى نفسه يخلص بلقزيز إلى أن مشكلات التراث إذا كانت هي «الاسم المستعار لمشكلات الباحثين في التراث؛ أي مشكلات الحاضر لا مشكلات الماضي، فإنها تنبهنا إلى حقيقة بالغة الأهمية، في مضمار فهم هذا المنحى الذي أخذته الدراسات التراثية في الفكر العربي المعاصر؛ وهي أن هذه المشكلات ما فرضت نفسها على الوعي العربي، في صورة مشكلات يطرحها التراث، إلا لأنها لم تلق جواباً تاريخياً عنها: سياسياً واجتماعياً وثقافياً، في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهي، لذلك السبب، ظلت معلقة وقابلة لفرض نفسها من جديد. وليس للتراث، في حد ذاته، نصيب كبير أو صغير في توليد تلك المشكلات المعلقة، أو في إعاقة المسعى إلى الجواب عنها؛ لأنها، بكل بساطة، مشكلات حديثة» (ص 53).
ولأن المؤلف معني بالتمكين لسيادة المقاربة العلمية للتراث، فقد خلص إلى أن ذلك لن يتأتى إلا بالقطع مع النزعتين التبجيلية والاحتقارية للتراث، وكذا مع النزعة الاستثمارية له، وهي النزعة التي يشترك في الأخذ بها دعاة الأصالة ودعاة الحداثة على السواء، والمتمسكة بفرضية أن التراث جبهة صراع؛ ثقافي، وسياسي، وأيديولوجي. نافياً أن يكون التراث مقدسّاً، ولا مُدَنساً، ولا حلبة مواجهة؛ مشدداً على كونه موضوعاً للمعرفة فحسب، أو هكذا ينبغي أن تستقيم علاقة الباحث به (ص 54).
وفي هذا الإطار فقد أوضح بقدرة ملفتة على المقارنة والتركيب كيف أن «نقد الموروث الثقافي؛ أي تحليله وبناء موقف منه، لم يكن واحداً، في منطلقاته وأدواته، عند جميع من خاضوا فيه من الدارسين؛ فثمة، منهم، مَن أراده نقداً لمجال من المعرفة العربية الإسلامية دون آخر (الفقه مثلاً)، والانتصار لمجال آخر على حسابه، وهذا، مثلاً، حال أدونيس المنتصر للتصوف على الفقه، أو الجابري المنتصر للفلسفة على الفقه؛ ومنهم من أرادَهُ نقداً للمضمون الفكري، الذي حمله ذلك الموروث، مثل نقد طيب تيزيني وحسين مروة للمضمون الفكري المثالي في ذلك التراث: أكان ذلك في الفقه، أو في الكلام، أو في الفلسفة نفسها؛ ومنهم من أراده نقداً للشروط التاريخية والموضوعية التي أنتجت تلك المعرفة». مبرزاً كيف يكمن خلف مختلف هذه التباينات، في منطلقات النقد وأدواته، جامعاً مشتركاً يتمثل بإخضاع المعرفة التراثية، ولأول مرة ربما منذ ابن خلدون، لعملية فحص نقدي لها (ص 62).
وفي سعيه لرصد التحولات المفصلية الكبرى في مجال الدراسات التراثية، يلاحظ المؤلف أن المنعطف الكبير، والجديد، في تاريخ دراسات التراث، تمثل بانتقال الدراسات تلك من لحظة نقد التراث إلى اللحظة المعرفية الجديدة التي دشنها مشروع نقد العقل مع كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون؛ منذ ابتُدِئ فيه مع مطلع ثمانينيات القرن العشرين الماضي. وهو (انتقال) آذَنَ بإعادة بناء إشكالية التراث، في الفكر العربي المعاصر، على قواعد معرفية مختلفة. ومع أن عبد الإله بلقزيز يسجل أن جامعاً بين اللحظتين ظل قائماً، وهو الجامع المتمثل بالنقد، إلا أنه صُرِفَ هنا، في وجهته الجديدة، نحو موضوع مختلف عن ذي قبل؛ ففيما كان النقدُ نقداً للموروث الثقافي العربي الإسلامي، وللقراءات المعاصرة لذلك الموروث، أصبح نقداً لآليات التفكير في ذلك الموروث، وفي القراءات السائدة له اليوم.
وبصيغة أخرى؛ فبينما كان نقد التراث نقداً للمعرفة التراثية؛ لمضمونها، ومعطياتها الفكرية، ومناهج القدامى في البحث والتفكير والكتابة، وصلة ما أنتجوه بواقعهم الاجتماعي والثقافي والديني… فقد أصبح النقد نقداً للعقل الذي أنتج تلك المعرفة؛ أي للبنى الذهنية والإيبيستيمية الحاكمة للثقافة العربية، وللآليات المعرفية والمفاهيمية المشتغلة ضمن تلك الثقافة (ص 63). ومع أن بلقزيز يسجل أن لحظة نقد العقل لم تلغ ما قبلها، إلا أنه يؤكد أنها ارتقت بالتفكير والنظر في قضايا الموروث الثقافي ارتقاءً نوعياً في الموضوعات، والإشكاليات، وطرائق التفكير والتحليل (ص 65).
لقد نجح عبد الإله بلقزيز، إلى حد بعيد، في بلورة نظرة عامة ومركَّبة لتاريخ الدراسات التراثية في الفكر العربي المعاصر، كما وفِّق في تحقيب تطورها تحقيباً إشكالياً، وإبراز ما تخلل ذلك التطور من منعطفات معرفية. كما أسعفته كفاءته العلمية والبيداغوجية على رسم خريطة للاتجاهات المنهجية المختلفة في تلك الدراسات، على نحو ما عبّرت فيه عنه نفسها نظرياً أو تطبيقياً، وقد حصرها في ثمانية مناهج: أولها، النهج التاريخي – التقريري، أو منهج العرض التاريخي للموروث الثقافي؛ وثانيها، المنهج التاريخي الفيلولوجي، ويقوم على طريقة الفحص التاريخي اللغوي للنص، والتنقيب في مصادر المفاهيم والأفكار التي تؤسسه؛ وثالثها، المنهج المادي التاريخي؛ ورابعها، المنهج الفينومينولوجي؛ وخامسها، منهج التحليل الإيبيستيمولوجي لمنظومات المعرفة؛ وسادسها، المنهج التحليلي النقدي؛ وسابعها، المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي)؛ وثامنها، المنهج التاريخي النقدي… (ص 65 – 71).
ووعياً من بلقزيز أن المناهج ليست مجرد أدوات عمل، أو تقنيات إجرائية لقراءة متن فكري معيَّن بأقصى درجات الموضوعية والتجرد الممكنين، وإنما هي إلى جانب ذلك تستبطن رؤية إلى الموضوع، توجه طريقة مقاربته، وتسهم في بلورة الأحكام والاستنتاجات، فقد حذر من العقائدية المنهجية التي عادةً ما تميل إلى التنميط والاختزال، ومما عبر عنه بالأقنومية المنهجية التي تفترض الصلاحية المطلقة والشاملة للمنهج، وكذا من «واحدية الهندسة المنهجية» للموضوع القائمة على نظرة مغلقة إلى المنهج وموضوع البحث معاً، كما حذر من النظرة الوضعانية والعلموية للتراث، ومن النزوع إلى تسييسه وأدلجته.
ولتجاوز مختلف هذه الأعطاب المنهجية، فقد انتصر لما اصطلح عليه بـ «الرؤية المرنة إلى المنهج»، وهي الرؤية التي تنهض على التعددية والتكاملية المنهجية (ص 73 – 74).
على سبيل الختم
الواقع أننا لسنا بصدد نقد للتراث وإنما بصدد نقد مزدوج؛ نقد للتراث ونقد للمشاريع الفكرية الناقدة لهذا التراث. ولأن مادة هذا السفر الزاخر تستوعب خلاصة الفكر العربي المعاصر بمختلف اتجاهاته المؤثرة، فإن قراءتنا له لم تنصب على المضامين المعرفية التي تشكل قوام هذه المشاريع موضوع الدراسة، وإنما ركزت، بشكل أساسي، على منهج النظر التحليلي والنقدي الذي اعتمده بلقزيز. وتبعاً لذلك، فقد حاولنا الوقوف على أهم محددات القراءة التي اعتمدها المؤلف من الوجهتين النظرية والمنهاجية في الإطار النظري الذي اعتمده في القسم الأول من الكتاب، على أن تتاح لنا الفرصة في مناسبة لاحقة للوقوف على مختلف الأبعاد التحليلية والتركيبية والنقدية والسياقية المقارنة كما طبقها على مختلف المشاريع □
المصادر:
(*) نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 441 في تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
(**) عبد السلام طويل: أستاذ زائر في جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، السويسي – سلا، ورئيس تحرير مجلة «الإحياء».
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.