لماذا الشباب؟

تعد شريحة الشباب – كمكوِّن اجتماعي وديمغرافي – أساسية في المجتمع الفلسطيني، فيقدر عدد الأفراد البالغة أعمارهم بين 15 و29 سنة بـ 1.404 مليون شاب وشابة، منهم 716 ألف ذكر مقابل 688 ألف أنثى، ويشكلون ما نسبته 30 بالمئة من المجتمع الفلسطيني[1]، وبغض النظر عن حالة الاختلاف والجدل الدائرة حول المفهوم ومحدداته وحدود العمر في فئة الشباب[2]، إلا أننا نتعامل مع هذه المرحلة باعتبارها عتبة الدخول إلى الحياة العامة في المجتمع[3]، والقدرة على صناعة الحدث والمصير من خلال التأثير في الفضاء الاجتماعي الذي يحيط بهم وبالمجتمع ضمن الأدوار التي يقومون بها.

فمن المفترض أن تمنح الأهمية لهذه الشريحة نظراً إلى الأدوار التي من الممكن القيام بها في المجال العام؛ من حيث الأبعاد التنموية والاقتصادية، والفعالية المجتمعية والثقافية والتعليمية، وتعود فعالية الشباب المجتمعية وقدرتهم على صياغة المشهد إلى طبيعة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية في تلك المجتمعات، فهي التي تقدمهم باعتبارهم لاعباً ومساهماً أساسياً في صياغة المكون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمعات التي ينتمي إليها الشباب، أو هي التي تقوم بقمعه ومحاصرته وهدر وجوده وطاقاته ووعيه[4].

فعلى الصعيد الفلسطيني، ساهم الشباب بدور أساسي وحيوي في رفد حركة التحرر الوطني، واستطاع أن يساهم بدور بارز ومؤثر من خلال دوره القيادي والريادي، ابتداءً من البندقية إلى القلم، وشكل انخراطه في العمل النضالي جزءاً أساسياً من تدعيم هويته وانتمائه ومكانته الوطنية والمجتمعية على حد سواء، وساهم الشباب من خلال المؤسسات الوطنية والحزبية في صياغة وعي وطني شكل مناعة مجتمعية صلبة أمام سياسات أجهزة القمع التابعة للاستعمار الصهيوني، هذه المكانة والدور والفعالية اختبرت حالة من الحضور اللافت للشباب الفلسطيني في الفضاءات الاجتصاسية[5]، ولكنها بدأت بالانحسار والضمور شيئاً فشيئاً بعد توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول/سبتمبر 1993 بين منظمة التحرير الفلسطيني وكيان الاستعمار الصهيوني.

حالة الانزياح السياسي تلك، نقلت المجتمع الفلسطيني بمكوناته المختلفة، وخطابه، والوعي/المشروع الوطني، والممارسات المجتمعية إلى مرحلة جديدة بعد اتفاقية أوسلو تتسم بمتطلبات وأولويات مختلفة تماماً، هذه النقلة غير المستوفية شروطها التاريخية، وأهمها التخلص من الاستعمار الصهيوني، خلقت حالة من القطيعة التدريجية مع المشروع/الوعي الوطني الفلسطيني، وهو تحرير فلسطين التاريخية، وتم تغييب الفلسطيني من الخطاب السياسي كما هو حال فلسطينيي 1948، أو إدارة الظهر للفلسطيني في مخيمات الشتات بلبنان وسورية والأردن، في حين انشغل الفلسطيني بتأمين متطلبات العيش الأساسية في مناطق السلطة الفلسطينية.

بعد انتفاضة الأقصى، وبالتحديد عام 2006، بدأت تتمظهر أزمات مجتمعية نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تبنتها السلطة الفلسطينية واستفحال الفساد السياسي والمالي والإداري ببنية مترهلة للمؤسسة القانونية، وظهور مشكلات اجتماعية ناجمة عن الفقر والعوز والبطالة أثر في التجمعات السكانية الفلسطينية كافة، ولكن كان أثرها أكثر وضوحاً في المخيمات الفلسطينية، التي تم تهميشها وإقصاؤها عن صياغة المشهد/المصير الفلسطيني، حيث لم يكن ذلك ممكناً لولا تهافت واضمحلال المشروع الوطني، نتيجة للمأزق الذي وصل إليه الفكر السياسي الفلسطيني[6]، والذي قاد إلى الانقسام السياسي عام 2007 بين حركة حماس التي سيطرت على قطاع غزة، وحركة فتح التي سيطرت على الضفة الغربية.

لم تكن شريحة الشباب الفلسطيني بعيدة من التجاذبات السياسية، بل كانت مستهدفة من أجل تطويعها أو حشدها، بل وقمعها وإلهائها إن استدعت الحاجة الأمنية، كما هو حال الأنظمة الاستبدادية، في ظل فتور وتراجع قيم التعددية الوطنية والفكرية والثقافية وتضييق هامش الحريات في الشارع الفلسطيني.

المنطلق المنهجي وأدواته في هذه الورقة: على الرغم من إدراكنا أن الشباب الفلسطيني اللاجئ ليس شريحة اجتماعية واحدة متماثلة، فإننا لدواع منهجية ومعرفية ووطنية نتعامل مع هذا الشباب الفلسطيني اللاجئ باعتباره شريحة اجتماعية متجانسة من حيث الحقوق الوطنية والاجتماعية، نظراً إلى ما تمثله حقوقه وحاجاته ومكانته كجزء ومكون أصيل من الهوية الفلسطينية والمشروع الوطني التحرري؛ فتحاول الورقة الحالية التعرف إلى انعكاس مأزق المشروع الوطني على مدى الفعالية المجتمعية للشباب الفلسطيني، واستيضاح أزمة الثقة بالمؤسسات الوطنية وغياب حالة التمثيل الاجتماعي والاقتصادي. ومن أجل تحقيق هدف البحث الحالي تم الاتكاء على المنهج التحليلي (الكمي والكيفي)، وتم استقصاء المعلومات والبيانات بالمقابلة المقننة.

وعليه، فقد تكوَّن مجتمع البحث الحالي من الشباب الفلسطيني اللاجئ في مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة الواقعة أعمارهم بين 18 و30 سنة، وقام الباحث باختيار عيِّنة عشوائية حجمها 198 شاباً وشابة، توزعوا ديمغرافياً بواقع 65 مقابلة في الضفة الغربية في مقابل 133 في قطاع غزة، موزعين حسب الجنس بنسبة 48.5 بالمئة للذكور في مقابل 51.5 بالمئة للإناث.

أولاً: مأزق المشروع الوطني وتراجع الفعالية المجتمعية للشباب

يقوم هذا المبحث على تفكيك وتوضيح مأزق القضية الفلسطينية بثلاثية الفكر والوعي والمشروع الوطني على اعتبار أنهم يؤولون إلى نتيجة واحدة وهي المأزق البنيوي الذي تواجهه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، أكان على صعيد وجودهم ضمن خارطة فلسطين التاريخية أو في دول الشتات، الأمر الذي يعني توالد وإنتاج/إعادة إنتاج هذه الحالة من خلال الممارسات الفعلية للقوى المجتمعية والسياسية ولشرائح المجتمع الفلسطيني، فبعد أكثر من 50 عاماً على انطلاق حركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تعد الشعارات الناظمة للمشروع التحرري لفصائل العمل الوطني من: «التحرر والوطن والعودة والمقاومة بكل أشكالها» الناظم الأساسي للرؤية/الممارسة السياسية الحالية للقوى السياسية أو للسلطة الفلسطينية، بعدما تضخمت الأخيرة على حساب منظمة التحرير الفلسطينية، وتآكل إنجازاتها من حيث تمثيل الكل الفلسطيني في الداخل والخارج[7]، وساهم ضعف منظمة التحرير في الشرذمة والتجزئة القائمة بين الفلسطينيين في الداخل وفي دول الشتات، وبالتحديد في لبنان[8]، الذين يعيشون ليس مأزقاً وطنياً فقط بقدر ما هو وجودي.

فيعَدّ مفهوم المأزق[9] الأكثر قدرة على تشخيص الحالة الفلسطينية بدل المفاهيم الأخرى، مثل: أزمة أو وهن أو إشكالية، لما يعنيه المفهوم من حالة الانسداد والعطب الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، والذي لا يقبل الحل أو التصويب أو حتى الاحتواء إلا بالخروج النهائي من المسار الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى الانسداد السياسي.

شكل شعار «الوطن والتحرير والعودة والبندقية» الثوابت الأساسية التي انطلقت وتأسست عليه فصائل العمل الوطني سابقاً ثم فصائل العمل الإسلامي لاحقاً، واستلّت شرعية الفصيل والحركة بمدى اقترابهما أو ابتعادهما عن تلك الشعارات والرموز، وشكل الشباب الفلسطيني واللاجئون في المخيمات الفلسطينية (في الداخل أو في دول الشتات؛ لبنان وسورية والأردن) على وجه التحديد الدعامة الأساسية والهدف الرئيسي للمشروع الوطني الفلسطيني وأحد مقوماته ومكوناته، تلك الشعارات مع مرور الوقت تبددت وأصابها الضمور، وبدأت شيئاً فشيئاً تفقد المعنى وتحتفظ بالرمز في غياب الفكر والوعي السياسي الموجه للمشروع الوطني، وقد لا نبالغ إن قلنا إن الشروط التاريخية لاستمرار الشعب الفلسطيني وقياداته في الوجود استند بالأساس إلى مقاومة المشروع والكيان الاستعماري الصهيونيين على الفطرة، في غياب أو غموض المشروع الوطني وعدم ترجمته الى سياسات واقعية، الذي سرعان ما تعرض لجملة من الأزمات قادت بالحصيلة النهائية إلى مأزقه في الوقت الحالي كنتيجة حاسمة لعدم إشغال العقل والتفكير.

فالفكر الوطني منظومة من الأفكار والآراء العقلانية التي تؤسس رؤية في العمل الوطني الجمعي وتقوده، وبه تحدد الأهداف والبرامج والاستراتيجيات والتكتيكات التي تقود إلى صيانة الإنسان والوطن وتمكينه من واقعه، فلا معنى أو وجود لفكرة الوطن بعيداً من الإنسان، والفكر الوطني هو نتاج عملية التفكير التي تخدم الغاية الكبرى للمجتمع، وهي سيطرة العقل على الوجود الاجتماعي، في سبيل سيطرة الإنسان على ذاته وواقعه وصولاً إلى صناعة مصيره ووجوده، فالفكر الوطني يعطي حالة من اليقين في القدرة على الفعل والسيطرة على الواقع ومواجهة التحديات.

يسهم في إنتاج وتطوير الفكر الوطني جميع النخب والمثقفين وحتى العامة من المواطنين إذا ما كانت البوصلة واضحة، ولكن من يقوم على صياغة وعي المجتمع وثقافته السياسية ورؤيته الوطنية هو النخب السياسية، وفي الحالة الفلسطينية الأحزاب والحركات السياسية، التي برهنت التجربة التاريخية الفلسطينية على حالة من غياب الفكر الوطني الجامع الذي يستوعب الرؤى السياسية للفصائل والحركات الوطنية المختلفة من حيث الأيديولوجيا والرؤية السياسية للقضية الفلسطينية، وفشلت الأحزاب على مدار خمسة عقود على أقل تقدير من بلورة فكر سياسي يدعم الوعي الوطني، الذي يؤدي بدوره وظيفتين أساسيتين، وهما توجيه السلوك الوطني ومراقبته باقترابه أو بابتعاده عن المشروع الوطني.

فسيطرة التقليدي على العمل السياسي الفلسطيني نفى أي إمكان لإنتاج فكر حر ووعي وطني يوجه حالة النضال ويبلور رؤيته في شكل النظام الاجتصاسي الذي يريده، «فحق الاختيار هو جوهر السياسة» لا نقيضه كما آلت إليه تجربة الفصائل الفلسطينية، «لهذا استطاعت حركة فتح باعتبارها المتنفذة في منظمة التحرير ومؤسساتها أن تنقل مأزق الفكر والوعي الوطني وترجمته إلى واقع ومأسسته من خلال مشروع السلطة الفلسطينية، بما يعنيه من إنتاج مؤسسات عديدة بحيث مكّنها من الاستمرار فيها وتطويرها بمعزل عن المسار الوطني وتحولاته، في حين عجز اليسار عن إنتاج فكر ووعي وسياسة كبديل يجعل من الهدف والمشروع الوطني جملة من الممارسات اليومية»[10]، ولا يختلف الحال لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإن اختلف جوهر المشروع حسب توجههم الأيديولوجي.

من السهل لمتتبع الفكر/المشروع الوطني الفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، إدراك حجم التغيرات الجوهرية التي أصابته. فمنذ تأسيس منظمة التحرير عام 1964 وصياغة الميثاق الوطني الفلسطيني الذي مثل المشروع الجامع للفصائل الفلسطينية؛ وهو التحرير الشامل لبناء الدولة الديمقراطية على أنقاض «إسرائيل» ومشروعها الصهيوني[11]، وبعدما تم إقرار «برنامج النقاط العشر» في بداية السبعينيات وتبنّيه باعتباره شعاراً مرحلياً عام 1974، من خلال «إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها»[12]، في حين رأت فتح أن برنامج العودة والتحرير غير قابل للتنفيذ في تلك الفترة، فتبنت الفصائل الوطنية خيار الدولتين وفقاً للقرارين 242 و388 عبر إعلان وثيقة الاستقلال عام 1988، وهو الأمر الذي مهّد لاتفاقية أوسلو عام 1993، وقُدّم مشروع سياسي يفضي لإقامة دولة فلسطينية على المناطق المحتلة عام 1967 بجانب دولة الاستعمار الصهيوني على المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948.

شكلت الاتفاقية ضربة موجعة للمشروع الوطني في عدة جوانب، أهمها: استثناء قضية اللاجئين من المشروع الوطني، وإعادة تعريف الفلسطيني بالمفهوم السياسي والقانوني[13] والجغرافيا الفلسطينية في المناطق المحتلة عام 1967 بما يشمل تعريف مفهوم الوطن للفلسطيني، وتراجع منظمة التحرير الفلسطيني عن قدرتها التمثيلية لفلسطينيي «الشتات» و«الداخل» واختزالها في مناطق السلطة، والاعتراف بالمنظمة كممثل للفلسطينيين وعدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني في مقابل الاعتراف بدولة الاستعمار «الإسرائيلية»، وتغيير وإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني من قبل المجلس الوطني عامي 1996 و1998، وأخيراً بداية الانقسام الفلسطيني بين مؤيد ومعارض للاتفاقية وهو انقسام حول المشروع الوطني.

هذا الانقسام تدحرج وصولاً إلى تشظي الوجود الفلسطيني وتعدد مرجعياته وانقسامه على ذاته، وهو قاد بالحصيلة إلى الانقسام السياسي بين سلطتَي حركتَي فتح وحماس بعد انتخابات عام 2006 في مناطق الحكم الذاتي المجزوء، وأثر بالضرورة في التجمعات الفلسطينية في دول الشتات. ولم يختلف الفلسطينيون قيادة وأحزاباً وشعباً حول المشروع الوطني وحدوده فقط، وإنما حول البرامج الوطنية وأدوات تنفيذها إن كان عن طريق المقاومة المسلحة، أو بالتفاوض أو بالمقاومة الشعبية «السلمية». وعليه، فقد تحوَّل المشروع الوطني من التحرر إلى مشروع استقلال، والوطن استُبدل بقضية السيادة، والدولة كبديل من الشعب، والمرحلي إلى استراتيجي، وهيمن الخطاب البلاغي على الفعل الميداني.

وحول الدور القيادي للشباب الفلسطيني فقد كانت منظمة التحرير والفصائل المنضوية تحتها تقاد بشكل مطلق من قبل الشباب الفلسطيني، وشكل اللاجئون نسبة مهمة في الصفوف القيادية للأحزاب والمؤسسات والقاعدة الشعبية والتنظيمية. وتعد فئة الشباب اللاجئ من أكثر الفئات انخراطاً في قضايا المجتمع والأكثر مساهمة في الأنشطة والفعاليات المجتمعية والسياسية والتنظيمية. وتجلى حضور الشباب الفلسطيني من خلال مساهمتهم الفاعلة في العمل النضالي في دول الشتات تاريخياً، ومؤخراً في مسيرة العودة الفلسطينية التي حدثت في سورية ولبنان والأردن ومصر على حدود فلسطين التاريخية عام 2011، وفي الانتفاضات المتعاقبة في حدود فلسطين التاريخية، كان أبرزها الانتفاضة الشعبية عام 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وانتفاضة الشباب عام 2015 التي صُبغت بلون شبابي بحت بعيداً من الأحزاب والمؤسسات الرسمية.

إلى جانب الحراكات الشبابية منذ عام 2011 وحتى اللحظة، السياسية منها أو الثقافية أو الوطنية المجتمعية، التي تحركت لحماية المشروع الوطني وإنهاء الانقسام[14]، وكان من أهم مطالب الحراك الشبابي: المطالبة بانتخاب مجلس وطني جديد لمنظمة التحرير[15]، ورفض الاعتقال السياسي من قبل السلطتين في غزة والضفة، ورفض غلاء الأسعار وفرض الضرائب، وضد المفاوضات والتطبيع[16]، إلى جانب الحراكات والتظاهرات لفلسطينيي 48، أهمها التصدي لـ «مشروع برافر التهجيري» للفلسطينيين الذين يعيشون في النقب عام 2013، إلى جانب إسناد الأسرى المضربين عن الطعام في السجون والمستشفيات الواقعة في حدود فلسطين التاريخية، والتصدي لسياسات الاستعمار الصهيوني الهادفة للتقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى في 2017.

ساهم الشباب الفلسطيني بوجه عام واللاجئون على وجه الخصوص بدور حيوي من خلال فعاليتهم المجتمعية، وبرز نجمهم في مواقع ريادية أهمها التوعية والتأطير والتشاركية المجتمعية في المجتمع الفلسطيني ومقاومة الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وعبروا من خلال أنشطتهم ومؤسساتهم النسوية والأندية والحركات الطلابية في المدارس والجامعات في المخيمات والمدن والقرى عن دور توعوي في صون الهوية الوطنية والتعبئة الشاملة الفكرية، فمن خلال هذه الفعاليات وجد الشباب أنفسهم وعبّروا عن انتمائهم وهويتهم، وجددوا اعتزازهم وأحسوا بوجودهم الفاعل والمؤثر.

وبما أن الشباب ليسوا معطىً بيولوجياً وإنما هم معطى اجتماعي وسياسي، فقد تنافست الأحزاب والحركات السياسية على استقطاب أكبر قدر منهم من خلال انضمامهم إلى تلك الفصائل، وتم تزويدهم عبر المؤسسات المنبثقة عن تلك الفصائل بالفكر والبرنامج والمشروع السياسي وأدلجتهم. لكن هذا الاستقطاب كان جوهره يفتقر إلى المشروع الوطني الجامع بقدر ما كان أكثر التصاقاً بالمشروع والرؤية الفصائلية الضيقة. هذه التنشئة السياسية و«الوطنية» لتمثلات الفصائل والولاء لها ستقود إلى خلق شق في المجتمع، وبين صفوف الشباب على وجه التحديد، باعتبارهم الذراع الاجتماعية لتلك الفصائل؛ وكان أبرز نماذجها الاستقطاب الحاد في المجتمع الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس بعد أحداث الانقسام في الشارع الفلسطيني في عام 2007 في مناطق السلطة، وهو امتد إلى الوجود الفلسطيني في دول الشتات، فدفع الشباب الثمن لحالة الاقتتال الفلسطيني وتحملوا نتائج الانقسام أكثر من الشرائح الأخرى في المجتمع الفلسطيني، إلى جانب العبء الأكبر من خلال ملاحقة قوى الاستعمار الصهيوني لهم واستهدافهم وقمعهم ومطاردتهم، ولهذا تبلور الوعي السياسي للشباب الفلسطيني في خضم معركة التحرر[17] والمشاركة فيها بفعالية قصوى على كافة الصعد.

ليست منظومة أوسلو[18] هي السبب الوحيد لتراجع الفعاليات الوطنية والمشاركة المجتمعية بما تعنيه هذه الفعاليات الوطنية والمشاركة المجتمعية وحضورهم من تصادم مع الاستعمار الصهيوني، وهو أمر مناقض بالجوهر للمشروع الذي تتبناه السلطة الفلسطينية، وإنما أيضاً نتيجة مأزق المشروع الفلسطيني، وغياب حالة التوافق الوطني بين الفصائل السياسية، الوطنية منها والإسلامية، لطبيعة المشروع[19]، وهذا لم يكن ممكناً لولا حالة الترهل والضعف والوهن الذي أصاب الأحزاب الفلسطينية، وخصوصاً حركة فتح وقوى اليسار الفلسطيني، ومن جانب آخر رفض حركتَي حماس والجهاد الإسلامي الانضواء تحتها لعدة أسباب، أهمها تناقض المشروع الذي تطرحه الحركتان مع المشروع الوطني لمنظمة التحرير حالياً، الأمر الذي أدى إلى تفكك الحقل السياسي الفلسطيني[20] وغياب مركزيته الوطنية والتمثيلية لفلسطينيي الشتات وانشغالها فقط في مناطق الحكم الذاتي المجزوء، وغياب المرجعية والرؤية الوطنية الجامعة للحقل السياسي الفلسطيني، قاد بالحصيلة إلى انعدام الثقة بالأحزاب السياسية الفلسطينية من قبل الفلسطينيين في مناطق عديدة من وجودهم[21].

لقد أدى تأسيس السلطة الفلسطينية إلى تراجع واضح للأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية والنقابية والطلابية وانسحابها من المشهد العام لعدم قدرتها على تقديم مشروع وطني بديل من الذي تطرحه السلطة الفلسطينية، أو قد يعود إلى قمع واعتقال وملاحقة السلطتين (ممثـلاً بحركتي حماس وفتح) للقيادات الشابة في تلك الأحزاب، والحركات الطلابية المعارضة لرؤيتها السياسية[22]، فضلاً عن أن التفرد السياسي والاقتصادي الذي مورس خلق حالة من الوهن أصاب بنية المجتمع وحيّد أكثر الشرائح والطاقات عطاءً عن القيام بدورها، وهي الشباب والحركات الطلابية[23]. وقد أصابت حالة الانسحاب وعدم المشاركة الشباب اللاجئ وتراجعت ثقته بالأحزاب وبالمؤسسات الوطنية والمجتمعية، وقلت فعاليته، وعملت السلطة حسب اعتقادنا على محاصرة الشباب اللاجئ في ظل تساؤلات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها وحيداً، وتم محاربة أي تحرك احتجاجي. جميع هذه السياسات دفعت الجماهير إلى البلادة السياسية وعدم الفعالية والسعي وراء لقمة العيش، وتم إيكال مصير الوطن إلى السلطة من خلال برنامجها التفاوضي، وتم تسطيح الوعي الوطني في غياب الفكر والمشروع الوطنيين، وتقديم نماذج جديدة للشاب الفلسطيني بعيداً من النماذج الوطنية، كظاهرة المغني الشاب اللاجئ محمد عساف[24]، فحرمان الشباب الفلسطيني من النموذج الوطني لـ «البطولة» في ضوء خصوصيته السياسية، هو حرمانه التماهي والافتخار والاعتزاز بهويته وانتمائه وكرامته.

ويعد الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني عام 2007 الضربة الموجعة الثانية بعد أوسلو، الذي أثر في حياة ووعي ووجدان وسلوك الشعب الفلسطيني، وأدى إلى مأزق خطير سينعكس في ثلاثية الفكر/الوعي/المشروع الوطني، حيث قاد الانقسام إلى تشظي الشعب الفلسطيني بين تيارين رئيسيين، وبقعتين جغرافيتين ببرامج وأهداف ومشاريع قد تكون متناقضة ومتناحرة. لقد دفع الاستعمار الصهيوني باتجاه الفصل المعنوي بعدما فصل بين المنطقتين مادياً، مع تزامن وجود نخب سياسية فلسطينية مستفيدة من الانقسام، وتعزز وتكرس الفكر والوعي الفصائلي أكثر فأكثر الذي بدأ يحكم «الوجود الجديد للفلسطيني» الضفاوي أو الغزاوي، الحمساوي والفتحاوي. أدت هذه الضربة إلى قتل الحياة الديمقراطية التي لم يبدأ الفلسطيني باعتيادها، وتجاوزت جميع القوانين الناظمة للحياة السياسية الفلسطينية على أرضية الخلاف بين الحركتين، غير ملتفتين إلى حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وعلى قاعدة أن الثقافة السياسية الفلسطينية مأزومة ومعطوبة أيضاً لعدم استيعابها التعدد والاختلاف، وانطلاقاً من مقولة أن «الثقافة في جوهرها تجسيد للوعي»[25]، فإن مأزق الوعي الوطني هو امتداد لمأزق الثقافة السياسية الفلسطينية ويعد أبرز تجلياتها، وإن التراجع في الوعي الوطني قد غذى بالضرورة قيماً سلبية مثل الاغتراب السياسي واللامبالاة بين المثقفين والجماهير والشباب الفلسطيني في الشأن العام. هذا كان نتيجة هيمنة ثقافة الخوف ولجم الأفواه وحرية الرأي من قبل السلطتين، واتهام المخالفين في حال انتقادهم لحكومة حماس أو لحكومة فتح بأنهم يدعمون الجهة المناوئة لأي منهما. لقد شُلّت تمظهرات العمل السياسي والمجتمعي، وأدت إلى مزيد من التدهور المجتمعي نتيجة الفساد المالي والإداري.

تزامن هذا الواقع الأليم مع جملة من المتغيرات البنيوية والجوهرية في بنية المجتمع اقتصادياً واجتماعياً، انعكس على واقع الشباب الفلسطيني اللاجئ، من: استفحال البطالة في المخيمات بنسبة 32.3 بالمئة[26]؛ وانتشار الفقر بنسبة قدرها 38.6 بالمئة[27]؛ والحرمان من القدرات وعدم تساوي الفرص لهم، ولشريحة واسعة من الشعب الفلسطيني، في مقدمتها المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن وسورية والضفة الغربية وقطاع غزة، حيث يدفع الشاب اللاجئ إلى التفكير بالهجرة، فأشار ما نسبته 49.2 في المئة من عيِّنة البحث إلى رغبتهم في الهجرة إذا ما أتيحت لهم الفرصة، والشباب اللاجئ بغزة يفكر بذلك أكثر من الشباب اللاجئ في الضفة بواقع 56.2 و34.8 في المئة وعلى التوالي ويعود السبب وراء ذلك إلى «تعاسة الوضع الاقتصادي والاحتلال والانفلات الأمني وعدم وجود قانون» حسب استجابة أحد المبحوثين من مخيم عسكر بنابلس؛ أما شابة من مخيم خانيونس بغزة فترجع السبب إلى «توفير حياة كريمة»، ناهيكم بغلاء الأسعار والضرائب والسياسات المالية الليبرالية الظالمة لشريحة واسعة من الشعب الفلسطيني، وسياسة الدفع المسبق للكهرباء وللماء، وتراجع المنظومة القيمية الجمعية والتضامن الاجتماعي، فأشار ما نسبته 65.1 في المئة من عينة البحث أن مساندة ومساعدة الناس بعضهم لبعض في المخيم ضعيفة. فحين تشعر الأسر الفلسطينية بالعجز والإحباط تعمل هذه الحالة بالتدمير الممنهج للنسيج الاجتماعي، وبروز مشكلات اجتماعية أصبحت تهدد السلم الاجتماعي، وفقدان الثقة بالنخب السياسية وبالأحزاب السياسية، واستثناء الشعب من القرار الاقتصادي والأمني والاجتماعي[28]، إلى جانب السياسة الاستعمارية في التجزئة الاستعمارية لمناطق السلطة (أ و ب و ج)، وعزل مناطق (أ) في مناطق معزولة بعضها عن بعض، الأمر الذي عزز النزعة المحلية على حساب الوطنية، والجهوية على حساب الفكر العقلاني والتحرري والتقدمي، وسيطرة النزعة الفردية على حساب الجماعية، والوعي الفردي على حساب الوعي الجمعي.

جاءت انتفاضة القدس في تشرين الثاني/أكتوبر 2015 في ظل جملة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وغياب الوعي الجمعي الوطني والهرولة في سبيل توفير لقمة العيش للشعب الفلسطيني، ليعلن الشباب الفلسطيني أفراداً عن رفضهم للاستعمار الصهيوني وللتعبير عن هويتهم الوطنية وفعاليتهم السياسية والمجتمعية، بعيداً من، بل رفضاً للأحزاب الفلسطينية وحالة التكلس وعدم الثقة التي وصلت إليها، فالوعي الجمعي يتطلب أدوات جماعية، والوعي الفردي له أدواته، ولهذا هيمنت العمليات الفردية (من دعس، وطعن واشتباك) على العمل الفدائي للشباب الفلسطيني، وتشكيل نماذج بطولية، كالشهيد بهاء عليان، والشهيد مهند الحلبي وآخرهم الشهيد باسل الأعرج، الذي لقب بالمثقف المشتبك نظراً إلى فعاليته الوطنية والمجتمعية والثقافية في مناشط مختلفة، وهو ما خلق مناخاً للشباب الفلسطيني للتماهي مع المقاومين؛ فعوامل المقاومة وإن كانت فردية تساعد الشباب على التصدي للصدمات الناجمة عن سلوك الاستعمار الصهيوني، فيكون الاستشهاد والعمل الفدائي الطريقة الوحيدة للشاب الفلسطيني كنبرة تحدٍّ لتحاشي النظر إلى الألم الداخلي، فحينما يجد الشاب دوراً له في المقاومة يستمد منه شعوراً بالكرامة والإيجابية.

لهذا ووجهت فعالية الشباب الفلسطيني ومشاركتهم في انتفاضة عام 2015 بجملة من السياسات القمعية غير المسبوقة من قبل الاستعمار الصهيوني من: «القتل والإعدامات الميدانية والحواجز ومعاقبة التجمعات السكانية التي يخرج منها الشهيد، وسحب التصاريح، وهدم منازل الشهداء» في محاولة لردع وثني الشباب عن الإقدام على القيام بعمليات فدائية، ولخلق حالة من الرهبة والخوف لدى المجتمع الفلسطيني بكل شرائحه. وقد أصاب التنكيل وإعدام المارّة على الطريق من دون أي سبب عدداً كبيراً من الشهداء الذين لم يشاركوا في أفعال الانتفاضة الحالية. ومع ذلك، هذا الاستخفاف بحياة الفلسطيني وإهانته، وإذلال النساء والرجال على الحواجز أو اقتحام المسجد الأقصى، شكل مولّداً داخلياً وحافزاً لدى الشبان الذين ذهبوا للموت في سبيل المجموع، الأمر الذي زاد من فعالية الشباب وإقدامهم على الانخراط في الأعمال الوطنية والفدائية والتطوعية في خدمة ذوي الشهداء والأسرى، وعبَّروا عن وعي وخطاب ووصايا للشهداء تدلل على البعد الوطني الذي يعكس المشروع الوطني وإن غاب عن الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني.

ثانياً: مؤشرات الفعالية المجتمعية: من الفعالية إلى اللامبالاة

يواجه الشباب العربي جملة من الضغوط الاجتصاسية نتيجة ممارسات وسياسات الأنظمة الاستبدادية، فأُصيب المجتمع والشباب بمرض نفسي وجسدي وحتى وجودي جعله غير قادر على القيام بالمهمات والأدوار المتوقعة منه[29]، هذا الواقع المحبط لاستلاب الشاب وإفقاره ثقافياً قد أصبح سمة عامة في الوطن العربي، ولا يختلف كثيراً الأمر عن المنظومة السياسية الفلسطينية المتشكلة بعد أوسلو، فكما أوردنا سابقاً أن الشباب الفلسطينيين كما هو حال القوى السياسية انسحبوا من الحيز العام تدريجياً، وتم حرمانهم المساهمة في صناعة مصير الشعب الفلسطيني، وتم تدريجاً محاصرة الوعي الوطني إعلامياً وسياسياً وأكاديمياً واجتماعياً وثقافياً، إما بفعل السياسات التي انتهجها الاستعمار الصهيوني، وإما بسبب مأزق الرؤية السياسية والوطنية التي تبنتها السلطة الفلسطينية، وهو كذلك، الأمر الذي جعل خيارات فاعلية الشباب محدودة في مواجهة بنية سياسية وتقليدية وأبوية تنظر إلى ممارساته ووجوده واختلافه كتهديد لها.

غياب الوعي والإدراك والفكر الوطني للشباب الفلسطيني من جانب، وابتعاد الفصائل السياسية الفلسطينية عن المساهمة في اتخاذ القرار المتعلق بالمشروع الوطني ساهم بتورّم السلطة[30] والنظام السياسي في المجتمع الفلسطيني؛ فاستقالة الشاب من الحياة السياسية، وعدم إدراكه ووعيه لأهمية دوره في المجتمع يحرمه الحقوق المدنية والسياسية ويزيد تغوُّل السلطة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية.

وبما أن الفاعلية هي الأثر لأفكارنا على أرض الواقع[31]؛ فالفاعلية هي نتاج الوعي أكان وطنياً أو سياسياً أو مجتمعياً. لهذا فإن الفعالية المجتمعية (السياسية والاجتماعية) تتطلب وعياً ومشروعاً وطنيَّين لتوجيهه وتحفيزه، وفيما يأتي سنقوم بعرض أهم المؤشرات لربطها بهدف البحث الحالي.

يكتسب الشباب الفلسطيني الوعي الوطني من خلال الانضمام إلى المؤسسات المجتمعية والسياسية والثقافية، وكذلك من خلال القراءة والاطلاع على وجهات النظر المتعددة… إلخ، وهذا ما لم تتوصل إليه نتائج البحث الحالية حيث تبيَّن أن 24 في المئة من الشباب اللاجئ عضو في مؤسسة اجتماعية (ثقافية، نسوية، شبابية، خيرية… إلخ)، وأن طريقة استغلالهم وقت الفراغ كان من حيث القراءة صفراً في المئة، والجريدة بشكل يومي 6.8 في المئة، وأن وسيلة الاتصال التي يحصل عليها الشباب على الأخبار كانت من الإنترنت بنسبة 49.5 في المئة. توشي تلك النسب بعدم فعالية الشباب الاجتماعية وعدم رغبتهم بالانضمام إلى المؤسسات، فحجم المشاركة المجتمعية قلّت على صعيد الشباب الفلسطيني في الداخل والخارج[32] وليس فقط على صعيد الشاب اللاجئ، وهو عائد بالضرورة لسببين رئيسيين:

السبب الأول، هو تراجع الثقة بهذه المؤسسات نتيجة انكماشها وتراجع دورها الوطني والمجتمعي ونخبويتها، حيث جعلت أجندتها وبرامجها وأنشطتها ضمن أولويات المموّلَين: الأوروبي أو الأمريكي. يقول أحد الشباب اللاجئين من مخيم شعفاط بالقدس «إن غياب الرقابة على هذه المؤسسات خلّف هنالك حالة من التسيُّب»، ويضيف آخر من مخيم جباليا بغزة «كلّو واسطات وعدم ذمة وضمير»، وهو يعبّر عن حالة الفساد التي سادت المؤسسات المجتمعية بعدما تم مَهننتها بالمفهوم الليبرالي وتحولها إلى «مؤسسات غير حكومية»، ومن جانب آخر وقوع جزء ليس بسيطاً منها في شرك التطبيع مع مؤسسات صهيونية من كيان الاستعمار «الإسرائيلي»؛ وأخيراً عدم تفاعلها مع القضايا الشبابية ضمن حاجات وهموم وتطلعات الشباب الفلسطيني اللاجئ.

السبب الثاني، وهو مرتبط بالأول، حيث نعتقد أنه بسبب الفراغ الاجتماعي والسياسي الذي تركته الأحزاب الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو وانسحابها من المشهد الفلسطيني لعجزها عن تقديم بديل لمأزق المشروع وطني، استطاعت «المؤسسات غير الحكومية» التي تزايدت بمتوالية هندسية في منتصف التسعينيات وبعد انتفاضة الأقصى عام 2000 – على اعتبار أنها «قاعدية!» – أن تملأ الفراغ وتستقطب عدداً ليس بسيطاً من الشباب، الذين وجدوا فرصة ثانية للتعبير عن وجودهم وهويتهم، فاستطاعت في البداية أن تكتسب ثقتها من الجماهير، ولكن تحُّول القائمين على بعض هذه المؤسسات إلى نخب معولمة دفعها لترك هذه المؤسسات والعمل في مؤسسات عالمية وإقليمية كخبراء ومستشارين، وعملوا في بعض البلدان العربية[33] والأجنبية لإغراءات مالية، وهنا تم خذلان الشباب مرة ثانية بعدما خُذلوا من الأحزاب السياسية.

وبخصوص توافر المعلومات الكافية للشاب اللاجئ حول مؤسسات وطنية وسياسية ودولية مثل (وكالة الغوث الدولية، وعمل اللجان الشعبية، وعمل منظمة التحرير، وعمل مؤسسات السلطة، وعمل الأحزاب السياسية، وعمل المجلس التشريعي، وعمل دائرة شؤون اللاجئين)، فقد تم ترتيبها حسب توافر المعلومات تنازلياً، فتراوحت النسب فيها من 46.6 إلى 16.2 في المئة، وحازت وكالة الغوث أكبر نسبة، تلتها اللجان الشعبية بنسبة 36.5 في المئة، وأقلها عمل المجلس التشريعي بنسبة 26.9 في المئة، وأخيراً عمل دائرة شؤون اللاجئين بنسبة 16.2 بالمئة، فالمؤسسات المتعلقة بوجود اللاجئ اليومي تتوافر لديه معلومات أكثر عنها، في حين أن المؤسسات التي لا يحتك بها يومياً وليست مرتبطة بحاجاته اليومية فتتوافر معلومات كافية لنسبة قليلة منهم عنها.

وإذا افترضنا وجود علاقة بين توافر المعلومات والوعي الوطني للفلسطيني نتيجة الاطلاع على الأخبار والقراءة والمطالعة، فإن نتائج البحث تشير إلى أن مأزق الوعي الوطني من أسبابه أيضاً عدم الاهتمام بالقضايا العامة من قبل الشاب اللاجئ والانفصال عنها وعدم الاهتمام بها نتيجة التفكك السياسي والاجتماعي في السياق الفلسطيني، وهو بالضرورة أيضاً مرتبط بمستوى الفعالية الاجتماعية، حيث أشارت نتائج البحث إلى وجود علاقة ارتباطية موجبة، وإن كانت قليلة، بين توافر المعلومات وحجم الفعالية المجتمعية، بحيث إنه كلما توافرت معلومات كافية للشاب الفلسطيني اللاجئ كانت درجة الفعالية المجتمعية له أكبر، والعكس صحيح.

وبخصوص محور الفعالية المجتمعية، تشير نتائج البحث إلى أن الفعالية المجتمعية للشباب في الجوانب الاجتماعية والتطوعية والثقافية تستقطب الشباب اللاجئ أكثر وتحوز أكثر على اهتماماتهم، فيشارك الشباب في المخيم في المجالات البعيدة من العمل السياسي، وخصوصاً في مجال الأعمال التطوعية لخدمة المخيم. يحيل أحد المبحوثين من مخيم الفوار في الخليل سبب تطوعه في المخيم إلى «حب مساعدة الآخرين وبسبب خلق ترابط اجتماعي» الذي يشعر أنه يتراجع كما تمت الإشارة في المبحث الأول من هذه الدراسة، ويقول آخر من مخيم جباليا بغزة إن سبب تطوعه هو «لتحسين حالة المخيم والمشاركة مع أبناء مخيمي». ونختم بإجابة أحد المبحوثين من مخيم الجلزون الذي يعزو سبب تطوعه في المخيم بقوله «لأني أنتمي للمخيم» فيشعر اللاجئ الفلسطيني أن عمله التطوعي هو جزء من هويته وانتمائه إلى المكان الذي يحتضنه.

من المهم الإشارة هنا إلى أن قيمة العمل التطوعي في المجتمع الفلسطيني تراجعت كثيراً في السنوات المنصرمة، نتيجة لقضيتين: الأولى، ارتباط العمل التطوعي تاريخياً في المجتمع الفلسطيني بالعمل النضالي والتحرري كأداة لمقاومة الاستعمار الصهيوني، وتوظيف العمل التطوعي في السياق السياسي كأداة لمساندة ولإسناد المجتمع وخلق حالة من المنعة المجتمعية للشعب الفلسطيني في مواجهة سياسات الاستعمار العنصرية والقمعية. والثانية؛ انتشار ثقافة «المنظمات غير الحكومية» والاعتماد على التمويل الغربي والاتكال على السلطة في تقديم الخدمات وانتشار بعض القيم النفعية كنمط ثقافي في المجتمع الفلسطيني.

بالرغم من أهمية الانتخابات كجزء من دور الفعالية السياسية في بلورة الوعي السياسي والوطني وصقله، إلا أن تفكك التجربة الديمقراطية نتيجة الانقسام بين حركتي فتح وحماس عام 2007 أثر بصورة سلبية في فعالية الشباب السياسية التي اعتزلها وانفض عنها، وهذا ما يفسر أن الفقرة المتعلقة بالانتخابات (أشارك في الانتخابات التي تخص المخيم) حازت المرتبة السادسة، في حين أن الفقرة المتعلقة بالعضوية الحزبية (أشارك كعضو في أحد الأحزاب/الفصائل السياسية) جاءت الأخيرة من حيث الترتيب، حيث ينتمي للأحزاب ما نسبته 24.8 في المئة حسب الترتيب، وهو ما يعكس خيبة الأمل وعدم الثقة والإيمان بالفصائل الفلسطينية[34]؛ فالانشغال عن القضايا الوطنية والمصيرية الكبيرة للمجتمع الفلسطيني والتركيز والإلهاء المنظم بالقضايا الصغيرة قام بتفتيت الوعي العام للمجتمع الفلسطيني، فسيطرة النزعات المحلية والولاءات الجغرافية والعشائرية، لأنها تنمو في ظل تهميش الوعي والمشروع الوطني، من هنا نفهم تراجع نسبة المشاركة السياسية في انتخابات البلديات عام 2017 إلى 53.4 في المئة[35]، وتراجع كبير بنسبة الانتخابات على صعيد مجالس اتحاد الطلبة في الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ إن غياب الأحزاب والفصائل عن الانتخابات ترك المجال لهيمنة العائلات على القوائم الانتخابية للبلديات.

من المهم الإشارة إلى أن نتائج البحث توصلت إلى وجود فروق في الدرجة الكلية للفعالية المجتمعية. وفي الفقرات التالية: «أشارك في قضايا تخص المخيم وواقع اللاجئين» و«أعتبر نفسي شخصاً مؤثراً في داخل مجتمعي (المخيم)» و«أشارك في الانتخابات التي تخص المخيم» و«أشارك كعضو في أحد الأحزاب/الفصائل السياسية» جاءت النتائج حسب النوع الاجتماعي لمصلحة الذكور، وهذه النتيجة منطقية حسب البنية الهرمية التقليدية للمجتمع الفلسطيني ولطبيعة التربية الجنوسية فيه، التي تحدد مجالات الذكور والإناث، حيث ما زال الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي في المشهد الفلسطيني مسيطراً عليه من قبل الذكور، وهذا ما يترجمه حجم الحضور السياسي أو الاحتجاجي أو حتى القيادي للمرأة الفلسطينية وتمثيلها. من جانب آخر كيف يمكن توقع المشاركة السياسية للشباب والمرأة في غياب الديمقراطية وتقبل التعدد والتنوع؟

بخصوص التعددية والديمقراطية في السياق الفلسطيني، فإن التعددية السياسية والاجتماعية بدأت بالتآكل منذ اتفاقية أوسلو وتفرُّد حركة فتح بقرار منظمة التحرير وبقرار بناء الدولة الرخوة تحت الاستعمار الصهيوني لفلسطين، حتى إن القليل من الحريات والديمقراطية الشكلية المتبقية تم التكالب عليها وإعدامها بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، الذي أثر في النظام السياسي الفلسطيني وسيطرة وإحكام حركة حماس ومراقبة الحريات ومحاصرتها في قطاع غزة – وكما هو الحال في الضفة الغربية من قبل حركة فتح. وبخصوص الديمقراطية والتعددية في السياق الفلسطيني، فقد وافق ما نسبته 52.7 في المئة من عيِّنة البحث على تأييد الديمقراطية في مقابل 33.3 في المئة عبّروا عن عدم وجود ديمقراطية، إذ إنها «غير مطبقة حالياً» (حسب استجابة أحد المبحوثين)، ورفض 12.8 في المئة الديمقراطية، بينما دعا البعض منهم إلى «تطبيق القانون وليس الديمقراطية… حسب الشريعة الإسلامية».

وفي إجابتهم عن السؤال المعياري بخصوص «استلام حزب سياسي يفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة ويختلف عن سياسات الحزب الذي تنتمي إليه فهل تؤيد ذلك؟»؛ أيّد 48.8 في المئة ذلك، وقد عبّرت إحدى المبحوثات بالقول «نعم أوافق على ذلك في حال أثبت أنه يعمل لخدمة المواطنين بمساواة». ورفض 7 في المئة تشكيل الحكومة من حزب واحد، ودعت إحدى المبحوثات إلى «أن يكون هنالك تمثيل نسبي لجميع الأحزاب». في المقابل رفض ما نسبته 44.4 في المئة ذلك، ويقول أحدهم «الديمقراطية جيدة ولكن أرفض استلام الحزب الآخر للحكومة». وعليه، نميل إلى الرأي القائل إنه لم يؤسس في ظل السلطات الفلسطينية – حكومة حماس بقطاع غزة وحكومة فتح في الضفة الغربية – «إلى يومنا هذا للعمل المؤسس والديمقراطي بل اتبعت القيادة والحكومات الفلسطينية سياسات غير تشاركية وغير مخططة وعشوائية، واقتصرت صناعة القرار واتخاذه على الزمرة السياسية، وأُقصيت القوى الاجتماعية المدنية ومؤسسات المجتمع المدني عن المشاركة في تقرير مصير المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب الفلسطيني»[36]. هذه الخلفية لم تقدم نموذجاً سياسياً وديمقراطياً ووطنياً للشباب الفلسطيني؛ فسيطرت الانتماءات الضيقة الحزبية على الولاءات، وقوّضت إمكان انتعاش التعددية والديمقراطية وتبادل السلطات، وقد انعكس ذلك على الشباب الفلسطيني وفعاليته المجتمعية، واستفحال اللامبالاة السياسية في صفوفهم.

ثالثاً: مأزق الثقة وغياب التمثيل

إن المأزق الوطني في الثقة بالمؤسسات الرسمية وغير الرسمية لم يكن وليد اللحظة في المشهد الفلسطيني، وإنما هو نتاج مرحلة تاريخية من الممارسات الاجتماعية والسياسية الخاطئة للقوى السياسية في المجتمع الفلسطيني، أثرت بالضرورة في البديهيات والضرورات التي نمت عليها الشخصية الفلسطينية، فنستطيع تبويب العوامل الرئيسية التي أدت إلى مأزق الثقة في المجتمع الفلسطيني إلى أربعة عوامل رئيسية:

أولاً، تراجع القدرة التمثيلية لمنظمة التحرير وإفقاد المجلس الوطني هيبته باعتباره هيئة تمثيلية وتشريعية عليا للشعب الفلسطيني حيثما وجد، وعدم تجديد أعضائه بالانتخابات كما هو منصوص عليه في القوانين الداخلية للمنظمة، وإنما استعيض بنظام المحاصصة أو التعيين كبديل لكبار السن المتوفين. ومثل المجلس التشريعي الدور البديل للمجلس الوطني المسقوف والمحكوم سياسياً باتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، وهو أيضاً تم تعطيله منذ الانقسام عام 2007، وبهذا نكون أمام فقدان المؤسسات التمثيلية الجامعة وحتى قياداتها الشرعية المستمدة من القاعدة الجماهيرية.

ثانياً، الانفضاض السياسي والاجتماعي عن الأحزاب نتيجة الفشل في بلورة مشروع وطني بديل وجامع، حيث تخلت سريعاً بعد اتفاقية أوسلو عن دورها الوطني والتحرري لتتحول إلى أحزاب سياسية تميزت ببنية سياسية محكومة باتفاقيات تتعارض بالجوهر مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ضمن قواعد ونواظم أخلاقية سياسية وليست وطنية، فأصبحت قواعد التنافس السياسي الخاضع لمبدأ الربح والخسارة هي السائدة في خطاب ومواقف ورهانات الأحزاب السياسية، فهيمنت المصلحة السياسية والبرامج الفئوية للأحزاب على المصلحة الوطنية، وخصوصاً حركتي حماس وفتح.

ثالثاً، غياب السيادة لدى السلطة الفلسطينية وعدم القدرة على حماية المواطنين من تغوّل الاحتلال، ومن جانب آخر تحكُّم الاستعمار الصهيوني بالضرائب والمكوس وتحويل جزء من ريعها إلى السلطة الفلسطينية، جعل الأخيرة مرهونة لتلك الحوالات التي استُخدمت كأداة ضغط سياسي على السلطة وقراراتها السياسية.

رابعاً، تبنّي الحكومتين (حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في الضفة) النهج الليبرالي الاقتصادي، وتم توجيه الشعب بنمط حياة استهلاكي، مراهنين فيه على القطاع الخاص الذي فرض منظومته القيمية على الشعب الفلسطيني، وأصبح مقرراً لفرص الحياة والعيش وأشكال الوجود الاجتماعي وسبل إشباع حاجات الناس الأساسية من خلال القروض، فتغلغلت – وهيمنت – النزعة الفردانية المفرطة على حساب الجمعي والمجتمعي، وهكذا تم تكبيل أيدي الشعب من أي حراك جماعي للمطالبة بحقوق المواطنين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

جميع ما سبق أدى إلى غياب الأمل لدى شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، وفي مقدمهم الشباب الفلسطيني الذي يبحث عن دور في بنية لم يعد من السهل الاندماج فيها اجتماعياً واقتصادياً، وأصبح الهم الأساسي للشباب هو تأمين مستقبله من طريق وظيفة لإشباع عوزه اليومي، وبهذا لا يستغرب حالة الانكشاف المجتمعي الذي يواجهها المجتمع الفلسطيني، الذي لم يعد يتحكم بمصيره وبمستقبله.

وحول بعض المؤسسات ودرجة ثقة الشباب اللاجئ بها نذكر جزءاً منها، كان أقلها من حيث «الثقة في الأحزاب والفصائل السياسية»، حيث عبر 67 في المئة عن عدم ثقتهم بالأحزاب، و50 في المئة «لا يثقون باللجان الشعبية في المخيمات»، و39.9 في المئة منهم لا يثقون بالمجلس التشريعي، و32 في المئة لا يثقون بالمؤسسات القانونية والقضائية، و32 في المئة لا يثقون بمنظمة التحرير مقابل 29.8 في المئة وثقوا بها. أما المؤسسات التي كانت درجة الثقة بها أعلى من قبل الشباب فكانت كما يأتي: 53.5 في المئة يثقون بمدارس الوكالة الموجودة في المخيمات، تلتها المراكز الصحية التابعة لوكالة الغوث بنسبة 48.5 في المئة.

تشير تلك النسب إلى مجموعة بسيطة من المؤسسات التي قمنا بسؤال الشباب حولها، والتي تعطي فيه درجة ثقة متدنية جداً، ويرجع ذلك إلى العوامل التي سبق عرضها، ونضيف هنا أيضاً بعض المؤشرات التي تفسر عدم ثقة الشباب ببعض المؤسسات. على سبيل المثال، «أن السلطة تقوم بواجبها للمحافظة على أمن المخيمات فقد رفض ذلك ما نسبته 58.6 في المئة مقابل 19.7 في المئة وافقوا على ذلك. ولم يوافق 59.4 في المئة على الجملة القائلة إن «السلطة تسد الحاجات المعيشية للفقراء في المخيمات» مقابل 10.7 في المئة وافقوا على ذلك. ولم يوافق 42.4 في المئة على أن «اللجنة الشعبية تعمل لمصلحة الجميع بالتساوي في المخيم دون تمييز» مقابل 22.1 في المئة وافقوا. وأخيراً رفض 32.1 في المئة الجملة التي تقول إن «منظمة التحرير الفلسطينية هي من تمثلني في حل قضايا اللاجئين» في مقابل 43.9 في المئة وافقوا عليها.

إن تراجع الثقة في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية له من الأسباب الكثيرة كما سبقت الإشارة، ولكن لضرورة موضوعية البحث الحالي فإننا نريد توضيحها أيضاً من خلال غياب تمثيل الشباب اللاجئ، وهو يعود إلى أن عدم تجديد الدماء في البنية التنظيمية الهرمة لقيادات الأحزاب الفلسطينية من خلال الشباب قادها إلى التكلس والهرم. ومن باب المفارقة أن القرار الرئاسي بتشكيل المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني بمنظمة التحرير أعطى الأغلبية الساحقة فيه لقيادات متكررة هرمة[37]، وإن حدث تمثيل شاب فيها فهو تجميل للصورة المعتمة. ينطبق الرأي نفسه على الأحزاب السياسية الفلسطينية التي يغيب فيها أي برنامج أو رؤية للشباب الفلسطيني ولدوره من رؤية الحزب وبرنامجه رغم أنهم يشكلون القاعدة العريضة لتلك الأحزاب، واختلفت القيادات في الأحزاب السياسية حول توصيف حالة الجفاف السياسي بين الأحزاب من جهة والشباب، فمنهم من وصفها «أزمة، فتور، انحسار، نفور»[38]. والمأزق هنا ليس بالتمثيل فقط وإنما مرتبط أيضاً بتجديد شرعية الأحزاب والقيادات فيها من خلال الانتخابات.

نعني بمسألة التمثيل هنا لا ارتباطها بالأجساد السياسية فقط رغم أهميته، وإنما التمثيل الاجتماعي الحقوقي والاقتصادي والمعيشي؛ إذ تغيب الأجساد التمثيلية للشباب داخل مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني، وحتى في المؤسسات التي تعمل وتهتم بالشباب، بحيث يغيب عنها أيضاً تمثيل الشباب ورؤية موحدة للعمل معهم، ناهيكم بأن أجندات المموّلين حاضرة بالبرامج والفعاليات التي تقوم عليها تلك المؤسسات. فافتقاد رؤية تنموية وطنية هو السبب وراء ذلك من التخبط البرامجي فيها.

تشير نتائج البحث إلى رؤية الشباب للتمثيل، إذ نالت الجملة القائلة «هل ترى ضرورة لتمثيل الشباب في المؤسسات الموجودة في المخيم» الأكثر تأييداً من المؤشرات، حيث حصدت موافقة نسبة 85.5 في المئة عليها من عينة البحث، وتلتها الدعوة إلى «ضرورة تمثيل الشباب في اللجان الشعبية»، التي تغيب عنها الشرعية من خلال الانتخابات، فمنذ تشكيلها تاريخياً بالمحاصصة بين الأحزاب السياسية لم يتغير على أعضائها إلا ما ندر، إلى جانب أن الأحزاب السياسية أمست تعبِّر عن الماضي أكثر منه عن المستقبل لتكلُّسها وعدم تجددها رغم المتغيرات الجمة التي حدثت في السياق الفلسطيني التي تستدعي التغيير والتجدد لمواجهة التحديات. وهذه الحالة لا تشمل فلسطينيي مناطق السلطة الفلسطينية فقط. ففي دراسة لمجموعة من الباحثين على التجمعات الفلسطينية في مناطق السلطة وفلسطينيي 48 وفلسطينيي لبنان دعت نسبة كبيرة منهم إلى إعادة انتخاب ممثلين وممثلات للشعب الفلسطيني في أماكن تواجدهم كافة، تراوحت النسبة بين 71.8 في المئة و92.3 في المئة، في حين وافق 84.8 في المئة من الشباب على ذلك[39]، الأمر الذي يعني بصورة واضحة غياب التمثيل للفلسطيني في جميع أماكن وجوده.

وأشارت نتائج البحث الحالي إلى أن الشباب ما زال يثق بمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في تمثيل قضايا اللاجئين، ولكن بدرجة متوسطة وقليلة على التوالي (68.5 و54.3 في المئة)، في حين جاءت الفقرات التالية: «قدرة الأحزاب السياسية على تمثيل حقوق اللاجئين بعدالة، وأعضاء المجلس التشريعي يستطيعون تمثيل اللاجئين في حاجاتهم» كانت أقل الثقة والتأييد للقدرة التمثيلية حسب اعتقاد الشباب اللاجئ، على التوالي (28.1 و23.9 في المئة)، وهي نقطة سبق توضيح أسبابها في هذا المبحث.

وفي ما يتعلق بأهمية وجود حركة اجتماعية وسياسية تمثل قضايا اللاجئين فقط، فقد وافق أغلب الشباب على ذلك بنسبة 80.7 في المئة، وهي نسبة تنم عن درجة الإقصاء والتهميش اللذين يواجههما سكان المخيمات، وتغيبهم عن خطاب وممارسة المؤسسات السياسية الرسمية والحزبية، ولهذا أيدوا وجود حركة أو حزب يكون جوهر اهتمامه القضايا اليومية والمطلبية للاجئين فقط، فرغم أن اللاجئ أحد أهم مكونات الهوية الوطنية للفلسطينيين ولكنه يفتقر إلى التمثيل، وإن وجد في قوائم حزبية أو مؤسسية فهو حضور شكلي أو حزبي لا يتعلق بتمثيل قضاياهم.

إن قضية التمثيل الاجتصاسي مهمة نظراً إلى التغيرات التي عصفت بالمشهد الفلسطيني ومستلزماتها من المحاسبة والمراقبة. على سبيل المثال، إن بنية ومؤسسات ولجان ودوائر منظمة التحرير وحتى الأحزاب، قديمة جداً وتفتقد التجديد، وإن تم استحداث المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني، فهو يختزل بمن هم ليسوا شباباً. هذا من جانب، ومن جانب آخر، بالرغم من إدراك الشباب لأهمية البعد السياسي في تمثيلهم، ولكنه الأداة التي من طريقها يستطيعون تسجيل حضورهم وتحقيق حقوقهم الاجتصاسية الأخرى.

خاتمة

من المؤكد أن قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى جانب حقوقهم اليومية في مواقع وجودهم كافة قد اختبرت حالة من الضمور والتقصير، فقد تركوا وحيدين ليواجهوا جملة من التحديات والإهمال كنتيجة حاسمة للمأزق البنيوي للمشروع الوطني الفلسطيني، وانكماش الحالة التمثيلية لمنظمة التحرير لفلسطينيي الشتات وللفلسطينيين الموجودين ضمن حدود فلسطين التاريخية. واجهت شريحة الشباب الفلسطيني من اللاجئين جملة من التحديات والضغوط التي فرضتها عليهم منظومة أوسلو، أبرزها: عدم قدرتهم على الإحساس بوجودهم الفاعل والمؤثر وغياب حالة التمثيل لهم ولقضاياهم، وتغييب دورهم ووعيهم وحضورهم في عملية التحرر الوطني الفلسطيني التي لم تتكلل بتحرير فلسطين بعد.

فبالرغم من ذلك، ما زال الشباب الفلسطيني متمسكاً بحقوقه الوطنية وفعاليته النضالية كما هو واضح من حجم حضوره في انتفاضة القدس 2015 حتى اللحظة، رغم تراجع درجة الثقة بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالفصائل الوطنية والإسلامية، إلا أن عدداً لا بأس به ما زالوا متمسكين بها كمظلة وطنية جامعة لحقوقهم وهويتهم الوطنية وللمشروع الوطني التحرري رغم حالة التكلُّس التي أصابت مؤسساتها ودوائرها؛ وأهمها دائرة شؤون اللاجئين.

وبرزت في المخيمات الفلسطينية حالة من الانتماء العالي والمتفاني للمخيم وإخلاصهم لمستلزمات العيش فيه، وتضامنهم وتماسكهم المجتمعي كتعبير رمزي عن الوطن والمشروع الوطني التحرري. وعلى الرغم من أن مفهوم الهوية وتعبيراتها (الوطنية والدينية) والانتماء والولاءات (الحزبية والعشائرية والمناطقية) للفلسطيني متباينة ومختلفة، سواء أكان في دول الشتات أم ضمن حدود فلسطين التاريخية، إلا أن أغلبية الشباب الفلسطيني أجمعوا على «الأرض والوطن» كجامع مشترك فيما بينهم، وأن الأغلبية العظمى منهم ما زال يُعرِّف فلسطين بحدودها التاريخية[40]، باعتبار أن الأرض هي «الفاعل الأساسي في الذاكرة الجمعية الفلسطينية بمرجعياتها الجغرافية والثقافية والتاريخية»[41]. فاستعادة البوصلة نحو الوعي الوطني بمشروعه التحرري لا بد من أن تحكمه المقولة التالية: «قليـلاً من التفكير بالدولة وكثيراً في التفكير بالوطن»[42].

وأخيراً، فعلى اعتبار أن قضية اللاجئين تمثل جوهر القضية الفلسطينية، وعلى قاعدة دعوة الشباب الفلسطيني اللاجئ إلى وجود جسم اجتماعي وسياسي ووطني يمثلهم، فمن الممكن أن يقودوا حركة تصويبية تبدأ بفتح حوار وطني شبابي فلسطيني في جميع مواقع وجودهم، نحو مزيد من الحراكات الوطنية والمجتمعية السياسية الداعية إلى تصويب المشروع الوطني بوعي وطني وتحرري، مع الانتباه إلى أهمية التخلص من العناصر الذين يغلّبون المصلحة الفصائلية على المصالح الوطنية، والعمل ضمن حراك جماعي موحد في الرؤية والأهداف والبرامج؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهدفها الرئيس هو التخلص من الاستعمار الصهيوني لفلسطين.

 

قد يهمكم أيضاً  هجرة الشباب والأدمغة الفلسطينية إلى الخارج

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القضية_الفلسطينية #المشروع_الوطني_الفلسطيني #الانقسام_الفلسطيني #الشباب_الفلسطيني #اللاجئين_الفلسطينيين #مخيمات_الشتات #فلسطينيو_غزة_والضفة #الضفة_الغربية #غزة #دراسات