1 – مشروع كبير

في عالم كثر فيه المال وشح فيه الأمل، وعلا فيه ضجيج السلاح، وخفتَ صوت العقل‏، يأتينا كتاب ناصيف نصار النور والمعنى: تأملات على ضفاف الأمل[1]؛ مشعلاً ينير ظلمات الحيرة السائدة، ويفتح الطرق المسدودة، ويشرع الأبواب الموصدة أمام نور التفكر، مسدداً الخطى إلى رحاب الفكر المستنير بنور القيم الكونية العليا، رافعة الإنسان إلى الإبداع الحقيقي؛ الفكر الذي يعطي الحياة معنى يجل عن الإسفاف، ويبعد من الإرهاب، ويضع العلوم والتكنولوجيا – كما الفلسفة والسياسة والتربية والتعليم – أمام واجباتها في صيانة نِعم الخالق والحفاظ على وزناته، التي ضمنها خليقته لتحيا بكرامة وعدالة، بلا خوف من الزوال والانقراض.

يأتي هذا الكتاب – عقب كتب أخرى كثيرة كتبها نصار – على طريق الاستقلال الفلسفي مذ تفتحت أنامله على كتابة الفلسفة مطلع شبابه. هذا الكتاب مشروع كبير يدعو فيه المؤلف إلى التأمل في معنى الوجود ومعنى الحياة على إيقاع الأفكار التي يجول في رحابها وفي ميادينها المشرَّعة على الكون وخالقه. كما يدعو إلى التأدب إلى درجة التعبُّد في فهم خلق الله للموجودات كلها، ومعرفة كنهها ومراتبها وغاياتها وأسرارها، لا طمعاً في استغلال مواردها والاستفادة من خيراتها، بل أملاً في وضعها في سياق الخلق الذي أوجدت فيه. ويرى أنه من دون هذا السياق الخلقي والإبداعي المتحوِّل تاريخاً مؤنسناً، يجد الإنسان نفسه واقفاً أمام مفترق طرق مخيف لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل في تاريخها. إن الله الخالق القدير، أوجد الكون ووهب الإنسان الحياة وأعطاه القدرة على حفظها وتجديدها والتسامي بها نحو القيم الكونية العليا. ولكن الله سبحانه أعطى الإنسان أيضاً، وبنفس الوقت الذي أعطاه فيه روح الخلق والتسامي، روح الجبروت والاستكبار وحب العظمة. ولكن روح الجبروت هذا لا يمثل روح الإنسان كله، إلا أنه يهدده بالانقسام على نفسه والانحراف عن مساره الطبيعي من البقاء إلى الانقراض. ولكن نصار يلتزم جادة الأمل والإيمان والثقة بأن الإنسان، ذلك الطاقة الروحية الخلاقة هو الشبل ابن الأسد، يختلف عن سائر المخلوقات بوعيه وفكره وعقله. فهو يعرف أن الله خالقه، وبالتالي أنه جزء من الطاقة الكونية العظمى، وأنه يرى النور العظيم الذي في تلك الطاقة. وهكذا لن ينجرف الإنسان إلى الهوة التي يجره إليها ذلك الجبروت، بل سيكمل مسيرته في تاريخ أنسنته حتى النهاية.

بكلام آخر، لا يؤمن نصار بمبدأ الاستسلام للقوة الغاشمة مهما تعاظمت وتجبرت، ولإغراءات العصر مهما كثرت وتنوعت. والحق يقال، إن إغراءات العصر، كثيرة ومتنوعة؛ منها الدعوة إلى سلخ الفرد عن مجتمعه وإنسانيته، بتعظيم معنى الحرية الفردية وبتصويب جهوده نحو اللذة والمتعة الفردية، بعيداً من أي مسعى لأنسنته والمشاركة في صنع الحياة واستمراريتها. ومن تلك الإغراءات أيضاً الجهود العلمية الجامحة والرامية إلى التعديل الجيني في النبات والحيوان والإنسان، وصولاً إلى صناعة الإنسان الآلي، وصناعة الإنسان المعدل جينياً، وصناعة الإنسان المعدل اصطناعياً؛ ناهيك بتطوير أسلحة الدمار الشامل الفتاكة، بعيداً من وجود سياسة واضحة وثابتة للحد من مخاطر هذه الجهود. وعلى الرغم من شدة وطأة تلك الإغراءات وجاذبيتها، إلا أن لدى الإنسان من المناعة وقوة الشكيمة ونور الطاقة الروحية، المستمدة من الطاقة الكونية الفائقة القوة، كل ما يحتاج إليه لمقاومة تلك الإغراءات والانتصار عليها. والإنسان الذي يعي قيمة الحياة ويفهم مدى عظمتها، كهدية الخالق له، يعرف جيداً أن الحياة ليست لعبة ذات قواعد تعسفية واعتباطية «وإنما هي مغامرة التأنسن العظيم، في تفتح الطاقة الكونية إشعاعاً من المطلق» (ص 397). ويعتقد نصار بأن ذلك الإنسان المؤنسن، أي الإنسان الذي يكون اختباره الشخصي أو خبرته الشخصية للحياة كاملة ومتكاملة، ويعيش إنسانيته بهدي المثل العليا، سيستعين بالفلسفة ليتصدى «بنقد صارم، لكيفية بناء الاستراتيجيات الخاصة بالمكونات الجماعية للأسرة البشرية وكيفية انعكاس منظومة القيم الكونية العليا في مرايا تلك الاستراتيجيات» (ص 397).

إن كتاب نصار هو محاولة فلسفية نقدية بامتياز لتعريف القارئ بالخالق والكون والحياة والقيم الكونية العليا، التي على الإنسان أن يستنير بها ويحيا بهديها. كما هو دفاع كامل ومتكامل عن تلك المحاولة. دفاع ينبع ذاتياً من تأمل المؤلف في معنى الحياة، حياته هو كشخص وكاختبار شخصي. كما هو تأمل في معنى الحياة لكل «أنا» وكل «نحن»، شاملاً كل النواحي الضرورية لإثبات رؤيته وأفكاره. وفي دفاعه عن أفكاره، أجرى المؤلف نقاشاً مستفيضاً مع كبار الفلاسفة في العالم، مسترشداً بآرائهم ومفنداً لها، ثم مبتعداً منها بما فيه الكفاية، ليوضح نظرته الفلسفية إلى الحياة والوجود. وهي، في نظري، نظرية إبداعية بامتياز. منها ذخر للفكر العربي وتاريخه المجيد، كما هي هدية ثمينة للفكر الفلسفي العالمي. إنها نظرية تنتظر من يبحثها ويحللها وينتقدها وينشرها لتنير دياجير الزوايا الفكرية في العالم. وإنني على يقين من أن في البيئة الفكرية اللبنانية والعربية من الفلاسفة والمفكرين من هو جدير بهذا الإرث وقادر على حمل المشعل ومتابعة الطريق.

2 – الأنا ومعنى الحياة

إن قمة التحدي التي يطرحها نصار تستدعي الإجابة، إذ يقول: «إن إعطاء الحياة شيء وإعطاء الحياة معنى شي آخر. فإذا كان من معاني الحياة إعطاء الحياة، فذلك يعني أن سياسة المعنى منفتحة، من داخل الحياة الشخصية، على ما يتعداها من مستويات الحياة، حتى المستوى الميتافيزيقي منها» (ص 75). (التشديد مضاف) فهذه الـ«إذا كان من معاني الحياة، إعطاء الحياة»، تتضمن بالأحرى السؤال أولاً: هل من معاني الحياة، إعطاء الحياة بالضرورة؟ وبكلام مرادف، يطرح نصار، وعلى عدة مستويات، السؤال مدوياً ومجلجلاً، متحدياً به القاصي والداني ومطالباً بمعرفة الإجابة عن ذلك السؤال. ويمكن، وللأهمية، إعادة طرح السؤال، لا على المستوى البيولوجي فقط، وإنما على المستوى الأخلاقي أو الأكسيولوجي: هل من ضمن مسؤولية الـ«أنا» أن تهتم أو أن تشغل نفسها باستمرارية الحياة ضرورة؟ وبصورة أخرى: هل من ضمن مسؤولياتي الشخصية أنا أن اهتم بالمحافظة على حياتي وعلى استمراريتها؟ ويمكن طرح السؤال على المستوى الميتافيزيقي: هل تكتمل خبرتي الشخصية أو اختباري الشخصي في الحياة من دون اختبار فعل الخلق الممنوح لي من الحياة والخالق ذي الطاقة الكونية العظمى؟ إن الإجابة مطلوبة عن تلك الأسئلة المتعددة المستويات، ولا يمكن التنصل من الإجابة عنها إما نفياً وإما إيجاباً. في كلا الحالين، يجب تقديم التعليل المناسب. ونصار، قد قدم إجابته: إيجاباً وتعليلاً. فهل تصمد إجابته أمام التحليل والتدقيق والحفر الفلسفي؟ إجابتي الصريحة هي نعم. إنها صامدة بشموخ. وأتطلع بحماسة لمناقشة آراء الآخرين عنها بكل مودة ومحبة.

يرفض الكثير من الفلاسفة، وبخاصة من المدارس التحليلية، الخوض في غمار هذه المعمعة، قائلاً: «مالي ومال هذه الكأس». فغاية مُناي هي أن أعمل في تحليل القضايا وصنوفها، وأستخدم لغة رياضية منطقية تكون خاضعة لمبدأ الصح والخطأ، ولا أريد أن أدخل في متاهات ميتافيزيقية لا يمكن الخروج منها. فعندما يقول أحد «أنا أحيا»، فيمكن ترجمة هذه الجملة الحملية المركبة إلى جمل فردية ذرية، أي لا يمكن تحليلها إلى جمل أخرى، مثل «أنا أتنفس»، «أنا أمشي»، «أنا أشرب»، «أنا أفكر»… إلخ. وكل جملة يمكن أن تكون صحاً أو خطأ. ولكن «أنا أحيا» بمعزل عن سلسلة هذه الجمل أو ما شابهها، ليست بذات معنى محدد. يتقبل نصار هذا المنحى في ما يخص معنى الحياة بوجه عام، إذ يقول: «قد لا يكون بوسعنا أن نعرف شيئاً مؤكداً عن الغاية القصوى لظاهرة الحياة في الكون، وربما كان السؤال عن الغاية القصوى من الأسئلة التي لا طاقة للعقل الميتافيزيقي عليها إلا افتراضاً» (ص 18).

لكن نصار لا يقف عند هذا الحد، بل يتابع تأملاته؛ فيلاحظ أن هناك كائنات حية على الأرض، ومن بينها النوع البشري، الذي يحمل صفات يتفرد بها، منها الطاقة الفكرية وما يستتبعها. من هذا المنطلق، يطرح نصار السؤال عن: معنى الحياة في قولي «أنا أحيا»، أي من منظار حياتي الشخصية أو الاختبار الشخصي. فيقول: «يكون المعنى متقوماً، بالدرجة الأولى، في الغاية المسوغة للاستمرار في الحياة وكيفية صناعتها، وهو ما يسمى أحياناً معنى المعاني أو منتهى المعنى» (ص 18) (التشديد مضاف). لا شيء، إذاً، في نظره، يمنع من طرح السؤال حول معنى «حياتي الشخصية» أو معنى الحياة فيّ أنا أو معنى حياتي. ولماذا لا يمكن، أو لا يجوز، لنا أن نطرح مثل هذا السؤال؟ ومذ متى كانت الفلسفة تخاف، أو ترعوي، عن طرح أسئلة مثل هذه أو بحجمها؟

من هذا المنطلق، يثير نصار معنى الوجود الشخصي أو الاختبار الشخصي الذي يمكن التعبير عنه بجملة «أنا أحيا». ويستخدم في هذا المسعى أسلوب التحليل ومنهج الحفر والتأويل، معتمداً على الاستقراء المقارن ومبتعداً من تقديم الأقاويل البرهانية، يقيناً منه بأن المادة الفلسفية التي يعالجها لا تحتاج، ولا تقبل، مثل هذه البراهين للإقناع. وإنما تحتاج إلى حجج منطقية علمية وعقلانية تدعمها الخبرة الذاتية والتحليلات الفلسفية. وهكذا تنطلق رحلة كتاب النور والمعنى من هذه الجملة «أنا أحيا». فما هي هذه الجملة؟ وهنا يقف نصار في مواجهة صريحة مع الفلسفة التحليلية، قائلاً إنها جملة حملية قابلة لأن تكون صحاً أو خطأ، بصرف النظر عن إمكان تحللها إلى جمل حملية ذرية أخرى. ولا بد لها من أن تكون صحاً حين استخدمها أو انطق بها. والبرهان على ذلك هو أني أتنفس وأكتب وأرى وأسمع وما إلى ذلك، فكيف لي أن أقوم بهذه الأفعال وأنا لا أحيا أو في ظل لا «أنا أحيا». ففي غياب القدرة على القيام بتلك الأفعال، تكون الجملة خطأ. ويستحيل على شخص ميت أن يقول «أنا أحيا» أو «أنا ميت» حتى. وإذا أمعنّا النظر جيداً، نرى أن جملة «أنا أحيا» تحمل قيمة منطقية، حقيقة لا خطأ، بينما جملة «أنا ميت» لا تحمل معنى مشابهاً، وبالتالي ليست جملة حملية، مثل «هو ميت». وربما كانت الجملة «أنا أحيا» صحاً، وبالضرورة كذلك. ولكن لا يريد نصار أن يتوقف عند بحث منطق هذه الجملة، إنما عند معناها؛ فيشير إلى أن «الحياة حامل «لأنا» ومحمول على «أنا»، لا بمعنى مطلق، ولكن بمعنى وجوديّ خاص يتقرر بموجبه أن الحياة في الكائن البشري تظهر في شكل «أنا»، وتدرك نفسها بوصفها «أنا»، وتعبِّر عن نفسها بوصفها «أنا»، وتتحرك بوصفها «أنا»» (ص 22). (التشديد مضاف). ولا شك في أن هذه «الأنا» تدرك أن الحياة لا تتجمع كلها أو تصب كلها فيها. فالحياة أشبه بنهر يروي كل «أنا» أو كل «الأنوات» الأخرى ولا ينضب إلا إذا امتنعت كل الأنوات في العالم من تكثير ذاتها والاستمرار في العيش، على مدى عدة أجيال، ولا يخالها نصار تتعدى ستة أو سبعة أجيال حتى تنقرض البشرية عن وجه البسيطة (ص 46)؛ أي أن هذه الحياة العظيمة التي «أنا» جزء منها، هي أيضاً جزء من «أنا». إذاً، الحياة هي صانعتي وأنا قادر على صناعتها. ولو كنت الوحيد في العالم، كما تقول الفردية المطلقة، لما كان هناك حياة إنسانية أصلاً أو لانتهت بموت تلك «الأنا». إذاً، من الضروري الاعتقاد بوجود «أنوات أخرى» وبضرورة استمرارها وتفاعلها بعضها مع بعض لتستمر الحياة. يشدد نصار على هذه الحقيقة التي لا بد من التسليم بها تسليماً يقينياً. فيقول: «إن ربط الـ«أنا» بالحياة على هذا النحو، ينبغي أن يتأسس على فهم لموقع الـ«أنا» ومكانتها في الحياة؛ فهمٌ يتجاوز الشكلانية ويكشف عن أن الـ«أنا» كائن مليء بطاقة الحياة وقواها المختلفة، وحامل بهذا الاعتبار لحقيقتين لا يخلو منهما أي تجسيد عيني له، وهما أن الـ«أنا» صنيعة الحياة من جهة، وصانعة للحياة، من جهة أخرى» (ص 24).

وهناك حقيقة أخرى تضاف إلى هاتين الحقيقتين، وهي أن سائر الكائنات الحية تتوالد وتتكاثر غريزياً وطبيعياً، وبالتالي لا خوف عليها من الانقراض، ولا تكون مهددة بالانقراض، إلا اذا توافرت عوامل خارجية تهددها وتقود بها إلى الانقراض، كما حصل مع الديناصورات. ولكن الإنسان يختلف عن كل تلك الحيوانات بكونه يعي تلك الحقيقة ويعلم أيضاً يقينياً أنه في إمكانه أن يضع حداً نهائياً للحياة الإنسانية بيده. إن حياة الإنسان مهددة بالمخاطر الكونية، ويمكن لأي كارثة كونية معادية للحياة أن تقضي على الكائنات الحية كلها، ومن بينها الإنسان، مثل ارتفاع معدلات ثاني أوكسيد الكربون؛ وبالتالي ارتفاع معدلات حرارة الغطاء الجوي إلى درجة قاتلة وقاضية، وربما تكون من صنع البشر ومن نتاج صناعاتهم المختلفة، أو من نتاج انفجار كوني هائل. ولكن انقراض الإنسانية ربما يأتي أيضاً نتيجة إرادة الإنسان لقتل الحياة على شاكلة مبدأ أبو علاء المعري، مرفوعاً على الإطلاق أي شاملاً لكل إنسان (هذا جناه أبي عليّ/وما جنيت على أحد). ربما يرى المعرّيون أن الحياة بلية دهماء ومصيبة عمياء، لا لزوم لها.

ولكن نصار يعتقد أن هذه النظرة شديدة التشاؤمية إلى درجة قاتلة، ولا حاجة إليها؛ فعلى الرغم من كل مصائب الحياة ومشاكلها وصعوباتها، تبقى الحياة، وهذا هو الأهم، هدية الخالق وعطيته، فلا بد من الحفاظ عليها وتنميتها. وعلى الإنسان تقع المسؤولية الأخلاقية للحفاظ على الحياة، من ناحية، وعلى استمراريتها، من ناحية أخرى، في جو عائلي مبني على المحبة والود والتربية الصالحة والتعليم الجيد. المعصية الكبرى، في نظره، هي قتل النفس، متسبباً في انقراض الجنس البشري. ولا يستطيع قارئ كتاب نصار فهم فداحة هذه المعصية من دون فهم نظريته في تكوين الكون وخلق الله تعالى لذلك الكون، التي سأتطرّق إليها لاحقاً. أما في هذا السياق، فيجب التأكيد أن نصار يعتقد أن جملة «أنا أحيا» تعني أن الحياة تحيا فيّ وتجري في عروقي، كما تعني أيضاً «أنا أريد أن أحيا» وأن في استطاعتي أن أعمل ما أريده، أي أن أصنع الحياة أو لا أصنعها (ص 26). وهذه الإرادة هي إرادة واعية مصاحبة لوعي الـ«أنا» لأنا أحيا. وهكذا «أنا أحيا» و«أنا أريد أن أحيا» هما عمليتان متلازمتان أو وجهان لعملة واحدة. والإرادة تعني الحرية. فكما أختار أن أحيا وأحافظ على حياتي وأهتم بها وأريدها أن تستمر، كذلك قد يرى غيري عكس ذلك ولا يرى ضرورة للاهتمام بحياته ولا للمحافظة عليها ولا لاستمراريتها. وهذا ليس موقفاً أخلاقياً فحسب، وإنما هو موقف وجودي أنطولوجي قبل كونه أخلاقياً.

هنا أتوقف لأجيب عن الأسئلة التي أثرتها سابقاً. نرى أن نصار يعتقد أن من معنى الحياة إعطاء الحياة، أي توريث الحياة. إن هذا التوريث «هو أخطر قرار يتخذه الفرد في اقتصاد المعنى، ألا وهو إعطاء الحياة في صورة فرد آخر، يقول، هو أيضاً، أنا». ثم دراسة ظاهرة التناسل ضرورية من جميع النواحي، منها البيولوجية والاقتصادية والقانونية، ولكنها لا تغني عن «مقاربتها الفلسفية التي تكشف عن الأساس العميق الذي يجعل من ظاهرة التناسل قضية، أعني الأساس الذي يستحق الانتباه والرعاية قبل أي شيء آخر يقوم عليه أو ينتج منه، أي إعطاء الحياة على قانون الأنا». (ص 47)، ولكن ليس الإعطاء ضرورة منطقية أو فرضاً ضرورياً. الاستنتاج الضروري، هو إمكان أو احتمال إعطاء الحياة، إذ قد يكون الشخص مصاباً بالعجز الجنسي أو البيولوجي أو بمرض عضال، فلا يستطيع إعطاء الحياة أو الإنجاب. ولكن في السواد الأعظم من البشر، عندما يبلغ أو يكتمل الإنسان، يصبح باستطاعته إعطاء الحياة بيولوجياً وطبيعياً. فهل هناك واجب أخلاقي يحتم على الفرد أو على كل فرد إعطاء الحياة؟ هنا يجيب نصار بصراحة. ليس إعطاء الحياة حقاً أو واجباً مطلقاً في كل حالة، فهناك حالات، سيتم بحثها لاحقاً، لا يتولد معها هذا الحق أو الواجب. إن «أنا أحيا» تتلازم مع «أنا أريد». الإرادة حرية مطلقة، فيمكن أن تختار ما تريد: إما إعطاء الحياة وإما لا. فواجب إعطاء الحياة هو مقولة أخلاقية وليس مقولة منطقية. وأظن أن نصار يميل، وأنا أوافقه تماماً، إلى الاعتقاد بأسبقية وأفضلية اختيار إرادة الحياة. لذا يقول إنه يجب علينا «أن نجرأ على القول، بصوت عال: هنا يكمن المعنى، ومن هنا يجب الانطلاق» (التشديد مضاف) (ص 47). ولكن لا يبرز إلى العلن الفرض الأخلاقي على شخص ما يلزمه بقبول الحياة وصنع الحياة إلا في حالات خاصة: كأن تكون، مثلاً، أسرة حاكمة أو غيرها مهددة بالانقراض أو في حالة تهددت البشرية كلها بالاندثار، فعندها لا يجوز مطلقاً عدم اختيار الحياة واستمراريتها، وإن يكن في وسع المرء عدم الاختيار. إن اختيار الحياة موقف يؤكد تواضع الإنسان وتقبله، برضى، نعمة الحياة كهدية من الخالق الأعظم، كما تعبر عن شكر الإنسان لخالقه بالقبول بالاشتراك معه في صناعة الحياة واستمراريتها.

يعي نصار أهمية هذا العمل الخلّاق، وجودياً وبيولوجياً وأخلاقياً، ويعزوه «للروح الخلّاق» في الإنسان. ولكنه يعلم جيداً أيضاً أن فعل الخلق الإنساني ليس حقاً مطلقاً، كما أنه ليس واجباً مطلقاً على أي «أنا» فردية. فهناك حالات، صحية مثلاً، لا يجوز معها الخلق الإنساني مطلقاً، ويقع على عاتق المجتمع التدخل لمنعها، حتى ولو شاءت إرادة الفرد الذاتية ذلك. كما أن هناك حالات لا تقود إلى صناعة الحياة، ويذكر نصار منها العجز الجنسي والانحلال (ص 46) والانحراف والتغير والتبدل الجنسي أو الرفض أو الامتناع عن الاشتراك في صناعة الحياة واستمراريتها عن سابق قصد وتصور. فهذه حالات وجدت في المجتمع على مدى التاريخ، ويتفهم نصار وجودها. وليست هي حالات غير معقولة، ما دام أن وجود الحياة نفسها ظهر كاحتمال من ضمن ملايين الاحتمالات، كما يتبين من الخارطة الجينية. وهذه الاحتمالات كلها تزيد الحياة السوية الحاصلة عظمة وتؤكد روعتها وجماليتها، رغم هشاشتها وظرفيتها، وهذا ما يجعل الحفاظ عليها وعلى استمراريتها عملية دقيقة وصعبة وشائكة. ولا أدَل على ذلك من رهبة عملية الولادة التي تمر بها كل عائلة مع كل مولود جديد. إن معنى المعاني، كما ذكرت سابقاً، بحسب نصار، يتمثل بإرادة الحياة. والتحدي الكبير هو هل يقبل الإنسان هدية الحياة ويسهم في الحفاظ عليها وعلى استمراريتها، أم ينحرها ويرجو انقراضها، كما فعل أبو العلاء المعري؟ لكن من الواضح أن نحر شخص ما لحياته أو حياتها، وربما من الأفضل أن نستخدم كلمة أقل مأسوية من ‹نحر› فنقول ‹هدر›. إن هدر الحياة سدى، من فرد أو مجموعة من الأفراد، لن يقود إلى انقراض البشرية، لأنه يبقى كثر من الناس الذين يؤمنون بأن الحياة نعمة ويهللون لها ويفرحون باستمرارها. كما أن فعل عدم الاشتراك في صناعتها، لا يجدر أن يتم في مأسوية معرّية مفرطة. صحيح أن الحياة لم تهب المعرّي حاسة النظر، ولكنها وهبته موهبة الشعر، وهي من أجمل مواهب الطبيعة. فليس من المناسب أن يرد الإنسان جميل الحياة بسيئة مقيتة. إن الموقف المناسب من الحياة، في نظر نصّار، هو تقبّلها بفرح مع إرادة التسامي والارتفاع بها حتى الكمال، والعيش مع الآخرين وفق القيم الكونية العليا. إن حب الحياة وحب الآخرين هما من هبات الله ونعمه، ويجب تقديم الشكر عنهما.

الشكر، في نظر نصار، كما يبدو لي، لا يأخذ بالضرورة منحى دينياً، وإن تكن هناك أديان كثيرة تشدد عليه، بل يتجلى فلسفياً في إرادة الإنسان قبول الحياة والمحافظة عليها والمشاركة في استمراريتها. وما إرادة الحياة سوى إرادة التعالي والتسامي نحو الله خالق الحياة. ولكن كيف يكون ذلك؟ تبدأ حركة التعالي في الإنسان مع الوعي بأهمية الحياة وروعتها وهشاشتها. ثم تتطور إلى الوعي بالآخرين وأهميتهم في الوجود واستمراريته. «ففي حركة التعالي، لا بد من أن يكون ثمة متعالٍ في الحياة تتجه الـ«أنا» بتعاليها نحوه أو في فضائه، من دون أن يتعين عليها أن تتخلى عن أي مقوم من مقوماتها. فما هو المتعالي الذي تتجه الحياة إليه عبر الـ«أنا» بوصفها صنيعة وصانعة الحياة؟» (ص 29) الجواب هو «المتعالي الأكسيولوجي، أي منظومة القيم الكونية العليا» (ص 29). ويعطي نصار أمثلة على تلك القيم؛ مثل العدل والسلام والمساواة والإبداع والمحبة وما إلى ذلك. ولكن السؤال لا يتوقف عند الحد الأكسيولوجي، ولا بد من أن يتخطاه ليقود إلى السؤال عن أسس تلك القيم. فيقول «لا بد في النهاية من تأسيس الحياة المبدعة في الـ«أنا» في مطلق الوجود (أو الوجود المطلق أي الله)» (التشديد مضاف) (ص 29). إن الاجابة عن نزعة الإنسان إلى التعالي يجب أن تقود في النهاية إلى بحث الوجود وأصله، وهذا ما يقود إلى نظرية نصار عن وجود الله أو الوجود المطلق، التي سأبحثها لاحقاً. بمعنى آخر، ليس عند نصار أنصاف حلول في الفلسفة. فإذا ما سمح الإنسان لنفسه بالسؤال عن معنى حياته، فلا بد له من طرح أسئلة أخرى حول إرادة الحياة وإرادة التسامي، ومن ثم إلى طرح السؤال حول أصل الحياة ووجود الله.

3 – الأبعاد الثلاثة لنظرية الوجود والمعنى

هناك ثلاثة أبعاد في نظرية نصار إلى الوجود متلازمة ظرفياً مع أحادية ثابتة ومطلقة وسرمدية. فما هي هذه الأبعاد؟ يرى نصار أن البعد الأول هو «الأنا» أي الفرد والشخص، والبعد الثاني هو «النحن» أي المجتمع والبشرية، والبعد الثالث هو الله، الوجود المطلق. ويريد نصار أن يقدم نظريته ضمن الوضعية العلمية السائدة، أي ضمن إطار ما يطرحه العلم المعاصر من نظريات. فلن يقدم طرحاً لا يقبله العلم المختص بذلك الطرح. فلن يقول، مثلاً، إن الإنسان أو النوع البشري لم ينشأ ولم يتطور، كما تقول نظرية الخلق، من العدم، بل يقف إلى جانب داروين وأتباعه في علوم الأحياء والبيولوجيا حول هذا الموضوع. ولن يخالف رأي علماء الفيزياء الحديثة كأن يوافق أفلوطين، مثلاً، في نظرية الفيض، كما فعل الفارابي وغيره الكثيرون من فلاسفة القرون الوسطى، بل يقول مع الفيزياء الحديثة أو فيزياء الكوانتم إن العالم نشأ من جراء الانفجار العظيم (Big Bang) لذرة متناهية في الحجم وعظيمة في الكثافة وذات طاقة فائقة القوة. ومن ثم يتنفس الصعداء ويأخذ راحته في تقديم نظريته عن الوجود. فيناقش أبعادها عالمياً، متبادلاً الأفكار ومحاوراً كبار فلاسفة العالم قديماً وحديثاً، ليدفع عن نظريته كل الاعتراضات والاتهامات لتكون متناسقة ومتناغمة، بعيدة من كل تناقض فلسفي أو اعتراض علمي. ويحرص شديد الحرص على تقديمها واضحة كي يفهمها ويستوعبها كل من يسعى إلى ذلك. وإنها، في نظري، نظرية إبداعية، تقف راسخة على أرض فلسفية صلبة، وواضحة في التاريخ الحضاري، وتقدم تفسيراً للوجود متناسقاً ومعقولاً. ويمكن دحضها، أي أنها تقبل احتمال أن تكون خطأ غير صحيحة، إذا لزم الأمر، كما يفترض كارل بوبر عن النظريات العلمية. وهذا جل ما يطلبه العقل الفلسفي لأي نظرية علمية وفلسفية عن الوجود.

لن أثقل على القارئ ببحث نظرية نصار مفصلاً في هذه الدراسة، إذ لا بد للقارئ من أن يقرأ الكتاب ويستفيد من النظريات المطروحة فيه. ولكنني أشير إلى أهمية تحليله لمعنى الحياة المشتق من «أنا أحيا»، الذي يصب في الاختبار الشخصي للإنسان أو تاريخه الشخصي أو خبرته العملية الخاصة. وجوهر الاختبار الشخصي هو الكفاح أو الجهاد من أجل «البقاء والنمو والتقدم» (ص 51). والكفاح لا يكون كفاحاً من أجل الكفاح، بل من أجل تحقيق غاية ما، منها الانبساط والانشراح واللذة وتحقيق الرغائب والميول والأحلام التي يسعى ويطمح إليها الإنسان. وكم أتمنى أن أضع دراسة لنظرية نصار عن الكفاح والميل والرغبة والانبساط في نطاق نظريته للمجتمع والكون والوجود المطلق. كما أترك المجال للقارئ كي يعرف بنفسه تفاصيل رؤية نصار للمجتمع المنفتح وكيف يقوم على مبدأ الوحدة في التنوع ومبدأ حقوق الإنسان وكيف يسمح لكل مكونات المجتمع أن تسعى وتكافح من أجل الارتقاء نحو الكمال والاكتمال والانسجام والسلام من خلال التسامي الأكسيولوجي والقيم الكونية. ولا بد من أن يتابع القارئ الكاتب في محاوراته مع كارل بوبر وتشارلز تيلور وغيرهما في مسألة المجتمع المنفتح، ومع نيتشه عندما يبرهن أن التعالي ليس تعالياً نحو الإنسان الأعلى «الأوبرمانش»، الإنسان المتميّز عن الآخرين بقوته وترفعه وتجبره عليهم، إنما هو نزعة تعالوية نحو القيم الكونية المبنية على المساواة بين جميع البشر، تلك المساواة التي وضعتها الحياة في جبلتهم بمقتضى الطاقة الكونية التي أنزلها الخالق المطلق الوجود في الحياة.

كما يحاور نصار هايدغر وسارتر في معنى الكينونة والماهية والوجود والأنسنة (Socialization) والإنسانوية (Humanism)؛ فيختلف عنهما ويقول بأن الكينونة ليست موجودة هكذا ومتروكة للتوجد (لفعل الدازين)، وفق ترجمة فتحي المسكيني للدازين (ص 230).
«إن قوام ماهية الإنسان أن الإنسان أكثر من الإنسان وحده»، وهذا ما يسميه نصار «رهان التوجد» (ص 235). وهذا التوجد يرهن أو يربط «معنى الإنسان بمعنى الكينونة» (ص 236). ويقر هايدغر بهذا الأفق العليوي في الإنسان المرتبط بالكينونة، ولكنه يميز نفسه عن وجودية سارتر التي تربط الإنسان بالكينونة وتحدده بها. هنا يُظهر لنا نصار تفضيله تفسير هايدغر، رغم أنه لا يجده مقنعاً تماماً، وأترك للقارئ المجال للعودة إلى كتاب نصار وفهم موقفه، وبخاصة في الأقسام أو الفقرات من 119 وما يليها إلى 122. وما أود الإشارة إليه هنا، أن ما هو فوقيّ في الإنسان، في نظر نصار، إنما هو نزعة التعالي، التي سبق وتحدثت عنها، وليس هناك أي فعل آخر غير فعل الإيجاد يمكن أن يعبر عن تلك النزعة، رغم أهمية تلك الأفعال: مثل الاندهاش والتساؤل والوعي وغيرها. الفعل الأهم لديه هو الإيجاد. «وذلك لأن الإيجاد إعطاء الوجود، فهو أعظم من كل خاصّية تدل على ارتفاع الإنسان فوق الواقع، أو على ارتفاعه بنفسه نحو واقع جديد» (ص 239 – 240) فكيف يرتبط فعل الإيجاد بالكينونة، وكيف يلزم منه إعادة تحديد معنى الكينونة؟ يربط نصار بعبقرية فذة وضربة فيلسوف متمرس الكينونة بفعل الإيجاد ويقول إن الكينونة حصلت أو أتت إلى الوجود بفعل خلق الله، أي بفعل إيجاد الله للعالم، كما سنرى لاحقاً. هكذا يصل نصار إلى الاستنتاج بأن هكذية الكينونة هي من ومرتبطة بهكذية الوجود المطلق. ولا مناص من تقديم تفسير لهكذية الوجود (ص 358). ولا يستقيم التفسير بناء على الصدفة، لأن الصدفة إنما تكون في عالم الكينونة ولا تنطبق على الوجود ذاته. فيجب أن يقوم التفسير على تقديم توضيح لأصل الوجود. ولا يستوي هذا التوضيح إلا مع القول بأن أصل وجود الكون هو الطاقة الكونية المطلقة، أي الله ذو الوجود المطلق. وهذا القول ليس قولاً بسيطاً، وإنما يحمل في طياته عظمة الطاقة الكونية التي أوجدت الوجود العيني. فالوجود ليس متروكاً هكذا «داشر بلا صاحب» للحيرة وللصدفة وللعدمية، كما يتضح من كلام هايدغر والوجودية. إن كينونة الوجود أتت من الله، وبالتالي فإن الكينونة مملوءة بالطاقة الكونية. ويجب أن تنعكس معرفة الكون والوجود المطلق في نظرتنا إلى الإنسان ونزعته إلى التعالي، التي هي مركزية في نظرتنا إلى الإنسان والإنسانوية والأنسنة والمجتمع والحضارة والتاريخ الإنساني.

لا يقدم نصار هذه النظريات من دون حجج وأدلة مقنعة. وهو يرى أن البحث عن هذه النظريات ضروري لمقتضيات استكمال معنى الاختبار الشخصي. أي أنه في نظره لا يكون وجود الإنسان على الأرض مكتملاً أو قد بلغ كماله من دون البحث عن تلك القضايا. قد يجاري كثر نصار في دعوته إلى اعتبار معنى الاختبار الشخصي يتضمن السعي لمعرفة أصل الأنا ومعرفة المجتمع الذي تظهر فيه ومعرفة الوجود، وصولاً إلى معرفة وجود الله، تمثلاً بما جرى مع حي بن يقظان، إذ تطورت معرفته لتشمل نفسه والعالم ثم وجود الله. ولكن هناك من يقول إن كبار فلاسفة القرن العشرين، وبخاصة التحليليون منهم، قد رفضوا إضفاء أهمية فلسفية على السعي لمعرفة معنى الحياة وحتى معرفة معنى حياتي وتسخيف البحث عن أصل الوجود. فمن يكون هذا الذي يتجرأ على طرح مخالف لسادة الفكر في العالم؟ لا أريد أن أقلل من شأن كبار سادة الفكر في العالم أو من تأثيرهم في الدوائر الدراسية الفلسفية. ولكن في الوقت نفسه، لا أجد من المفيد رمي المولود مع ماء غسيله. فالسؤال الذي يطرحه نصار عن معنى وجودي أنا ومعنى وجود الكون سؤال طبيعي ومعقول. ويجب ألّا يغيب عن ذهننا أن الفلسفة منذ نشأتها وتأسيسها على يد طاليس، الذي كان للمناسبة من مواليد صور الفينيقية ويمكن اعتباره كنصار من الديار اللبنانية المرمية على أطراف الفلسفة، قد دعا إلى اعتبار أصل الوجود والبحث عن ماهية ذلك الأصل. ولا تلغي محاولة سقراط التركيز على الإنسان ونفسه، ضرورة مواصلة عمل طاليس لمعرفة أصل الوجود. وهذا ما يسعى نصار إليه، مضيفاً أن معرفة كهذه هي أساسية بل ضرورية لاستكمال معنى الاختبار الشخصي. من هذا المنطلق، لا مناص من السعي لمعرفة أصل الحياة والوجود للوصول إلى معرفتي الشخصية لمعنى حياتي إلى أعلى درجات كمالها. ولا يغير في صوابية هذا السعي أو يحط من قيمته كون فلاسفة كبار وعلماء عظماء رفضوا الخوض في غماره، لا بل حرموه. كما تجدر الإضافة أن العلاقة بين المفكر والمفكر والفيلسوف والفيلسوف ليست علاقة سيادة، ولم تكن يوماً هكذا، بل علاقة مشاركة في رؤية وتوجه لاكتشاف الحقيقة. ولنا في أرسطو خير شاهد على ذلك. لقد اختلف أرسطو عن معلمه أفلاطون في التعبير عن نظرته إلى العالم والوجود والله، معتبراً أن حبه لمعلمه كبير، ولكن حبه للحقيقة أكبر وأجل. لا يلزم، إذن، من كون نصار فيلسوفاً من لبنان، ذلك البلد الصغير المثقل بجراح الحروب وحراب الطامعين، والبعيد من مراكز الثقل والإبداع في عالم الفكر والعلم والفلسفة، أن يخضع للأوامر أو التوجيهات الفلسفية التي تصدر عن «الأبواب العليا» ويُمنع عن طرح أسئلة مثل: ما معنى حياتي؟ وما معنى أن أكون حياً؟ وبما أختلف عن الأموات؟ وهل لحياتي نفس المعنى، أي هكذا لا شيء وبلا معنى، تماماً كما لو كنت لم أحيا أو لا أحيا؟

بكل تواضع، أنا أشارك نصار الرأي أنه من المستحب والضروري أن يبحث الإنسان في معنى وجوده. وأعتقد أن الفلسفة تبقى فاشلة وهابطة إذا لم تقد في النهاية إلى بحث معنى وجودي أنا على هذه البسيطة. كما أوافقه في رحلته الاستكشافية الوجودية، من بدايتها إلى نهايتها، إذ كيف لي أن أفهم معنى وجودي كاملاً من دون أن أفهم معنى الحياة التي تتدفق في عروقي؟ وكيف لي أن أفهم هذا المعنى من دون أن أتعجب من سر الحياة وألغازها ورقتها وهشاشتها، ومن دون أن يصيبني الذهول من جراء عجائبية الكون الكبرى، التي تتمثل بكمالية وظائف الحياة المتشابكة مع بعضها البعض في كل مدهش، في كون مذهل؟

أقل ما يجب عليّ فعله هو أن أشكر نصار لصرفه الوقت الطويل في التأمل والتفكير والمطالعة ومن ثم كتابة هذا الكتاب القيّم ونشره. كما أشكره على صرفه حياته في البحث والنشر والتعليم. وأعتقد أني قرأت وفهمت ماذا يقول ويريد أن يقول في هذا الكتاب. وفي رأيي، أن القارئ سيحصد نفعاً عميماً وسيجني فائدة كبيرة منه، وربما أجرى تحولاً كبيراً في حياته. إن نصار قد بلغ ذروة شاهقة من التقدم الفلسفي وأتطلع بشوق إلى المزيد من الدرر الفلسفية تتساقط من قلمه. إن كتاب النور والمعنى مفيد للشخص كفرد وشخص، وكفرد في المجتمع، وكفرد في الجنس البشري. يقدم نصار تعليلاً وافياً لكل ناحية من هذه النواحي، وبخاصة في مسألة البشرية والمعنى الإنساني. ورب قائل يقول إن أثر الفرد في نفسه ومجتمعه قد يكون كبيراً ومقنعاً، أما تأثيره في المجتمع البشري ككل، فربما لا وجود له ولا أثر. لا تتأثر البشرية لوجود فرد ما أو لعدم وجوده. يخالف نصار هذا الرأي ويسهم إسهاماً بالغاً في توضيح كيف يؤثر الفرد في البشرية كلها في عصرنا الحالي، وبخاصة مع وجود الإنترنت والوسائط الاجتماعية والإعلامية والاتصالات والتلفون الذكي والمؤسسات العالمية والشركات عابرة القارات والأمم المتحدة وغيرها.

إضافة إلى ذلك، تتضمن نظريته، كما أشرنا من قبل، أن الإنسان الفرد هو صنيع الحياة وصانعها. تقود هذه النظرية إلى الاستنتاج أن الفرد يرفد استمرارية النوع البشري. فالفرد من هذا المنطلق، يؤثر في البشرية بحكم كونه مسؤولاً عن استمراريتها. وهذا التأثير ليس بغير ذات أهمية، لأن الانكفاء أو الامتناع أو الرفض عن الاشتراك في دفع هذه الاستمرارية إلى الأمام سيؤثر سلباً في البشرية، وربما إذا تضافرت جهود مجموعات كبيرة من الأفراد في هذه السلبية على مدى عدة أجيال، تزول البشرية وتنقرض، وإن لم تنقرض، فستتغير تركيبتها العرقية والقومية والاجتماعية. وهذا يدل على مدى أهمية تأثير الفرد بالبشرية أو النوع البشري ككل.

لا يدخل نصار في تفاصيل هذا التأثير وليس مطلوباً منه دخوله. ولكن يجدر في هذا السياق التوقف عند موضوع تأثير الفرد في النوع البشري لأهميته. وأسمح لنفسي بالتأمل قليلاً في هذا الموضوع؛ لظني أنه من أكثر المشاكل العالمية الأبعاد في عصرنا هذا، التي لا تزال دعايات بعض الصناعات الكبرى عابرة القارات، مدعومة من سياسات دعائية عالمية مجهولة الأصول، تقصي عن فهم هذا الموضوع، الذي يشير إليه نصار، ممعنة في عدم التبصر به وبعواقبه. وأنا أول من يعلن مسؤوليته عن الانجرار وراء هذه الدعاية والتأثر بها والدعوة إليها، من دون تمحيصها جيداً. فقد أدخلت في تعليمي الجامعي لمادة العولمة ومشاكلها مشكلة أو ظاهرة تنامي عدد السكان المتزايد في العالم، الذي يهدد البشرية بالويل والثبور وعظائم الأمور، ما لم يتم لجم هذه الظاهرة بالانخراط بالتنظيم الأسري والعمل لخفض معدلات النمو السكاني. ولكن فاتني أن أنتبه إلى ما ينبه إليه نصار، ألا وهو: ماذا يحل بالبشرية والعالم والحياة عندما تتدنى معدلات النمو لتصل إلى الهدف المطموح إليه، أي إلى توقف النمو عند الصفر؟ أي عندما لا يعود هناك نمو. والعذر المشاع أو الحجة المعلنة أن طاقة الأرض الاستيعابية لا تتحمل أكثر كثيراً مما وصل إليه عدد سكان الأرض. وأحد الاستنتاجات التي يصل إليها نصار، كما يبدو لي، تدعو إلى إعادة النظر في هذه الفرضية. وأظن أن إعادة النظر والتدقيق العلمي بهذه الفرضية أمر لا مفر منه في النهاية. فالدعاية الهائلة المرغّبة في هذا النوع من التنظيم الأسري مع ما يواكبه من تجميل للحياة الاستهلاكية المفرطة، أو كما يسميها نصار «الاستهلاكية المتغوّلة» (ص 43)؛ تجعل من إعادة دراسة هذه الفرضية حاجة ملحة. ولنأخذ مثلاً سريعاً عن معدلات النمو في أوروبا وكثير من البلدان الغربية. فقد وصلت من الآن إلى هذا المعدل القريب من الصفر، ولمّا يمضِ عليها أكثر من ثلاثة أجيال بعد الحرب العالمية الثانية، ناهيك بما قد يحدث لها عند بلوغ الجيل السادس أو السابع الذي يحدده نصار بنقطة الخطر (ص 46). وها هي الآن تعاني نقصاً في مجمل مستوياتها الحياتية تقريباً، وأظهره في مجال التعليم الجامعي الذي لا يمكن أن يحيا ويتنفس من دون رفد من المجتمعات ذات النمو الطبيعي والتاريخي وتسمى «العالم الثالث» تكرّماً. ناهيك بمختلف الصناعات والزراعات وغيرها. فماذا سيصبح مصيرها عندما تتدنى مستويات النمو السكاني في العالم الثالث أيضاً إلى معدل الصفر، العلامة المميزة للنجاح في إصابة هدف النمو السكاني في الصميم؟ لا تفوت نصار ملاحظة هذه المشكلة وأظن أنه يقول ضمنياً إن الحل موجود في أذهان عباقرة العالم وسياسييه الأشداء الذين يوجهون جهود الأبحاث العلمية وتطويرها نحو تقليص عدد سكان البشرية، الذين هم خليقة الله الكلي المعرفة مبدع الأكوان، لزيادة صناعة الإنسان الآلي والروبوتات وصناعة الإنسان الاصطناعي وصناعة الإنسان والحيوان والنبات المعدل جينياً. يندفع العلماء وراء «كمالهم» العلمي ويسعى السياسيّون وراء المناصب «العليا» ويحلم مديرو شركات عابرة القارات بالثروات الطائلة، فيتم تركيز الجهود على تطوير تلك الصناعات وقيادة العالم إلى حيث لا يعلمون أو لربما يعلمون. فالسؤال الطبيعي في نظره هو: إلى أين يسعى التطوير العلمي والطموح السياسي والتكنولوجي في العالم؟

لا أريد أن يأخذ المتلقي فكرة خاطئة في هذا المجال ويظن أن نصار هو ضد التطور العلمي وتطور التكنولوجيا واستخدامها في تقدم المجتمع نحو الرفاهية والراحة وإعادة الصحة للإنسان وتطويل عمره، أو أنه لا تهمه مشكلة التنامي المتزايد للسكان في العالم. ولكنني أعتقد أنه يريد أن يدق ناقوس الخطر لتوخي الحذر في الاندفاع نحو هذا التقدم، وبخاصة أن ذلك الاندفاع يتعلق بمسألة مهمة جداً، ألا وهي استمرارية الحياة نفسها. وما علينا سوى أن نتذكر أن برتراند راسل قد وجّه صرخته الشهيرة المماثلة: «تذكر إنسانيتك وانسَ كل شيء آخر» إبان الأزمة الكوبية، حينما كانت تهدد العالم حرب نووية ثالثة مدمرة. فعندما تصل الأمور إلى النيل من استمرارية البشرية، فكل شيء آخر أو رابطة أخرى تصبح ثانوية. لهذا يربط نصار مسألة التقدم العلمي في هذا المجال بالسياسة العالمية وحسن تسديدها لخدمة البشرية. إن التطور في صناعة السلاح المدمر وإنتاج أنواع فتاكة من أسلحة الدمار الشامل يجب أن يضع الخوف من زوال البشرية وانقراضها أو العودة بها إلى عصورها الغابرة في أعلى مستوى من أولويات السياسة العالمية. وهذا التخوف هو واحد من المواضيع المهمة والجريئة التي يثيرها نصار ويقدم لها الأجوبة المناسبة في كتابه النور والمعنى.

لن أبحث في إجابته عن تلك الأسئلة المتعددة التي يمكن طرحها حول أهداف العلم والبحث العلمي والسياسة الدولية. فهو يدعو القارئ إلى التأمل فيها، وخير ما فعل. ولكني أشير في هذا السياق المتعلق بإعادة النظر والتدقيق جيداً بأهداف السياسة العالمية، إلى دعوته إلى إعادة قراءة سقراط في ضوء بحثه عن معرفة الذات. ففي خلال محاورة سقراط لتلميذه الشاب القيبيادس المندفع بطموح سياسي جامح، معتمداً على مال أهله وجاههم وسطوتهم في المجتمع إلى الوصول إلى الحكم، يسأله سقراط: هل اهتممت بنفسك بما فيه الكفاية؟ هل حضّرت نفسك جيداً لهذه المهمة؟ هل أصبحت إنساناً يعيش كمال إنسانيته؟ هل تعرف ما هو كمال الإنسانية؟ هل خبرتك في الحياة أو اختبارك الشخصي للحياة كافٍ لقيادة الآخرين لاكتشاف المعنى الحقيقي الخاص بهم؟ ويقول نصار في هذا المجال: «يقودنا النظر في الاختبار الشخصي لمعنى الحياة، على أساس مبادئ الجهاد المتواصل والانتظام الوظائفي والانبساط إلى ما يمكن تسميته سياسة المعنى. ونقصد من خلال هذه التسمية استعادة المفهوم السقراطي للاهتمام بالذات وإعادة بنائه في إطار إشكالية المعنى كما ترتسم في بحثنا هذا» (ص 61).

لا يمكن فهم الاهتمام بالذات من دون فهم معنى الاختبار الشخصي للحياة ومعنى الحياة ومصدرها واستمراريتها. فكيف يمكن فهم الحياة وخصبها وعظمة خالقها من لا يختبر مثلاً فرح إعطاء الحياة لفلذة من كبده أو إيجاد أو اكتشاف أو إبداع ما له قيمة عظيمة خالدة تفيد المجتمع الإنساني وتزيده منعة، وتسمو به حضارة، وتزينه جمالاً وسلاماً؟ وتأمل نصار في هذا المجال رائع وربما فريد. فهو لا يتحدث من منطلق قومي، ولا من منطلق طبقي، ولا من منطلق ليبرالي أو اشتراكي أو فئوي، بل من منطلق المحافظة على الجنس البشري بأكمله، وحق أفراده بالتمتع بالحياة التي وهبهم إياها الخالق، من دون الخوف من الاندثار والعيش مهددين في كل لحظة بحرب عالمية ثالثة، أو بإنتاج مخلوقات معدلة جينياً أو آليات أو جرثوميات لا يمكن التكهن بمدى تأثيرها أو ضررها على البشرية.

4 – نظرة جديدة إلى مسألة الخلق

أترك للقارئ المجال هنا كي يسترشد بكتاب نصار ليعرف المزيد عن سياسة المعنى وسياسة المجتمع الإنساني التي يتحدث عنها المؤلف في كتابه بإسهاب. ولكن قبل الختام، أود أن أقول كلمة عن نظرية نصار في الخلق لريادتها وشدة أهميتها. يعتقد نصار أن الله هو خالق الوجود أو العالم. ولكنه لا يريد لاعتقاده هذا أن يتناقض مع ما تتمخض عنه عبقريات العلوم الوضعية الحديثة، ولا يرضى لنظريته في الخلق أن تتضارب مع تفسير الفيزياء الحديثة أو فيزياء الكوانتم لتكوين العالم. وتقول هذه الفيزياء، كما ذكرت سابقاً، إن العالم تكوّن، ليس كما تقول نظريات أو تعاليم دينية ضاربة في القدم، بطريقة خلق الله له من العدم، بل نتيجة الانفجار العظيم الذي تولَّدت منه الكواكب والمجرّات والأكوان كلها. ويقف علم الفيزياء عند هذا الحد ويكتفي. وما إن يتكلم أكثر من ذلك، كما فعل ستيفن هوكنغ، حتى يرتمي في أحضان الفلسفة التي تتأمل في هذا الوجود وتثير مسألة سبب وجود الكون وأصله. ولا سبيل إلى معرفة رأي نصار في هذا الصدد من دون العودة إلى كتابه. وأجمل ما في الكتاب في نظري، على جمالية كل فصل وكل قسم أو فقرة منه، إنما ذلك الفصل الذي يحمل عنوان «الأفق الميتافيزيقي والمطلق». ولا يمكننا فهم مدى ريادية نظرية تصار للخلق، الذي يتجرأ على طرحها خلافاً للعديد من الفلاسفة الكبار، معاصرين وسابقين، من دون فهم طرحه أو مفهومه «للأفق الميتافيزيقي».

لا يسعنا أن نتطرق بالتفصيل إلى هذا المفهوم، بل نكتفي بإلقاء الضوء عليه حتى يتسنى لنا إدراك مدى أهمية تلك النظرية. يختلف الأفق الميتافيزيقي عن بقية الآفاق المستخدمة في اللغة. فالأفق الميتافيزيقي يحيط بالإنسان «من جميع الجوانب والجهات، تجعله بالطبع متميزاً تمام التميز عن أي أفق آخر في حياتنا، الفردية أو الجماعية، كالأفق الأرضي أو الأفق الفلكي، أو الأفق البيولوجي، أو الأفق النفسي، أو الأفق المهني، أو الأفق السياسي، أو الأفق الاقتصادي، أو سوى ذلك» (ص 297). يتميز كل أفق من هذه الآفاق بنسبيته، إذ يختلف من شخص إلى آخر، وبتجدده، إذ كلما اقتربنا منه، يتولد أفق آخر بعده، إلى أن ينعدم الأفق تماماً ببلوغ الشخص درجة الكمال في المعرفة في ذلك الأفق، وبالتالي لا يعود للأفق أي وجود أو معنى. ولكن الأفق الميتافيزيقي يتصف بصفات بعيدة كل البعد عن الزمان والمكان والمشهدية: كالأقصوية واللغزية والجاذبية. التعاقب هو سمة من سمات الآفاق التي تحدث في حقول الوجود المختلفة ومشاهدها فقط، بينما أقصوية الأفق الميتافيزيقي وفرادته لا تنتمي إلى حقول الوجود، وإنما إلى «الوجود بالذات» (ص 306). ويقود البحث عن آفاق الحقول المختلفة للوجود إلى الانتقال إلى بحث الأفق الميتافيزيقي عن الوجود بعينه. وليس هذا الانتقال إلزامياً، أي لا يحدث ضرورة مع كل «أنا» أو كل إنسان. إذ هناك من لا يود الانشغال بغير آفاق الحقول المختلفة للوجود. ولكن التفكير الميتافيزيقي يفضح هذا التقصير، معتبراً «أن مشهدية الوجود لا تعطيه أجوبة شافية عن أسئلة لا يمكنه ردها» (ص 307). أسئلة تتعلق بالوجود بالذات: ما هو؟ ما العدم؟ وما العلاقة بين الوجود بالذات وبين الموجودات وسواها من أسئلة؟ (ص 307). هنا تظهر اللغزية والجاذبية في الأفق الميتافيزيقي. لا يمكن للإنسان رد اندفاعه لطرح الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالوجود، رغم اللغزية المفرطة المحيطة بالحواجب التي تمنع وصول الإنسان إلى أجوبة نهائية وواضحة.

لقد أثار إيمانويل كانط هذه المسألة بالذات، مشيراً إلى أن العقل البشري محكوم بطبيعته بطرح أسئلة مثلاً: عن وجود الله والميعاد والحرية لا يستطيع لها رداً، ولكنه في الوقت عينه لا يستطيع الإجابة عنها. ولكن نصار لا يقبل هذه الضدّيّة، مع أنه يتفهم دوافعها. فيتساءل قائلاً: «هل من المعقول حقاً أن تكون جاذبية الأفق الميتافيزيقي متلازمة مع حجابيّة مطلقة حول مضمونه؟ وهل العقل خالٍ تماماً من أي قدرة على مقاربة منهجية لأسئلة لا يمكن ردّها؟ هل يستحيل مطلقاً أن نفتح ثغرة في سرية الشيء الميتافيزيقي؟ وما معنى أن يكون العقل قادراً على طرح أسئلة ميتافيزيقية وأن يكون عاجزاً عجزاً كاملاً عن الاجابة عنها، وأن يصر على طرحها مع عجزه عن حلها؟» (ص 309). تأتي إجابة نصار واضحة وفي غاية الدقة. فهو لا يريد أن يثير مسألة قدرة العقل من منظار كانطي عام. ولكنه يود إثارة نفس الأسئلة من منظار الاختبار الشخصي أو التجربة أو الخبرة الشخصية لمعنى الوجود عند كل إنسان ويربطه بالأفق الميتافيزيقي. وهكذا يصبح البحث عن معنى وجودي ناقصاً وغير تام ما لم يقترن بالبحث عن وجودي على مستوى الأفق الميتافيزيقي الذي هو أقصى الآفاق. الأفق الميتافيزيقي ينأى عن كل الحقول النفعية المتعلقة بوجودي وكفاحي ككائن اجتماعي يهمه أن يحيا ويعيش.

على هذا المستوى، يجب أن أطرح أسئلة عن وجودي بذاته ووجود الكون بذاته. ولا يمكنني أن أجيب عن هذه الأسئلة من دون الإجابة عن أصل الوجود بذاته. وهذا يعني أن الاختبار الشخصي مرتبط ضرورة بالأفق الميتافيزيقي الذي يثير السؤال الأقصى أهمية ألا وهو السؤال عن وجود الله.  يقدم نصار نظريته في الخلق، قائلاً إن الوجود لم يكن بالصدفة ولا من العدم. «إن إيجاد الوجود المطلق للوجود المتعين إنما هو إيجاد من ذاته (التشديد مضاف). وذلك هو الخلق الميتافيزيقي الفائق إطلاقاً. إنه خلق، لأن الخلق إيجاد من الذات، كإيجاد الفكر للفكرة، قبل أن يدل على إيجاد أشياء متميزة بعظمتها المدهشة، وهو ميتافيزيقي فائق إطلاقاً، لأن الموجد هو المطلق بالذات» (ص 355).

إن مهمة تعليل وجود الكون ترجع إلى الفلسفة، ونظرية نصار تقول إن الله هو ذلك الوجود المطلق وهو خالق الكون من ذاته. وبما أن العلم الآن يقول إن الكون طاقة، فإن تلك الطاقة أتت من الله الوجود المطلق أو الطاقة المطلقة. الكون جزء من طاقة الله فقط. إنه هبة من الله. وبالتالي لا يحل الله في الكون، كما تقول نظرية الحلولية، ولا يكون تاريخ الكون تأريخاً لوجود الله، كما تقول بعض المذاهب الدينية والفلسفية. وهنا يطرح نصار السؤال الطبيعي الذي يجول في ذهن كل قارئ: «كيف يمد الوجود المطلق الموجودات المتعينة (أي الكون) بالوجود الذي لها؟» (ص 353) وإجابته واضحة. «السبيل الوحيد المتاح لنا من أجل أن نلمح لمحاً ما وراء الحجاب هو تحليل فعل الإيجاد» (ص 353). فعقلنا وأدوات الإنسان المعرفية عاجزة عن المعرفة الكاملة، ولهذا يجب أن نكتفي بالافتراضات والاقتراحات. وبهذا يرد على كانط، قائلاً إن هناك قدراً كبيراً من الحجابيّة، ولكنها ليست حجابية مطلقة.

إن جاذبية الأسئلة الميتافيزيقية التي يطرحها الإنسان على مستوى الأفق الميتافيزيقي لا تبقى دونما إجابة. يمكن العقل البشري أن يصل إلى إجابات غير كاملة، ولكنها إجابات، وليس هذا بالشيء اليسير. إن تحليل نصار لفعل الإيجاد إنما هو خير دليل على قدرة العقل تلك، وهو تحليل فلسفي منسجم، رغم أن صحة ذلك التحليل لا يمكن إثباتها علمياً أو برهانياً. ولكنه مقارنة بالمعارف الثابتة والمتداولة في التراث التاريخي المتجلي في المعارف العلمية والفلسفية والدينية عن الله والكون، ولكنه لا يتناقض معها أيضاً. وما دام تفسير نصار لا يتناقض أو يتضارب مع نفسه ولا مع تلك المعارف ومشتقاتها، فإن حظ نظريته من الصحة والقبول عال جداً. فهي مبنية على فيزياء الكوانتم ولا تقدم أي تفسير للكون وأصله متناقض معها. كما لا تتناقض مع ذاتها فلسفياً ولا تتنكر لوجود الله دينياً. إن مبدع الكون هو الله، وعظمة قدرته وطاقته لا يحدها عقل إنسان. وهي أصل وسبب إبداع الطاقة الكونية وعظمتها. والجميل في هذه النظرية شرطان لا مفر منهما: أولهما، لا يمكن للإنسان أن يبلغ كماله من دون أن يتسامى ويشترك مع الله والكون والخليقة في صنع الحياة واستمراريتها، وثانيهما أن يجعل الإنسان الوعي بهذه الحقيقة جزءاً معرفياً أو فلسفياً من خبرته الشخصية.

يضع الشرط الثاني الذي يدعو إلى تعظيم دور الفلسفة والنقد الفلسفي في موقع التضارب مع النظرة المادية السائدة في الجامعات في أنحاء متعددة من العالم، التي تدعو إلى تقليص لا بل تغييب دور الفلسفة وربما إخراجها من البرامج الجامعية، إما لعدم أهميتها المادية أو لعدم جدواها الاقتصادية أو خوفاً من تأثيرها السلبي اجتماعياً. إنني أوافق نصار في وجهة نظره هذه، مؤكداً أن الفلسفة تؤدي دوراً عظيماً جداً في تسامي أو رفع مستوى الخبرة الذاتية للإنسان. ولا أجد كسباً كبيراً في إجراء مسح ميداني أو دراسات علمية لتحديد منافع دراسة الفلسفة في التعليم العالي أو الجامعي، لأن نصار يضع نموذجاً لإدخال الفلسفة في البرامج التعليمية المهتمة ببناء شخصية الفرد وتنمية اختباره الشخصي أو خبرته الشخصية، اشتقه من نظرياته في الخلق والوجود والحياة والإنسان. وبالتالي لا يحتاج إلى دراسات إضافية، اجتماعية وغيرها، لإثبات مقولته بضرورة تعليم الفلسفة وأهميتها في الحياة الشخصية.

من يتبصر في نظرية نصار هذه، لا بد من أن يتساءل عمّا يحصل في الخبرة الشخصية، في نفوس وعقول الكثير من الطلبة الذين تخرجهم هذه الجامعات التربوية العالمية أو حتى المدارس عموماً؟ إن هناك ظاهرة واسعة الانتشار في دول كثيرة من العالم، ولا أظن أن علماء الاجتماع بغفلة عنها. وربما ظهرت نتيجة تقليص دور الفلسفة وتغييبها عن متطلبات التعليم الجامعي العالي، أسوأ كثيراً من التخوف من إبقائها في البرامج الجامعية. فتغييب التعليم الفلسفي، وبخاصة الفلسفة التي يحدد أبعادها نصار، عن البرامج الدراسية، قد يكون من الأسباب الهامة لضياع الفرد وانعدام الأفق أمامه وانعدام الثقة بنفسه وحرمانه عدم التبصر بنزعة التسامي الموهوبة له من الله.

لا تفوت نصار ملاحظة هذه الظاهرة، فيفرد لها تحليلاً مهماً يتحدث فيه عن «سياسة التفريد التي تقوم على تقطيع الأوصال بين الأفراد تقطيعاً شيطانياً يهدف إلى جعلهم أفراداً منعزلين مستوحشين، تحكم علاقاتهم اعتبارات براغماتيكية محضة، مترجحة بين الحيلة والعنف» (التشديد مضاف) (ص 108). إن من يلق نظرة على الكثير من الأجيال المتخرّجة حديثاً في جامعاتنا، وغيرها من النشء عامة، يصدمه انشغالها المتطرف بالحرية الفردية، والانكفاء المغالي على الذاتية، والتركيز القاتل على الجسد، والعمل على إعادة رسمه وتشكيله وهندسته بتابوهات أسطورية وحتى بعمليات جراحية لا نهاية لها. فهل يكون مستبعداً أن يقود الاندفاع المتزايد وراء النفع المادي والانسجام الاقتصادي والطلب الوظائفي من الأسباب الأساسية التي تسهم في إنتاج أفراد تخاف الحياة، وترتعد من مجرد التفكير في الاشتراك في صناعة الحياة ودعم استمرايتها، الذي يسميه نصار مكمن المعنى من الوجود الإنساني؟

إنني اعتبر أن مهمة دراسة كتاب فلسفي تتمحور حول إرشاد القارئ المهتم إلى مشاكل عالجها المؤلف ووجدها خطيرة، والتعليق عليها، مشيراً إلى بعض أهم النواحي الإيجابية والإبداعية أو الابتكارية في الكتاب، من دون إغفال الإشارة إلى نواقص أو هفوات، إن وجدت. لقد عالجت أعلاه أهم تلك المسائل الفلسفية في نظري والتي عالجها المؤلف بجدِّ وبراعة وابتكارية في كتابه النور والمعنى. وفي ما يلي سأتحدث عن أسلوب نصار الفريد، ولكن من دون إسهاب، تاركاً مجالاً أمام القارئ كي يكتشف أبعاد ذلك الأسلوب وجماليته بنفسه. لذلك سأكتفي بالإشادة بأسلوب نصار العقلاني الواضح والسهل والجميل. ويظهر الجمال في طريقة المؤلف التحليلية والتفسيرية والتعليلية والتأصيلية كما في طريقته في المحاججة والحوار واستخدام الأدلة ببراعة ولباقة منطقية فائقة.

يمتلك نصار ناصية دفة اللغة العربية، فيبحر بها بمهارة فائقة ويثبت مطواعيتها للتعبير عن أدق المسائل الفلسفية وأكثرها تجريداً. ويجيد الاشتقاقات اللغوية والفلسفية المناسبة والمبتكرة للتعبير عن أفكاره بدقة ووضوح وسهولة. فتتدفق التعابير الفلسفية من قلمه كأنها شلالات تتدفق من قلب جبال لبنان الشمّاء فتسقي الحدائق الفلسفية، التي أصابها الذبول منذ ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن سينا والفارابي والغزالي وسواهم من عباقرة تاريخنا الفلسفي. وبهذا يؤكد للملأ أهلية اللغة العربية وجدارتها لمواكبة كل المدارس الفلسفية قديمة وحديثة تعليماً وابتكاراً. ويمتاز أسلوبه بسمة أخرى، ألا وهي التسلسل المنطقي في بناء وتقديم أفكاره. فلا يضع فكرة إلا إذا كان من الواجب لها أن تكون في ذلك المكان بالذات، أي أنها تستحق أن تكون في ذلك المكان، كما يجب أن تكون ملازمة لما سبقها وما تبعها. ويضع كل فكرة في فقرة أو قسم مرقم بالتسلسل. ويفصل الأفكار إلى فصول وأجزاء متلازمة ومتتابعة منطقياً. فيأتي الكتاب وحدة منطقية كما لو كان كتاب منطق أو رياضيات أو هندسة. وأشبِّه كتاب النور والمعنى بشجرة وارفة الظلال تقع على مكان عال، تتدلى منها الأفكار كثمار فكرية شهية منيرة تضيء طريق من يسعى إليها. وليست الكلمات والجمل التي يستخدمها نصار هي مجرد أحرف تتشابك مع بعضها لتتوافق مع معاني القواميس والمعاجم، وإنما هي أزهار بألوان مختلفة وباقات من نور تختزن في داخلها طاقات مجسدة للطاقة الكونية العظمى. فالقارئ الواعي لا يقرأ مجرد كلمات وجمل كما في الكتب الأخرى، بل يتمثلها أفكاراً ونظريات وتأملات تختزن في ثناياها من الطاقة الكونية ما يكفي لإزالة تشنُّجه الوجودي وتساؤلاته الفلسفية ويقود إلى انبساطه الكوني، فيتقوى ويتغذى بها، فتنمو قواه الفكرية وتتعاظم مداركه، تماماً كما تغذي الفاكهة والثمار الشهية والطيبة، التي تختزن طاقة الشمس ونورها، الجسد وقواه. إن في الكتاب طاقة فكرية تختزن عصارة تفكير نصار الطويل وتأمله وتفكره. فعندما نقرأ الكتاب، يستحيل علينا ألا نتأثر بتلك الأفكار ونستفيد منها، فتنمي اختبارنا الشخصي أو خبرتنا العملية، وهو أحد الشرطين اللذين تحدثت عنهما سابقاً.

ولا أريد أن أنهي هذه الدراسة من دون الإشارة إلى الطريقة التي قدم فيها نصار حلاً فلسفياً وعلمياً مقنعاً لمسألة العلاقة بين المادة والروح أو العقل، اشتقه من نظريته في الطاقة الكونية والوجود المطلق. يدرس كل طلبة الفلسفة منذ نعومة أظافرهم مشكلة المادة والروح والثنائية بين الجسد والعقل التي تعود إلى العهود الأولى من التفكير والتأمل الفلسفي. وتتنازع مدرستان رئيسيتان تفسير المادة والروح، هما: المادية والروحية أو العقلانية. ولا يزال الجدل قائماً منذ القديم حول أسبقية المادة أم أسبقية الروح. ولكن في القرن الماضي، ظهرت محاولات جديدة، متأثرة بالتقدم العلمي في مجالَي فيزياء الكوانتم وعلم النفس، تدعو إلى حيادية يمكن إرجاع المادة والعقل أو الروح إليها. وقدم برتراند راسل نسخة من هذه الأحادية أسماها الأحايدة المحادية التي زعم فيها أن المادة والروح أو العقل يمكن تركيبهما منطقياً من شيء محايد ليس هو مادة ولا روحاً. ونصار يتوصل إلى حل مشابه لهذه الثنائية، قائلاً إنه ليس من الحكمة ترجيع المادة إلى العقل أو العقل إلى المادة، ما دام كلٌّ منهما هو نوع من الطاقة الكونية. فالإنسان في نظر نصار يتكون من ثلاثة أنواع من الطاقة: الطاقة الفيزيائية – الكيميائية، وأفضل تسميتها «الطاقة المحرّكة»، تتعلق بالجسد ووظائفه كالقلب والدورة الدموية وسواها، والطاقة البيولوجية، وأسميها «الطاقة المنمّية أو التنموية»، المتعلقة بالميول والشهوات والرغائب، والطاقة الروحية الخلاقة أو الطاقة الفكرية التي تتعلق بالعقل وأدواته. وليست الطاقة الواحدة مصدراً أو نتاجاً للطاقة أو الطاقات الأخرى ليمكن إرجاع الواحدة إلى الأخرى. «وإنما الكل مصدره الطاقة الكونية، بمقدار ما هي ظاهرة لنا، ومتحققة بظهورها على مبدأ الانبثاق… فما دمنا لا نعرف ما هي، في نهاية النهايات، حقيقة المادة، ولا نعرف أيضاً ما هي، في نهاية النهايات، حقيقة الروح، فليس من اللامعقول أن نرجع بالكل إلى الطاقة الكونية من دون إصرار تعسفي على ترجيع أنواعها الأصيلة إلى نوع واحد منها، حيث إن وحدة تلك الأنواع مكفولة في وحدة الطاقة الكونية وليس في واحد من أنواعها» (ص 377).

وهكذا يجد نصار حلاً لمسألة العلاقة بين المادة والروح وتفسيراً علمياً للمادة والروح أو العقل؛ فيرجع كل طاقة في الإنسان إلى مصدرها الأول الذي هو الطاقة الكونية التي هي الوجود المطلق أي الله مصدر كل طاقة في الكون. الله هو الطاقة الأحادية السرمدية. لقد كان الله تعالى وليس معه شيء ثم خلق الكون من ذاته. ومع وجود الكون بدأ الزمان، الذي سينتهي بانتهاء الكون، إذا ما انتهى. أما في ما يخص الاختبار الشخصي، فقد يحدث مثلاً أن تطغى الطاقة المادية أو القيم المادية على الوعي التجاوزي والروح الخلاق في الطاقة الروحية عند فرد ما أو جماعة ما أو في عصر ما فتصبح الطاقة الروحية خاضعة «بمكوناتها الفكرية والشعورية والإدارية للطاقة المادية بمكوناتها الفيزيائية والبيولوجية والاقتصادية. أليس تأليه المال كافياً للدلالة على تلك التحولات؟» (ص 394).

لا يعتقد نصار أن هذا الطغيان المادي سيدوم في النهاية، لأن الصراع الأساسي في الاختبار الشخصي لمعنى الحياة إنما أساسه في الروح الإنسانية بين الروح الخلّاق وروح الجبروت. ولكن في النهاية، كما أشرت سابقاً، سينتصر الروح الخلاق المتمثل بسعي الإنسان وكفاحه للوصول إلى الكمال الإنساني المتسامي أكسيولوجياً بالقيم الكونية العليا. فإذا كان لا بد من اتخاذ موقف من المادة والروح أو بين روح الجبروت والروح الخلّاق، فنصار لا يتركنا نخمن موقفه: فهو مع الأمل على رؤوس السطوح. النصر هو للروح الخلّاق الذي يمثل الطاقة الكونية الابداعية. ولا ننسى أن الكتاب عنوانه: النور والمعنى: تأملات على ضفاف الأمل.

5 – ومن أين يأتي الأمل؟

من يود سماع كلمة نقد مني عن الكتاب، فلن أحرمه تلك اللذة على قلتها. تمنيت لو أن في الكتاب فهرساً للأعلام والمفردات يسهّل عملية الرجوع إلى موضوعاته، ولكن من السهل تفادي هذه الحاجة في طبعات قادمة. وأود التعليق على ميل نصار المحيِّر إلى كفة الأمل، ورغبته في الجلوس على ضفاف الأمل. فأسأل: من أين يأتي هذا الأمل؟ فالعالم لم يكن يوماً سوى مسرح، على الأقل، لساسة يفتحون عليه جبهات لا تحصى لتمزيقه! وسقراط نفسه ذهب ضحية هذه العربدة السياسية. إن القيبيادس أحب أن يسمع مواعظ سقراط، ولكن من دون أن يغير في مفهومه للعدالة البتّة. يود سقراط أن يكون السياسي عادلاً. ويسطرّ أفلاطون تلميذه آلاف الصفحات في حواراته وجمهوريته ليعلم أن العدالة تعطي لكل ذي حق حقه وتعامل الناس بالتساوي. ولكن لا شيء من ذلك يغير رأي القيبيادس، الذي يلح على أن العدل هو نفع الذات والصديق والقريب، وإيقاع الأذى والضرر بالعدو. أي أن في السياسة، المصلحة الشخصية أو المصلحة القومية هي فوق كل اعتبار.

وفي عالم هذا ديدنه، أين هو موقع الأمل وأين هي ضفافه؟ لقد شهد القرن الماضي حربين عالميتين مدمرتين أودتا بحياة ما يقارب من مئة مليون نسمة، ما عدا الجرحى ومن نزلت بهم إعاقات دائمة والدمار الاقتصادي والخراب الاجتماعي الكاسح. وها هو الشرق الأوسط يعاد رسم خريطته بالحديد والنار، وسط دمار هائل وسقوط آلاف الضحايا وتهجير ملايين البشر. فهل الأمل إذاً ضعيف بأن العالم لن يقع قريباً فريسة حرب عالمية ثالثة ربما لا تبقي ولا تذر؟ ظني أنه ما دام الساسة هم أنفسهم، كما كانوا منذ آلاف السنين، ورأيهم في العدالة لم يتغير ومصلحتهم القومية لم تزل فوق كل اعتبار، والسلاح في أيديهم الآن أمضى وأفتك من أي وقت مضى، ما دامت الأمور هكذا، فمن أين للأمل أن يشق طريقه إلى خشبة مسرح التاريخ؟ قد تنشب حرب نووية جديدة تسحق الجنس البشري بأكمله أو جله، إذا ما قيض لحفنة من البشرية حظ البقاء. فعقلي يحرم علي الاستجارة بالأمل، لأنه أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار. فأتعجب، من ناحية، كيف يركن نصار للأمل؟ ولكن قلبي وإيماني، من ناحية أخرى، يأبيا عليّ إلا أن أشاركه هذا الأمل.

ولا يغربن عن بالنا أن نصار يقول إن الله خلق العالم وإن العقل البشري لا يستطيع إدراك معارف الله وفهم غايته من خلقه للعالم. ولهذا لن يستطيع جبروت الإنسان أن يدمر ما خلقه الله، وهو إلى الآن لم يستطع ذلك منذ بداية التاريخ. ولن يستطيع، لأن هناك الروح الخلاق، الذي يتحدث عنه نصار، يعتمر في نفوس الناس الخيّرين الطيبين الذين يقع على عاتقهم إعادة البناء وسيتابعون صناعة الحياة وبناء الإنسان النزوع نحو التسامي والقيم الكونية، ليبقى حصرمة في أعين القيبيادس وأمثاله. وفي النهاية سيندثر محبو الجبروت والدمار في نيران دمارهم ويحيا السقراطيون في الأمل ومتابعة مسيرة الحياة في التأنسن والتقدم والبناء. ولن يكون مصير الجنس البشري مصير الديناصورات التي انقرضت، لأن في الإنسان ملكة العقل، تلك الطاقة الفكرية التي هي هبة من الطاقة الكونية العظمى، والتي تميزه عن سائر المخلوقات وتتسامى به نحو الكمال والاكتمال.

 

قد يهمكم أيضاً  الذاتية والوعي الفلسفي بالوجود في نظرات ناصيف نصار

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسفة #فكر #ناصيف_نصار #كتب #دراسات #كتاب_النور_والمعنى #المادة_والروح #الفيلسوف_ناصيف_نصّار