1 – ما هو المجتمع المدني عموماً؟

بعد مُراجعة أكثر من عشرين تعريفاً «للمجتمع المدني» (Civil Society)، استقر اختياري على أن المجتمع المدني هو المُبادرات والتجمعات التي تنشأ بالإرادة الطوعية الحُرة للأفراد، في الفضاء العام بين الأسرة والدولة.

فالأفراد عند الميلاد لا يختارون الأسرة (العائلة) التي يولدون فيها لأبوين لم يختارونهما، وكذلك لا يختارون الكيان السياسي الذي ينفرد بالحق في استخدام القوة على الإقليم الذي يعيشون فيه، والذي يُسمى في العصور الحديثة باسم «الدولة».

والمجتمع المدني بهذا التعريف يشمل الجمعيات الخيرية والتنموية، والأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية، والاتحادات والتعاونيات، والنقابات والأحزاب السياسية.

وهناك من يُميّزون بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، على أساس أن الأخير، أي المجتمع السياسي، له أهداف مُحددة، وهي الوصول إلى السُلطة تنافسياً أو تحالفياً، أو التأثير في السُلطة القائمة في المجتمع بالفعل. وبهذا التحديد يُقصرون المجتمع السياسي على الأحزاب السياسية. ولا ضير في ذلك. وإن كنا ننحو إلى تصنيفها في المجتمع المدني، ما دام تأسيس هذه الأحزاب أو الانضمام إليها يتم طوعية وبالإرادة الحُرة للأفراد، أو المواطنين.

المُهم لموضوع هذا البحث أن المجتمع المدني، بأفراده ومُنظماته هو المسؤول عن تفجير ثورات الربيع العربي ـ في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية.

ففي مصر كانت حركة كفاية هي رأس الحربة في إسقاط مُبارك، وكانت حركة «تمرّد» (28 مليون توقيع) هي رأس الحربة في إسقاط الرئيس الإخواني محمد مُرسي.

2 – الثورات كبراكين اجتماعية

رغم أن للثورات أسباباً اجتماعية عميقة، قد تمتد إلى عشرات السنين، مثل سوء توزيع الثروة، وتفشي الفساد الاجتماعي، والاستبداد السياسي، وهو ما يؤدي بدوره إلى انتشار عدم الرضا (Social Discontent) الصامت، الذي يتطوّر بدوره إلى سخط، يبدأ في التعبير عن نفسه في سلوكيات جماعية كالتظاهرات والإضرابات المُتفرقة والمُتناثرة؛ وهي ما نرصده نحن كعلماء اجتماعيين، أو كإعلاميين ومُثقفين وروائيين. وهذه تمثل إنذارات أو إرهاصات مُبكرة. فإذا غفل النظام الحاكم أو تغافل عن رؤيتها والتعامل المُبكر معها، فإنها إن آجـلاً أو علاجـلاً تنفجر كبركان.

وكما في ظاهرة البراكين الطبيعية، التي تقذف بحمامها المُشتعلة، وسوائلها المُلتهبة، من مركز البُركان إلى حوافه والمناطق المُحيطة به مُباشرة، فكذلك الثورات البشرية. وهو ما حدث في ثورات الربيع العربي.

وكذلك مثل البراكين، التي تندفع منها السوائل والغازات الغزيرة، والتي قد يكون بعضها نافعاً ويُفيد فإن بعضها الآخر قد يكون خانقاً أو ضاراً، أو حتى ساماً. ولذلك يُقال أن الثورات تفجر في مُجتمعانها أحسن وأسوأ ما في باطنها.

من ذلك أنه بقدر ما تنطوي عليه الثورات من عناصر إنسانية مثالية معطاءة، وعنترية واستشهادية، فإنها أيضاً تُفرز عناصر انتهازية، أو وصولية، أو جشعة، أو فاسدة. وضمن هذا الفوران البُركاني يختلط الحابل بالنابل، والطيب بالشرير.

وكذلك تختل القيم والمعايير والسلوكيات، ويُصاب الكثيرين بمشاعر غُربة واستغراب، وعدم ثقة، لا تجاه الآخرين من حولهم فقط، ولكن تجاه أنفسهم أيضاً. وهو ما يُسميه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم الأنومية Anomie، أو «الأنامالية».

3 – الثورات كفُرص للمُهمشين لشغل موقع ملحوظ على المسرح العام

لم تبدأ الثورة التونسية في العاصمة تونس، أو في أي من مُدنها الكُبرى، مثل صفاكس وسوسة، ولكن في مدينة هامشية صغيرة هي بلدة بوعزيزي. وكان مُفجّرها شاب جامعي عاطل عن العمل، هو محمد، الذي عُرف فيما بعد باسم بلدته، أي محمد البوعزيزي، الذي كان يبيع مأكولات شعبية على عربة صغيرة، يجرّها بنفسه، حيث استوقفته شُرطية من البلدية ونهرته، ثم صفعته على وجهه. وكان إحساس بالمذلّة والمهانة أمام آخرين، هو الذي دفعه إلى إشعال النار في نفسه. وهو الأمر الذي استفز شباب البلدة، ثم كهولها وشيوخها احتجاجاً على ما حدث لابنهم الشاب محمد بوعزيزي، الذي جسّم أحد الأسباب الهيكلية للغضب الجماهيري، الذي تفاعل مع عوامل أخرى، ليجعل من ذلك الحادث العارض الشرارة التي أشعلت حريقاً مُجتمعياً واسعاً، وأدت في غضون عدة أيام إلى اضطرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، إلى التخلي عن السُلطة والهروب من البلاد، إلى الجارة ليبيا، أولاً، ثم بعد ذلك إلى السعودية، كلاجئ سياسي. وكانت العبارة التي أطلقها الرئيس زين العابدين بن علي، موجّهة إلى الشعب التونسي عند تخليه عن السُلطة «الآن… فهمتكم!» أي أنه لم يبدأ فهم شعبه إلا بعد عشرين سنة في السُلطة. وهي عبارة أشبه بتلك التي قالتها ماري أنطونيت، ملكة فرنسا، حينما سمعت من شُرفة قصرها الملكي الجماهير الجامعة تُطالب بالخُبز، «لماذا لا يأكلون الكعك!؟» ففي الحالتين، وفي كثير مثلهما، ثمة عُزلة صارخة بين أهل السُلطة، من ناحية، والبؤساء والمُعذبين في الأرض من أبناء شعوبهم، من ناحية أخرى.

كما أن حادثاً مُماثـلاً لبوعزيزي في تونس، كان الشرارة الأولى في سلسلة من الأحداث التي بلغت ذروتها في مصر، في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني/يناير 2011، أي بعد الثورة التونسية بأقل من شهر واحد. وكان أيضاً نتيجة اصطدام أحد الشباب بأحد رجال الشُرطة المصرية، وهو ما أدى إلى تعذيب الشاب خالد سعيد فأفضى ذلك إلى وفاته، وباءت مُحاولة ساذجة من جهاز الشُرطة المصرية بالتستر على الحادث، وادعاء أن الوفاة جاءت نتيجة ابتلاع خالد سعيد لكمية كبيرة من المُخدرات. وخرجت تظاهرات بدأت في الإسكندرية، مدينة خالد سعيد، وانتشرت في عدة مُدن، وهي تحمل لافتات «كلنا خالد سعيد» وتُطالب بالقصاص العادل.. ووصل حجم تلك التظاهرات إلى ما يقرب من المليون، في ميدان التحرير بالقاهرة. وانتهت بإسقاط نظام الرئيس المصري حسني مبارك.

وهنا نتعلم من الدراسة الكلاسيكية للمؤرخ الاجتماعي كرن برينتون (Crane Brinton)، تشريح الثورة (Anatomy of Revolution) الذي صدر عام 1965. والذي استعرض فيه الثورات الأربع الكُبرى:

1ـ الثورة الإنكليزية 16402ـ الثورة الأمريكية 1776
3ـ الثورة الفرنسية 17894ـ الثورة الروسية 1914

 

ونُضيف نحن إليها ثوراتنا العربية، والتي سُميت بثورات الربيع العربي:

1ـ التونسية، كانون الأول/ديسمبر 20102ـ المصرية، كانون الثاني/يناير 2011
3ـ الليبية، آذار/مارس 20114ـ البحرينية 2011
5ـ اليمنية 20126ـ السورية 2011 – 2017

 

هذه إلى جانب انتفاضات ثورية تم إجهاضها بالقوة من جانب النظام القائم أو حلُفائه من دول الجوار (البحرين)، أو بما يمكن وصفه تجاوزاً الرشى الجماعية ـ كما حدث في بُلدان مجلس التعاون الخليجي – السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات وعُمان – التي قرر حُكامها صرف مُكافآت مالية مُجزية لمواطنيهم من ناحية، والبدء في إصلاحات سياسية واجتماعية من ناحية أخرى.

4 – الثورة والتشاركية فيما يُشبه المدينة الفاضلة

حينما مضت الأيام الأولى للثورة المصرية، وظل معظم المُشاركين فيها من أبناء مصر في الميادين، هرع آباؤهم وأمهاتهم إلى تلك الميادين، للاطمئنان عليهم، أو تزويدهم بالمأكولات والملبوسات. والطريف في الأمر أن كثيراً من هؤلاء الآباء والأمهات في غضون البحث عن الأبناء، والتواصل معهم، انفعلوا بالحدث، وقرر عدد كبير منهم الانضمام لصفوف المُحتجين من الأبناء، إن لم يكن كل الوقت، فبعض الوقت. من ذلك أن بعضهم من العاملين في المهن الحُرة أو التجارة والصناعة والمؤسسات العامة والخاصة، كانوا ينتهون من أعمالهم المُعتادة خلال أيام الأسبوع، ثم ينضمون إلى الأبناء في المساء وعطلة نهاية الأسبوع.

ومع نهاية الأسبوع الأول للتظاهرات الاحتجاجية كانت ميادين مصر قد تحوّلت جميعاً لما يُشبه المُدن الفاضلة. من ذلك أن كل من كان يأتيه مأكولات أو مشروبات من ذويه، كان يتقاسمها فيها زُملاؤه ورفاقه في نفس المُربع أو في نفس الخيمة، حيث تبرع بعض رجال الأعمال وبعض الميسورين بخيم وبطاطين ومأكولات لشباب التحرير.

وكان هذا السلوك التشاركي تلقائياً، بلا وعظ أو إرشاد، أو أي فذلكات أيديولوجية. وبمعنى من المعاني تحول المشهد في ميادين مصر الكُبرى إلى حلقات نقاشية وفنية وأدبية، وصدحت الموسيقى والأغاني لأشهر المُطربين والمُطربات. كما أن عديد ممن كانوا في تلك الميادين بادروا بعرض إبداعاتهم شعراً وغناءً وتمثيـلاً. وكذلك تبادلوا نوبات الحراسة، والإمدادات والطهي، والتنظيف.

وأقام طلبة الطب والصيدلة والتمريض عدة مستشفيات ميدانية وخدمات إسعافية، لا في وسط الميدان فقط، ولكن عند تقاطع الشوارع الستة أيضاً التي تفضي إلى ميدان التحرير. وحدث نفس الشيء في ميدان سيدي جابر بالإسكندرية، وميدان المُحافظة في المنصورة، ومثيلاتها في كل المُدن المصرية.

باختصار، كانت تجربة الأسابيع الثلاثة لثورة يناير تجربة فريدة في حياة جيلين من أولئك الذين شاركوا فيها من المصريين.

5 – الثورة والوحدة الوطنية

إن تعبير الوحدة الوطنية في مصر، منذ عام 1919، يعني العلاقة التضامنية بين المسلمين والأقباط. وقد كانت العلاقة بين المسلمين والأقباط المسيحيين في مصر منذ الفتح العربي الإسلامي في القرن الثامن الميلادي، وإلى القرن الثامن عشر، هي علاقة الغالب المُتميز بالمغلوب الخاضع، رغم أن المعلويين الخاضعين الأقباط كانوا هم، وظلوا هم أغلبية السُكان في مصر خلال القرون الست التالية، أي إلى القرن الرابع عشر الميلادي. ذلك أنه فقط بعد أن أخذت أعداد مُتزايدة من أقباط مصر المسيحيين وتتحول إلى الإسلام، إما اقتناعاً وإما اضطراراً للإفلات من الجزية، وإما طموحاً لتولي وظائف عامة كانت مقصورة بُحكم الشريعة على المسلمين فقط ـ مثل بيت المال، والقضاء، والإمامة، والجندية.

ومع الحملة الفرنسية التي قادها نابليون وغزت مصر، في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت مبادئ وشعارات الثورة الفرنسية تجد طريقها إلى نُخبة وعموم المصريين. ثم تأكد ذلك مع البعثات التي أوفدها محمد علي إلى أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. حيث بدأت تدخل اللغة العربية المصراوية ألفاظ ومفاهيم جديدة مثل الوطن، والأمة، والمواطنة، والمُساواة في الحقوق والواجبات، والحُرية، والديمقراطية، والدستور. ومع نهاية القرن التاسع عشر، كان الأقباط المصريون قد خرجوا من مناطقهم السكنية، وهامشيتهم الاجتماعية والسياسية، وبدأوا يتقلّدون وظائف عامة في مؤسسات الدولة الحديثة التي بدأها محمد علي وكرّسها حفيده الخديوي إسماعيل، وخُلفاؤهما. ومع ذلك ظلّت هناك شروخ في الثقافة الشعبية تجاه الأقباط، تتسع أو تضيق طبقاً للضغوط الاقتصادية، أو الاستغلال السياسي.

من ذلك أن قوى الهيمنة الأجنبية الطامعة في مصر، كان يحلو لها توسيع هذا الشرخ بين المسلمين والأقباط. وكان الاحتلال الإنكليزي لمصر أحد المصادر الرئيسية لتوسيع هذا الشرخ لتفتيت مُقاومة المصريين للاحتلال، عمـلاً بالقانون الكلاسيكي «فرّق تسُد» (Divide and Rule) الذي مكّن بريطانيا أن تحكم الهند، مثـلاً، التي كان سُكانها أكثر من مليون، لحوالي 300 سنة بقوة احتلال لم تتجاوز عشرة آلاف جُندي. نعم، استغلت بريطانيا التنوع الديني والطائفي والعِرقي في الهند لكي تؤجّج الانقسامات والصراعات الداخلية، وتقوم هي بدور الوسيط، الذي يلجأ إليه الجميع للحماية أو الإنصاف.

وقد جرّبت بريطانيا نفس المبدأ ونفس السياسة في التفرقة بين الأغلبية المُسلمة والأقلية المسيحية القبطية. وقد نجحت تلك السياسة مرة أو مرتين خلال السنوات السبعين التي احتلت فيها بريطانيا مصر. ولكن العقل الجمعي المصري بدوره استرجع أثناء احتجاجات كانون الثاني/يناير 2011، اللحظات التي حافظ فيها المصريون على وحدتهم الوطنية وأبطلوا ذلك القانون المقيت (فرّق تسد)، الذي حل محله شِعار «الدين لله والوطن للجميع». من ذلك أنه خلال أسابيع الثورة الثلاثة، كان المصريون المسلمون يُقيمون صلاة الجمعة في الميادين، ويحرسهم المصريون الأقباط. وقد حدث العكس في أيام الأحد، حيث قام قساوسة بإجراء قدّاس مُنتظم في ظل حراسة إخوانهم المسلمين.

أكثر من ذلك فتحت الكنيسة الإنجيلية، قرب ميدان التحرير أبوابها وساحاتها ودورات مياهها لاستخدامات ثوار التحرير. وهكذا تجلت الوحدة الوطنية المصرية في أبهى صورها من جديد.

6 – فتح السجون وهروب المساجين

استعان الفريق الأكثر تنظيماً في الساحة المصرية، وهم جماعة الإخوان المسلمين بفرعهم في فلسطين، وهو تنظيم حماس، الذي يحكم قطاع غزة اللصيق بالأراضي المصرية من ناحية شبه جزيرة سيناء للحضور بسلاحهم وجرّافاتهم لاقتحام عدد من السجون المصرية، حيث كان يوجد لهم فيها عدد من أعضاء الجماعة المحكوم عليهم في قضايا أو المحبوسين تحت ذمّة التحقيق استعداداً للإحالة للقضاء.

وفي غياب قوات الشُرطة والأمن المركزي التي كانت قد انسحبت، استطاع القادمون من غزة بالفعل تحرير زُملاءهم من السجون، الذين خرج معهم أيضاً مسجونون آخرون انتهزوا فُرصة الهرج والمرج. ولما كان ذلك تطوراً مُفاجئاً بالنسبة للكثيرين منهم، من غير الإخوان المسلمين، فإنهم هاموا على وجوههم وعلى أقدامهم في الطُرق العامة والشوارع، وأقرب المُدن والأحياء السكنية لتلك السجون.

وبلا أمن ولا ضابط ولا رباط، ارتكب عدد منهم حوادث سطو واعتداء، على المواطنين الآمنين. وحينما انتشرت تلك الأخبار، مع كل المُبالغات المتوقعة في مثل تلك الحالات، تنادى الناس بسرعة وتلقائية، وكوّنوا مجموعات حراسة داخل كل مبنى سكني، وكل حي، وكل منطقة. ووقعت المسؤولية في معظمها على صبية لم يتجاوز معظمهم الخامسة عشرة من أعمارهم.

وهكذا ترتب على انعدام الضبط والربط من جانب المؤسسات المعنية ظهور تنظيمات تلقائية لملء الفراغ والاضطلاع بمهام الدولة الغائبة أو المُعطلة. ورغم أن أشياء مُشابهة حدثت في لبنان، سواء أثناء الحرب الأهلية أو أثناء الاحتلال الإسرائيلي، فإن الأمر كان جديداً تماماً بالنسبة للصبية والشبيبة المصرية. ومن الواضح أن التجربة غير المُخططة قد تركت آثاراً إيجابية عديدة في من شاركوا فيها. وهم يتحدثون عنها، حتى بعد مرور عدة سنوات، بكثير من الفخر والرومانسية.

7 – فن الصمود في مواجهة عنفوان أنظمة الاستبداد

بقدر ما تتمتع الأنظمة العربية المسُتبدة بتكنولوجيا الكبت والتخويف والتخدير الجماعي، والتعذيب، وبيع وتسويق الأوهام، وأخيراً اللجوء إلى العُنف لفض الاحتجاجات الجماهيرية، بقدر ما تعلّم الشباب أساليب المُقاومة، من كر وفر وتعبئة وتكنولوجيا المُقاومة.

من ذلك أن التمرّس بالمُقاومة بدأ مع بداية التظاهرات احتجاجاً على الغزو الأمريكي للعِراق في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ورغم تنوع أسباب الاحتجاجات التي استمرت خلال العقد التالي إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة ساعدت الشباب على سُرعة الالتفاف حول الأساليب القمعية للأنظمة، وتحييدها أو التغلب عليها.

من ذلك أن نظام الرئيس حسني مبارك لجأ في البداية إلى أسلوب القنابل المُسيلة للدموع والإغراق بخراطيم المياه. فلما فشل الأسلوبان الكلاسيكيان لجأ النظام إلى قنابل الصوت والطيران على ارتفاعات مُنخفضة واختراق حاجز الصوت. ولكن الشباب صمدوا، بعد أن زوّدوا أنفسهم بالبصل والمياه الغازية لاتقاء تأثير الغازات والحروق. وباءت الوسيلتان بالفشل. وكذلك فشل الطيران المُنخفض وما يُصاحبه من أصوات رعدية تصم الآذان في إرهاب أو إرعاب المُتظاهرين في ميداني التحرير بالقاهرة، وسيدي جابر بالإسكندرية، وميدان المُحافظة بالمنصورة، وميدان الساعة في طنطا، وغيرها من ميادين مُدن أخرى من أسوان جنوباً إلى مرسى مطروح شمالاً.

وواقع الأمر أن انتشار العدوى الاحتجاجية كان أسرع من قُدرة نظام مُبارك على استيعابه، ناهيك بالقدرة على فضه باستخدام الوسائل التقليدية ـ وهي الإغراق بالمياه والدُخان والغاز.

ربما كان إطلاق النار يمكن أن يوفي بالغرض، ولكن جاء تحذير من البيت الأبيض، ومن هيئة الأركان الأمريكية إلى هيئة الأركان المصرية بعدم فتح النيران على المُتظاهرين، حتى لا تحدث مجزرة، وكانت أمريكا ستتحمّل جزءاً، إن لم يكن معظم مسؤوليتها، فكل وسائل فض التظاهرات وأسلحة الشُرطة والجيش مصدرها أمريكي.

وربما كانت تلك التحذيرات هي أحد أسباب انسحاب قوات الشرطة والأمن المركزي من ميادين مصر، ونزول الجيش بدبّاباته ومُصفحاته. وهنا استقبل المُتظاهرون هذه القوات بالزهور، وقدموا للجنود مما كان لديهم من مأكولات ومشروبات.

وقد ذكرت عدة مصادر، فيما بعد، أن الجيش كان في الواقع مؤيداً لتلك التظاهرات الاحتجاجية، على أمل إبطال مُخطط توريث السُلطة من حسني مبارك إلى ابنه جمال. فقد رأى قادة القوات المُسلحة نفوذ جمال مبارك يتصاعد في السنوات الثلاث السابقة ليناير 2011ـ حيث كان قد تولى أمانة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، وأتى إلى الصدارة في الحزب والحكومة كل أنصاره المُقربين، مثل أحمد نظيف، كرئيس للوزراء، وأحمد عز، كمسؤول عن لجنتي الاقتصاد والصناعة في كل من الحزب والبرلمان، فضـلاً عن صفوت الشريف كأمين عام للحزب الحاكم وكمسؤول عن الإعلام، وهو رجل استخبارات سابق.

ومع اليوم التاسع للتظاهرات كانت مطالب المُتظاهرين قد تصاعدت من طلب إقالة الحكومة وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة تحت إشراف قضائي، وإقالة وزير الداخلية، إلى المُطالبة بتغيير النظام وعزل الرئيس حسني مبارك نفسه.

وفعـلاً، مع اليوم الثاني عشر، كانت التقارير الميدانية والاستخباراتية ومن بيوت ومراكز الأبحاث الأمريكية والأوروبية، تُجمع على انتهاء صلاحية نظام مبارك. وهو ما انعكس ضغوطاً أمريكية على النظام لكي يستجيب للمطالب الشعبية المصرية، وهو ما حدث فعـلاً في اليوم الثامن عشر لتظاهرات ميدان التحرير في القاهرة، وميادين مصر الأخرى.

8 – الثورة والتحرر الجنسي

رغم أن عشرات الآلاف من الشباب الذكور والإناث وقفوا معاً خلال أيام الثورة الثمانية عشر، إلا أنه لم يذكر أحد أنه شاهد أو سمع عن حالة تحرش جنسي واحدة.

فهل كان ذلك لزُهد ملائكي أو لوازع أخلاقي صارم؟

الإجابة هي، لا هذا ولا ذاك. ولكن للانشغال الهائل والمشترك بالمعركة. لقد كان ثوار التحرير أشبه بالجنود في معركة في حرب يعتقدون أنها حرب مُقدسة. وهذا ما أكدته دراسات سابقة، وبخاصة عن الحرب العالمية الثانية، التي ظهرت في عدة مُجلدات تحت عنوان الجندي الأمريكي (The American Solider). فمن إحساس الجنود بالخطر، وحُب البقاء، مصحوبين بالتفاني لتحقيق هدف مشترك، تنشأ علاقة من نوع خاص، غير مألوفة في الحياة الطبيعية في الواقع اليومي.

ومن عشرات من تحدثت معهم في الأيام الأخيرة للثورة، وبعدها خلال الأسابيع والشهور التالية من عامي 2011 و2012، كانت الإجابات أن الشعور العام كان شعور الأخوية والزمالة المُجردة والإيثار، وهو النمط السائد والأكثر شيوعاً في الميادين العربية التي كانت بؤر تلك الثورات ـ مثل ميدان التحرير ومصطفى محمود في القاهرة، والمحطة في الإسكندرية، وساحة المُحافظة في المنصورة ومسجد البدوي في طنطا.

وفي هذه السابقات الثورية يكون الانشغال بتحقيق أهداف مشتركة هو ما يملأ الثائرين والثائرات، ويتضاءل تمييز الآخر المُجاور كذكر أو أنثى، ويتعاظم إدراكه كرفيق يجمعه عن بقية الرفاق الرغبة العارمة، لا في جسد الآخر، ولكن في التماهي والتوحد المعنوي معه. وهو ما يمكن الحديث عنه كزمالة رفاقية مُتساوية. من هنا، ما لاحظه المُراقبون الأجانب في ميادين الثورة العربية من مظاهر مُساواة سلوكية لافتة للثائرين والثائرات.

9 – الثورة وفُرص الحُب الرومانسي

ضمن تفاعلات وانفعالات وتدفق المشاعر الجماعية من أجل إسقاط النظام السياسي القائم والتطلع إلى الحكم بنظام سياسي بديل وأفضل، وفي أجواء الهتافات والنداءات والأهازيج الثورية وظهور نماذج إنسانية مُلهمة، سواء من العنترية والعطاء، أو من التضحية والنداء. وكذلك بُحكم التضامن الجماعي والتلاحم التنظيمي والقرب الجسدي، لساعات طويلة، امتدت في حالة ثورات الربيع العربي إلى أيام وأسابيع وشهور، وفي حالة سورية إلى سنوات، في هذه السياقات وفي ذلك المناخ، لا بد وأن تظهر عشرات، إن لم يكن مئات، من قصص الحب الرومانسية.

وقد رصد هذا الكاتب نفسه أكثر من عشرين حالة، قال أصحابها إنهم وقعوا في قصص حب رومانسية بدأت في ميادين الثورات العربية. ولم تكن تلك الحالات حصراً أو عيِّنة مُمثلة، ولكن التقاها الكاتب مُصادفة خلال الأعوام الست الأخيرة.

وليس ذلك بمستغرب في ضوء ما يعرفه عُلماء الاجتماع عن دور الشباب في أي ثورة. فالشباب في الواقع وعلى مر التاريخ، على الأقل في القرون الثلاثة الأخيرة التي شهدت الثورات الكُبرى وتوافرت عنها البيانات والمعلومات، الشباب هم مُحركو الثورات، وهم جنودها ووقودها. وهناك قول مأثور فحواه أن الفرد إذا كان دون عُمر الثلاثين وليس ثائراً فلا قلب له فإذا وصل إلى الأربعين وما زال ثائراً فلا عقل له.

بتعبير آخر، أنه حيث أن غالبية الثوار إن لم يكن جميعهم هم في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم فإنهم في الشريحة العمرية المُمهدة للحب وللزواج. وجاءت لحظات الثورات العربية للإسراع بتحويل هذا التهيؤ إلى واقع فعلي.

10 – اختطاف الثورات

تشارك في الثورات عناصر وفئات شتى ومتنوعة، وقد يوجد بينهم من الخلاف والاختلال أكثر مما يوجد من التشابه أو الاتفاق، ولكن الشيء المشترك الأكبر بينهم هو الضجر والغضب وكراهية النظام القائم، والنُخبة المُهيمنة، والرأس الحاكم.

وبمجرد انتهاء لحظة إسقاط النظام والتخلص من رأسه الحاكم، فإن كل فئة من تلك الفئات تتصرف أو تنصرف بشكل مختلف. إما عن وعي وإما عن غير وعي.

لذلك، يسهل على أي مجموعة حتى لو كانت صغيرة، ولكنها منظمة، وتحت قيادة فردية أو جماعية واعية، أن تخطتف الثورة لحسابها. وقد حدث ذلك بالفعل على الأقل مرتين في القرن العشرين، قبل ثورات الربيع العربي، ثم لتلك الثورات نفسها.

ماذا أنجزت وماذا تبقى من الثورات العربية؟

شبّه بعض علماء الاجتماع السياسي ظاهرة الثورة ببندول الساعة، حيث تأتي لحظة إنقلابية يقفز فيها البندول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ثم يتحرك تدريجاً إلى نقطة وسط.

 

قد يهمكم ايضاً  حرية الرأي والتعبير والحراك الديمقراطي في الوطن العربي: جدلية العلاقة

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 459 في أيار/مايو 2017.

(**) سعد الدين إبراهيم: عالم اجتماع من مصر.


بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز