ترجمة: حسين العسكري

مراجعة:جلة سماعين(*)

الناشر: تقرير خاص صادر عن مؤسسة إكزكتف انتلجنس ريفيو

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 411 ص

 

عالم جديد بدأ يتشكل مع إعلان الصين عن مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» وإحياء طريق الحرير التاريخية وتوسيعها بشبكات جديدة من الطرق التجارية التي تربط آسيا وأوروبا وأفريقيا. بذلك تثبت الصين أنها شريك عالمي في التنمية والنهضة المشتركة، ولاعب أساسي في دفع العملية الصناعية ورفع الطاقات الإنتاجية، فضلاً عن التواصل الثقافي والحضاري وتبادل الخبرات بين الشعوب التي يكرسها المشروع. وتراهن الصين وشركاؤها على أن خطة التنمية العالمية ستكون تجربة إنسانية غير مسبوقة وبرنامجاً فعلياً لتحقيق السلام العالمي.

يعد التقرير الذي وضعته مؤسسة إكزكتف انتلجنس ريفيو (Executive Intelligence Review) بعنوان من طريق الحرير الجديد إلى الجسر البري العالمي (The New Silk Road Becomes the World Land-Bridge) والصادر عام 2014 باللغة الإنكليزية وبنسخته العربية في 2016 دليلاً للتنمية العالمية يستكمل مبادرة «الحزام والطريق» التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جينبينغ في 2013 ويضعها في إطارها الأوسع؛ إذ يوضح التقرير للحكومات والمسؤولين عبر العالم مزايا وعوائد الانخراط في هذا المشروع ودعم إنشاء البنى التحتية والمشروعات الكبرى. لقد أعد التقرير الذي تفوق عدد صفحاته الأربعمئة أكثر من 19 خبيراً من مختلف مناطق العالم، يوضح كل واحد من مجال تخصصه الحاجات الرئيسية التي تلزم الدول والأقاليم من أجل التنمية السريعة والربط مع طريق الحرير الجديدة؛ تنسجم أفكارهم واقتراحاتهم ضمن مبدأ واحد هو «السلام عبر التنمية».

لا يستثني حزام هذه التنمية العالمية أحداً، ويشمل القوى الكبرى كما القوى الصغرى ضمن قاعدة «رابح-رابح»، وهو يسعى للارتقاء بالجنس البشري وتطوير شروط وجوده وتأسيس نظام عالمي عادل بديلاً من نظام اللامساواة السائد. لهذا السبب، «يتوقف مصير البشرية كلها على تحقيق هذا البرنامج التنموي» كما صرحت بذلك في مقدمة التقرير هيلجا تسيب لاروش، مؤسِّسة ورئيسة المعهد العالمي شيلر  (Schiller) وزوجة ليندن لاروش (L. LaRouche) المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، والعقل الملهم لمشروع طريق الحرير الجديد.  وهذه هي أفكار لاروش عن «الاقتصاد الفيزيائي» مقابل «الاقتصاد المالي» تشهد تجسيدها اليوم؛ إذ اقترح حينما انهار الاتحاد السوفياتي تنفيذ برنامج تنمية البنية التحتية الذي سماه «المثلث الإنتاجي باريس - برلين – فيينا» وقامت مجاميع من معهد شيلر بتوسيع وتطوير هذا البرنامج ليصبح فكرة الجسر البري الأوراسيوي والذي تشبه خريطته كثيراً خريطة الجسر البري العالمي الجديد. إضافة إلى ذلك لا يمكن إهمال الدراسات والأطروحات التي وضعها خبراء «المجلس الروسي لدراسة القوى الإنتاجية» (SOPS) والتي كان لها الدور البارز في صياغة العديد من اقتراحات لاروش.

أولاً: ما الذي نحتاج إليه في هذا المشروع؟

يحتوي هذا التقرير-الدليل على أكثر من 200 خريطة وصورة توضيحية دقيقة لأهم مشاريع البنية التحتية الأساسية في العالم، التي ستغير خريطته الاقتصادية والثقافية والسياسية خلال الأعوام المئة القادمة، بل إن التقرير يرفع مشروع طريق الحرير الجديد درجة ليصبح «الجسر البري العالمي» الذي سيربط قارات أفريقيا وأمريكا ببقية أجزاء العالم برياً. وقد وضع الخبراء النظريات العلمية والاقتصادية والشروح التقنية التي تجعل متطلبات المشروع قابلة للتطبيق. وهي خطة تنموية مستقبلية طموحة، وخصوصاً أن مبادرة الحزام والطريق أضحت تنال مزيداً من الاعتراف العالمي وتشهد في كل مرة انخراط دول أخرى ومساندة المؤسسات والمنظمات عبر أنحاء العالم. علاوة على ذلك، أثبتت العديد من دراسات الجدوى التي باشرت بها الحكومات والهيئات الرسمية قدرة المشاريع المدرجة ضمن برنامج الجسر البري العالمي على تحقيق الأهداف والمصالح المرجوة. وتوجد دعوات لاستعادة دراسات أجريت في عقود سابقة.

يعمل المشروع على خلق بنية اقتصادية جديدة هدفها بناء نظام اقتصادي عالمي جديد يلغي النظام المالي عبر الأطلسي، وقد رصدت الصين لطريق الحرير الجديد ميزانية كبيرة، حيث يموله بنك الصين للتنمية بقيمة 890 مليار دولار، و»صندوق طريق الحرير» الذي تشارك فيه الدول المعنية بـ 40 مليار دولار، و»البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية” برأسمال أولي مقداره  100 مليار دولار. سيساعد كل ذلك على الاندماج الاقتصادي العالمي، إذ يُرحّب بمشاركة كل الدول حتى وإن لم تكن آسيوية، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية. في هذه النقطة يدعو خبراء التقرير إلى استكمال طريق الحرير لتصل إلى القارة الأمريكية وتتغلغل شبكتها في أفريقيا، ومن بين المشاريع التي يحتاج الجسر البري العالمي إليها حتى يكتمل، أو بلغة أخرى، ما يقترحه على شركاء المشروع:

1 – الاستثمارات في البنية التحتية

جوهر طريق الحرير الجديد والجسر البري العالمي هو خلق نقاط ربط بين جميع الدول والقارات تجعلها تشترك في نظام تنمية عالمي، لذلك يكون بناء الطرق والممار الطويلة والعملاقة حاجة حيوية. وعصب هذه الممار هو بناء سكك الحديد واستعمال القطارات العالية السرعة مثل قطارات الرفع المغناطيسي ماغليف (Maglev) ، فهي «محرك الإنتاجية». يرافق ذلك خلق مناطق للنشاطات الزراعية والصناعية ومشاريع المياه والطاقة وتشييد البنية التحتية للتجارة. من بين الممار المقترحة التي شرع في تنفيذ بعضها نذكر: سكة حديد بيرو -البرازيل القارية؛ فجوة داريان؛ سكة حديد ما بين الأمريكتين؛ خط سكة حديد ألاسكا – كندا وبقية الولايات الـ 48؛ رابط مضيق بيرينغ؛ الممار عبر السيبيرية. ممار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الذي يتكون من ثلاثة مسارات: ممر النقل العالمي الشمالي – الجنوبي (من الهند إلى إيران)؛ ممر النقل الشمالي الشرقي (من الهند إلى ميانمار وصولاً إلى الصين)؛ خطوط السكك عبر القارة الأفريقية؛ سكة الحديد الدائرية الأسترالية. أما طريق الحرير البحري فيمتد من جنوب أوراسيا إلى شرق أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط؛ الممر البحري الشمالي (من الموانئ الآسيوية لحدود روسيا). سيحفز المشروع الدول على تطوير شبكات النقل الوطنية وربطها بالشبكات العالمية والإقليمية، وبذلك تضمن استفادتها من خطوط التجارة العالمية وتتمكن من خلق صناعات جديدة بمحاذاة هذه الخطوط.

لا تقتصر مشاريع الطريق البري العالمي فقط على الممار البرية، بل تتسع لتشييد القنوات البحرية والأنفاق والجسور لتشمل كل الدول والشعوب، ومن بين ما يقترحه خبراء التقرير: قناة نيكاراغوا العظمى الرابطة للمحيطات (الأطلسي والهادي)؛ نفق مضيق بيرينغ الذي يربط القارة الأمريكية بالقارة الأوراسية؛ رابط بين جزيرة ساخالين والأراضي الروسية؛ نفق هوكايدو – ساخالين؛ نفق سايكان؛ نفق اليابان – كوريا تحت البحر؛ نفق بوهاي؛ جسر مضيق ملقا؛ جسر مضيق سوندا (إندونيسيا)؛ قناة برزخ كرا (تايلند)؛ نفق سكك حديد البوسفور؛ توسيع قناة السويس؛ رابط إيطاليا – تونس (بناء جزر اصطناعية وأنفاق)؛ نفق مضيق جبل طارق؛ القنال الإنكليزي (بين فرنسا وإنكلترا)؛ رابط شبه الجزيرة الاسكندنافية بالقارة الأوروبية.

يعد الماء أساس الوجود الطبيعي، وقد طُرحت في التقرير سبل تطوير استغلال الموارد المائية. وتضمنت الخطط المعروضة أفكاراً وأساليب حول تحويل المياه وربط الأنهار بما يوسع مساحات المناطق المروية، أو يوفر المياه لمناطق داخلية ودول حبيسة مثل الدول الأفريقية. وهناك مبادرة نهر تومين لتنمية شمال شرق آسيا، وتنمية نهر ميكونغ جنوب شرق آسيا. وقد نجحت الصين في إنجاز «مشروع تحويل المياه من الجنوب إلى الشمال» (SNWD).

يمكن أن تسهم الممار المائية في إعمار أنهار وبحار تعاني الجفاف أو الاختفاء مثل بحر آرال الذي باشرت روسيا بعمليات ربطه مع سبيريا بقنوات، وهو ما سيسهم أيضاً في تسوية الصراعات بين الدول المشتركة في وادي فرغانة. يتضمن التقرير أيضاً خطة بناء السدود العملاقة التي تمنع تسرب المياه في البحر من دون الاستفادة منها كما هو حاصل في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. ومن شأن هذه السدود توفير الطاقة الكهرومائية.

إن تطوير البنى التحتية لاستغلال وربط الأنهار يسهم في مكافحة التصحر والقضاء على شح المياه وما تسببه من صراعات. مثلاً، يقترح التقرير مشروع إدارة المياه جنوب شرق الأناضول (GAP) القائمة على بناء السدود على نهرَي دجلة والفرات وخلق خزانات مياه هائلة خلفها، مثل خزان سد أتاتورك وتأسيس منظومة مشتركة لإدارة المياه تضم تركيا وسورية والعراق وحتى إيران التي تشترك مع العراق. وهناك مقترح مشروع الحزام الأخضر حول حوضَي الرافدين الذي سيسهم في مكافحة التصحر. إن التقرير وهو يعرض كل هذه الخطط يوضح أن هذه المشاريع يمكن أن تستفيد من تجربة نموذجية هي مشروع تنمية وادي تينيسي في الولايات المتحدة.

2 – رفع كثافة تدفق الطاقة

من بين النقاط المشتركة التي تجمع جميع الدول في هذا المشروع الضخم هو رفع معدل الطاقة لتتناسب مع العملية الإنتاجية الضخمة المرجوّة، والسبيل إلى ذلك اعتماد الدول مشاريع الطاقة النووية الحرارية التي ستستعمل في تشغيل مصانع تحلية المياه والصناعات الأخرى، وتمكّن الدول من سد العجز الطاقي وتجعلها تعتمد على ذاتها وتتفادى تكاليف الاستيراد وأن توفر لشعوبها الطاقة الرخيصة. يعرض التقرير العديد من الدول المحتاجة إلى التكنولوجيا النووية (دول جنوب شرق آسيا، آسيا الوسطى، جنوب غرب آسيا، المنطقة العربية، أمريكا اللاتينية) أو تلك التي يجب أن تعود إلى برامجها (ألمانيا، اليابان، أستراليا). أكثر من ذلك تدعو هيلغا لاروش إلى استغلال موارد هيليوم 3 الموجودة فوق القمر من أجل تشغيل اقتصاد الدمج النووي على الأرض.

يعترف التقرير أن الحركات الخضر وحركات الدفاع عن البيئة المرتبطة بالأجندات الإمبريالية البريطانية وبعض الدوائر في الولايات المتحدة تهدف إلى سلب الدول حقها في الطاقة النووية، وتسعى لكبح تطورها بما يديم هيمنة القوى الإمبريالية؛ فالعديد من الدول الفقيرة في آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا تعاني شعوبها والقوى الاقتصادية فيها نقص الطاقة والموارد المائية، وخصوصاً إذا ما علمنا أن المحطات النووية ضرورية لمصانع تحلية المياه. لذلك يمثل مشروع الجسر البري العالمي المجال الذي يمكّنها من بناء محطات الطاقة النووية مع الشركاء مثل الصين، أو روسيا التي تملك شركة «روساتوم» الرائدة في هذا المجال والتي يمكنها أيضاً إعادة تشغيل وتطوير بعض المفاعلات التي بنيت في العديد من الجمهوريات أيام الحقبة السوفياتية.

إضافة إلى هذا، يوجد على جدول أعمال الجسر البري العالمي: تطوير علوم وتقنيات الفضاء والاندماج النووي وإنشاء محطات الفضاء والمخططات طويلة الأمد لاستكشاف القمر والفضاء العميق. وبإمكان هذا الميدان أن يكرس التعاون المثمر بين الدول الكبرى في مجال الملاحة العالمية ودفع عجلة التقدم الإنسانية.

ثانياً: الآليات الاقتصادية الضرورية لتنفيذ المشروع

ذكرنا أن هدف المشروع تحقيق تنمية عالمية قائمة على الاقتصاد الفيزيائي الحقيقي، لذلك يقترح التقرير انطلاقاً من أفكار لاروش الاقتصادية آلية جديدة لتمويل البنية التحتية تستند إلى قانون غلاس ستيغال (Glass Steagall Act) يقوم على المحافظة على نظام بنكي منفصل، حيث تتولى البنوك الوطنية تمويل المشاريع الإنتاجية ويجب أن تكون منفصلة قانونياً وعملياً عن البنوك التجارية التي تقوم على المضاربة وترتبط بنظام مالي عبر أطلسي. بهذه الطريقة يمنع القانون استعمال أموال الزبائن للمضاربة بالأوراق المالية وتوجيهها في بناء المشاريع التي تحتاج الدولة إليها. أما الآلية الثانية فهي توليد الائتمانات الوطنية للمشاريع المنتجة تماماً مثل السياسة التي اعتمدها المصرفي الأمريكي ألكسندر هاملتون الرامية إلى سيطرة الدولة من طريق البنوك الوطنية على العملة والائتمانات وتوجيهها نحو تطوير الاقتصاد الفيزيائي للأمة. بينما في حالة الجسر البري العالمي فيتم، مثلما اقترح لاروش في 1985، تأسيس نظام ائتمانات عالمي جديد تشارك فيه الاقتصادات الكبرى، وقد تجسدت هذه الفكرة في شكلها الأولي من خلال «بنك التنمية الجديد» التابع لمجموعة البريكس(NDB)  و«البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية»  (AIIB)، ويمكن تطوير ذلك إلى «بنك تنمية دولي» يمول المشاريع المطروحة ويسهم في تطوير منصات البنية التحتية الجديدة والتطور التكنولوجي.

ثالثاً: موقع الوطن العربي ضمن الحزام القاري العالمي

يمثل هذا المشروع فرصة اقتصادية تاريخية للوطن العربي تسهم في تنميته وتخفيف معاناة شعوبه. وقد قدم حسين العسكري رؤية شاملة لما يمكن إنجازه في جنوب غرب آسيا (متفادياً استعمال تقسيمات جيوبوليتيكية وضعتها قوى الإمبريالية مثل مصطلح الشرق الأوسط) وخصوصاً أن هذا المجال الذي تقع فيه البلدان العربية يعد ملتقى تقاطع طرق القارات بما يمنحها امتيازات إضافية. يمكن للبلدان العربية بناء شبكة مشتركة لنقل الكهرباء وأنابيب الغاز الطبيعي، وإنشاء «خطوط السكك العربية» وإدارة مشتركة للمياه، فضلاً عن التوجه نحو التكنولوجيا النووية لضمان أمن الطاقة وتحلية المياه في المنطقة، والاستمرار في تشجيع الصناعات البتروكيميائية، وإنشاء حزام أخضر لمكافحة التصحر في «الهلال الخصيب» وخصوصاً المنطقة الواقعة بين سورية والعراق والأردن. هذا وتقترح مؤسسة «إكزكتف إنتلجنس ريفيو» أيضاً تأسيس منظومة ائتمانية إقليمية باسم «البنك العربي لاستثمارات البنية التحتية» يسهم في بناء مشاريع البنية التحتية الكبرى والمشتركة. لقد باتت البلدان العربية بالفعل جزءاً من هذا المشروع الضخم منذ زيارة الرئيس الصيني جينبينغ مصر والسعودية اللتين كانتا سباقتين للانخراط بلا تردد في مبادرة الحزام والطريق.

يقترح العسكري مع أولف سانمارك مشروعاً لإعادة إعمار سورية يقوم على آلية تمويل إعادة إعمار الدولة التي دمرتها الحرب من خلال نظام ائتماني هاميلتوني؛ فبعد الإعلان عن خطة الإعمار يكون بمقدور الحكومة إصدار كمية الائتمانات المطلوبة لتشغيل كل ما توافر من اليد العاملة والأدوات والمواد الأساسية. تمنح الحكومة التراخيص لكل مشروع ليتم الشروع به، وفي ذات الوقت توفر الائتمانات لتمويله، وتقوم بإنشاء «البنك الوطني لإعادة الإعمار» يتكفل بإصدار هذه الائتمانات، مع الحرص على وجود صيغ قانونية يشرك بها القطاع الخاص في هذه الخطة الموجهة نحو المستقبل. يمكن التعويل على هذه الاستثمارات وعلى دور سورية في طريق الحرير، فقد كانت المدن السورية محورية في طريق الحرير التاريخي. إن بناء طرق برية بواسطة سكك الحديد سيربط سورية بالخليج والبحر العربي والمحيط الهندي، كما سيربط سورية ببحر قزوين، وهناك خطوط تجارية بحرية ستستمر نحو سورية والبحر المتوسط، وخصوصاً مع افتتاح قناة السويس الجديدة، كما أن الشمال السوري مؤهل للقيام بدور استراتيجي مع تشييد سكك الحديد العالية السرعة التي تمر عبر تركيا وتربط أفريقيا وآسيا وأوروبا.

رابعاً: التحديات

رغم هذه الآفاق الواعدة، يجب عدم رفع سقف التفاؤلية بالمطلق، فالعديد من القوى الأوروبية واللوبيات المنتمية إلى المحافظين الجدد ترفض خطة الصين، وقد تحاول عرقلتها من خلال خلق بؤر التوتر في المناطق التي يمر بها المشروع. في هذا الصدد يمكن مثلاً استشراف خلفيات دعم بعض الجماعات الأمريكية لاحتجاجات الإيغور في إقليم شينغيانغ شمال غرب الصين، وهو إقليم يمثل نقطة استراتيجية في تقاطع ممار الطرق بين روسيا والصين وكازاخستان التي تعد بوابة آسيا الوسطى وأوروبا. والأمر المثير للقلق إعلان جماعة متشددة من عرقية الإيغور منضوية تحت لواء التنظيم الإرهابي «داعش» الجهاد ضد الصين، وهناك احتمالات أن تنفذ مستقبلاً عمليات إرهابية في الإقليم بما يشوش على الطريق الاقتصادي، وخصوصاً مع وجود تقارير وشهادات تفيد أن هذا التنظيم الإرهابي صناعة استخبارية أمريكية. يضاف إلى ذلك رفض قوات الناتو الخروج من أفغانستان لاعتبارات استراتيجية ولتجنب حصول فراغ القوة الذي يتخوف من أن تشغله الصين أو روسيا بشكل عسكري أو اقتصادي. أما في الحالة السورية فقد كانت بوادر الحرب التي أشعلت فتيلها بعض الدوائر الغربية منع إنشاء مشروع أنابيب الغاز والنفط التي تنطلق من إيران ثم العراق وصولاً إلى سورية. كما اشتدت الصراعات بوجود مشروع بديل يقترح خطوط أنابيب تنطلق من الخليج وصولاً إلى تركيا مروراً بالأردن وسورية. لذلك تبقى التخوفات قائمة من اقتراحات طريق الحرير التي تهدف إلى ربط إيران وسورية والعراق والتي هي في قائمة الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية «دول مارقة»، ناهيك بالدور الذي يمكن أن تؤديه إسرائيل في منع تنمية هذه الدول التي هي بالنسبة إليها (ومعها الدول العربية) خصم وجودي. أما في القارة الأفريقية فهناك تدخلات عسكرية أجنبية وصراعات دموية عرقية ودينية يصعب حلّها، ناهيك بهشاشة الدول والأنظمة وغياب الأطر القانونية والاقتصادية لعمليات التنمية. في رأينا أن التقرير لم يناقش التداعيات السياسة الاستراتيجية التي يخلقها المشروع؛ فالعديد من الدول الغربية والشرقية تتخوف من المشروع وتعتبره هيمنة صينية ناعمة، وأن السلام الصيني (Paxa Senica) سيحقق طموحات الصين الاقتصادية على حساب  اقتصادات الدول التي يشملها المشروع. أيضاً، فالحضور الصيني – شئنا أم أبينا – سيكون له تأثيرات سياسية استراتيجية على أي قرارات حاسمة قد تأخذها الدول المنخرطة في طريق الحزام والحرير، فالصين لن تسمح بأي قرارات قد تؤثر في استثماراتها، ويزيد من هذا التأثير امتلاكها حق الفيتو في مجلس الأمن.

من الناحية التقنية، تبرز البنى الطبيعية والاجتماعية كعقبات أمام شيْد الممار (مناخ، تربة، جبال، مسافات، أنهار ووديان، طبقات الأرض، ثقافات ومكونات اجتماعية، أنظمة سياسية…) وهو ما سيتطلب نفقات إضافية وجهوداً سياسية ودبلوماسية لتجازوها. لكن رغم ذلك ينتظر أن تشكل تحديات الطبيعة هذه حافزاً للعقل البشري من أجل ابتكار التكنولوجيات القادرة على التعامل معها. تظهر بعض التحديات الأخرى المتعلقة باختلاف قياسات السكك، وهو ما يتطلب إما تغيير القطارات، وذلك يستدعي جهداً ووقتاً في إعادة الشحن بما ينعكس على تكلفة المنتجات، وإما تغيير السكك، وهو بدوره مكلف ناهيك بالاختلافات بين القادة والمسؤولين فيمن يجدر به تغيير السكك بالقياس المطلوب. ربما يكون بوسع التكنولوجيا أن تخترع مستقبلاً حلاً يجمع القياسات العريضة والضيقة. على الرغم من كل هذه التحديات والعقبات، يبقى الأمل معقوداً على ما سيحققه الجسر البري العالمي، وعلى الحماسة والموارد التي ترصدها الصين والشركاء لتحقيق رفاهية الشعوب؛ فقد أثبتت الحضارة الإنسانية أن إرادة الإنسان على التطور والارتقاء لا يمكن قهرها، وإلا لما وصل إلى مرحلة بات يحضر فيها الوسائل لغزو الكواكب.

خامساً: الجسر البري العالمي ونهاية الجيوبوليتيكا: لاروش مقابل ماكيندر

على الضد من الصيغ الداعية إلى مواجهات جيوبوليتيكية كبرى بين الفواعل الرئيسية في النظام الدولي كما افترضت صيغة ماكيندر الجيوبوليتيكية بالمواجهة بين قوى البر (التيليروكراتيا) والتي تعبّر الآن عن الصين وروسيا والدول التي تعادي السياسات الأطلسية، وقوى البحر (التالاسوكراتيا) التي على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا ومن يسير في ركبهما، يؤكد أصحاب مشروع الحزام والطريق أنه يتيح مستويات من التعاون والتبادل بين كل القوى العالمية؛ فالصين ستتعاون مع روسيا في كل المنطقة الأوراسية الكبرى متجاوزة بعض الحساسيات التاريخية أو المواجهة بين المشاريع الإقليمية. على سبيل المثال تعهد الرئيسان الروسي بوتين والصيني شي في أيار/مايو 2014 السعي إلى إيجاد فرص لدمج مفهوم الحزام الاقتصادي لطريق الحرير مع مفهوم الاتحاد الاقتصادي الأوراسيوي. وبخصوص الهند فليس من مصلحتها أن تستمر في منافستها للصين في المحيطين الهادي والهندي، بل تجد الدولتان نفسيهما في مواجهة التحديات لتوفير سبل العيش اللائقة لما يقارب ثلاثة مليارات نسمة، وقد خطتا خطوات هامة في التنسيق والتعاون من طريق البريكس. أما الولايات المتحدة الأمريكية المتهالكة بناها التحتية والمتراجع اقتصادها فتحتاج إلى ربطها مع القارة الأوراسية من طريق مضيق بيرينغ والانضمام إلى طريق الحرير بما يحقق مصالحها، ومضطرة إلى أن تضع قطيعة مع استراتيجيات الهيمنة والاستثنائية. كما أن اليابان هي الأخرى تحتاج إلى عدم البقاء جزيرة منعزلة أمام هذا التكتل التنموي العالمي. فالمشروع كما تصرّح خاتمة التقرير هو دعوة لأن «نتخلص من الجيوبوليتيك ونصنع مستقبلاً يليق بالبشرية».

يمكننا أن نؤكد في هذه النقطة أن نموذج ماكيندر مستمر تفصح عنه الصراعات الحالية التي تقودها القوى الأطلسية، بل إن هذه القوى تعتبر مشروع الطريق الصيني ينتمي إلى الاستراتيجيات البرية وأن حتمية صراع البر والبحر لا مفر منها. مقابله هناك صيغة الجسر البري العالمي التي تدعو إلى تصور جديد للعالم ينشد التعاون بين الدول ويراهن على الفطرة الإنسانية الخيّرة. لذلك يمكن القول إن رؤية العالم (Weltanschauung) تتجاذب بين مشروع لاروش وبين حتميات ماكيندر.

تدرك الصين ومعها العديد من السياسيين والخبراء في العالم ككل أن الصراعات والتوترات وأعمال العنف والاقتتال مصدرها في الأول غياب التنمية وتهميش المناطق والفئات المجتمعية، لذلك سيسمح المشروع بتغيير أوضاع الفقر واللاعدالة من طريق الاستثمارات الضخمة وإتاحة فرص التشغيل للطاقات الشابة في الدول المعنية سواء في آسيا الوسطى أو جنوب غرب آسيا وصولاً إلى شمال أفريقيا. وبذلك يحقق المشروع ميزات أمنية تتمثل بالتالي: (1) العمل على استقرار الدول المنخرطة في المشروع والمساهمة في تمتين علاقات الأنظمة فيها بمجتمعاتها؛ (2) نجاح المشروع في تنمية المناطق يحولها من بؤر توتر إلى بؤر للسلام بما يؤمِّن ممرات النقل. (3) ينعكس مثل هذا الاستقرار والسلام حتى على الأمن العالمي فينقص تجنيد الشباب في الجماعات الإرهابية ومنظمات الجريمة العابرة للحدود، وخصوصاً من المناطق المعوزة، والإسهام في تقليص حركة الهجرة العالمية والاختلال الديمغرافي في دول العالم، وكبح حركة النزوح الريفي إلى المدن.

إن مشروع الجسر البري العالمي هو صوت حركة لاروش العالمية وهي الحركة التي تكمل نضال لاروش من أجل إصلاح النظام الاقتصادي العالمي وإطلاق مشاريع تنموية كبرى تغيِّر واقع الشعوب وتحقق المصالح المتبادلة بين الدول، وتنتج السلام.

المصادر:

(*)جلة سماعين: أستاذ جامعي وباحث – الجزائر.

البريد الإلكتروني:  hid2sm@hotmail.com


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز