مقدمة

تمثل الديمقراطية التشاركية اليوم توجهًا سياسيًا لكثير من الدول، إلى درجة أضحت معها تمثل البارادايم الجديد للتدبير العمومي‏‏[1]. وهي لا تقدم «نموذجًا لشكل جديد يختلف عن مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وإنما تقوم فقط بمحاولة إضفاء الطابع الأخلاقي عليها نحو مزيد من المشاركة والمساواة والعدالة»‏‏[2]، ولا سيَّما في عصر يتميز بتقلص مجال المشاركة الانتخابية إلى مستويات مقلقة. من هنا فائدتها العملية؛ فالديمقراطية التشاركية هي آلية تضمن مشاركة أوسع للمواطنين «في صنع القرارات ذات الأولوية بالنسبة إليهم من طريق التفاعل المباشر مع السلطات القائمة والمشكلات المطروحة»‏‏[3]. إنها نوع من أنواع «تجذير الديمقراطية»‏‏[4]، الذي جعل شرعيتها لا تستمد من التصويت أو التمثيل فقط، وإنما من التشاور كذلك‏‏[5]. ويظهر المجتمع المدني‏‏[6] كشريك حيوي على هذا المستوى، لكون تمثيله «تعبيراتٍ اجتماعيةً وتنموية تعرف اتساعًا متزايدًا، ولا تجد في الديمقراطية التمثيلية القنوات المناسبة للتعبير عن حاجاتها ومطالبها، وإيجاد الحلول لها»‏‏[7]. غير أن الديمقراطية التشاركية لا تقوم على المشاركة كغاية في حد ذاتها، وإنما بوصفها مدخلًا لعقلنة الإنفاق العام وتحسين جودة المرافق العمومية، وتقوية المواطنة المحلية عبر بناء الرابط الاجتماعي بين الساكنة وبين منطقتهم‏‏[8]. هنا يظهر الارتباط العضوي للديمقراطية التشاركية بمفهوم الحوكمة‏‏[9]، بوصفه هو الآخر نمطًا تدبيريًا يستهدف تعزيز التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتدعيم الممارسات الديمقراطية، وتحسين فعالية المؤسسات‏‏[10]، إلى جانب مرتكزات أخرى أهمها الشفافية، والسلوك القويم والنزيه، وسلطة القانون‏‏[11]. إنهما من هذه الزاوية وجهان متناغمان ومتكاملان لعملة تدبيرية واحدة. وتعَدّ الجماعات الترابية‏‏[12] أهم مجال لتجسيد هذه المقاربة على أرض الواقع؛ فعلى مستواها يمكن بصورة أوضح تثمين مشاركة الساكنة وضمان مساهمتهم في إنجاز البرامج والمشاريع التي تهمهم. كما أن الهيئات اللامركزية، ستكون، في إطارها، أكثر قوة وفاعلية من الناحية التدبيرية، ما دامت تقوم على «الانتقال من آلية بيروقراطية للإدارة الهرمية من أعلى إلى أسفل، إلى نظام من الحكم المحلي المتداخل الذي يحظى بمشاركة الأفراد وتعاونهم»‏‏[13].

في هذا السياق، تندرج التجربة المغربية في مجال الديمقراطية التشاركية التي انطلقت مع الدستور الصادر سنة 2011. وقد سارت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية الصادرة سنة 2015‏‏[14] في المنحى نفسه، بحيث نصت على ضرورة قيام هذه الأخيرة بإدماج عموم المواطنين والجمعيات في مقاربة التدبير التشاركي، عبر إحداث آليات تشاركية للحوار والتشاور، وتمكينهم من الحق في تقديم العرائض. فإلى أي حد استطاعت هذه الآليات تجسيد طموح المشرع في إرساء دعائم الحوكمة بالجماعات الترابية في المغرب؟

سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي عبر توظيف مقاربة وصفية مبنية على رصد مآلات تطبيق النصوص القانونية ذات الصلة، وأثرها في الحوكمة بالجماعات الترابية. وتكمن أهمية المقاربة المعتمدة، في كونها ستمكننا من المساهمة في تقويم تجربة الديمقراطية التشاركية في المغرب بعد نحو 8 سنوات من التطبيقات المتدرجة والمتفاوتة. ولأجل بلوغ هذه الغاية البحثية، اعتُمدت هيكلة اشتملت، إضافة إلى المقدمة والخاتمة، على المحورين الآتيين..

لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 559 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:

مجلة المستقبل العربي العدد 559 أيلول/سبتمبر 2025

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 559 في أيلول/سبتمبر 2025.

عبد الله كواعروس: أستاذ محاضر، جامعة الحسن الأول – المغرب.

[1] Ali Sedjari, L’art de gouverner ou le courage de changer: Plaidoyer pour une bonne gouver­nance (Casablanca: Editions les croisées de chemin, 2017).

[2] علي الدين هلال، الانتقال إلى الديمقراطية: ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين، عالم المعرفة؛ 479 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2019)، ص 201.

[3] أنتوني غيدنز، بعيدًا عن اليسار واليمين: مستقبل السياسات الراديكالية، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة؛ 286 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2002)، ص 49. مذكور في: عبد العلي القريشي، التنمية المحلية بين الديمقراطية التمثيلية والبراديغمات الجديدة للديمقراطية التشاركية (سطات، المغرب: الرشاد للنشر والتوزيع، 2022)، ص 124.

[4] Dominique Rousseau, Radicaliser la Démocratie: Propositions pour une refondation (Paris: Seuil, 2015).

[5] John S. Dryzek, «Transnational Democracy,» Journal of Political Philosophy, vol. 7, no. 1 (January 1999), p. 44,

ورد في: هلال، الانتقال إلى الديمقراطية: ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين، ص 198.

[6] يعرِّف جون إهرنبرغ المجتمع المدني كما يلي: «مفهوم المجتمع المدني ضبابي ومطاط على نحو لا مناص منه، بحيث أنه لا يوفر بسهولة قدرًا كبيرًا من الدقة (…) يتمثل الاستعمال المثمر للمصطلح بوصف العلاقات والبنى الاجتماعية التي تقع بين الدولة والسوق؛ فالمجتمع المدني يرسم حدود ميدان متميز رسميًا عن الهيئة السياسية وسلطة الدولة من جهة، ومتميز عن اللهاث السائد وراء المصلحة الذاتية وإملاءات السوق من جهة أخرى». انظر: جون إهرنبرغ، المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008)، ص 440 – 441.

[7] المختار شعالي، «الديمقراطية التشاركية آلية لتوسيع المشاركة السياسية،» هسبريس (5 تشرين الثاني/نوفمبر 2014)، <https://bit.ly/3SD6OVW> (شوهد بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2023).

[8] المملكة المغربية، وزارة الداخلية، الحكامة التشاركية المحلية: القرار المشترك نموذج آلية الميزانية التشاركية (2017)، ص 11، <https://bit.ly/3HJemQJ> (شوهد بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2023).

[9] ظهر مصطلح الحكامة بقوة نهاية القرن العشرين في حقل العلوم الاقتصادية ثم بعد ذلك في المجال السياسي. وقد تمت مأسسته في الكثير من الدول. ويعود الفضل للبنك الدولي في ضمان انتشاره في المجال السياسي المؤسسي عبر تقريره لسنة 1992 الحوكمة والتنمية، كتجسيد لانتقال الأفكار والتصورات والكفاءات من مجال القطاع الخاص إلى مجال التدبير العمومي. وبغض النظر عن الأصول الفكرية التي تقبع وراء مصطلح الحكامة المرتبط بالنيوليبرالية التي سادت خلال ثمانينيات القرن الماضي والتي جعلته يخترق مختلف المجالات والقطاعات المرتبطة بمختلف جوانب الحياة العامة والخاصة، فإن الحوكمة أخذت بعدًا معياريًا واضحًا في عرف المؤسسات الدولية قائما على وصفها «مسلسل قرار يضمن التداول الديمقراطي الحر، المفتوح والشفاف بين الفاعلين العموميين والخواص خدمة للتنمية». أورده: Salvatore Maugeri, Gouvernance(s) (Paris: Dunod, 2014), pp. 13, 57 et 59.

[10] فيصل المناور وعمر ملاعب وعبد الله يونس، «نموذج مقترح لإصلاح المؤسسات العامة في الدول العربية،» مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية، السنة 21، العدد 8 (2019)، ص 10.

[11] Tony Bovaird and Elke Löffler, «Evaluating the Quality of Public Governance: Indicators, Models and Methodologies,» International Review of Administrative Science, vol. 69, no. 3 (2002).

ورد في: Patrick Milabyo Kyamusugulwa, Gouvernance locale et reconstruction communautaire (Paris: L’Harmattan, 2023), p. 21.

[12] الجماعات الترابية هي هيئات لامركزية خاضعة للقانون العام، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي. وهي بحسب الدستور المغربي ثلاثة مستويات ترابية، هي الجماعات والعمالات والأقاليم والجهات.

[13] جون بول فاغيت، «اللامركزية والحوكمة،» ترجمة عومرية سلطاني، دورية حكامة، السنة 4، العدد 7 (2023)، ص 188.

[14] يتعلق الأمر بالقانون التنظيمي الرقم 113.14 المتعلق بالجماعات، والقانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، والقانون التنظيمي الرقم 111.14 المتعلق بالجهات الصادرة جميعها في 20 رمضان 1436هـ الموافق 7 تموز/يوليو 2015 والمنشورة في الجريدة الرسمية للمملكة عدد 6380 بتاريخ 6 شوال 1436هـ (23 تموز/يوليو 2015).


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز