تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على تجربة المغرب في معالجة العنف السياسي الذي ساد حقبة ما بعد الاستقلال، اصطلح عليها بسنوات «الجمر والرصاص»، التي بلغ فيها الصراع السياسي أوجه في استعمال العنف الممنهج من طرف مؤسسات محسوبة على الدولة بلغ حد ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل القتل والاختطاف والإخفاء والتعذيب والإقصاء والعزل لفئات واسعة ومناطق كاملة. ولن تخوض الدراسة في شق آخر من العنف السياسي، لم يسلم منه المغرب كذلك، وهو المتعلق بالعنف بين مكونات المجتمع المختلفين سياسيًّا وأيديولوجيًّا، كما كانت الحال في السنوات الأولى للاستقلال بين مناضلي حزب الاستقلال ومناوئيه، وفي سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته بين اليسار والإسلاميين التي أسفرت عن مقتل عمر بنجلون، لأنها بقيت حالات قليلة أو حبيسة العنف داخل الجامعات بين الفصائل الطلابية بمختلف توجهاتها بما فيها المتقاربة أيديولوجيًّا.
سنسلط الضوء أكثر على أثر هذه الأحداث في رسم معالم المغرب الحالي بعد فتح ملفات الماضي من طريق هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 التي عُدَّت حينها لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف والمصالحة ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وآلية للعدالة الانتقالية جعلت من المغرب أول دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تمتلك شجاعة فتح هذا الملف.
اشتغلت هذه الهيئة لمدة سنتين (كانون الثاني/يناير 2004 – كانون الأول/ديسمبر 2005) وحدد لها مجال اختصاص زمني شمل السنوات 1956 – 1999، أي 43 سنة، وهي من أطول المراحل في تاريخ تجارب العدالة الانتقالية في العالم، وحققت في شأن 20 ألف حالة من مناطق وأزمنة مختلفة. أما في خصوص الهدف منها فقد كان القطع مع ماضي الانتهاكات الجسيمة، وطيّ صفحتها الأليمة، وجبر الأضرار الفردية والجماعية للضحايا، وإصدار توصيات في شأن ضمانات عدم تكرار المأساة.
ننطلق في هذه الدراسة من فرضية العلاقة الوثيقة بين تعثر مسار الدمقرطة والتنمية في المغرب وبين هذه الأحداث التي ضيَّعت فرصًا، وأهدرت زمنًا، ودمرت طاقات، وأخطأت الوجهة المطلوبة لربح رهان بناء مغرب جديد.
نتوخى في هذه الدراسة رصد ديناميات العنف السياسي وأثرها السلبي، وعلاقة ذلك بالتأخر في إقرار الضمانات الدستورية والحقوقية والقانونية والمؤسسية وعدم تنظيم ممارسة السلطة، وهو ما جعل البلاد تعيش في حالة استثناء لمدة طويلة. كما سندرس التباطؤ في إقرار توصيات الهيئة، وبخاصة تلك المرتبطة بإصلاح قطاعات حساسة مثل الأمن والقضاء ومراجعة الدستور إلى ما بعد سنة 2011، وهو ما يعكس حقيقة إرادة «الدولة» التي كانت تهدف إلى تحسين صورتها أكثر مما هي مهتمة بوضع حد للعنف السياسي وتنظيم التداول السلمي على السلطة وطيّ صفحة الماضي.
المثير للانتباه أن المغرب لم يكد يغلق هذه الصفحة حتى عاش صفحة أليمة أخرى لا تقل عنها سوادًا، ولا سيما أن السنوات الأولى للألفية الثالثة عرفت أعمالًا إرهابية كان المغرب ضحيتها والتجأت السلطات العمومية، مرة أخرى، إلى تدخل قمعي رافقه ارتكاب عنف سياسي تمثل بانتهاكات جسيمة اعترفت أعلى سلطة في البلاد بحدوثها. وقد كان للربيع العربي وتداعياته بصمة نوعية على الانتقال من العنف الخشن إلى استعمال أدوات إخضاع ناعمة مستفيدًا من التكنولوجيا الحديثة.
تستحق التجربة المغربية دراسة كل مراحلها، بدءًا من تسليط الضوء على نشأة العنف السياسي وتفاقمه، مرورًا بفتح الملف من طرف «الدولة» وما تطلّب ذلك من «شجاعة» غير مسبوقة، إلى النقاش العمومي حولها وحول التوصيات بتجنب تكرارها ومدى تفعيلها اليوم في مغرب لا يزال لم يقطع نهائيًّا مع العنف السياسي، وإن قلَّت نسبته ولم يبقَ ممنهجًا كما كان في السابق. وهي تجربة تستحق الدراسة، لأن كل هذا المسلسل، وعلى خلاف أغلب التجارب العالمية، تم في ظل استمرارية النظام السياسي نفسه ومن دون ثورة أو انقلاب. وهذا هو صلب إشكالية الدراسة التي سأحاول معالجتها.
تنتمي هذه الدراسة إلى منهج دراسة الحالة، وسأعتمد فيها منهجية رصد أهم أسباب العنف السياسي في المغرب، وأسباب تفاقمه خلال مرحلة انحرف فيها الصراع السياسي وتصاعدت حدته ليصبح مطبوعًا بمعارك صفرية ووجودية، ودراسة أسباب فشل كل المقاربات التي اعتُمدت في وضع حد للظاهرة رغم التقليل من منسوبها واحتواء الكثير من تداعياتها.
في الختام سأخلص إلى مداخل مستفادة من هذه التجربة بتحديد أولويات يلزم إيلاؤها الأهمية لوقف العنف السياسي والحدّ من أثره، وأهمها جعل قضايا العدالة والديمقراطية في صلب السياسات العامة وسمو القانون وحكم المؤسسات والرقابة الشعبية وربط ممارسة السلطة بالخضوع للمحاسبة.
لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 561 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 561 في تشرين الثاني/نوفمبر 2025.
عمر أحرشان: أستاذ العلوم السياسية والقانون العام، جامعة القاضي عياض، مراكش – المغرب.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.



