نهاية إسرائيل!

أكتب هذه المقالة وسط تصريحات لا ينقصها الغموض، مصدرها ستيف ويتكوف وبنيامين نيتانياهو، تتحدث حينًا عن قرب التوصل لاتفاق جديد بين إسرائيل وحماس، وحينًا آخر عن أن موافقة أى من الطرفين على الاتفاق لم تتم بعد، وربما يتزامن نشر المقالة مع إعلان اتفاق ما، وإن كانت الخبرة الماضية المستمدة من السلوكين الإسرائيلى والأمريكى تفيد بأن التوصل لاتفاق لا يعنى بالضرورة تنفيذه وعدم الانقلاب عليه.

لكنى أود فى هذه المقالة نقل النقاش وحديث التوقعات من المدى اللحظى إلى المدى الطويل بحديث عن «نهاية إسرائيل»، وأتمنى ألا يسارع الكثيرون إلى وصف الحديث بالخزعبلات أو الأوهام وأضغاث الأحلام، فاللحظة تشهد بالتعبير القرآنى «علوًا كبيرًا» لبنى إسرائيل، فهاهى تقتل وتدمر فى غزة والضفة منذ أكثر من سنة ونصف السنة دون رقيب أو حسيب، وتفرض سيطرتها على الوضع فى لبنان وسوريا، وتضرب اليمن عقابًا للحوثيين، بل وتشير تقارير أمريكية إلى نيتها ضرب المنشآت النووية فى إيران حال أخفقت المباحثات الحالية بينها وبين الولايات المتحدة، والخلاصة أن إسرائيل تبدو فى ذروة قوتها، فكيف يستقيم الحديث عن نهايتها؟

وبدايةً يجب أن يكون واضحًا أن هذا حديث المدى الطويل، ومع ذلك فإن توافر شروط معينة يمكن أن يجعله ممكنًا فى المدى المتوسط، بما قد يُمَكن الشرائح الشابة فى الأجيال الحالية من إدراكه، كذلك فإن نقطة الوصول لذروة القوة تمثل أحد المفاتيح الأساسية فى فهم التحليل التالى، ذلك أن التاريخ يحدثنا بوضوح عن أن لكل قوة حدودًا، وأن توالى الانتصارات يُعْمى القوى التوسعية عن إدراك هذه الحدود، فتنخرط فى مزيد من السلوك التوسعى الذى يتجاوز قدراتها، وتبدأ فى الانحدار وصولًا إلى النهاية، وقد كانت هذه مثلًا هى الآلية التى تحطمت بها الأحلام الإمبراطورية العالمية لكل من نابليون وهتلر على الصخرة الروسية فالسوفيتية، عندما صور لهما غرورهما أنهما قادران على مد سيطرتهما إلى تلك الدولة القارة التى قيل عن قادتها إنهم يشترون الوقت بالأرض، أى لا يمانعون فى خسارة الأرض ما دام ذلك سيكسبهم الوقت الكافى لحسن الاستعداد بما يمكنهم من هزيمة عدوهم.

غير أن فكرة «نهاية إسرائيل» لا تستند إلى فكرة حدود القوة وحدها، بل إن هذه الفكرة ليست سندها الأساسى، كذلك فإنها لا تستند إلى نبوءات دينية شائعة لست مؤهلًا للإفتاء فيها، ولا إلى ما يعتقده بعض اليهود من اقتراب النهاية لأن أى كيان سياسى يهودى سابق تاريخيًا لم يجاوز عمره ثمانية عقود، وهو ما يجعلنا على بعد سنتين من النهاية، فالسند الرئيس لمقولة «نهاية إسرائيل» مستمد من القانون العلمى لحركات التحرر الوطنى ضد الاستعمار، والذى يفيد بأن كل استعمار يولد مقاومة، وأن هذه المقاومة وإن بدأت بالغة الضعف تتطور بالتدريج باتجاه التوازن مع المستعمر، ويرجع هذا التطور لواقعة الاستعمار ذاته الذى تتصادم ممارساته مع أبسط حقوق الشعوب المستعمَرة بما فيها الحق فى الحياة، بما يرتب لهذه الشعوب مصلحة أصيلة فى القضاء على المستعمر، ويجعل منها حاضنة أكيدة لحركات التحرر التى تتبع أساليب غير تقليدية فى القتال، فيما يُعْرَف بحروب العصابات أو الحروب غير المتماثلة، فضلًا عن أن عديدًا منها لقى أحيانًا دعمًا خارجيًا مؤثرًا بغض النظر عن دوافعه، وهكذا تتطور حركات التحرر رغم ما قد تتعرض له من نكسات مؤقتة تاريخيًا، حتى تُحقق هدفها فى الاستقلال، ليس بالضرورة لأنها هزمت المستعمِر، ولكن لأنه فشل فى هزيمتها.

ومن المهم أن أساليب النضال التحررى ليست عسكرية فقط، وإنما تتنوع من العسكرية المطلقة كالحالة الجزائرية إلى السلمية التامة كالحالة الهندية إلى الجمع بين الأسلوبين بشكل أو بآخر كالحالة الجنوب إفريقية، وثمة من لا يقبل هذا التحليل على أساس أن استعمار المستوطنين البيض فى أمريكا قد نجح، وهذه نقطة مهم جدًا الرد عليها، لأنها تطرح فكرة الاستثناء من القانون العلمى للتحرر الوطنى، غير أنه يجب أن يكون واضحًا أن تجربة انفراد المستوطنين البيض بالشعوب الأصلية فى القارة الأمريكية تمت فى سياق زمنى وتاريخى مختلف تمامًا، ولا يصح القياس عليها، فلم تكن هناك قوى تناصر تلك الشعوب، ولا وسائل اتصال توثق للجرائم المرتكبة ضدها، ولا رأى عام عالمى ينتفض ضد هذه الجرائم، كذلك يتساءل البعض إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يحصل الشعب الفلسطينى على استقلاله كما حصلت الشعوب الأخرى وبالذات العربية وبحد أقصى مطلع سبعينيات القرن الماضى، والرد أن تجربة الاستعمار الصهيونى لفلسطين هى أحدث التجارب الاستعمارية، وهى لم تكمل العقود التمانية بعد، بينما طال أمد الاستعمار الفرنسى للجزائر والبريطانى لجنوب اليمن نحو قرن وثلث القرن، والاستعمار الأبيض لجنوب إفريقيا قرونًا.

طرحت هذه الأفكار ثلاث مرات فى منتديات عن الحرب الجائرة الدائرة الآن فى فلسطين، وكان أحد أهداف طرحها ما لاحظته من تراجع الروح المعنوية لبعض مؤيدى الحق الفلسطينى بسبب فداحة الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن الجرائم الإسرائيلية، ولا يعنى هذا أن الغرض من طرحها كان مجرد رفع المعنويات، فهذه الأفكار لها سندها العلمى، ولا أنسى أستاذى الجليل عبدالملك عودة الذى حدثنا فى آخر ستينيات القرن الماضى عن المصير المحتوم للنظام العنصرى فى جنوب إفريقيا، وقلنا ساعتها إن إيمان الرجل بقضية التحرر الوطنى وعشقه لإفريقيا دفعاه إلى إصدار هذا الحكم، فلم يمض عقدان من الزمن إلا وكانت نبوءته قد تحققت، غير أن القوانين العلمية للظواهر الاجتماعية لا تعمل من تلقاء ذاتها، وإنما لابد لها من قوى تُفَعلها، فما شروط تفعيل قانون التحرر الوطنى فى الحالة الفلسطينية؟ هذا ما أحاول مناقشته فى المقالة القادمة، بإذن الله.

شروط نهاية إسرائيل (1)

تناولت المقالة الماضية فكرة «نهاية إسرائيل» كنوع من التحليل الاستشرافى المستند إلى الخبرة التاريخية، وتمنيت ألا يسارع أحد إلى الاستخفاف بجوهر التحليل، على أساس أن إسرائيل تبدو الآن فى عنفوان قوتها فكيف نتحدث عن نهايتها، والحمد لله أن الاستخفاف لم يحدث، وإنما كانت هناك تعليقات وتساؤلات سأجتهد فى محاولة الإجابة عنها، غير أنى أود تأكيد، بداية أمرين أولهما ما سبقت الإشارة إليه بخصوص «تاريخية» التحليل، بمعنى أنه لا ينسحب على المدى القصير، ومع ذلك فيمكن فى ظل ظروف معينة أن تشهد الشرائح الشابة من الأجيال الحالية بدايات الانهيار إن لم يكن اكتماله، والثانى أن البعض يتصور أن الحديث عن نهاية إسرائيل يعنى تصفيتها ماديًا، وهو تصور مجافٍ للواقع تمامًا، فتصفية الاستعمار التقليدى كانت تعنى عودة الجيوش الاستعمارية إلى أوطانها، أما تصفية النظم الاستيطانية فتعنى – كما حدث فى جنوب إفريقيا وغيرها – تصفية البنى القانونية والاجتماعية لهذه النظم دون مساس بالبشر، وتحقيق المساواة بين الجميع، وصحيح أن نسبة من المستوطنين غادرت جنوب إفريقيا بعد انتهاء العنصرية، لكن الصحيح أيضًا أن جزءًا من هؤلاء قد عاد لاحقًا، فحديث التصفية المادية بمناسبة انتهاء النظم العنصرية للاستعمار الاستيطانى غير وارد أصلًا. أما بخصوص شروط تآكل التجارب الاستعمارية وتصفيتها فقد سبقت الإشارة إلى أن القوانين الحاكمة للظواهر الاجتماعية ومنها السياسية لا تعمل من تلقاء نفسها، وإنما لابد لها من قوى اجتماعية وسياسية تُفَعلها. صحيح أن الممارسات الاستعمارية تولد تلقائيًا دوافع المقاومة لدى الشعوب المستعمَرة وتؤجهها، لكن ميلاد مقاومة الاستعمار وتطورها يحتاج نخبة تخرج من صفوف الشعب الذى يمثل الحاضنة الضامنة لدعمها واستمرارها، وقد ولَّدت بدايات المشروع الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين مظاهر لمقاومة شعبها له، حتى قبل اتضاح طبيعته العنصرية الإحلالية، وقد بلغت هذه المظاهر ذروتها فى ثورة 1936 التى لم تُوَفَّق فى وأد هذا المشروع لظروف سيحاول التحليل توضيحها، غير أن المقاومة استمرت عبر محطات مهمة، سواء تلك التى انطلقت من غزة فى خمسينيات القرن الماضى برعاية مصرية، أو بعد إطلاق «فتح» رصاصتها الأولى فى مطلع 1965، ثم تصاعدت بعد استكمال إسرائيل احتلال أرض فلسطين بعدوان 1967، وأبدعت فى أساليبها العسكرية كما فى معركة الكرامة 1968، وغير العسكرية كانتفاضة الحجارة التى دامت لسنوات منذ نهاية 1987، ثم انتفاضة الأقصى التى جمعت بين الأسلوبين اعتبارًا من 28 سبتمبر 2000، وبالتالى يمكن القول إن المقاومة من المنظور التاريخى مستمرة منذ تأسيس إسرائيل وحتى الآن، وتعتبر حلقتها الراهنة التى بدأت فى 7 أكتوبر 2023 أقوى حلقاتها وأكثرها استمرارًا، حيث فاق أمدها بنحو الضعف حرب النشأة فى 1948، ويُلاحظ أن المقاومة الفلسطينية عانت دائمًا وإن بدرجات متفاوتة الانقسام بين فصائلها منذ ثورة 1936 سواء نتيجة تناقضات أيديولوجية وسياسية أو تدخلات خارجية، وأمكن أحيانًا حل هذه التناقضات بسلاسة نسبية كما فى الخلاف بين «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية الذى انتهى باندماجهما تحت زعامة ياسر عرفات الذى أصبح رمزًا لوحدة النضال الفلسطينى، غير أن الحلقة الراهنة من هذا الانقسام بين «فتح» و«حماس» هى أسوؤها وأشدها إضرارًا بالنضال الفلسطينى دون شك، لأنها انطوت على صدام دموى خطير فى 2007 أدى إلى انقسام الشرعية الفلسطينية بين «فتح» التى فاز رئيسها فى الانتخابات الرئاسية 2005 و«حماس» الفائزة بالانتخابات التشريعية فى 2006، واستبعاد «فتح» من السلطة فى غزة، و«حماس» من السلطة فى الضفة، وقد فشلت كل محاولات المصالحة بين الفصيلين منذ ذلك الوقت وحتى الآن رغم أن عددها يقترب من 15 محاولة انخرطت فيها عواصم عربية وإقليمية وعالمية مهمة، وهو ما يقودنا للسبب الثانى لاستدامة الانقسام، وهو الخلاف البَين بين نهج التسوية الذى اعتمدته «فتح» منذ اتفاقية أوسلو فى 1993، وأثبت عقمه بامتياز، بدليل ما نشاهده الآن من عربدة إسرائيلية فى الضفة، ونهج النضال المسلح الذى اعتمدته «حماس» وفصائل أخرى كالجهاد الإسلامى، والذى يقف خلف الجولة الراهنة من جولات المواجهة الإسرائيلية – الفلسطينية، ويعتبر خصومه أنه تسبب فى «نكبة ثانية» للنضال الفلسطينى. وليست ظاهرة الانقسام بين فصائل حركات التحرر الوطنى بالجديدة، فقد عرفتها كل هذه الحركات، وإن أمكن التمييز بين انقسام كانت الغلبة فيه واضحة لفصيل بعينه، كما فى حالتى الجزائر وجنوب اليمن، على النحو الذى لم يُلحق ضررًا فادحًا بالقدرة على تحقيق النصر، وآخر شهد نوعًا من توازن القوى بين الفصيلين الأكبر، كما حدث فى حركة التحرر الأنجولية، وكما نشاهد الآن فى الحالة الفلسطينية رغم ما تشهده من تحديات مصيرية مصدرها الحكومة الإسرائيلية الحالية غير المسبوقة فى تطرفها وعنصريتها وعدوانيتها ووحشيتها، ولذلك فإن كل القوى الحية فى المجتمع الفلسطينى مطالبة بتحقيق نقلة نوعية فى المعادلة السياسية الفلسطينية تنهى الوضع الحالى غير المقبول على الإطلاق فى الساحة الفلسطينية، والذى تحتاج مواجهته لمكاشفة وشفافية كاملتين، ومشاركة من كل القوى الحية فى المجتمع، وقد يقول قائل كيف الحديث عن «نهاية إسرائيل»، والأمر كذلك فيما يتعلق بمحنة الوضع الحالى للعلاقة بين فصائل المقاومة؟ والإجابة ببساطة أنه رغم كل هذه الخلافات الطاحنة فقد أجبرت المقاومة إسرائيل على الانسحاب من غزة فى 2005، بل وتفكيك المستوطنات القريبة منها فى أول سابقة من نوعها، وانخرطت معها فى أقوى وأطول جولات المواجهة حتى الآن التى يقترب أمدها حثيثًا من سنتين، ناهيك بتداعيات هذه المواجهة على الداخل الإسرائيلى وتأثيرها على التحولات فى الرأى العام العالمى والمواقف الدولية الرسمية الآخذة فى التصاعد، تأييدًا للحق الفلسطينى على النحو الذى يؤكد سلامة المسار التحررى ونجاعته رغم التكلفة المادية والإنسانية الفادحة التى شهدتها حركات التحرر الوطنى كافة.

وللحديث بقية

شروط نهاية إسرائيل (2 ــ 3)

هذه هى المقالة الثالثة فى سلسلة حديث «نهاية إسرائيل» التى بدأتها الأسبوع قبل الماضي، ثم بدأت الأسبوع الماضى تناول شروط هذه النهاية، وأُحاول وضع القارئ الكريم فى السياق العام للمقالات، لأنى لا أفترض أنه يتابعها بانتظام، ولذلك فمن حق قارئ هذه المقالة فقط أن يعرف سياقها العام، وكانت رسالة المقالة الأولى أن نهاية إسرائيل حتمية، ليس انطلاقًا من نبوءات دينية لا قدرة لى على الفصل فيها، ولا خبرات تاريخية عن نهاية كيانات يهودية سابقة بعد مدد لم تتجاوز الثمانية عقود أبدًا، وإنما انطلاقًا من خبرات تاريخية أكدت فكرة حدود القوة، وأن ثمة لحظة تاريخية تُغْفِل فيها القوة التوسعية أو الاستعمارية حدود قوتها فيبدأ تآكلها، وكذلك من تجارب حركات التحرر الوطنى العالمية التى انتهت كلها لمصلحة القوى المقاومة للاستعمار، وكان ثمة تأكيد أن نهاية إسرائيل لا تعنى تصفيتها ككيان مادي، وإنما تصفية بنيتها العنصرية كحالة جنوب إفريقيا، كما أنها ليست توقعًا للمدى القصير، وإنما نبوءة تاريخية لن يشهدها جيلي، وإنما تشير التطورات الأخيرة إلى أن الأجيال الشابة حاليًا قد تشهدها، واختُتِم التحليل بأن تآكل الظاهرة الاستعمارية لا يحدث تلقائيًا، وإنما بفعل قوى اجتماعية وسياسية تعمل على تحقيق هذه الغاية، ومن ثم فإن لنهاية إسرائيل شروطًا تناولت المقالة الماضية أولها، وهى وجود مقاومة فلسطينية، واستعرضت استدامتها وتنوع أساليبها ومعاناتها من الانقسام، ومع ذلك قدرتها على تحقيق إنجازات لافتة لعل أبرزها إجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة في2005، وتفكيك المستوطنات المحيطة بها فى أول سابقة من نوعها، والتداعيات التى نشهدها حاليًا لعملية 7 أكتوبر2023 ، سواء على الداخل الإسرائيلى أو فى الساحة الدولية، وتتناول مقالة اليوم الشرط العربى والإقليمى فى معادلة تصفية الاستعمار الصهيونى لفلسطين.

ومنذ اللحظة الأولى لتبلور المشروع الصهيونى فى فلسطين كان هناك احتضان عربى للقضية الفلسطينية، وإن نُسِب للنداء الذى وجهه الحكام العرب للثوار الفلسطينيين فى أكتوبر1936 دور فى إجهاض الثورة، ومع ذلك فقد شاركت الدول العربية المستقلة آنذاك فى حرب 1948 فى محاولة لم تنجح لوأد دولة إسرائيل، كذلك رعت مصر بعد ثورة يوليو 1952 حركة للمقاومة فى غزة كان لتداعياتها دور فى مشاركة إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر1956، وكرد فعل للمشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن فى مطلع ستينيات القرن الماضى دعا عبد الناصر لقمة عربية عاجلة عُقِدَت بالقاهرة فى يناير1964، ومثلت قراراتها نقلة نوعية فى الدعم العربى الرسمى للنضال الفلسطيني، وتمثل هذا فى اتخاذ أولى الخطوات لتأسيس الكيان الفلسطينى الذى مازال يمثل الشعب الفلسطينى حتى الآن، وهو منظمة التحرير الفلسطينية التى أُعلنت رسميًا فى قمة الإسكندرية فى سبتمبر من العام نفسه (1964)، كما دعمت القمة قرار المنظمة بإنشاء جيش تحرير فلسطين، ومثل هذا ذروة الدعم العربى الرسمى للقضية الفلسطينية، كما مثل الحفاظ على المقاومة الفلسطينية بعدًا رئيسيًا فى السياسة العربية آنذاك، باعتبار هذه المقاومة رقمًا أساسيًا فى معادلة إزالة آثار عدوان يونيو 1967، وكان أبرز المؤشرات فى هذا الصدد عقد أسرع قمة فى تاريخ القمم العربية فى القاهرة سبتمبر 1970، والتى دعا إليها عبد الناصر لتطويق الصدام الذى تفجر آنذاك بين المقاومة الفلسطينية والسلطة الأردنية، وانتقل إلى رحاب ربه فور انتهائها، وقد استمر الدعم الرسمى العربى للمقاومة الفلسطينية ممثلة فى منظمة التحرير، مع ملاحظة أن هذا الدعم بات مقتصرًا على الدعم اللفظي، وأحيانًا المالى الذى لا يتم الالتزام به كاملًا، كما اعتبر البعض قرار قمة الرباط 1974 باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى نوعًا من إبراء الذمة العربية من القضية الفلسطينية، وإن كانت قرارات القمة لا تقطع إلا بالمعنى الضمنى الخاص بمسئولية المنظمة عن الضفة الغربية التى كانت فى ذلك الوقت جزءًا من الأردن.

غير أنه يمكن القول أنه اعتبارًا من العدوان الإسرائيلى على لبنان في2006 بصفة خاصة بدأ يتبلور موقف لدى بعض الدول العربية، مفاده أنه ليست كل مقاومة ضد إسرائيل تستحق الدعم دون قيد أو شرط، فقد اعترض بعض الدول العربية على عملية «حزب الله» التى ردت عليها إسرائيل بعدوانها الشهير، وعلى الرغم من أن مجلس وزراء الخارجية العرب قد تبنى وجهة النظر هذه بشكل أو بآخر فإنه يمكن القول إن الدعم الشعبى العربى الواضح للمقاومة قد صحح هذا الموقف من قبل النظام الرسمى العربى فى الاجتماع الطارئ للمجلس الوزارى الذى عُقِد لاحقًا فى بيروت، واختفت منه نبرة الانتقاد للمقاومة، وإن ظهر موقف الاعتراض على المقاومة مجددًا فى جولتها الأخيرة اعتبارًا من 7 أكتوبر2023، ويجد هذا الاعتراض تفسيره فى سببين أحدهما أيديولوجي، وهو الاعتراض على المرجعية الإسلامية للمقاومة، سواء كانت سنية كما فى حالة حماس والجهاد أو شيعية كحزب الله، ولا يميز المعترضون بين التناقضات الثانوية بينهم وبين هذه الفصائل والتناقضات الرئيسية التى يُفْتَرَض أن تجمعهم سويًا ضد إسرائيل، أما السبب الثانى فهو علاقة هذه الفصائل بإيران، وهى علاقة اضْطُرت إليها بسبب غياب الدعم العربي، مع التسليم بأن لإيران بالتأكيد أهدافها الذاتية من وراء هذا الدعم، والمحصلة هى ما شهدناه عبر ما يقترب من سنتين الآن من أن المواقف العربية الرسمية اقتصرت على إدانة الأعمال الإسرائيلية، واستمرار موقف الاعتراض على المقاومة من قِبَل البعض، ولم تشذ سوى مواقف قليلة لعل الموقف المصرى أبرزها، وذلك بتقديم معظم المساعدات لغزة عندما كان ذلك ممكنًا، والتوسط الفعال فى التوصل لوقف إطلاق النار، وتبنى موقف موضوعى تجاه الفصائل الفلسطينية كافة يساعد فى تحقيق المصالحة وليس زيادة الانقسام، والأهم من ذلك كله التصدى الفعال لمخطط تهجير غزة الذى أعلن الرئيس السيسى منذ البداية بحسم أن مصر لا يمكن أن تقبله، سواء لأن هذا القبول يعنى تصفية القضية الفلسطينية، أو لأنه يعرض الأمن المصرى لمشكلات متعددة الأبعاد على النحو الذى يعرفه الجميع، ولا شك فى أن هذا الموقف الواضح لم يلق استحسان أطراف دولية نافذة، لكن هذه هى قيمة السياسة المصرية التى بات الجميع يعرفها، والتى تقوم على مبادئ لا يمكن التفريط فيها.

والخلاصة أن الرقم العربى بحالته الراهنة بصفة عامة لا يمكن أن يكون فاعلًا فى معادلة التحرر الفلسطيني، وبالتالى فإن الاعتماد الأساسى فى هذا الصدد على صمود الشعب الفلسطينى ومقاومته، وهو صمود يقترب حثيثًا الآن من السنتين، والقدرة على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، مع الاستفادة من المصادر الممكنة للدعم العربي، ويبقى استكشاف الشرط الثالث لنهاية إسرائيل، وهو المتعلق بالساحة العالمية، وهى ساحة تستحق نقاشًا جادًا وصريحًا، وهو ما سأختتم به هذه السلسلة فى الأسبوع القادم بإذن الله.

شروط نهاية إسرائيل (3-3)

هذه هى المقالة الأخيرة من سلسلة تحدثت عن «نهاية إسرائيل» فى وقت تبدو فيه فى ذروة منحنى قوتها ناهيك بغرور هذه القوة، وهى نهاية بُنيت على فكرة حدود القوة والقانون العلمى للتحرر الوطنى، غير أنها لا تحدث من تلقاء نفسها، وإنما بفعل قوى اجتماعية وسياسية رافضة للاستغلال والقهر الاستعماريين، وقد ناقشت المقالة قبل الماضية إنجازات المقاومة الفلسطينية وحدود هذه الإنجازات بسبب الانقسام الذى لازمها منذ نشأتها حتى الآن، وحللت المقالة الماضية تطور الموقف العربى تجاه المقاومة من التأييد المطلق إلى اللفظى فالاعتراض من بعض الدول العربية عليها، واختتم اليوم بتحليل المواقف الدولية، وهى أضعف الأبعاد فى حركة التحرر الوطنى الفلسطينى، فإذا كانت المقاومة قد حققت إنجازات حقيقية رغم انقسامها، والدعم العربى قد أثمر ولو فى مرحلة معينة، فإن المواقف الدولية منذ البداية كانت إما شديدة الانحياز للمشروع الصهيونى وثمرته إسرائيل، أو داعمة للأطراف العربية التى كانت تواجه إسرائيل، وإن تأثر هذا الدعم بطبيعة الحال بتغير المواقف العربية والمتغيرات الدولية على نحو ما سيجىء، ويرجع السبب فى هذا التأييد الدولى الواضح للصهيونية وإسرائيل إلى الوعى الواضح للحركة الصهيونية منذ بدايتها بحدود قدراتها الذاتية، وبأنه لن يكون بمقدورها تحقيق أهدافها اعتمادًا على هذه القدرات وحدها، ومن ثم كانت إقامة علاقات عضوية مع القوى الكبرى فى النظام الدولى هدفًا معلنًا للحركة منذ مؤتمرها الأول فى 1897، وأثمر هذا «إعلان بلفور» 1917 الذى تعاطفت فيه الحكومة البريطانية مع فكرة الوطن القومى لليهود فى فلسطين، فلما أقرت عصبة الأمم الانتداب البريطانى على فلسطين 1922 فتحت تلك الحكومة أبواب فلسطين على مصراعيها للهجرة اليهودية، وهى الهجرة التى أحدثت نوعًا من التوازن التدريجى بين أهل فلسطين من العرب والمستوطنين اليهود، كما أسست البنية التحتية للدولة اليهودية اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وفى اللحظة المناسبة انسحبت القوات البريطانية من فلسطين بما مكن من إعلان الدولة اليهودية فى 15 مايو 1948، وسرعان ما حلت الولايات المتحدة التى تولت قيادة التحالف الغربى بعد الحرب الثانية محل بريطانيا فى دعم إسرائيل، فلم تخذلها لمرة واحدة رغم تغير الرؤساء والانتماءات الحزبية، اللهم إلا فى المرة اليتيمة التى أصر فيها الرئيس أيزنهاور على انسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة فى 1957، ولم يكن ذلك انتصارًا للعرب، وإنما احتجاجًا على التصرف المنفرد لإسرائيل وبريطانيا وفرنسا بالعدوان على مصر من وراء ظهره، وقد تردد فى الآونة الأخيرة الحديث عن خلافات بين ترامب ونيتانياهو كانت لها مؤشراتها الواضحة، غير أن الفيتو الأمريكى الأخير ضد مشروع قرار بوقف إطلاق النار فى غزة وافق عليه باقى أعضاء مجلس الأمن الـ 14، والتواطؤ الأمريكى – الإسرائيلى الحالى على ضرب إيران كان كاشفًا لزيف أى حديث عن خلاف أمريكى – إسرائيلى حقيقى.

أما القوى الكبرى الأخرى فقد تميز من بينها الاتحاد السوفيتى بدعمه الدول العربية التى واجهت إسرائيل منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى حتى حرب أكتوبر 1973، غير أن بدء التسوية السلمية للصراع فى النصف الثانى من السبعينيات، وتفكك الاتحاد السوفيتى ذاته غيرا الموقف جذريًا، كذلك نجحت إسرائيل تطبيقًا لمبدأ العلاقات القوية مع كل القوى الكبرى فى تحويل الموقف الصينى من موقف شديد الثورية انتصارًا للحق الفلسطينى إلى موقف متوازن يوافق على حل الدولتين ولا يفعل شيئًا لتطبيقه، ولو كان لحرب إسرائيل على غزة التى تقترب الآن من السنتين أمدًا من دلالة فهى أن قيادة النظام العالمى على الأقل فيما يتعلق بالصراع العربى – الإسرائيلى مازالت أحادية القطب بامتياز، فقد عجزت كل المواقف الأوروبية والروسية والصينية المؤيدة لفظيًا للحق الفلسطينى عن وقف العدوان الوحشى على غزة طيلة هذه المدة.

ومن حق الكثيرين أن يتساءلوا كيف الحديث عن نهاية إسرائيل بعد كل ما سبق ذكره من انقسام فلسطينى، وتراجع فى التأييد العربى للمقاومة بل واعتراض عليها، وموقف دولى إما منحازا انحيازًا مطلقًا لإسرائيل أو رافضا لسياساتها لفظيًا؟ والإجابة هى تكرار التذكير بخبرة التاريخ ودروسه فيما يتعلق بتآكل الظاهرة الاستعمارية، والإنجازات اللافتة للمقاومة عمومًا والمقاومة الفلسطينية خصوصًا، وبالذات إجبار إسرائيل على الانسحاب التام من الشريط الحدودى فى جنوب لبنان 2000، ومن غزة 2005، ناهيك بتفكيك المستوطنات القريبة منها، وتداعيات حلقات المقاومة الممتدة فى غزة منذ عدوان 2008 حتى «طوفان الأقصى»، مع العلم بأن بعض هذه التداعيات يبدو واضحًا الآن داخل إسرائيل عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وخارجها فى تحولات المواقف الدولية، وبالذات الأوروبية بعد أن وصل الإجرام الإسرائيلى لذروة غير مسبوقة، مع العلم بأن أحد العوامل الحاسمة فى انهيار النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا والنظم المشابهة له فى تسعينيات القرن الماضى كان فقدان هذه النظم الدعم الغربى، كما أن ثمة تداعيات أخرى لملحمة المقاومة فى غزة، من المؤكد أنها ستظهر لاحقًا على الساحات الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والعالمية، ولنقارن الحال العربى بعد 1948 بالمد القومى العارم فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى، بل إنى أختم بالقول إن ما يبدو الآن من غطرسة إسرائيلية فى إيران يُعَد من المنظور التاريخى تطورًا نموذجيًا فى طريق تآكل القوى الاستعمارية التى لم يسبق لأى منها أن وصل من قبل إلى ما وصلت إليه إسرائيل الآن بتحولها إلى دولة للقتل والاغتيال تحكمها قيادات غبية لا ترى أبعد من مواقع أقدامها، ولا تدرك أنها تُرَسخ صورة لإسرائيل كدولة تمثل خطرًا على الجميع بعقيدتها الأمنية التى تحدد المخاطر، وتصدر أحكام القتل والتدمير، غير مدركة أنها تؤسس بذلك لصراعات ممتدة لن تنتهى إلا بتصفية كيان العدوان، وإن غدًا لناظره قريب.

جريدة الأهرام المصرية- انظر “المصدر” أدناه.

كتب ذات صلة:

فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ

فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم

المصادر:

نُشرت هذه المقالات الأربعة على أربع مراحل في جريدة الأهرام المصرية، تباعاً، بتواريخ 29 أيار/مايو 2025، 5 حزيران/يونيو 2025، 12 حزيران/يونيو 2025 و19 حزيران/يونيو 2025.

أحمد يوسف أحمد: أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية.


أحمد يوسف أحمد

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز