في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أبرز القوى العالمية التي تتداخل مصالحها مع السياقات الإيرانية، فإن علاقات البلدين تعقَّدت وتحوَّلت منذ الثورة الإيرانية عام 1979 إلى ساحة للتوتر والصراع وأحيانًا محاولات محدودة للتعاون.

لا تنظر الولايات المتحدة إلى النفط الإيراني بوصفه مجرَّد مصدر للطاقة فحسب، بل إحدى أوراقها الأساسية في الضغط على النظام الإيراني للدفع بتخلّيه عن أنشطته التي تراها متضادة مع مصالحها في المنطقة.

بذلك، تحلل هذه الورقة، ولا سيَّما مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم مرةً أخرى، تأثير الضغوط القائمة والمحتملة على إيران كمنتج مؤثر للنفط، الذي يعَدُّ سلعة «شديدة الحساسية» للتغيُّرات الدولية والإقليمية، فضلًا عن تقييم الاستراتيجيات الأمريكية للتعامل مع هذا الملف الحيوي من منظور الطاقة والسياسة الدولية، وتطرح سيناريوهات المستقبل حول السياسات المحتملة تجاه إيران ونفطها في ظل ما طرأ على السياقات الدولية من تغيُّر.

بدايةً، تصنَّف الجمهورية الإيرانية كرابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، إذ تُقدَّر احتياطياتها النفطية بأكثر من 208 مليارات برميل‏[1]، وتأتي كثاني أكبر دولة على مستوى العالم في احتياطيات الغاز الطبيعي‏[2]، وهي أحد مؤسسي منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وعضو نشط في منتدى الدول المصدِّرة للغاز الطبيعي، إلا أنها شبه معفاة – إن جاز التعبير – من قرارات خفض الإنتاج المتخذة بموجب اتفاقية أوبك وحلفائها (أوبك +)، وذلك مراعاةً من أعضاء المنظمَّتين النفطيتين للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

وقد مثَّلت إيران في نهاية عام 2023 ما نسبته 24 بالمئة من احتياطيات النفط في الشرق الأوسط و12 بالمئة من احتياطياته في العالم‏[3]، كما أعلنت عن اكتشافها 4 حقول جديدة للنفط والغاز خلال عمليات التنقيب التي أجريت في كل من مناطق: هيركان وجناوه وتنغو وجشمه شور‏[4].

أولًا: تأثير سياسة العقوبات

نظرًا إلى العقوبات الأمريكية والأممية التي تُفرض على إيران منذ أكثر من أربعين عامًا، وما نتج منها من نقص في التكنولوجيا الحديثة لإنتاج النفط وقلة الاستثمارات الأجنبية، يظل إجمالي إنتاجها من الوقود الأحفوري محدودًا مقارنة بحجم احتياطياتها، ولكنه ارتفع في العامين الماضيين بنسبة 33 بالمئة ليصل إلى 3.4 ملايين برميل يوميًا، وهو أقل ببضع مئات الآلاف عن المستوى الذي كانت تنتجه قبل سياسات «الضغوط القصوى» التي اتبعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في المدة من عام 2017 إلى 2021‏[5]. كذلك شهدت صادراتها ارتفاعًا لتصل إلى نحو 1.7 مليون برميل يوميًا، متجهةً إلى الصين وسورية ودول أخرى، وتأتي الصين كأكبر مستورد للنفط الإيراني بنحو1.1 مليون برميل يوميًا عام 2023، وهو ما مثَّل نسبته 10 بالمئة من واردات الصين النفطية، ومع ذلك، تفيد تقارير الجمارك الصينية بعدم استيرادها أي نفط إيراني خلال عام 2023، لأن براميل النفط الإيرانية مصنفة على أنها قادمة من دول أخرى‏[6].

بخلاف حقبة ما بعد توقيع خطة العمل المشتركة (JCPOA) بين إيران من ناحية وكل من الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا من ناحية أخرى، وتحديدًا عامَي 2016 و2017، لم تتوقف سلسلة العقوبات الأمريكية على قطاع النفط الإيراني، ولكنها في الغالب كانت تُفرض ضمن سياسات «الحدود القصوى» بما تتخلله من استراتيجيات تمنح مساحة أكبر للمساومة والتفاوض وآليات الضغط المسؤول.

على الرغم من أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بين عامَي 2021 – 2024، لم تلغِ أيًا من العقوبات النفطية ضد إيران، بل وسَّعت دائرة العقوبات المفروضة عليها، كتلك التي أُقرت في نيسان/أبريل 2024 لتشمل الموانئ والسفن والمصافي المشاركة في شراء النفط الإيراني، والتي سمحت بإعفاءات لمدة 180 يومًا في حال تداخلت العقوبات مع مصالح الأمن القومي الأمريكي‏[7]، كما فرضت عقب الهجوم الذي شنته إيران في الأول من تشرين الأول/أكتوبر2024 ضد إسرائيل، حزمة من العقوبات جاءت ضمن إطار الأمر التنفيذي الرقم 13902، وكذلك الأمر التنفيذي الرقم 13846، بأن فرضت وزارة الخارجية عقوبات على ست كيانات تعمل في تجارة النفط الإيرانية وأدرجت ست سفن في قائمة الممتلكات المحظورة، هذا وأصدرت وزارة الخزانة الأمريكية في الوقت نفسه قرارًا بفرض عقوبات على عشرة كيانات وأدرجت 17 سفينة في قائمة الممتلكات المحظورة لتورطها في شحنات من المنتجات النفطية والبتروكيميائية الإيرانية‏[8]، إلا أنها في الوقت نفسه، ورغم نهج هذه الإدارة في استمرارية العقوبات، حضَّت إسرائيل أوائل تشرين الأول/أكتوبر2024 على عدم استهداف مواقع تكرير النفط الإيرانية وميناء النفط في جزيرة خرج‏[9]، ردًا على الهجوم الصاروخي الذي نفَّذته إيران ضد إسرائيل؛ شأنها في ذلك شأن تأكيدها لأوكرانيا بالامتناع عن مهاجمة مصافي النفط الروسية، رغم فعالية ذلك في إبطاء التقدّم الروسي‏[10].

يشير هذا إلى إدراك إدارة بايدن أثر تراجع الصادرات النفطية بوجه عام في أسعار النفط العالمية؛ إذ بلغت أسعار النفط بعد وقت قصير من الحرب بين روسيا وأوكرانيا أعلى مستوياتها نحو 139 دولارًا للبرميل، وانعكس ذلك على تكاليف الوقود عالميًا وأثار موجة تضخمية أربكت الاقتصاد العالمي‏[11].

ثمة توجس أمريكي من تكرار ما أشعلته الثورة الإيرانية عام 1979 من صدمة نفطية في العالم بانخفاض إنتاج النفط الخام بمقدار 4.8 مليون برميل يوميًا، أي نحو 7 بالمئة من الإنتاج العالمي، ورغم تمكّن منتجين آخرين في ذلك الوقت من تعويض النقص، إلا أن أسعار النفط ارتفعت بسرعة من 13 دولارًا للبرميل في منتصف عام 1979 إلى 34 دولارًا للبرميل في منتصف عام 1980‏[12].

في المقابل، كانت قد تبنّت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المدة 2017 – 2021 نهج «الواقعية الهجومية»، الذي أفرز استراتيجية «الضغوط القصوى»، بوصفها وفق هذه الإدارة الطريق الأمثل في إعادة صوغ الاتفاق النووي بتضمينه القدرات الصاروخية الإيرانية وسلوك النظام الإيرانيّ في الشرق الأوسط، واستهدفت من خلالها «تصفير صادرات النفط الإيراني» بأن شملت عقوباتها حينها عدد من القطاعات والمؤسسات والأفراد ذات الارتباط بقطاع النفط الإيراني.

ورغم ما سجلته هذه الإدارة من امتداد لمنهجية فرض العقوبات، إلا أنها كانت الأشد قسوةً والأكثر أثرًا في الاقتصاد الإيراني؛ فقد شهدت إيران ارتفاعًا غير مسبوق في نسب الفقر الذي ارتفع مؤشره في نهاية (آذار/مارس 2021) إلى 49.6 بالمئة، ليسجل التضخم ارتفاعًا بنسبة 40.2 بالمئة، والبطالة ما نسبته 9.4 بالمئة‏[13]؛ إذ اعتقدت إدارة ترامب الأولى بإمكان وصولها إلى هدف «التصفير النفطي» من دون النظر إلى المصلحة العالمية أو الخبرات الإيرانية المتراكمة في الالتفاف على الأهداف الأمريكية والتعاطي معها لتحقيق أقل خسائر ممكنة، وهو ما أسفر عنه من ناحية عن ارتفاع أسعار النفط لأكثر من 70 دولارًا للبرميل ولا سيما عام 2018 إلا أنه انخفض أكثر فأكثر عام 2020 نتيجة جائحة كورونا، وأسفر من ناحية أخرى عن إخفاق في تحقيق أهدافها بالتصفير، وإن كان حدث انخفاض كبير للصادرات النفطية الإيرانية بحسب التقارير الرسمية المعلنة، فإن غير المُعلن كان يُشير إلى استمرارية إيران في بيع النفط وبكميات لا يمكن تحديدها نتيجة للسبل الكثيرة التي تسلكها إيران.

تجدر الإشارة إلى أن استراتيجية «تصفير الصادرات النفطية» كانت قد تعارضت مع هدف استراتيجي آخر تضمَّنته الاستراتيجية الأمريكية حينها، وهو هدف يتعلق بتقييد «العدوان الإيراني المزعزع للاستقرار» في المنطقة؛ إذ أدَّت مساعي العمل على تضاؤل عائدات النفط الإيراني، إلى أن يُظهر النظام الإيراني للإدارة الأمريكية تكاليف الاستمرار في اتباع سياسات الضغوط القصوى‏[14]؛ فتعرضت في إثر ذلك، ناقلات نفط للتخريب في ميناء الفجيرة بالإمارات، واستُهدفت كذلك ناقلتان في خليج عُمان إحداهما نرويجية والأُخرى سنغافورية، وأسقطت إيران بصاروخ أرض – جو طائرة أمريكية من دون طيار فوق مياه مضيق هرمز، وهو ما كاد يؤدي إلى مواجهة عسكرية بينهما، وكذلك استهداف أحد أذرعها، جماعة الحوثيين، لمنشأة الغاز التابعة لشركة أرامكو في حقل الشيبة شرق السعودية، وأخيرًا استهداف منشأتين نفطيتين تابعتين لأرامكو في مدينتي بقيق وخريص على الخليج العربي في أيلول/سبتمبر2019.

عمومًا، استهدفت الولايات المتحدة قطاع النفط الإيراني ضمن عقوباتها المتعلقة بعزل إيران اقتصاديًا وتقليص قدرتها على تمويل الأنشطة التي تعدّها مهددة للاستقرار الإقليمي والدولي، وذلك إما من طريق حظر صادراتها النفطية بفرض حظر كامل على شرائه أو استيراده من جانب الشركات الأمريكية، أو منع الدول الأخرى من شرائه بفرض عقوبات ثانوية على أي طرف يتعامل مع قطاع النفط الإيراني، أو فرض عقوبات ثانوية على الدول والشركات التي تتعامل مع النفط الإيراني، بما في ذلك شراء النفط، أو المنتجات البترولية المكررة، أو التعامل مع الشركات الإيرانية العاملة في هذا القطاع.

والواضح من سياسات الإدارتين السابقتين (الديمقراطية والجمهورية) أن التوجه الأمريكي تجاه إيران «واحد»، وهو يهدف إلى الحد من الصادرات النفطية الإيرانية للدفع بالنظام الإيراني إلى تخليه عن أنشطته التي تراها متضادّة مع مصالحها، ولكن يكمن الاختلاف بين الإدارتين في الآليات ووسائل التنفيذ المستخدمة لتحقيق الأهداف نفسها، فإدارة الرئيس بايدن انتهجت سياسات «الحدود القصوى»، بأن استمرت في فرض العقوبات، ولكن بتراخٍ نوعًا ما، وهو ما منح إيران مساحة من العمل على زيادة صادراتها النفطية، أما إدارة ترامب الأولى فانتهجت سياسات «الضغوط القصوى» بأن استمرت أيضًا في فرض العقوبات، ولكن من دون التراخي.

ولم تحقق هاتان الاستراتيجيتان أهدافهما بتخلي إيران عن أنشطتها التي تراها الولايات المتحدة متعارضة مع مصالحها وحلفائها في المنطقة، ولم تستطع أيضًا منع إيران من تصدير النفط، وإن كانت تراجعت كثيرًا في عهد ترامب، وهو ما أثر بالسلب في الاقتصاد الإيراني، ولكنها في الوقت نفسه مكَّنت إيران من تعزيز نفوذها في المنطقة وتقوية تحالفاتها مع كل من روسيا والصين وغيرهم.

ثانيًا: استراتيجية ترامب العائد:
تفاوض جديد أم مواجهة عسكرية؟

يأتي السؤال الآن بعودة ترامب مرةً أخرى إلى السلطة، هل سيحدث تغيّر على السياسة الأمريكية تجاه إيران ونفطها؟

ثمة ما ينبئ بعودة ممارسات «الضغوط القصوى» كتصريحاته التي أدلى بها أثناء حملته الانتخابية وتفيد بأنه سوف يسير على النهج نفسه في الضغوط القصوى، بقوله خلال مقابلة له مع باتريك دايفيد‏[15]: «إنه يريد أن تكون إيران ناجحة ولا يرغب في التدخل في شؤونها الداخلية»، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى «أن إيران تقترب من تصنيع سلاح نووي، وأنه لن يسمح بذلك، وأنه سيفرض عقوبات «قاسية» على إيران وعلى المشترين لنفطها، وإنه في ولايته الرئاسية السابقة حذَّر الصين من أن شراء برميل واحد من النفط الإيراني سيؤدي إلى منعها من ممارسة الأعمال التجارية في أميركا».

بناءً على ذلك، يبدو واضحًا أن قطاع النفط الإيراني سوف يشهد عودة للعقوبات الشديدة القسوة، إلا أن هذه الإدارة قد لا تملك بالضرورة الوسائل الكفيلة بذلك، ولا سيما مع التغيُّرات التي طرأت على مستوى السياقات الدولية والإقليمية وحتى على مستوى القدرات الإيرانية، التي قد تكون دافعًا إلى إعادة الحسابات مع إيران ونفطها.

أولها، القدرات العسكرية الإيرانية التي انتقلت من حيز الرد غير المباشر عبر وكلائها في المنطقة إلى الرد المباشر، ما تجسَّد في الهجوم الأول والثاني الذي نفذته إيران ضد إسرائيل، وقد جاء الهجوم الأول في نيسان/أبريل 2024 ردًا على استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في سورية وراح ضحيته عدد من الأشخاص بينهم قادة كبار في فيلق القدس‏[16]، أما الهجوم الثاني في تشرين الأول/أكتوبر 2024 وجاء ردًا على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية على أراضيها، وكذلك اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله وقادة آخرين‏[17]، ويشير كلا الهجومين اللذين يعدّان أول رد عسكري إيراني مباشر ضد إسرائيل إلى القدرات الإيرانية برفع تكلفة الهجوم عليها.

ثانيها، تجاوز البرنامج النووي الإيراني، الذي يعدّ أحد أهم مسببات فرض العقوبات، المخزون الإيراني من اليورانيوم المخصب 32 مرة الحد الوارد في الاتفاق النووي عام 2015، بأن بلغ نحو 6604.4 كغ‏[18]، كما استطاعت إيران أن تطور قدراتها على التخصيب، وهو ما يقربها كثيرًا من تصنيع الأسلحة النووية، وقد لا يكون أمام الإدارة العائدة الوقت الكافي لمنع ذلك، وبخاصة إذا قرر النظام الإيراني اتباع هذا المسار‏[19]، الذي من الوارد حدوثه إذا ضاقت آفق النظام الإيراني في التعامل مع عقوبات وتهديدات الإدارة الجديدة.

ثالثها، القدرة على التكيف مع العقوبات والالتفاف عليها؛ إذ طورت إيران من ممارساتها كثيرًا في عمليات بيع النفط، كما أنها كوّنت شراكات اقتصادية في إطارها الحيوي مع عدة دول، كالهند التي تشارك في تطوير ميناء «تشابهار» الإيراني، وتركيا التي لديها تجارة نشطة مع إيران في مجالات الطاقة والسلع الأساسية، وفنزويلا التي طوّرت من مجالات تعاونها في مجال النفط والغاز مع إيران، فضلًا عن العراق وكازاخستان وأرمينيا وكوريا الشمالية.

رابعها، التحولات الجيوسياسية التي قد تحد من فاعلية تشديد العقوبات، فقد نجحت إيران في تحقيق تسويات أو تحالفات عقَّدت من معادلات التعامل الأمريكي معها، مثل: تحَسُّن العلاقات بينها ودول الخليج العربية ولا سيما السعودية، التي كانت من أبرز ملامحها إعلان المملكة وإيران برعاية الصين، الاتفاق على عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما في آذار/مارس2023‏[20]، وثمة محادثات بين الدولتين حول تطوير العلاقات بينهما في المجالات العسكرية والدفاعية.

خامسها، الانخراط المتزايد لكل من روسيا والصين مع إيران، فعلى الرغم من الرواسب السلبية والاختلافات الأيديولوجية بين روسيا وإيران، فإن التعاون الاستراتيجي بين النظامين تنامى خلال السنوات القليلة الماضية من تعاون تكتيكي في سورية إلى شراكة دفاعية ظهرت ملامحها في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، باعتماد روسيا المتزايد على إيران للحصول على الأسلحة وأشكال أخرى من الدعم، فضلاً عن أن روسيا أصبحت أكبر مستثمر أجنبي في إيران، وثمة تعاون في تخزين النفط الروسي في الأراضي الإيرانية، وروابط مباشرة بين النظامَين المصرفيَين الروسي والإيراني، كما تبرم شركات طاقة روسية مملوكة للدولة اتفاقيات لتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في إيران، ويعمل البلدان على تحديث البنية التحتية وزيادة التجارة‏[21]، وبخلاف روسيا لا يوجد أي تعارض في مسيرة العلاقات الصينية – الإيرانية التاريخية، فإن العلاقات بين البلدين تتمتع بتعاون متجذِّر ويتسع الآن أكثر فأكثر في المجال التجاري ولا سيَّما أن إيران جزء مهم من مبادرة الحزام والطريق أو في المجال النفطي؛ إذ تمثل الصين أكبر متلقٍّ للنفط الإيراني، وأمام احتياطياتها النفطية القليلة جدًّا مقارنة بحاجاتها المتزايدة، تعَدّ إمدادات النفط الإيراني بأسعار منخفضة في نظر الصين «أمنًا قوميًّا» يدفعها إلى تطوير استراتيجيات أكثر ابتكارًا لتعزيز أمنها في الطاقة.

بلا شك، سوف تواجه إيران ونفطها تحديات كبيرة ومتشابكة بعودة سياسات الضغوط القصوى، التي قد تدفع في المقابل إلى مزيد من التصعيد في المنطقة نظرًا إلى التغيرات الآنفة الذكر، وكذلك لما تمتلكه إيران من أوراق ضغط لعل أبرزها ما يتعلق بقدرة إيران على تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، الذي يمر منه وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية نحو 21 بالمئة من النفط الخام في العالم، وهو ما يجعله أهم نقطة عبور للنفط، وإذا أغلقت إيران المضيق، فإن إمدادات النفط سوف تتأثر كثيرًا، وقد هددت إيران بهذا الإجراء في الماضي، إلا أنها لم تنفذه مطلقًا‏[22]، ولكن مجرد التهديد بذلك، ولا سيَّما أنها كانت قد أعلنت عن افتتاحها في عام 2021 ميناء «جاسك» وهو الميناء الواقع في الطرف الشرقي من مضيق هرمز، أي خارج الخليج العربي، ما يوحي بإمكان تجاوزها للمضيق الحيوي، يزيد من هواجس الطلب على النفط العالمي ويخلق بيئة مضطربة في السوق تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط عالميًا وما يتبع ذلك من تأثيرات جمة.

ومع حالة الإخفاق التي شملت سياسات الضغوط القصوى، التي فرضتها إدارة ترامب الأولى بعدم قدرتها على تحقيق أهدافها سواءٌ بتصفير صادرات النفط الإيرانية أو توقيع اتفاق نووي جديد يتضمن القدرات الصاروخية الإيرانية وسلوك النظام الإيرانيّ في المنطقة، فضلاً عن تغيُّر المعطيات في ظل السياقات الدولية والإقليمية الحالية، تصبح فعالية العقوبات «القاسية» في موضع تساؤل، وربما تواجه تحديات كبيرة سواء في تنفيذها أو في فعاليتها، وبالتالي قد تتجه الإدارة العائدة إلى إعادة حساباتها مع النظام الإيراني وذلك على النحو التالي:

1 – إطار تفاوضي جديد

قد تطرح الإدارة الجديدة بالتوازي مع فرض العقوبات التي قد تتسع لتشمل موانئ ومسؤولين وتجار بلدان أُخرى تتعامل مع النفط الإيراني، إطارًا تفاوضيًا جديدًا يراعي التغيرات في السياقات الدولية والإقليمية والقدرات الإيرانية ويتضمن ضغوطًا دبلوماسية واقتصادية وعروضًا بتخفيف العقوبات مقابل تنازلات ملموسة من جانب إيران، وثمة ما يؤشر إلى ذلك، الاجتماع الذي جمع إيلون ماسك بوصفه مستشار الرئيس الأمريكي ترامب بالسفير الإيراني في الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، وكان بطلب من ماسك بهدف تهدئة التوترات بين إيران وواشنطن‏[23]، فضلًا عن السمات الشخصية للرئيس ترامب؛ إذ من الصعب التنبؤ بسلوكياته، فربما ينتهج نهجًا تفاوضيًا مع إيران وبخاصة أن تصريحاته، الآنفة الذكر، حملت مفردات مثل: «أريد أن تكون إيران ناجحة ولا أرغب في التدخل في شؤونها الداخلية»، ما يوحي بأنه قد يغيّر من مساراته في التعامل مع إيران.

2 – إطار المواجهة العسكرية

قد تتجه إدارة ترامب إلى المواجهة العسكرية سواء بالهجوم المباشر أو غير المباشر على إيران بضرب منشآتها النووية والنفطية، ورغم أن هذا الأمر رفضته إدارة الرئيس بايدن، كونه يمثل الخيار الأكثر خطورة وذا التداعيات الكبيرة ليس على المنطقة فحسب، بل على العالم أجمع، إلا أن ثمة اتجاهًا في مسار المواجهة العسكرية يلوح في الأفق، ويظهر أولاً: في موقف الرئيس ترامب أثناء الانتخابات، عندما انتقد الرئيس بايدن بحصره لإسرائيل قبل هجومها على إيران في تشرين الأول/أكتوبر2024، في ضرب المواقع العسكرية الإيرانية دون النووية‏[24]، وثانيًا: يظهر في تعيين مسؤولين للخارجية والأمن القومي يؤيدون سياسات متشددة تجاه إيران، فقد اقترح مستشار الأمن القومي النائب مايك والتز استهداف جزيرة خرج، منشأة تصدير النفط الحيوية في طهران‏[25] .

كتب ذات صلة:

ما بعد النفط : تحديات البقاء في دول الخليج العربية

النفط والتنمية والحاجة إلى الإصلاح

المصادر:

محمد محمود مهدي‏: باحث متخصص في العلاقات الدولية، وحاصل على الدكتوراه في فلسفة الدراسات الآسيوية.

نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 555 لشهر أيار/مايو 2025.

[1] شاهر الأحمد، «استهداف إسرائيل للنفط الإيراني سيفجر أزمة اقتصادية عالمية،» موقع الجزيرة نت، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2024،    <https://n9.cl/amfcx>.

[2] جودت بهجت، «مستقبل العلاقات الإيرانية – الأمريكية مع إدارة بايدن،» منتدى الخليج الدولي، <https://2u.pw/8EpH2w>.

[3]   Energy Information Administration (EIA), <https://n9.cl/e776uv>.

[4] ميدل إيست نيوز، «تفاصيل جديدة حول الحقول الأربعة الجديدة المكتشفة في إيران،» 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023،           <https://2u.pw/10fRDzvJ>.

[5] Erica Downs and Edward Fishman, «Potential Impacts of New US Sanctions on Iran’s Oil Exports to China,» Center on Global Energy Policy (CGEP), 28 May 2024, <https://2u.pw/McV7BJxF>.

[6] «النفط الإيراني قرب طاقته الكاملة رغم العقوبات.. هل تستهدفه إسرائيل؟،» موقع الجزيرة نت، 5 تشرين الأول/أكتوبر 2024، <https://2u.pw/erDMl6EV>.

[7] ميدل إيست نيوز، «تفاصيل جديدة حول الحقول الأربعة الجديدة المكتشفة في إيران،» 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023،           <https://2u.pw/10fRDzvJ>.

[8] «بايدن يعارض استهداف إسرائيل منشآت النفط الإيرانية وترامب يؤيد استهداف النووي،» موقع إذاعة مونت كارلو الدولية على شبكة الإنترنت، 5 تشرين الأول/أكتوبر 2024،   <https://2u.pw/hvtsOeFf>.

[9] المصدر نفسه.

[10] «What Iran’s Attack on Israel Means for Global Energy,» Atlantic Council, 16 April 2024, <https://2u.pw/6tYLJZam>.

[11] أحمد شوقي، «بعد عام من حرب أوكرانيا.. 10 رسومات بيانية تكشف ملامح أسواق الطاقة،» تقارير وحدة أبحاث الطاقة، 23 شباط/فبراير 2023،          <https://2u.pw/cm6S8Y7k>.

[12] Samantha Gross, «What Iran’s 1979 Revolution Meant for US and Global Oil Markets,» Brookings Institution, 5 March 2019, <https://2u.pw/AbcbKi6X>.

[13] «إلى أين وصلت معدلات التضخم والبطالة خلال العقد الإيراني الماضي؟،» موقع جادّة إيران، 12 نيسان/أبريل 2022،        <https://2u.pw/S3hw773w>.

[14] Ilan Goldenberg and Kaleigh Thomas, «Trump’s Iran Policy Is a Failure,» Foreign Policy (25 September 2019), <https://foreignpolicy.com/2019/09/25/trumps-iran-policy-is-a-failure/>.

[15] يمكن الرجوع إلى المقابلة على الرابط:       <https://www.youtube.com/watch?v=e3bNypjGxgk>.

[16] «هل يؤدي استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق إلى حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران؟،» موقع BBC نيوز عربي، 2 نيسان/أبريل 2024،          <https://n9.cl/bz8ko>.

[17] «إيران تطلق عشرات الصواريخ على إسرائيل «ردًّا على اغتيال نصر الله وهنية»،» موقع France 24، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2024،  <https://n9.cl/rs592>.

[18] ««الطاقة الذرية»: مخزون إيران من اليورانيوم المخصب تجاوز الحد بـ 32 مرة،» موقع العربية نت، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، <https://n9.cl/jzukw>.

[19] مايكل سينغ، «على واشنطن وأوروبا أن تكونا على الموجة نفسها في ما يخص التقدم النووي الإيراني،» معهد واشنطن، 21 آذار/مارس 2024،          <https://n9.cl/dex1wl>.

[20] «نص البيان الثلاثي.. اتفاق عودة العلاقات بين السعودية وإيران،» موقع سكاي نيوز عربية، 10 آذار/مارس 2023،            <https://n9.cl/h9u0wi>.

[21] دانا سترول، «التعاون الروسي الإيراني والتهديدات للمصالح الأمريكية،» معهد واشنطن، 17 نيسان/أبريل 2024، <https://n9.cl/dhkra7>.

[22] «What Iran’s Attack on Israel Means for Global Energy,» Atlantic Council, 16 April 2024, <https://n9.cl/ho1ho>.

[23] «الملف الإيراني: هل يستأنف ترامب سياسته المتشددة أم يتّبع نهج التفاوض؟،» موقع France 24، 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2024،        <https://n9.cl/oydp4>.

[24] Ron Kampeas, «Trump Taps Iran Hawks Marco Rubio, Mike Waltz for top National Security Roles,» Jewish Telegraphic Agency, 12 November 2024, <https://n9.cl/o94za>.

[25] «الملف الإيراني: هل يستأنف ترامب سياسته المتشددة أم يتّبع نهج التفاوض؟،» مصدر سابق.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز