مقدمة

ثار جدل حول حيثيات تبلور الهوية الفلسطينية وتطورها لشعب مشتت ومن دون دولة في الفكر السياسي والاجتماعي الفلسطيني، لكن لم يأخذ الجدل مساحة واسعة فيه في هذه المرحلة، على الرغم من ضرورته على المستوى الثقافي والسياسي والمجتمعي للشعب الفلسطيني، وبخاصة مع ما يمرّ به من انقسام داخلي أصاب الهوية الفلسطينية ذاتها.

سعى الشعب الفلسطيني، كباقي الشعوب والأمم، لبلورة هوية جماعية له، يعرّف بها ذاته ويميزها عن الآخرين، كجزء أساسي في عملية بناء نفسه وحماية ذاته، ويعمل على تمسك أفراده بها بهدف مواجهة محاولات طمس هويته، والعمل على تحقيق الوحدة والتكامل بين الجماعات السياسية المختلقة والقوى الاجتماعية داخله، في مواجهة الاحتلال وسياسته. تعرضت عملية بلورة الهوية الفلسطينية، وتطورها في دول الشتات واللجوء وتحت الاحتلال، لمحاولات مختلفة تراوح بين النفي والطمس والإبدال والتهميش أو التعزيز والمناصرة، استخدمت فيها تلك المحاولات أيضاً سياسات مختلفة منها اندماجية قسرية وأخرى إقصائية.

تجاذبت الهويةَ الفلسطينيةَ عدة عوامل، منها: السياسات الاندماجية القسرية والإقصائية، ودور الثورة الفلسطينية وقواها وما أفرزته من واقع سياسي جديد بعد اتفاقية أوسلو، والانقسام الفلسطيني؛ وهي كلها أثرت في صعودها وهبوطها، وإضعافها وتقويتها. إن إخراج الهوية الفلسطينية من دائرة التجاذب حتى لا تتفتت وتبقى قوية يمثل الهدف الرئيسي لهذه الدراسة.

إطار نظري مفاهيمي: الهوية الجماعية المتخيلة: هوية مصطنعة

تمثل الهوية الجماعية للشعوب والأمم ضرورةً سياسية، وتسعى الشعوب والأمم لتشكيل الهوية الجماعية الخاصة بها في المجتمعات المعاصرة كعنصر أساس في بناء وحدة الأمم واستقرارها وتطورها، تسعى كل أمة لتشكيل هوية جماعية مشتركة تعكس ثقافة المجتمع، وتعبّر عن تاريخه الاجتماعي والسياسي، وعن آماله وطموحاته وأهدافه المستقبلية، وتميز شخصيتها كأمة ذات سيادة عن باقي الأمم الأخرى، وتعمل على اندماج أفرادها ضمن تلك الهوية للمحافظة على تماسك الأمة واستقرارها.

وتُعرَّف الهوية الجماعية سوسيولوجياً بأنها الانتماء إلى كائن اجتماعي، سواء كان جماعة عضوية كالعائلة أو إلى جماعة متخيَّلة كالأمة، يعرف فيه الأفراد أنفسهم في مقابل الآخرين ويعترف الآخرون لهم بتميزهم. لكن ما يهمنا هنا هو الجماعة المتخيَّلة التي ينتمي إليها الإنسان مع ملايين الناس دون أن يربطهم رابطة طبيعية ومباشرة، إنما يرتبطون بعضهم ببعض من خلال التاريخ الاجتماعي والثقافي المشترك والطموحات والآمال المستقبلية والمصالح المشتركة، وكونها لها إرادة سياسية تسعى نحو تقرير مصيرها سياسياً ونحو السيادة والاستقلالية.

تم تناول الهوية الجماعية المتخيلة للشعوب من خلال الإطار السوسيولوجي من مدخلين مختلفين: المدخل الأول يقوم على التصور الماركسي، ويعتبر الهوية نوعاً من الوعي المزيَّف لأنها تمثل لديه مجرد عملية استدخال أو استبطان للقيم السائدة التي تستمد من الأفكار والأيديولوجيات المهيمنة في المجتمع، هذه الهوية حسب آلان تورين هي هوية مغشوشة لأنها تعبير عن خضوع أفراد المجتمع وتبعيتهم للقوى الاجتماعية المهيمنة، من هنا يدعو هذا التصور إلى التخلص من ذلك الوعي الزائف ليتسنى للفرد أن يفرض وجوده كفاعل تاريخي. ويرى تورين أن الهوية تتغير حسب طبيعة المجتمعات إن كانت مجتمعات تقليدية ما قبل الصناعية أو مجتمعات حداثية صناعية. وفي المجتمعات التقليدية تتحدد الهوية بالانتماء إلى الجماعات والأدوار المستمدة من الثقافة والتاريخ الاجتماعي التي يفرضها المجتمع على أعضائه، في حين تتحدد في المجتمعات الحداثية الصناعية بالمستقبل أكثر مما تتحدد بالماضي، أي بالتغيرات أكثر منها بثقافة المجتمع وماضيه.

وفقاً لهذا التصور، تكون الهوية في المجتمعات المعاصرة متغيِّرة وتخضع لفعل الفرد وإرادته، وليس إلى القوى الاجتماعية والسياسية المهيمنة ولا تتحدد وفقاً للعوامل التاريخية والثقافية، وينتج الوعي بالهوية وصناعتها بالدرجة الأولى من عملية صراع. في حين يعكس المدخل السوسيولوجي الآخر النظرة الوظيفية، ويرى أن الهوية نتاج المسار التاريخي، وتؤدي المؤسسات الاجتماعية دوراً جوهرياً في تشكيلها، وهي في نظرهم انعكاس للقيم السائدة على مستوى الوعي الفردي وهي تنتج من عملية التفاعل بين الفرد والبناء الاجتماعي، في مجتمع يقوم على الإجماع بدلاً من الصراع على الثقافة والتاريخ والسياسة، وهو ما يتيح لأفراده الاندماج في نسق العلاقات القائمة المشتركة والمتفق حولها.

لم يغب موضوع الهوية الجماعية وإشكالاتها وأهميتها في وحدة الأمة وتماسك الدولة عن الفكر الاجتماعي والسياسي عند العرب منذ ابن خلدون الذي أشار عندما تكلم على هوية القبيلة كهوية جماعية عضوية وسياسية تشكل أساس قوة الدولة في عهده، بأنها لم تتحدد فقط بما قد يجمع أعضاؤها من روابط دم وقرابة، بل تتحدد أيضاً بروابط جغرافية واجتماعية وسياسية، على اعتبار أن النسب يظل غير مكتمل، ما لم تعززه عناصر الألفة والتعامل الطويل، وما لم يكتسب الفرد عادات وتقاليد وأعراف القبيلة، ولم يتبلور لديه الوعي بوجود مصلحة عامة ومشتركة تربطه ببقية أعضاء جماعته[1].

على هذا الأساس، تتكون الهوية الجماعية بالنسبة إلى ابن خلدون من مكوّنين: الأول موضوعي موروث، والثاني ذاتي على مستوى الشعور والوعي. كان الوعي والشعور يتطلبان صناعة في القبيلة كوحدة عضوية وسياسية أساسية في المجتمع والدولة. بينما ركز منظّرو الهوية القومية العربية الأوائل على الجانب الموضوعي الثابت للهوية الجماعية كالخصائص الجماعية المشتركة (مثل اللغة والأرض والتاريخ والثقافة والعرق… إلخ) باعتبارها هي العامل المشترك الذي يجمع عليه كل أفراد الأمة، أي أمة، من حيث الانتساب والتعلق والولاء والاعتزاز… وهي هوية القاسم المشترك بين الجميع استناداً إلى الخلفية الثقافية والتاريخية الواحدة[2]. وهناك من ركز على البعد الذاتي من إدراك أو وعي أو شعور بالانتماء إلى جماعة أو جماعات معيّنة في تشكل الهوية الجماعية وصناعتها، مع تشديده على أثر العوامل الموضوعية من أرض ولغة وتاريخ وثقافة كخصائص جماعية يشترك فيها أفراد الجماعة في تشكيل مستوى الشعور والوعي بالهوية[3]، وهناك من لم يكتفِ بوجود قواسم أو خصائص مشتركة وانتماء ووعي، بل أعطى أهمية لضرورة وجود حدود للهوية، تصنعها الجماعة لنفسها، وتفصلها وتميزها عن الهويات الأخرى، ويعترف بها الآخرون[4]. ويرفض أدونيس اعتبار الهوية معطاة سلفاً وأن الأفراد هم ثمارها، وأن علاقتهم بها كعلاقة الفرع بالأصل، بل يرى أن الهوية في حالة حركة وأن الإنسان هو من يبدع هويته ويكونها[5]. الهوية ليست إطاراً ثابتاً وجامداً ومقدساً، إنما هي في حالة صيرورة مستمرة ومتغيرة. وتمثل التصور الذي يكونه شعب ما عن ذاته، وهي انعكاس لما يحيط بها وما تعيشه من مؤثرات خارجية، وأهميتها ليس في ذاتها، إنما في قدرتها على بناء الشخصية الفردية والجماعية وتطورها وتعبيرها عن مصالحهم العامة. وليس هناك اليوم هوية خالصة تخص إثنية محددة، إنما هناك هوية عامة تشتمل في داخلها على هويات مختلفة.

إن موضوع إشكالية الهوية وتأزمها في المجتمعات المعاصرة يمثل إحدى أدوات الصراع السياسي والثقافي في داخل المجتمع الواحد ومع المجتمعات الأخرى، وعادةً ما يتم توظيفها من قبل أعداء الأمة. ويساور كثيراً من المجتمعات المعاصرة قلقٌ على مستقبل الهوية الجماعية وكيفية المحافظة عليها، وخوف من تراجعها وتفتتها إلى هويات فرعية، وبالتالي حدوث صراعات هويات ومحاولات الانفصال وإقامة كيانات سياسية مستقلة، وبخاصة أن الكثير من المجتمعات والدول على مدار التاريخ شهدت مثل هذا الصراع والانفصال، وشهد عدد من دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية صراعات وحروب داخلية على أساس الهوية، ارتُكِبت فيها الجرائم ضدّ الإنسانية وهددت السلم والأمن العالميين، وتمزقت في إثرها عديد من الدول والمجتمعات، وما زال بعضها يعاني هذه الصراعات إلى اليوم.

تعني إشكالية الهوية وتأزمها في المجتمع عجزَ المجتمع عن تحقيق أهداف ومصالح مواطنيه السياسية والاقتصادية، وفشله في دمجهم على أساس المواطنة المتساوية والمشاركة، بغض النظر عمّا إذا كان المجتمع متعدداً أو متجانساً. مع عجز المجتمع يضعف الانتماء إلى الهوية، وقد يتخلى أفراده عنها ويستبدلونها بهوية جماعية أخرى. في حالة المجتمعات التقليدية المتعددة التي تعاني إشكالية هوية، تضعف الهوية الجماعية المتخيلة وتبرز الهويات الفرعية وتعبر عن نفسها سياسياً. وتضعف في المجتمع التقليدي المتجانس الهوية الجماعية المتخيلة مع وجود الهيمنة والقمع والفساد وتولد الشعور بالتهميش والاغتراب واللامبالاة والأنانية، وتدفع نحو العنف ضد المجتمع، والتمرد والثورة على النظام القائم.

أولاً: الهوية الفلسطينية قبل النكبة:
هوية متداخلة ومتحدية

مع انهيار الحكم العثماني، وتقسيم البلاد الخاضعة له إلى دول واستعمارها، ومع بروز النزعة القومية، ضعفت الهوية الإسلامية إلى حد كبير وتفتتت إلى هويات عرقية، ظهرت عندئذ الهوية التركية والعربية وغيرهما، وأصبحت الهوية العربية الأكثر انتشاراً بين الشعب العربي الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني، معتبراً الشعب الفلسطيني نفسه جزءاً مندمجاً في النسيج المجتمعي والثقافي والسياسي لإقليم بلاد الشام/سورية الكبرى، ورأى أن الوحدة والهوية العربية التي كانت تتمثل بوحدة سورية الكبرى بما فيها فلسطين، هي القادرة على التصدي للمخطط الاستعماري الصهيوني ومنعه في جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود[6].

إن تصدي عرب فلسطين لخطر أطماع الحركة الصهيونية ومخططات الاستعمار البريطاني في فلسطين التي أعلن عنها في وعد بلفور، وما رافق تلك المرحلة من ثورات شعبية فلسطينية عام 1929 و1936 عمّق وحدتهم ومشاعرهم الوطنية والقومية والدينية وإحساسهم بهويتهم، وأخذت تتشكل هوية فلسطينية على مستوى الشعور بالخصوصية على جانب الهوية العربية. نعلم أنه من الطبيعي نفسياً واجتماعياً أن كل تحدٍ يقابله استجابة، فالتحدي الذي واجه الشعب العربي الفلسطيني في نفي وجوده كشعب على أرضه وباعتباره مجرد جماعات غير يهودية، ومصادرة حقوقه السياسية كما جاء في نص وعد بلفور، والعمل على إلزام الانتداب تنفيذ الوعد، وزيادة هجرات اليهود وتوسعهم في الأرض الفلسطينية، كان من الطبيعي أن يلقى استجابة من الشعب العربي الفلسطيني على مستوى الهوية الفلسطينية شعورياً وثقافياً. وهذا لا يعني استجابة الشعب العربي الفلسطيني في تلك الفترة إلى التحدي والخطر الاستعماري والصهيوني أن الهوية الفلسطينية وليدة ذلك الحدث والفعل التاريخي.

من المؤكد أن الهوية الجماعية ليست نتاج فعل أو رد فعل على حدث تاريخي معيّن، بل هي في حالة تشكل وتطور دائم عبر التاريخ، تتأثر بمختلف الأحداث التاريخية والتطورات في البيئة السياسية والثقافية المحيطة بها. لا شك في أن الخطر الصهيوني كعامل تهديد يسعى لنفي الهوية الفلسطينية، التي كانت تنمو في أحضان الهوية العربية والإسلامية بعد انهيار الحكم العثماني واستعمار البلاد العربية وتقسيمها إلى دول. فالهوية الفلسطينية تشكلت كنتاج لعملية حضارية تاريخية طويلة، ولم تتشكل كرد فعل على المشروع الصهيوني، وهي لا تقتصر على العامل السياسي، بل لها أبعاد ومقومات ثقافية واجتماعية وسيكولوجية، وترتبط بالكيفية التي تعرف فيها المجموعة ذاتها وكيف تعرف من قبل الآخرين[7]. ولا شك في أن النكبة ومعاناة اللجوء والشتات ومقاومة المحتل تشكل عناصر إضافية للهوية الفلسطينية المعاصرة ساهمت في تشكيلها، وتخيلها.

لكن في تلك الفترة لم تستقل الهوية الفلسطينية عن الهوية العربية، وبقيت ضعيفة في عهد الانتداب البريطاني لعدة أسباب، منها: أولاً، بقيت الهوية الوطنية الفلسطينية حريصة على المحافظة على ارتباطها بالهوية والقومية العربية والعمل على البقاء كامتداد لها وليس بعيدة منها، يتضح ذلك من استخدامها أسماء ومفاهيم عربية وقومية في العمل الوطني الفلسطيني السياسي والثقافي والنقابي؛ ثانياً، النزاع بين الهويات العائلية على من يمثل الهوية الفلسطينية، وتمثل ذلك بالنزاع بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي، الذي استمر حتى تشكيل حكومة عموم فلسطين التي كانت تشكل تعبيراً عن كيانية سياسية وهوية فلسطينية؛ ثالثاً، عدم نضج الهوية الفلسطينية سياسياً في تلك المرحلة، على النحو الذي يجعلها قادرة لوحدها على مواجهة المشروع الصهيوني والانتداب البريطاني، ويمكّنها من قيادة الشعب الفلسطيني[8].

ثانياً: الهوية الفلسطينية بعد النكبة: هوية متخيَّلة

مع طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتشتته، تفتت المجتمع الفلسطيني إلى تجمعات سكانية متفرقة لا تواصل اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً بينها، وتسودها حالة من العجز والضياع وعدم الأمن، ناهيك بالفقر والجوع، والقلق والخوف من المستقبل. في ظل هذه الأوضاع لم يفكر الفلسطينيون إلا في متى وكيف سيعودون إلى وطنهم، فتمسكوا بكل من يلمح أو يعد بإعادتهم، هذا ما جعل الهوية القومية العربية تتعزز مرة أخرى بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بين الشعب الفلسطيني، مع انتشار الخطاب القومي والوحدوي في كل من مصر وسورية، وربط تحرير فلسطين بالهوية القومية والوحدة العربية، وانضمام كثير من الفلسطينيين في جميع أماكن تشتتهم إلى الحركات والتنظيمات القومية العربية في مصر وسورية والعراق وسائر البلدان العربية.

ومع التعامل مع الشعب الفلسطيني في دول الشتات بسياسات مختلفة تراوح بين سياسات الاندماج القسري والتجنيس (كما في الأردن وإسرائيل والدول الغربية) وسياسات التمييز والتغريب والتهميش والإقصاء (كما في لبنان ومصر)، عاشت الهوية الفلسطينية حالة من الضعف والتقوقع في مناطق، وتطورت في مناطق أخرى بناء على سياسات دول الشتات وأوضاع الفلسطينيين فيها.

رفض الفلسطينيون سياسات الاندماج القسري في الدول التي اتبعت معهم السياسات الاندماجية القسرية والتجنيسية. وواجهوا سياسات الإقصاء والتهميش لأنها تنتقص من كرامتهم الإنسانية وتزيد معاناتهم. إن تلك السياسات ساعدت، عن غير قصد، في تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة على مستوى الشعور والثقافة أولاً، ومن ثم تبلورها سياسياً.

في ظل الدول التي اتبعت السياسات الإقصائية والتهميشية بدأ الفلسطينيون في تطوير الهوية الوطنية الفلسطينية كما حصل في غزة ولبنان[9]، خلقت تلك السياسات شعوراً ووعياً ذاتياً فلسطينياً في غزة ولبنان بوحدة مصيرهم وبضرورة تغيير واقعهم والتخلص من معاناة التشتت واللجوء. في حين تأخر تطور الهوية الفلسطينية عند الفلسطينيين في الدول التي اتبعت معهم السياسات الاندماجية والتجنيسية، كما حصل في الأردن والضفة الغربية وفلسطينيي الداخل، لأنه لم يتح لهم في البداية التعبير عن هويتهم وقضيتهم بشكل سياسي أو عسكري أو حقوقي أو مؤسسي. فبالنسبة إلى الضفة الغربية، اتبع الأردن الذي استقبل العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 سياسات اندماجية مع الفلسطينيين بهدف خلق هوية أردنية بديلة، من خلال منحهم الجنسية الأردنية وحق المواطنة الكاملة[10]. وعندما سمح بالعمل السياسي الوطني على أرضه لجميع الفصائل الفلسطينية، بدأت تتشكل الهوية الفلسطينية وتبرز بقوة بين الفلسطينيين في الأردن والضفة الغربية، وبخاصة بعد معركة الكرامة.

بالنسبة إلى فلسطينيي الداخل، اتبعت إسرائيل بعد النكبة سياسة الاحتواء أو الأسرلة معهم، وهي سياسة يستخدمها الاحتلال عندما يفشل في تهويد منطقة معينة عبر التهجير والاقتلاع والقتل والتدمير، بسياسة الاحتواء، حيث يسيطر الاحتلال على المنطقة ويحاول احتواء سكانها بإخضاعهم له[11]. ومارست إسرائيل سياسة تعزيز الهويات الضيقة كالحمائلية والمناطقية والدينية والمذهبية، وقسمت التجمعات الفلسطينية إلى مناطق مغلقة لمنع التواصل والتفاعل الاجتماعي بينهم، وعزلتها عن محيطها العربي وباقي التجمعات الفلسطينية في الشتات، وأزالت وجود أي مظاهر تعبّر عن كيانية أو هوية فلسطينية ومنعت تكوينها من جديد. أفرزت هذه السياسة الاحتوائية، ومع غياب نشاط سياسي ودعم معنوي ومادي عربي، واقعاً لا مفر منه سوى السجن أو الهرب أو الموت، فتأخر تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية[12].

رأى البعض أن حالة الشتات واللجوء الفلسطيني تستدعي سوسيولوجياً أن تضعف هويته الضعيفة أصلاً في تلك الفترة، بحكم تدمير بناء المجتمع الفلسطيني، بوصفه عاملاً أساسياً في تكوينها وتطورها، لأن الهوية الجماعية تولد من رحم عملية التفاعل الاجتماعي والثقافي بين أفراد المجتمع. بخلاف ذلك، شكلت حالة اللجوء والتشرُّد الهوية الفلسطينية الثقافية المعاصرة أولاً، التي مهدت في ما بعد لتشكلها سياسياً. أدّت العائلة الفلسطينية اللاجئة ومخيمات اللجوء دوراً بارزاً في ذلك، إذ عززت تجربة اللجوء إحساس الفلسطينيين بالتضامن كوسيلة للحفاظ على الهوية والوجود وكردٍّ على انعدام الأمان لديهم، وهذا ما ساعد على بناء الذاكرة الجماعية لديهم[13]، وأصبحت الذاكرة بديلاً من الأرض التي سلبت[14].

وساهمت الذاكرة وتوارثها جيلاً بعد جيل، والشعور الجمعي، والوعي بالذات لديهم في بلورة الهوية الفلسطينية المتخيلة التي تقوم على العودة إلى الوطن شعباً وأرضاً، ومن اعتبار إسرائيل العدو للشعب الفلسطيني، والتمسك بحق تقرير المصير، وعلى الذاكرة الوطنية وما يصاحبها عند سردها للأجيال من مشاعر عاطفية جياشة ودموع وحسرة وألم على ضياع الأرض والوطن. استطاعت الهوية المتخيلة أن تخلصهم من الشعور بالعجز والضعف والدونية، وتقوّيهم على رفض الإهانة والذل، وتساعدهم على الاندماج في جماعة واحدة تتشارك المصير والقيم والتقاليد والأهداف نفسها، الأمر الذي حقق لهم كفلسطينيين شعوراً بالأمن الاجتماعي والمحافظة على بقائهم أمام سياسات التذويب والانصهار، وفي مواجهة محاولات الإقصاء والتهديد الدائم لوجوده.

تشكيل الهوية الجماعية المتخيّلة لشعب لا يتطلب بالضرورة كما يعتقد البعض وجود دولة ذات سيادة مسبقاً، لأن الحقائق الموضوعية التاريخية والثقافية التي تنتج وعياً ثقافياً وحضارياً تتميز به الجماعة تقوم به عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية من خلال العائلة والمدرسة بالدرجة الأولى، وينتج الوعي السياسي والانتماء للهوية من خلال الصراع السياسي والثقافي والإعلامي، سواء بين القوى الداخلية، أو مع قوى خارجية.

ثالثاً: صعود الهوية الفلسطينية المتخيلة

أخذت الهوية الوطنية الفلسطينية المتخيلة بكل مكوناتها تنضج فعلياً في منتصف الستينيات من القرن الماضي بفعل عاملين أساسيين هما انطلاق الثورة الفلسطينية وهزيمة دول الوحدة والقومية العربية في الحرب ضد إسرائيل، ووفاة جمال عبد الناصر رمز القومية العربية[15]، وشكّلت إعادة التواصل الاجتماعي ـ الذي انقطع بفعل النكبة عام 1948 ـ بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والداخل الفلسطيني بعد الاحتلال عام 1967 عاملاً هاماً في تطور الهوية الفلسطينية وتعزيزها. انطلقت الثورة الفلسطينية في ظل تكون إحساس وحاجة لدى الفلسطينيين بفعل معاناتهم وتبدد آمالهم تدريجاً من قدرة العرب على تحقيق عودتهم لوطنهم، وبخاصة بعد هزيمتهم عام 1967، وبأن عليهم الاعتماد على أنفسهم بالدرجة الأولى للتخلص من حالة اللجوء وتحقيق العودة.

عملت الثورة الفلسطينية، مستندة إلى الحس الوطني والشعور الجمعي والواقع السياسي الجديد، على إحياء الروح والشخصية والهوية الوطنية الفلسطينية في جميع أماكن وجوده، فغيّرت الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، وشددت في موادّه على إبراز استقلالية الهوية الفلسطينية وخصوصيتها، من دون التخلي عن الهوية العربية والإسلامية كامتداد طبيعي وإطار أوسع، ورفعت شعارات مثل «التحرير طريق الوحدة» بدلاً من الشعار القومي «الوحدة طريق التحرير»، ومن خلال تبنيها الكفاح الفلسطيني المسلح في صراعها مع إسرائيل، لاستعادة وتحرير فلسطين. اتسمت تلك الفترة بصعود الهوية الفلسطينية وتراجع الهوية القومية العربية بين الفلسطينيين كهوية أولى، حيث شكلت وقتها الثورة الفلسطينية هوية وحركة وطنية، وإرادة تحرر سياسي، وخلقت وحدة وطنية بين مكوِّنات وقوى الشعب الفلسطيني، وشكلت مؤسسات وطنية تمثله وتعبر عنه.

ولاحظنا تصاعد الهوية الفلسطينية في الأدب الفلسطيني، في شعر محمود درويش، وروايات غسان كنفاني، وكتابات إميل حبيبي وغيرهم. وحاول درويش في قصائده صوغ الهوية الفلسطينية من داخلها، وفيها يتضح التدرج في الانتقال من الهوية العربية إلى الهوية الفلسطينية كهوية أولى لدى الفلسطينيين. في قصيدة «بطاقة هوية» عام 1964، فيها صورت الهوية بأنها هوية فلاح فلسطيني لاجئ في أرضه، شعره أسود وعيناه بنيتان، ويلبس الكوفية، وينتمي إلى الفقراء وهو عربي جذوره في الأرض، ويحذر المحتل من جوعه وغضبه. نجد فيها أن الاسم الفلسطيني أخفي تحت الاسم العربي.

لكن في قصيدة «عاشق من فلسطين» عام 1966 أشار فيها بشكل واضح إلى صاحب الهوية الفلسطيني، لتفتح معركة استعادة الاسم الفلسطيني الذي كاد يذوب في بوتقة الهوية العربية الأوسع بعد التشتت واللجوء. جاءت القصيدة متزامنة مع انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965، وأعرب الشاعر الفلسطيني هارون هاشم الرشيد بوضوح في تلك الفترة عن الهوية الفلسطينية في قصيدة «فلسطيني أنا فلسطيني». وصاغ درويش الهوية الفلسطينية أيضاً من خلال قراءته للآخر الإسرائيلي في قصيدته «عابرون» في عام 1988، مصوراً المحتل بأنه العدو والقاتل وليس الضحية وأنه السارق لأرضنا. وفي المطاف يصل درويش في قصيدته «طباق» عام 2005 إلى أن الهوية الفلسطينية هوية تعددية وتتسع إلى كل الهويات وأنها من صنع الإنسان الفلسطيني تتطور وتتغير، حيث قال:

والهوية؟ قلتُ

فقال: دفاعاً عن الذات…

إن الهوية بنتُ الولادة، لكنها

في النهاية إبداع صاحبها، لا

وراثة ماض. أنا المتعددُ. في

داخلي خارجي المتجدد… لكنني

أنتمي لسؤال الضحية، لو لم

أكن من هناك لدربتُ قلبي

على أن يربي هناك غزال الكناية

فاحمل بلادك أنى ذهبت

ترسخت الهوية الفلسطينية بشكل أسرع وأكبر في غزة والضفة الغربية بعد الاحتلال الإسرائيلي لهما عام 1967، على الرغم من وجود الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الرامية لتفتيت وطمس الهوية الفلسطينية. واستمرت الهوية الوطنية الفلسطينية في الصعود على الرغم مما أصاب الثورة الفلسطينية من خلافات وصراعات بين قواها أحياناً وانتكاسات سياسية أضعفت الهوية وعملت على تراجعها، لكنها بقيت الأقوى بين باقي الهويات الجماعية الأخرى كالحمائلية والدينية والمناطقية حتى قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 إلى غزة والضفة الغربية بناء على اتفاق أوسلو.

ساهمت مجموعة من التطورات السياسية والاجتماعية في تعزيز الهوية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والداخل الفلسطيني في تلك الفترة، وتقليص أثر الانتكاسات والخلافات والصراعات على تقدمها، منها: أولاً، الاعتراف الدولي والعربي بمنظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، ويعبر عن هويته؛ ثانياً، وفاة عبد الناصر وطرد الفلسطينيين من الأردن ولبنان، وارتكاب المجازر بحقهم وملاحقتهم أمنياً، وإهانتهم على الحدود في معظم البلدان العربية، وهو ما زاد معاناتهم وجعلهم يفقدون الثقة بالأنظمة العربية القومية وغير القومية؛ ثالثاً، تراجع المد القومي وبروز القطرية العربية؛ رابعاً، ممارسة إسرائيل سياسة نفي الهوية الفلسطينية وطمسها؛ خامساً، إنشاء عدد من الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وإقبال الفلسطينيين في الداخل على الدراسة والعمل فيها، وهو ما رفع الإحساس الوطني المشترك والهوية المشتركة؛ سادساً، تشكل المجتمع المدني الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة والداخل، وارتباطه بمنظمة التحرير وفصائلها، وممارسته العمل الخدماتي والسياسي معاً، الأمر الذي ساهم في تلبية جزء من حاجات الناس، وعمل على زيادة الوعي السياسي لديهم، وخلق نواة للعمل السياسي والجماهيري المنظم ضد الاحتلال، وظهور الأحزاب السياسية بين الفلسطينيين في إسرائيل للدفاع عن حقوقهم وهويتهم الفلسطينية؛ سابعاً، استخدام العمل العسكري لفصائل منظمة التحرير في قطاع غزة ضد الاحتلال؛ ثامناً، معركة الكرامة ومعركة بيروت؛ تاسعاً، تعزيز منظمة التحرير لنفوذها في الداخل بعد خروجهم من لبنان من خلال خلق امتدادات جماهيرية وقيادية لها، وتشديد قيادة المنظمة على الوحدة الوطنية وعدم الخروج عنها، وإبقاء الخلاف الفصائلي ثانوياً؛ وعاشراً، الانتفاضة الفلسطينية عام 1987حيث شهدت مشاركة جماهيرية واسعة في جميع المناطق الفلسطينية، والتفافاً حول الهوية الفلسطينية. ولقد بيَّنت دراسات ميدانية في تلك الفترة شيوع الهوية الفلسطينية بين الفلسطينيين[16].

رابعاً: تأزيم الهوية الفلسطينية

يكاد يجمع السياسيون والمفكرون اليوم على أن بنية وطريقة عمل الفصائل والأحزاب الفلسطينية تتسم بالتقليدية، كونها ترتكز في بنيتها على التسلطية والزبونية والزمراتية، وتفتقد العمل المؤسسي والديمقراطي في اتخاذ القرارات والمشاركة في العمل الميداني؛ وأن هذه البنية وتلك العلاقات أشبه بالجماعات العضوية التقليدية مثل الحمولة والقبيلة والطائفة، وأن الفصائل الفلسطينية اليوم تعيش حالة انفصام سياسي بين الشعارات والبرامج السياسية التي تتبناها وبين الممارسة السياسية تجاه الهوية الفلسطينية.

ما زالت شعارات هذه الفصائل وبرامجها متمسكة بالهوية الفلسطينية، لكنها لم تستطع أن تترجم ذلك عملياتياً وتجسده واقعاً سياسياً عينياً. اتضح هذا الانفصام عندما اتخذت الثورة الفلسطينية متمثلة ً بمنظمة التحرير الفلسطينية قرار تغير المسار الوطني من العودة إلى الوطن شعباً وأرضاً إلى العودة إلى الدولة على جزء من الأرض ولجزء من الشعب؛ ومن استخدام الكفاح المسلح لتحرير الوطن إلى نبذ الكفاح المسلح واعتبار الحل السلمي والمفاوضات الآلية الوحيدة والاستراتيجية لحل الصراع مع الإسرائيليين؛ ومن اعتبار إسرائيل العدو للشعب الفلسطيني إلى الاعتراف به واعتباره شريكاً في صنع السلام؛ ومن منظمة تحرير فلسطينية تمثل سياسياً الكل الفلسطيني إلى سلطة فلسطينية تمثل جزءاً من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؛ وجرت كل تلك التحولات السياسية والفكرية من دون مشاركة حقيقية للشعب الفلسطيني ومؤسساته الوطنية، حتى تم تضمينها في اتفاق أوسلو وفرضت عليه[17]. انقسم الشعب الفلسطيني حولها ما بين موافق ومعارض، ولم يعد هناك رؤية وطنية واحدة جامعة للفلسطينيين، وتصدعت معها الوحدة الوطنية، وتسببت في شرخ النظام السياسي الفلسطيني[18].

تمثلت تلك التحولات السياسية والفكرية واقعاً ملموساً في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني، واستغلت إسرائيل الواقع السياسي الجديد واستمرت في العمل على إضعاف الهوية الفلسطينية لدى المقدسيين من خلال اتباع سياسة التهويد والاحتواء أو الأسرلة، عبر التدمير والقتل والاستيطان والفصل ومنع التعليم الوطني وتضييق التزاوج والتواصل مع باقي شعبهم، وتحويل المدينة من مدينة متعددة الثقافات والأديان إلى مدينة يهودية مع سيادة إسرائيلية حصرية[19].

بالمجمل، عزلت إسرائيل المقدسيين من التفاعل مع محيطهم الفلسطيني والعربي والإسلامي. إن إهمال القدس من قبل الحكام العرب والفلسطينيين، وفقدان الثقة بالأجسام الوطنية، والشرذمة والانقسام الفلسطيني بمختلف أشكاله، أضعف الانتماء إلى الهوية الفلسطينية عند المقدسيين، ويتضح ذلك في اللامبالاة والسكون والحياد في رد فعلهم تجاه القضايا والأحداث الوطنية، وفي تراجع المد الشعبي الوطني بينهم[20].

وشهدت الهوية الفلسطينية تراجعاً عند فلسطينيي الداخل بعد توقيع اتفاقية أوسلو، لكن الهوية الفلسطينية بقيت أقوى من الهوية الإسرائيلية بينهم على الرغم من تراجعها، ويرجع ذلك إلى أنهم أصبحوا يشعرون بالتهميش مع إهمال القيادة الفلسطينية لهم، وعدم الإشارة إليهم في أوسلو كجزء من الشعب الفلسطيني. يتضح ذلك من نمط التصويت لدى فلسطينيي الداخل في انتخابات الكنيست الأخيرة، حيث ازدادت نسبة الممتنعين من التصويت، وهو ما يؤشر إلى تراخٍ في الهوية الفلسطينية لديهم، لكن نسبة تصويتهم للأحزاب العربية بقيت هي الأعلى، الأمر الذي يؤشر إلى بقاء الهوية الفلسطينية قوية بينهم وليس الهوية الإسرائيلية التي بقيت الأضعف، ولقد تعززت بينهم الهويات التقليدية وبخاصة الحمائلية. يتضح ذلك من انتخابات السلطات المحلية العربية في العقد الأخير، حيث تأخرت الهوية الفلسطينية عن الهوية الحمائلية والمحلية والدينية لديهم[21].

أصبحت الهوية الفلسطينية لديهم إلى حد كبير محلية داخل الخط الأخضر، مرتبطة بهم كأقلية لهم حقوق في المجتمع الإسرائيلي، أكثر من كونها مرتبطة ببعدها الفلسطيني الأعم كونهم جزءاً من الشعب الفلسطيني وقضاياه الوطنية. وبدأوا يركزون أكثر على حقوقهم المدنية وقضية المواطنة بسبب رؤيتهم إلى أن مصيرهم ومستقبلهم هما في إسرائيل وليس في الدولة الفلسطينية المستقبلية، مع بقاء اهتمامهم وتأييدهم بأن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية وإقامة دولته المستقلة[22].

وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد توقيع اتفاق أوسلو وقدوم السلطة الوطنية الفلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية، أخذت القيادة الفلسطينية الوطنية التاريخية في العمل على بناء الدولة الفلسطينية المستقبلية من وزارات ومؤسسات وأجهزة أمنية وخدماتية واقتصادية، وأهملت الاستمرار في بناء الإنسان والمجتمع الفلسطيني، وأغفلت هويته الوطنية، وبناء وحدته الوطنية، وحيّدت منظمة التحرير بكل مؤسساتها من أداء دور فعال كما في السابق.

ولم توفق السلطة الفلسطينية سياسياً في تحقيق ما وعدت به الشعب الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عاصمتها، وفي تحقيق حلم العودة ولو «بشكل عادل» من خلال مفاوضات السلام، وفشلت في إدماج الشعب الفلسطيني في الواقع السياسي والاجتماعي الجديد، لأنها لم تستطع إيجاد مجتمع يسوده القانون وتحترم فيه الحريات وتحفظ فيه الحقوق، ولم تنتج مصالح عامة وروابط اجتماعية وسياسية اندماجية. إنما الواقع المعاش اليوم يتمثل بسلطة فلسطينية انقسمت على نفسها بفعل صراعٍ واقتتال داخلي؛ وحكومةٍ محاصرةٍ من الاحتلال في غزة تسيطر عليها حماس؛ وحكومةٍ تحت سيطرة الاحتلال في الضفة الغربية تقودها فتح ويشاركها فصائل من منظمة التحرير. وكلا الحكومتين تمارسان القمع والاستبداد وانتهاك الحريات والحقوق؛ وحقلٍ سياسي فلسطيني غدا فيه الاستقطاب والانكشاف السمتين البارزتين[23]؛ وانقسامٍ سياسي وقانوني ومؤسسي يشكل خطراً ويهدد بتدمير المشروع الوطني[24].

وقد عمل الحصار والعدوان الإسرائيلي وتجزئة المناطق الفلسطينية على إضعاف السلطة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في الانتفاضة الثانية. أصبحت السلطة الفلسطينية عندها عاجزة عن أداء مهامهما السياسية والخدماتية والأمنية، وعجزت أيضاً عن تحقيق ما وعدت به على المستوى الاقتصادي والتنموي من تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، بل إن الواقع الاقتصادي والتنموي اليوم، يشير إلى تراجع في المستوى الاقتصادي والتنموي، وتفاقم لمشكلات الفقر والبطالة والمديونية والتبعية والريعية[25]، والقوى البشرية من الشباب لا تستثمر في بناء الوطن، بل يعيشون الفقر والبطالة والاغتراب والإحباط والقلق.

ولم يؤسس في ظل السلطة الفلسطينية (تحت حكم حكومات فتح وحماس) إلى يومنا هذا للعمل المؤسسي والديمقراطي، بل اتبعت القيادة والحكومات الفلسطينية سياسات غير تشاركية وغير مخططة وعشوائية، حيث اقتصرت صناعة القرار واتخاذه على الزمرة السياسية، وهمّشت القوى الاجتماعية المدنية ومؤسسات المجتمع المدني من المشاركة في تقرير مصير المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب الفلسطيني[26].

ومع ازدهار الرشوة والزبونية والمحسوبية والواسطة وانتشار الفساد المالي والإداري تحولت المؤسسات العامة إلى مؤسسات تتبع أشخاصاً بعينهم وتديرها التنظيمات، وبخاصة فتح وحماس. وامتلأت مؤسسات السلطة بموظفين غير مؤهلين بسبب سياسة التعيين والتوظيف التي قامت على الأساس الفئوي والواسطة، وليس على أساس الكفاءة والمهنية؛ فأغلب الوظائف العليا في السلطة مشغلة من جانب حركة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في غزة كذلك.

وفي غياب المجلس التشريعي وانقسامه، ضعفت الرقابة التشريعية على مؤسسات وأجهزة السلطة، ومع عدم فعالية مؤسسات المجتمع المدني، تحولت السلطة مع تضخم الأجهزة الأمنية إلى سلطة أمنية بدلاً من أن تكون سلطة مدنية، أثارت الخوف والرعب داخل المجتمع الفلسطيني بفعل ممارساتها غير القانونية، وصراعاتها الداخلية للسيطرة على مراكز القوة والثروة والسيطرة الأمنية على الشعب الفلسطيني.

وكان لوفاة عرفات كشخصية كارزماتية ورمزية وقوية حافظت على تماسك الهوية الفلسطينية وانتشارها، وضعف حركة فتح وتراجعها، أثر في ضعف وحدة الشعب الفلسطيني الوطنية. ومع انتشار السلاح، انتشرت حالة من الفوضى والفلتان الأمني والعنف والعنف المضاد بين القوى الفلسطينية وبين العائلات الكبيرة، ومصادرة الحريات وانتهاك الحقوق، والاستقطاب والاصطفاف السياسي والعسكري.

كل ذلك خلق واقعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مأزوماً، كان من الطبيعي أن تبرز في ظله دعوات وممارسات تدفع في اتجاه تضخيم الذات الفئوية والحمائلية والجهوية والدينية كرد فعل، جزء منه نفسي يتمثل بالبحث عن جماعة تحميه وتحقق مصالحه، وجزء آخر بدافع سياسي للحصول على القوة والثروة، والوصول إلى السلطة بصراع يتم فيه تحويل الخلاف السياسي والاختلاف حول مصلحة المجتمع إلى صراع فئوي، عمل على إضعاف الهوية الفلسطينية، بسبب فشل الكيانية والفصائل الفلسطينية في التعبير عن المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني، وعجزها عن تخليصه من حالة التشرد والمعاناة والألم، وتحقيق رغبته في العيش الكريم، واتباعها سياسة التفرد والتسلط في الحكم بدلاً من المشاركة والتعددية، وتغليب المصلحة الفئوية على مصلحة الشعب.

خامساً: تضخيم الذات الفئوية
والانقسام الفلسطيني والهوية

تراجعت الهوية الفلسطينية المتخيلة مع احتدام الاستقطاب السياسي والتعصب الفئوي والصراع الداخلي الإعلامي والميداني بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة تحديداً. اتضح ذلك عندما أخذت الفصائل تميز نفسها، وتضخم ذاتها في مظاهر مختلفة على حساب الهوية الفلسطينية، مثل رفع الأعلام وارتداء الكوفيات الفصائلية في المناسبات والاحتفالات الوطنية، وتغييب العلم الفلسطيني رمز الهوية الفلسطينية؛ وكل فصيل تتبعه مؤسسات وجمعيات غير حكومية ترعى أبناءه وتخصهم بالمساعدات المادية والعينية دون الآخرين. ولديهم الإذاعات الإعلامية التي تمجدهم وتحرض على الآخرين، ولديهم سلاح ومقاتلون يدافعون عنهم باستماتة؛ كما حدث في القتال الداخلي بين حماس وفتح.

واتضحت العصبية الفئوية، حتى في الحصار والحرب على غزة، حيث اتهمت حماس حركة فتح بالمشاركة في حصارها، وكان تضامن فتح باهتاً وطنياً تجاه الحرب على غزة عام 2008/2009 وعام 2011، تلك الحركة التي قادت كل معارك الشعب الفلسطيني العسكرية والسياسية ضد الاحتلال منذ انطلاقتها. وتتضح الفئوية إلى يومنا هذا في الملاحقات والاعتقالات السياسية من جانب بعضهم ضد بعض في غزة والضفة الغربية، وفي إغلاق المؤسسات والجمعيات وتقييد الحرية والعمل السياسي والإعلامي.

أثّرت الممارسات الفئوية الانقسامية في الهوية الفلسطينية المتخيلة، لأنها أفرغتها ممّا تحمله من معانٍ لدى الفلسطينيين تتمثّل بوحدة الوطن شعباً وأرضاً، والعودة إليه، والرؤية المشتركة للعدو المشترك والمصير الوطني المشترك. انتقل الخلاف بين الفلسطينيين من الخلاف السياسي حول كيفية تعزيز الهوية إلى الخلاف على ماهية الهوية. اتفق الفلسطينيون في السابق حول طبيعة الهوية الفلسطينية ومكوناتها ومقوماتها، واختلفوا حول درجة استقلاليتها والعمل على تميزها وتعزيزها.

أما اليوم، فانتقل الخلاف على الهوية نفسها، من حيث ماهيتها ومقوماتها ومكوناتها واستقلاليتها وتميزها، بين من يتمسك بها كهوية وطنية متخيلة جامعة، ترفض التذويب وتعارض التهميش والتقليص؛ ومن يريد تذويبها في بوتقة أيديولوجية إسلامية أوسع، ومن يريد تضييقها وإضعافها وانتقاص مقوماتها ومكوناتها بحصرها في إطار سياسي محدد ارتبط باتفاق أوسلو واتفاقيات سلام مع إسرائيل.

وفي غياب نظام سياسي ديمقراطي فعلي قائم على التعددية، ومع تعدد الأطر المرجعية للقوى السياسية، لم يعد هناك إطار مرجعي متفق عليه، وهو ما سمح بتضخم الذات الفئوية. ومع تبني الفلسطينيين مرجعيات أيديولوجية وفكرية دون مراجعات نقدية لها، وتبعيتهم وارتباطهم سياسياً ومالياً بدول عربية وغربية مختلفة؛ تسبب ذلك في جدل فكري وسياسي واقتتال مسلح أربك الهوية الفلسطينية. يشكِّل تعدّد المرجعيات والتبعية السياسية والمالية عاملاً قوياً وراء تراجع الهوية الفلسطينية وتفتتها وتعزيز الفئوية والحمائلية والصراع بينهم.

يؤدي غياب الوحدة الوطنية والتمسك بالتبعية السياسية، وضعف التمسك بالهوية الفلسطينية وتراجعها بين الفلسطينيين ـ غالباً ـ إلى صراعات وانشقاقات بين الفصائل الفلسطينية والفلسطينيين، وخروج عن النظام السياسي، وانقسامات ثنائية شهدناها بدءاً من جبهة الرفض، ومروراً بفصائل المعارضة العشرة، وانتهاء بالانقسام الحالي بين حماس وفتح؛ وتقسيم الشعب بين مواطن ولاجئ، ونازح وعائد، ووطني وإسلامي، وداخل وخارج، وغزاوي وضفّاوي، ومسيحي ومسلم، وفلاح وبدوي ومدني.

إن اللحظات والمحطات التاريخية التي استطاع فيها الفلسطينيون تجاوز تلك المرجعيات والتبعية، وتبنّوا الوحدة الوطنية، شهدت فيها الهوية الفلسطينية انتعاشاً حيوياً على الرغم من محاولات تذويبها وطمسها. وقد عاشها الفلسطينيون مع بدايات تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاق الثورة الفلسطينية حتى الخروج من الأردن، وفي حرب بيروت، وبدايات الانتفاضة الأولى عام 1987 حتى أوسلو، وبدايات الانتفاضة الثانية حتى الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 2005. تميز العمل الوطني الفلسطيني في هذه المراحل بالتكامل والوحدة والحوار والمشاركة.

خاتمة

لم تتبلور الهوية الفلسطينية المتخيلة كهوية جماعية ضمن إطار سياسي وقانوني واجتماعي قائم ومستقر وذات سيادة على الشعب الفلسطيني وداخل حدوده الجغرافية، إنما تشكلت كامتداد حضاري من الهوية الإسلامية والعربية في ظل أوضاع مأزومة. وتأثرت عملية تبلور الهوية وتطورها بالسياسات الاندماجية والإقصائية التي تعرض لها الفلسطينيون في أماكن لجوئهم، وبانطلاق الثورة الفلسطينية، وما أفرزته من واقع سياسي واجتماعي وثقافي بعد اتفاقية أوسلو والانقسام، إضافة إلى الصراع القائم مع الاحتلال وسياساته العدوانية على الشعب الفلسطيني. إن الهوية الفلسطينية المتخيلة تمثل ذاكرة الفلسطيني ووجدانه وإطاره التاريخي والثقافي ودرعه الحامي لوجوده، وهي تجعل الفلسطينيين شعباً وأمة واحدة رغم التشتت واللجوء، وتخلق لهم أهدافاً وثقافة مشتركة ومصيراً واحداً. وتخلق الهوية المتخيلة توافقاً بين جميع الفلسطينيين أينما وجدوا، وتوافقاً مع المجتمعات التي يعيشون فيها، وتحافظ على ذاكرتهم المشتركة حول المكان والزمان والإنسان[27]، وتمثل درعاً يحمي الشعب من الانزلاق والوقوع في براثن النزعات العصبية الفئوية والحمائلية والدينية. وفي الوقت نفسه هي البوتقة التي يعيش بداخلها أفراد المجتمع الفلسطيني جميعهم.

كتب ذات صلة:

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة

فلسطين الوجه المعكوس: احتلال يومي

القضية الفلسطينية: من منظور جديد