إذا كانت الأنثروبولوجيا «أكثر العلوم إنسانية، وأكثر العلوم الإنسانية علمية» فأنثروبولوجيا الطعام هو أكثر العلوم إنسانية بكل معنى، وأكثر العلوم الإنسانية علمية بكل معنى. ذلك لأن علوماً وفنوناً كثيرة تشارك في صنع الطعام؛ من الكيمياء، والفيزياء، والبيولوجيا؛ وحتى الطب، والصيدلة؛ إلى الأمن الغذائي، والطبخ، وأدوات عرض الطعام وتناوله، وقواعد الأكل والشرب الصحية والاجتماعية، وطقوس ولائمه، وكلاهما (علوم وفنون الطعام) أحدثتا ثورة ثقافية لا مثيل لها في التاريخ؛ مئات برامج الطبخ التلفزيونية حول العالم، وملايين نسخ المطبوعات الخاصة بمختلف أنواع الطبخ، وفنونه.
وبحوث نوال نصر الله في الطبخ بحوث في الإنسان، أو ما يُسمى علمياً «أنثروبولوجيا» (Anthropology) وأصل الكلمة الإغريقية anthropos ويعني «الإنسان» وتعني Logia «بحث». وانصّبّ اهتمام علماء الأنثروبولوجيا على الغذاء عموماً وليس على الطبخ، ولم يهتموا إلّا خلال العقود الأخيرة بأن الطبخ أثَّرَ في مختلف جوانب حياة البشر، من التغذية إلى المجتمع؛ إنه «الحلقة المفقودة التي تحدد جوهر الإنسان، وهي الفهرس الإنساني للبشرية». يشير إلى ذلك الأنثروبولوجي الأمريكي ريتشارد وارنغهام في كتابه إشعال النار، وفيه يذكر أن «الطبخ صَنَع بنيتنا، وأعضاءنا، وبيئتنا، وتاريخ حياتنا، وسيكولوجيتنا، ومجتمعنا. وتدلُ علائم جسدنا على أن هذا الترابط لم يظهر قبل بضع عشرات الآلاف من السنين فحسب، ولا حتى مئات الآلاف، بل بعيداً منذ بداية وجودنا على الأرض؛ في بداية التطور البشري، عند ظهور أول الكائنات الشبيهة بالبشر قبل نحو ثلاثة ملايين سنة، والذين أصبحوا البشر المنتصبي القامة»[1]، وبسبب الطابع الذكوري للصيد أخذت النساء على عاتقهن الطبخ.
وللوهلة الأولى تبدو نوال نصر الله غير معنية بتأسيس أنثروبولوجيا الطعام العربي، فكل ما يهمها أن تؤلف كتاباً عن «الطبيخ» تقول عنه: «أردت أن أُري العراق الحقيقي، وحين لم أجد كتاباً واحداً يستحق القراءة عن المطبخ العراقي كتبت الكتاب الذي أود أن أقرأه». تذكر ذلك في مقابلة تلفزيونية، وكالمحب يشتم حبيبه من تباريح الحب، تستدرك نصر الله باللهجة العراقية «أنعل أبوج يا بو العراق»، وتضحك مواصلة حديثها بالإنكليزية عن سبب تأليفها كتاباً عن المطبخ العراقي. وندرك في إهداء الكتاب لذكرى ابنها «بلال» الراحل في عمر الورود، أن الكتاب «كان بالنسبة لي كالقصص لشهرزاد»؛ ذود أم عراقية ثكلى عن باقي أسرتها في بلاد الغربة.
ولا يمكن تأليف أو تحقيق كتاب وافٍ عن الطعام من دون أنثروبولوجيا، فجميع الحيوانات تأكل، لكن البشر هم الكائنات الوحيدة التي تطبخ ما تأكله. وعلوم الأنثروبولوجيا، التي تعني دراسة الإنسان، تدرس في أنثروبولوجيا الطعام مجموع معارف الإنسان العلمية والاجتماعية المتصلة بالطعام، من زراعة المنتجات الغذائية، وتربية الحيوانات، وصناعة الأغذية، وحتى استخدام منتجاتها لإعداد الأطعمة، وطرق وأدوات طبخ هذه الأطعمة، وعادات ومراسيم تقديمها. هذه المعارف لا تنتقل من جيل لآخر أو شعب لآخر عبر الجينات، بل عبر الثقافات والمفاهيم والرموز[2].
وهذا ما تفعله نوال في جميع مؤلفاتها وأبحاثها الموضوعة، أو المترجمة عن الطعام. وهي تتوجه بالدرجة الرئيسية إلى القارئين بالإنكليزية، والأمريكيين خصوصاً، حيث تقيم في الولايات المتحدة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، فتستخدم صوراً واستعارات ولغة تقرب لهم المطبخ العراقي، بما في ذلك عنوان كتابها لذائذ من جنائن عدن. ولغتها الإنكليزية السلسة الرشيقة حصيلة اختصاصها بالأدب الإنكليزي، وعملها مدرِّسة له في جامعتَي الموصل وبغداد.
ومنهج نوال نصر الله الأنثروبولوجي تلقائياً يقودها إلى اكتشافات مدهشة. «شراب الجلّاب» الكحولي الحلو المعروف في جنوب الولايات المتحدة، حيث يتناولونه مخلوطاً بالنعناع، ومسحوق الثلج. وأصل كلمة «جَـلّاب» فارسية، حيث «جَل» تعني الورد، و«آب» الماء. وتنقلُ عن ابن سينا طريقة إعداد الجلّاب في كتاب الطب ومنافعه الصحية للمعدة والصدر، والرئتين. وتذكر أن هذا الشراب معروف في أوروبا حيث يسمى باللغة البرتغالية «جوليبه» وبالفرنسية «جوليب». وتُرجح نوال نصر الله أن المهاجرين الأوروبيين جلبوه مع الرقيق إلى الولايات المتحدة. وفي العراق «جلّاب» مرادف لكلمة «منعش»، ويستخدم لوصف برودة الماء أو الشراب، الذي يضاف إليه الثلج، ويُطيَّبُ بماء الورد والهيل، وينادي عليه الباعة المتجولون في الأسواق «جَلّاب يا مي».
وإذا كان الكتاب يُقرأُ من عنوانه، حسب ما يُقال، فأستطيع أن أتصور حيرة نوال نصر الله في اختيار عنوان يُلمُّ بمحتويات كتابها لذائذ من جنائن عدن فأضافت عنواناً ثانوياً لطبعته الثانية المطبخ العراقي، أطباق وحضارة وتاريخ. ويتميز الكتاب عن جميع كتب الطبخ العربية والعالمية بتقديم أقدم وصفات طعام وعمرها نحو خمسة آلاف عام. فبالنسبة إلى «الوصفات البابلية» اعتقد علماء جامعة «ييل» الذين حصلوا عام 1933 على رقيماتها الطينية المكتوبة بالخط المسماري أنها أول الوصفات الكيميائية في التاريخ. وفي ثمانينيات القرن الماضي كشف عالم الآثار الفرنسي «جان بوتيرو» المختص بالفترة الآشورية أنها «أقدم وصفات طبخ محفوظة في التاريخ، وأدهشه غناها، وتفننها، وبراعتها، وذوقها»، وخلص إلى «أننا لم نكن لنجرؤ في السابق لتصور وصفات طبخ عمرها أربعة آلاف عام متقدمة بهذا الشكل». ويُسلّم الباحث الفرنسي بأن هذه اللُقى ليست سوى شوارد من مجموعة هائلة»، ويتوقع «إمكانية وجود مكتبة كاملة من نصوص مماثلة مكرسة لعلم الطبخ».
وحب العراقيين للمرق عمره خمسة آلاف عام. فعدد وصفات المرق 21 في رقيم يضم 25 وصفة طبخ، وفيها مرق لحم آشورية الوصفة، منها مرق لحم أحمر، ومرق صافي أبيض، ومرق لحم غزال، ومرق عجل عنز، ومرق مر، ومرق مالح، ومرق لحم غنم، ولحم كبش، ومرق طحال، ومرق لحم حمام، ومرق فخذ ضأن، ومرق لحم طير الدراج، وأربعة أنواع مرق نبات، بينها مرق لفت. وفيما لا يجد الآثاري الفرنسي تفسيراً لكلمة «مي» المذكورة مع كل مرق، توضح نوال نصر الله أنها الماء باللغة الكلدانية وباللهجة العراقية الدارجة حتى اليوم، والتي تُطلق على أنواع المرق؛ «مي لحم» و«مي دجاج».
وفي أربع صفحات مقدمة كتابها لذائذ جنات عدن، الذي يقع في نحو 650 صفحة من القطع الكبير، تستهل نوال نصر الله بمنظور أنثروبولوجي تاريخ الطعام العراقي، الممتدة جذوره عبر حضارات عالمية؛ سومرية وبابلية وآشورية، وعربية وإسلامية حتى الوقت الراهن. «فالعراق الواقع على ملتقى ثقافات عدة شرقية وغربية يملك مقومات المجتمع متعدد الثقافات. ولا مكان يُرى فيه هذا التعدد الثقافي بوضوح كشارعنا الصغير في بغداد حيث ترعرعتُ. إنه حي طبقة متوسطة تصطف على جانبيه أشجار اليوكاليبتوس، وفي الربيع تضوع في الحي كله روائح زهور الأشجار الحمضية المزروعة على امتداد الأسيجة. هذه الأماكن الظليلة تجتذب كالمغنطيس الأطفال، حيث اعتدنا على اللعب والمعاركة، والتصالح، ورواية الحكايات والدردشة حول كل شيء وأي شيء. ومع اقتراب موعد الغداء، وقت وجبة اليوم الرئيسية نشرع بلعب حزورة، فيما أكثر روائح الطعام السارة تتسرب من القدور، وتنتشر عبر شارعنا. وقد نتنسم هذه الروائح العائمة، ونُخَمّن ما تطبخ كل أم ذلك اليوم. ومع أن الرائحة السائدة قد تكون رائحة الرز والمرق اللَذين يطبخان عملياً كل يوم، يبقى تحزر العديد من المرق والرز. وغالباً ما تكون هناك رائحة واحدة متميزة لطبق خاص، ونعرف أن أحدنا ستستدعيه أمه لتوزيع هذا الطبق على الجيران. وكالعادة دائماً لا يليق إعادة صحن الجيران فارغاً، وهكذا سيُعادُ بصحن مماثل قد يساويه إن لم يكن ألَّذَ منه»[3].
وعبر تنوع صحون طعام منازل هذا الشارع الصغير في بغداد نتعرف إلى جغرافية العراق السكانية، والغذائية، والاجتماعية، والثقافية؛ «الروبيان» البصري، و«الكبة الموصلية»، و«بَرده بلاو الكردية»، وصحن «تبيت» اليهودي، والمعجنات الأرمنية، وعصير «النارنج» النصراني، و«الطحينية» الفلسطينية، و«مطبك السمك»، و«الدولمه»، و«الشيخ محشي»، وصحون «النواشف». وتشرح نوال ببضع كلمات طريقة تحضير كل صحن، وتحكي حوادث طريفة عنه؛ مثل افتضاح «كعكة الفواكه» العطرة التي يعدّها الأشوريون، عندما ذكرت فتاة أشورية أنهم «يُنقِّعون الفواكه الطرية بالبراندي، وأخذ الأطفال يتظاهرون بالسكر، وعندما علمت بذلك جدة نوال، التي أعجبها الكيك كثيراً، سارعت إلى غسل فمها بالماء، والإلحاف في طلب المغفرة من الله!».
ونوال نصر الله روائية الموهبة، وهذا يجعل كتاب لذائذ جنائن عدن نادراً بين كتب الطعام ندرة كتاب ألف ليلة وليلة بين كتب الحكايات والقصص. وفي ما يلي بعض عناوينه ومقتطفات منه تُبيّنُ كيف يتميز عن كتب الطعام الأكاديمية، وعن كتب الطبخ التقليدية في آن. فالكتاب سفر في 20 فصـلاً، حسب أصناف الطعام من الخبز، ومنتجات الألبان، والمقبلات والسلطات، وعددها 21 وتستهلها وصفة بابلية قبل 4 آلاف عام لربة البيت الرشيدة، لصنع صحن مشهيات من المرقة المختلفة عن طبخ اللحم، بمجرد غمسها بالخس، والثوم، والخل. ويتضمن الكتاب الموسوعي 800 وصفة لطبخ الرز، والمرق، والبقول، واللحوم، والدجاج، والأسماك، والفطائر، والحلوى، والمثلجات، والمربيات، والمخللات، والمحشيات، والمشروبات، التي كان السومريون يقولون عنها «الطعام هو الشيء، والشراب هو الشيء». وفصل خاص بطقوس تناول الطعام، وآداب الولائم، بينها واحدة من أكبر الولائم في التاريخ، دعا إليها الإمبراطور آشور بانيبال 70 ألف ضيف، أتوا على لحوم أربعين ألف بقرة، وثور، وخروف، و5 آلاف غزال، وبط، وأوز، وطير، و10 آلاف طير حمام.
وسخاء العراقيين وأريحيتهم تمتد أصولها إلى أكثر من خمسة آلاف عام حين كان السومريون يحثون على أن «يكون الطعام وفيراً، خشية أن يكون قليـلاً جداً، وأن يكون أكثر مما يكفي، خشية أن يُضاف عليه، وليكن ساخناً يغلي، خشية أن يبرد». وكتاب لذائذ الطعام لا يقدم وصفات طبخ فحسب، بل يتضمن وصف مهرجانات من البهجة، والنكات، والأغاني، والأشعار، والرقصات، والمنحوتات، والمنمنمات، وحتى رسوم كاريكاتير الفنان البغدادي سعاد سليم، الذي صوّر بخطوط بسيطة مظاهر الحياة البغدادية، كما لم يفعله فنان قبله، بمن فيهم شقيقه جواد سليم، نحات جدارية «التحرير» التي أصبحت رمزاً لبغداد.
ومصادفة صدور الطبعة الأولى من الكتاب بالإنكليزية قبيل غزو العراق عام 2003 كان لها وقع كبير. فالكتاب يكشف في 574 صفحة أن العراق الذي احتلته واشنطن بدعوى إنشاء دولة متحضرة كان يصنع قبل 8 آلاف عام 20 نوعاً من الجبن، ومائة نوع من الحساء. وفي الخبز سجّل قدماء العراقيين الرقم القياسي العالمي، وعددها 300 نوع من الخبز. وكثير من أسماء ووصفات الطعام وأدواته المعروفة عالمياً ابتكرها أجداد العراقيين، بما فيها «الكيك»، أو «الكعكة»، واسمها باللغتين السومرية والأكدية «كوكو»، وكانوا يُطيبونها بماء الورد. و«الكباب» المعروف عالمياً أصله البابلي «كبابو»، و«المريس» يلفظ «ماش» بالإنكليزية و«ميرسو» بالأكدية. وأبدعوا في طبخ المحشيات، والمقانق، والصلصات، والمخللات، والمشويات، بما في ذلك السمك المدخن. والسندويتش، الذي يرتبط اسمه بالأرستقراطي البريطاني مونتاجيو في القرن السابع عشر، ابتكره في الحقيقة الخليفة المتوكل في القرن التاسع ميلادي، وهو من مآكل السوق في بغداد، وكان يُدعى «الوسط المشطور». وفي الكتاب 16 وصفة سندويتش عراقية، مع رسوم منمنمات ملونة ساحرة الجمال لنساء يتناولنها في المتنزهات.
وردود الأفعال على صدور كتاب لذائذ جنائن عدن دفعت رالف بلومنتال، أحد أبرز محرري نيويورك تايمز إلى مقارنته بالأوديسة، ملحمة الشاعر هوميروس، «أوديسة الأكل عبر 8 آلاف عام في حضارة ما بين النهرين، وأقدم وصفات الطبخ في العالم». وفوجئ بلومنتال الذي زار نوال عند صدور الكتاب خلال غزو العراق في نيسان/أبريل 2003 أن تقول له أنها ليست في مزاج احتفالي. والله يعرف فرص «الربح» التي فوتتها في وقت كان بعض عراقيات يهتفن في لقاء داخل «البيت الأبيض» للرئيس الأمريكي جورج بوش «يا مُحرري»!
وكتاب لذائذ من جنائن عدن، كما لاحظ الكاتب الأمريكي كليفورد رايت، أكثر من كونه كتاباً عن وصفات الطبخ العراقية، بل العربية عموماً. فالعراق بلد فريد في التاريخ شيّد مرتين إحدى أعظم الحضارات قبل الميلاد وبعده. وعثور الباحثة نصر الله على حلقة الوصل التاريخية المفقودة بين حضارات العراق القديم وحضارة عصر النهضة العربية الإسلامية، مأثرة علمية تفتح آفاقاً جديدة في دراسة تاريخ العلوم والفلسفة. «في العصر العباسي استعادت بلاد ما بين النهرين مجدها القديم، وتحولت بغداد إلى عاصمة مزدهرة وكوزموبوليتانية. وبالإضافة إلى ذخيرتها الهائلة، الحيوانية والزراعية، أنتجت مواد غذائية جديدة أضافت إلى غنى وتنوع مطبخها». وأكد اكتشاف مدونات طينية تحمل وصفات طعام بابلية نهاية القرن الماضي، أن «الوقت حان للابتعاد عن الرأي التبسيطي السائد الذي يعتبر المطبخ العباسي مديناً بكل ما أتى به للمطبخ الفارسي».
وعرف القراء من كتاب لذائذ من جنائن عدن أن عادة وضع الخردل والملح على موائد الطعام أبدعها العراقيون قبل آلاف الأعوام، وكانوا يكتبون عنه الشعر: ««أيها الملح الذي ولد في المكان الساطع، لا طعام من دونك يُعدُّ في المعبد»، وإليهم يعود تقليد اعتبار المشاركة في «الملح والخبز»، إشارة إلى الرفقة والعشرة التي لا تُخان. كما ابتكروا أهم أدوات الطبخ المستخدمة اليوم، وهي المقلاة، وبشكلها المستدير الحالي، وتزينها أشكال هندسية ورسوم حيوانات، كالأسد، أو السمكة، تنقش على حوافها، «لإضفاء البهجة على عملية الطبخ، التي كانت تُدرّسُ فنونها في معهد تعليم الطبخ، وفترة الدراسة فيه 16 شهراً». وكانت الدولة العباسية تُعيّن مفتشين على المطاعم العامة يُسمون «المحتسبين»».
وتكشف الباحثة حقائق مدهشة عن سكان العراق الأصليين؛ نصارى الكلدان والسريان والآراميين، وما يُسمونَ عموماً «أنباط العراق» الذين حفظوا تراثه القديم في الطعام، وكان معظمهم مزارعين تُكنَّى باسمهم أنواع البصل والزعتر، والمصطكي، والملفوف، والتوت، وصناعة الصلصات المشهورة «النبطية». ومن أظرف ما في الفصل الخاص بالألبان حكاية سومرية عن أخ يرشو أخاه بالزبدة كي يستفسر من موظفي القصر عن الشكوى المقدمة ضده، ووصفة من العصر العباسي للنساء اللواتي يشكون من انتفاخ البطن، وهي تناول لبن مخفّف بالماء «شنينه». يعقبها مثل سومري ظريف «هل يمكن الحمل من دون علاقة، وهل يمكن السمنة من دون الأكل».
واختير كتاب لذائذ من جنائن عدن واحداً من أهم عشرة كتب في الطبخ لعام 2013، ومُنح جائزة «غوردمان» وهي من أهم جوائز كتب الطبخ العالمية. وإنها لمفارقة مؤسية القول إن ترجمة هذا الكتاب ونشره بالعربية سيكون دليل عودة الحضارة العراقية، وهل من دليل ذكي وعلمي وجميل يؤرخ علمياً وثقافياً وقصصياً لمطابخ العراقيات التي كانت قبل أكثر من خمسة آلاف عام «محور أول ثورة إنتاجية في التاريخ. فالأطعمة التي أعدتها قدامى العراقيات غيّرَت جذرياً الغذاء، وأحلّت الحنطة والشعير محل لحم الطرائد، وغيرها من الأغذية كقوت رئيسي. فالأوعية الفخارية للطبخ وحفظ الأطعمة والسوائل كانت أثقل وأرق مما يمكن حمله على الصيادين، مقتاتي الأغذية الجوّالين. ولا عجب في أن أسماء أول الكيمياويين والعطارين كانت نسائية، وأسماء أقدم أدوات وعمليات الطبخ أنثوية».
و«أطيلوا الجلوس على الموائد وأكثروا من الحديث فإنها أوقات لا تُحتسبُ من أعماركم»، نصيحة الحسن بن علي بن أبي طالب (h) تختتم كتاب لذائذ من جنائن عدن، الذي يوردُ 86 قصيدة مقتبسة من كتاب الطبيخ لابن سيّار الورّاق الذي عاش في العصر العباسي. وقد ترجمت نوال نصر الله الكتاب للإنكليزية، وقدّمت له ببحث احتل نصف الكتاب، ويُعتبر من أجمل الدراسات الأنثروبولوجية عن الطعام، وفيه وصفة شِعرية لطبخ سمك شبوط نهر دجلة، قالها الأمير ومؤلف كتاب الطبخ إبراهيم ابن المهدي، شقيق هارون الرشيد:
«وطاهٍ أتى في يوم قيظ بصحفة، وفيها من الشبوط كالجدي أحمرا
وأحكمه شيّاً وصيّر حشوه كرفساً وكراثاً وزيتاً وصعترا
وهيّا له من بعد ذاك صباغة عصارة رمان ولوزاً وسكرا
فجاء بها كالشمس لوناً وبهجة تعاطيك أنجوجاً ومِسكاً وعنبرا
فلما كشفنا جلده عنه راعنا بياضاً وإشراقاً وحسناً وجوهرا
رأيناه شمساً ساعة جاءنا به فلما كشفنا جلده صار أقمرا»
ونوال نصر الله كالمهندسة المعمارية الراحلة زهاء حديد مصنوعة من نسيج نساء العراق النادر؛ نسيج شهرزاد بطلة ألف ليلة وليلة، وكلتاهما تحكيان قصصاً في مهنتيهما تسحر العالم. وأبحاث نوال أصبحت عالمية، ليس بفضل لغتها الإنكليزية الأدبية الرشيقة فحسب، بل لحكايات داخل حكايات ترويها بحميمية وعفوية وعشق للعراق، وبغداد خصوصاً. في مقطع من كتاب لذائذ من جنائن عدن عنوانه «حدائق عدن» تصف «الجمال الأسطوري لبغداد والرائحة الزكية لحدائقها الممتعة المسوّرة، وجداول مياهها المنعشة المتدفقة، وبِركها ونافوراتها. وهناك أيضاً فسحات النزهة العامة خارج المدينة، حيث اعتاد الناس على التنزه في الهواء الطلق، وبساتينهم تترع بجميع أنواع أشجار الفواكه والزهور العطرة والأعشاب، وحدائق الخضرة الوفيرة التي تجعل بالإمكان للطبخ المبدع استحضار أطباق لا تصدق، اشتهر بها المطبخ البغدادي في القرون الوسطى. وكان الأدب المعاصر لها غالباً ما يقارنها بحدائق الفردوس». وتستشهد الباحثة بشعر أبو حيان التوحيدي في كتابه الرسالة البغدادية حيث يقول:
«لهفي على بغداد من منزلٍ كانت من الأحزان لي جُنه
كأنَنَي يوم فراقي لها آدم لمّا فارق الجّنة»
وفي المفاضلة بين الحُب و«تِمّنْ» العنبر، الأفضلية لـ«تِمّنْ» العنبر. ذكرتُ ذلك في مقالة عن «نوال نصر الله» والعراقيات بمناسبة «يوم البذور العالمي. و«التِمّنْ» هو الأرز باللهجة العراقية، و«تِمّن العنبر» هو الأرز العراقي الزكي الرائحة كعطر العنبر؛ موطنه الأصلي جنوب العراق في منطقة الأهوار، والديوانية، والنجف، والمشخاب. «ولا يكتمل الأكل العراقي من دون التِمّن الذي يؤكل مع كل أنواع المرق، حتى اليَخْني، الذي لا مثيل له، يقول عنه البغداديون «يَخْني دوّخني جاء بالتِمّن صالَحْني». وعندما يقترب موعد الغداء يضوع الحي كله بنكهة بخار قدور التِمّنْ، وليس عبثاً أن يُسمى العنبر. وتورد نوال في كتابها 27 وصفة لطبخ الأرز، بينها «التِمّن الأحمر» الذي يستنشق العراقيون رائحته قبل أن يفتحوا باب البيت، وإذا كان «التِمّن الأحمر» مطبوخاً بالحُمُّص والزنود فلا خروج من البيت حتى إشعار آخر[4]!
و«التِمّنْ» ألوان، يؤكل بالعين قبل الفم، ومنه «الأخضر بالباقلاء»، و«الأصفر بالجزر»، و«الذهبي بالزعفران» (أو الكركم)، و«البُني بالشعرية والرشته»، و«الكاكي بالماش»، و«الأسمر بالفطِر» (أو الكمأة)، و«المُرقط باللوبياء الحمراء». وتتنافس الأسماء والبلدان على «الرُز بالعدس» الذي يسمونه «الكُشَري» في بلدان شرق المتوسط العربية، و«المجَدِّرة» في العراق. والمنافسة الإقليمية في طبخ الرز بحجم «القوزي» الذي «يتكون من خروف بكامله محشو بالرز، والبصل، والخضروات، والكشمش واللوز، ونومي البصرة، وحبّات الهيل والقرنفل، ويستلقي فوق تل من الرز». ويكشف كتاب نوال أسرار طبخ التِمّن المُحمّص في قعر القِدر، ويسميه البغداديون «حِكّاكه» لأنه يُستخرج بحّك طبقة رز «جيولوجية» تتقّصفُ وتتحطم بالأسنان، وتتقرمشُ داخل الفم كالزلزال.
وطريق التاريخ والجغرافيا مزروعة بالتِمّن من العراق حتى الصين، التي جاء منها اسم «التِمّن» حسب العالم الموسوعي البيروني. وأقدمُ شهادة صينية عن التِمّنْ وردت على لسان سجين صيني في الكوفة، قبيل بناء بغداد عام 762، قال إن «العراق محور الكون، وتِمّن العراقيين أبيض كتِمّن الصين، ونساء ورجال العراق طوال القامة ووسيمون، يرتدون أحزمة فضية، وحبّة العنب عندهم في حجم البيضة». وتقول نوال إن طبخة «البردة بلاو» الكردية تعود إلى عصر بابل، ويعني اسمها الكردي طبخة «الرز المُغطى» بعباءة رقيقة من العجين تحتضن أحشاءها اللحمية الناعمة. و«المقلوبة بالباذنجان» منافستها العربية والتي ما إن تُقلبُ على ظهرها حتى تتفتح حشاياها الذهبية الضوّاعة. وبسبب الحجاب كان يُطلقُ عليها في العصر العباسي اسم «المغمومة»، لكن ابن المهدي، أمير الطعام وشقيق هارون الرشيد يُسّميها «فرحانة»، ويقول عنها في ختام قصيدة طويلة:
«فهذه عندكم مغمومة حَزَنتْ لكنها ما رأت يوماً من الحَزَنِ
فرحانة تفرح الجوعان إن بدَرَتْ في صحفة كمِثال البدر في الدَجَنِ»
ويعارض الشاعرُ «الحافظُ» ابنَ المهدي بقصيدة يختلط فيها الطبيخ بالطبّاخ: «كحُسن البدر وسط سماءِ. أنقى من الثلج المضاعف نسجه، من صبغة الأهواء والأنداءِ. فكأنها في صفحة مقدودة، بيضاء مثل الدّرة البيضاءِ». وتنتهي القصيدة ولا ندري من المقصود؛ طباخة الرز أم رُزها.
والعراقيون العباسيون كانوا يكتبون الشعر ويأكلونه. في قصيدة «مفاخرة الرز والحَبْ رمان» يذكرُ الرز أنه «عمارة البلدان وقوة الأبدان» ويُعدّد طبخاته: الشُّربة، والفولية، والفقاعي، والمأمونية. وتنبري له حبّات الرمان: «اسكُتْ يا مُبهرَج، يا مُدوّر يا مُدَحرَج. أنت للبطون نافخ وعَلى القلوب راسخ». وتنتهي المفاخرة بسعي الأطعمة للصلح بينهما، حيث «أقبلت الملوخية بجمعها، والفولُ، والشوّي الذي قال: أنا أمشي بينكما عُريان، وأتخلق بينكما بالزعفران. وقالت البامية: أنا أفديكما بالدُّر المصون واللؤلؤ المكنون»!
ولا طعام عراقي من دون «مرقة»، وألذها «السُمّاقية»، وهي مرقة لحم دسم تُطبخُ بعصير «السُمّاق»، تُسمى أيضاً «الهارونية» نسبة إلى هارون الرشيد، وكانت أكلته المفضلة، يروي تفاصيل إعدادها كتاب الطبيخ للبغدادي، من القرن الثالث عشر ميلادي، وفيها تُغلى قطع اللحم الدسمة حتى تستوي تقريباً، وتضاف شرائح جزر، وبَصَل، وكُرات، وباذنجان، ويُغلى في وعاء آخر السُماق بالملح ولباب الخبز، يُصفّى، وتضاف إليه كرات اللحم المُتّبَل بالكُزبرة الجافة، والكمّون، والفلفل، والزنجبيل، والقرفة، وغصينات نعناع طازجة. وهذا المرق مذكور في كتاب طبخ إيطالي من القرن الخامس عشر الميلادي، ومعه أنواع المرق الحامضة الحلوة، مثل «مرقة الرُمّانية»، و«مرقة الليمونية»، و«مرقة المَأمونية»، نسبة إلى الخليفة العباسي المأمون. وتستدعي «نوال» في ذكرها أغنية موصلية تُشهّي وتحذر من دسامتها «يا سُمّاق يا سُمّاق، أكله دهينة ما تنذاق»!
و300 وصفة للسلطات، والمقبلات الحارة والباردة أغربها «مُخلل الجراد»، الذي «يصاد حياً، ويُخنق بالماء المملح، ثم يُرصف بالملح والتوابل داخل مرطبان، ويُعادُ رّشَ مائه المملح فوقه لتغطيته. ويُختمُ المرطبان بالطين، ويُوضع جانباً كي يُخلل». هذه الوصفة المذكورة في كتاب الطبيخ العباسي تتعقب نوال أصولها إلى العهد البابلي، وهي كعشرات الوصفات ووسائل الطبخ وأدواته، وحتى تسمياته تشكل الحلقة المفقودة في تاريخ العراق ما بين العصور القديمة والوسطى، وبعضها يُعتقدُ خطأً أنها فارسية، وتقتفي نوال أصولها البابلية والسومرية.
وتعتبر الباحثة أن كتابها، الذي صدر بطبعة جديدة نفيسة، هو بالنسبة إليها «كما كانت القصص بالنسبة إلى شهرزاد»، وسيلتها للنجاة من سيف الموت المسلط على رأسها ألف ليلة وليلة، فزوجها الدكتور «شاكر مصطفى» كان آخر الطلبة العراقيين المبتعثين للدراسة في الولايات المتحدة قبيل حرب عام 1991، وانقطعت مخصصات البعثة بعد فرض العقوبات على العراق، وفقدت ابنها بلال (12 عاماً) لخطأ الأطباء في تشخيص صداع رأسه الذي كان جلطة دماغية، ولم تُقعدها إصابتها بسرطان الثدي عن إكمال الكتاب وإهدائه «إلى الذكرى الحبيبة لابني بلال الذي كان ملهمي». وتذكر أنه كان يعرف (رغم صغر سنه) معنى الطعام، وكتب في نشرته المدرسية: «الحب هو ماما تصنع لي فطائر التفاح».
ونوال نصر الله مترجمة من طراز فريد؛ تؤلف للكتاب الذي تترجمه مقدمة تضاهيه في الحجم. وإذا كان كتاب الطبيخ لابن سيار الوراق «جوهرة مكتبة جامعة هلسنكي»، حسب محققيه الفنلنديين «كاي أورنبري» و«سحبان مروه» فترجمة نوال للكتاب وتحقيقها له وتقديمه جوهرة مكتبة الكتب العربية باللغات الأجنبية. حوليات مطابخ الخلفاء هذا هو عنوان الطبعة الإنكليزية من كتاب الطبيخ والصادر ضمن «نصوص ودراسات تاريخ وحضارة الإسلام» عن دار نشر «بريل» التي تأسست في لايدن بهولندا عام 1683[5].
وكما في جميع أبحاثها الأكاديمية تضع نوال نصر الله لمستها النسائية البغدادية الظريفة، وهنا تضع في أول صفحة بالعربية والإنكليزية المثل العراقي «إذا ضاقت بك الدنيا تذكر أيام عرسك». وكتاب حوليات مطابخ الخلفاء عرس العثور على الحلقة المفقودة بين حضارات العراق القديم؛ السومرية، والآشورية، والبابلية، والأكدية، والحضارة العربية الإسلامية، والعراق الحديث. وما تفعله نوال نصر الله في الحقيقة التنقيب عن الطعام عبر التاريخ والجغرافيا وعلوم الطبيعة والاقتصاد، والسياسة والثقافة واللغة، واستقصاء أنثروبولوجيا الطعام في تشابه البشر واختلافهم، عبر الوطن العربي والعالم حتى الوقت الراهن. ومع أنها تبدو غير معنية بإجراء دراسة عن أنثروبولوجيا الطعام العراقي والعربي، إلّا أنّ هذا ما تفعله حين تتابع تاريخ الطعام العراقي والعربي وتطوره عبر العصور، وتنوعاته المختلفة الطبيعية، والاجتماعية، وتداخلها، وكيف تناقلها العراقيون والعرب، وتناقلتها عنهم أمم أخرى. وتتابع في مقدمة الكتاب، التي تقع في 78 صفحة، ممارسات الطبخ وطقوس تناول الطعام نحو خمسة آلاف عام، عبر مواصفات الأطعمة، وفنون إعدادها وتقديمها، والاحتفاء بها في الحكايات والأمثلة والأغاني والرسوم.
و«لو كنتُ أدركت العذاب والتشابك والتحديات والخيبات التي ستتقاذفني ثلاث سنين في ترجمة كتاب الطبيخ لما أخذت المهمة على عاتقي». بهذه الكلمات تستهل نوال نصر الله مقدمة الكتاب، وتستدرك «لكن يسرني أنني لم أتراجع، لأن الترجمة برهنت على أنها أكثر تجربة مجزية. فعبرها كانت الرغبة في أن أُعّرف بهذا الكتاب تحفزني». وتذكر أن كتاب الطبيخ الذي وضعه الوراق في القرن العاشر ميلادي «أول كتب الطبخ المعروفة وأكثرها أهمية التي وصلتنا من القرون الوسطى عبر العالم كله». وتأخذ على عاتقها مهمة ترجمة أكثر من 80 قصيدة يتضمنها النص، «وترجمتها كاملة ذلك لأنها تشكل منجم طهي تستحق الاسكتشاف». وتتوقف عند الشاعر «كشاجم»، ذلك «لأن اسمه ارتبط بكتب الطبخ ووصفاته، واشتهر أولاً ليس كشاعر بل كطباخ قصر ملك سيف الدولة الحمدانية في حلب (ت. عام 967). ومن قصائده وصف طبخة الجراد:
«لما غدا فينا الجراد العابرُ وخيّمت منه بنا عساكرُ
جايره وليس تملي جايرُ قراطب أفواهها بواتر
مخطوفة أوساطها ضوامرُ كأنما أفخاذها مزاهرُ
كأنما أذقانها خناجرُ كأنما أحداقها النواظر»
ويفتتح كتاب الطبيخ باب «فساد الطبيخ وتقذيره وزهومته وتغييره»، الذي يدّلُ على المستوى الرفيع المتميّز للكتاب وللحضارة التي أنتجته. فالكتاب الذي يحتوي على 132 باباً يضاهي كتب الطبخ الحديثة التي غالباً ما تكتفي بذكر الوصفات، بينما يضم هذا الكتاب أبواب «ما يتخذه الطباخون من الأدوات للطبيخ والحلوى والأخباز المخبوزات»، و«ما يطيب القدر من الأبزار والعطر»، و«ما يذهب الاحتراقات من القدر والمطبوخات»، و«ما يوافق الشباب والشيوخ من ألوان الطبيخ»، و«الابتدا في قوى الغذا»، وفي «طبايع الأسماك وصفة صيدها بالشباك»، و«في منافع الألبان لضرر الأبدان»، و«طبع بيض الدجاج والبط الدراج»، و«ذكر عمل الخل وتطييب الأكل بالملح»، وعشرات وصفات طبخ اللحوم والدجاج، و«الشوي في التنور»، و«شيّ الخراف المحشوة الأجواف»، وأنواع الحلوى «اللوزينق»، و«الزلابيات»، و«القطايف»، و«المربيات»، و«الأنبذة العسلية، والزبيبية». وحتى «تدبير الماء المشروب المرمل بالثلج المضروب»، و«خاصية الماء المبرد في الهوا».
وتضاهي عناية المطبخ العباسي بالصحة المطبخ الحديث، حيث نعثر في أبواب «ما يتغدى به العليل الجسم من الأمراق واللحم»، و«عمل الأشربة المطفية للحرارة الملهبة»، و«ما يأكل النصارى من الطعام والمزور من الطعام»، و«المزور» هو الطعام الذي يخلو من اللحم لكن يعطي طعمه. و«عمل لبن من غير ضرع، وذلك من جوز الهند الذي يقشر ويخرطُ بالسكين ويصب عليه الماء ويُمرس مرساً شديداً حتى إذا ذقته فرأيته مثل اللبن فاعصره عصراً شديداً فإنك تجده لبناً خاثراً»، وعدة وصفات صحية على غرار ذلك بينها «عمل جعة من غير بيض». وباب خاص عن «النوم ومنفعته للأجسام وتدبيره بعد الطعام».
وأبواب «الأدب في غسل اليد قبل الطعام وبعده»، و«ما تغسل به اليد من الأشنان والسعد»، و«الأدب في أكل الصعلوك مع الرؤسا والملوك». ويعكس الأهمية الكبيرة للعناية بالنظافة «سؤال الخليفة المأمون «اليزيدي» مربي ابنه العباس وكان قد أمره بتأديبه وعشرته فأخبره أنه لا يفلح وأنه لا همة له، فقال وكيف علمت بذلك، قال رأيته وقد ناوله الغلام أشناناً ليغسل به يده فاستكثر ما وقع في يده منه فرده في الأشنانداه ولم يلقه في الطست فعلمت أنه بخيل والبخيل لا يصلح للملك».
ويدهشني أن يغير هذا الكتاب الذي كتب في القرن العاشر ميلادي عاداتي، عندما كنت نائب رئيس تحرير مجلة الغذاء العربي في ثمانينيات القرن العشرين في لندن، فاتبّعتُ نصيحة باب «ما يؤكل في الصيف والشتا ويبدأ به من الفواكه قبل الغدا»، وصرتُ أتناول فطور الفواكه، قبل الفطور بساعة. وغيّرني باب «الحركة قبل الطعام والرياضة للأجسام»، الذي يذكر: «ينبغي أن يتحرك كل إنسان قبل الطعام على قدر عادته وقوتها إما بالركوب أو بالمشي ولا ينبغي أن يبلغ من ذلك ما يخشى منه باعياً واستثقال ومن شأن الحركة قبل الطعام أن تذكي الحرارة الغريزية فتلقا المعدة وهي حامية وتكسب البدن خصباً وشدة وليتجنب الحركة إذا كان مثقل البطن».
وكتاب الطبيخ حافل بأخبار ومساهمات، عشرات الشخصيات من جميع المستويات الاجتماعية، بينهم أكثر من 100 مذكورين بأسمائهم، منهم الخلفاء هارون الرشيد، والمأمون، والمعتمد، والواثق، وأهل بيتهم، وأمراء، ووزراء، وقادة عسكريون، وجوارٍ، وأطباء، ومربون، وباحثون، وشعراء، ومغنون، وطهاة محترفون، وخبازون، وطفيليون باحثون دوماً عن ولائم. ومقطوعات عدة للشاعر ابن الرومي:
«يا من يحب الأكل اللذيذا من قبل أن يقدّم النبيذا
فاعمد لفروج يكون كسكري وفرخ شفنين سمين عسكري
فاخلطهما يا صاح بعد السمطِ بلحم فرخ من فراخ البطِ»
ويواصل «ابن الرومي» وصف تحضير الطعام:
«ثم ابتدي بأكلها في الأول فإنها من أطيب المعجل»
وجمع ابن المهدي، أخو الخليفة هارون الرشيد، بين أشهى وصفات الطعام، وأظرف الشعر عنه مثل قصيدته في شوي السمكة:
«وطاه أتى في يوم قيظ بصحفة وفيها من الشبوط كالجدي أحمرا
قد احكمه شيّاً وصيّر حشوه كرفساً وكراثاً وزيتاً وصعترا»
ويختتم الوصفة:
«فلم أرَ شيا كان أحسن منظرا ولا منه عند الذوق أطيب مخبرا».
و«الطبخ كالحب ينبغي أن تنغمس فيه أو لا تقربه أبداً» حسب الكاتبة الأمريكية هارييت فان هورن[6].
ولا أحد ينغمس في تأليف وترجمة وتحقيق عيون كتب الطبخ العربي كالباحثة نوال نصر الله. كتاب كنز الفوائد في تنويع الموائد صدر بالعربية في 422 صفحة من القطع المتوسط عام 1993 بدعم «وزارة الأبحاث العلمية والتكنولوجية» في ألمانيا الاتحادية. وانتظر الكتاب نحو ربع قرن حتى تصدر طبعته الإنكليزية التي ترجمتها نوال مردفة ببحث في نحو 20 ألف كلمة. وإذا كان الطبخ «نَفَساً» كما يقول العراقيون، فتحقيق نوال نصر الله هذا الكتاب «نَفَس» طيب عميق، من دونه لم يكن ممكناً التأكد من أن مؤلفه المجهول مصري من العصور الوسطى، وليس الطبيب من العصر العباسي «حنين ابن اسحق» (ت 873) حسب ما ورد في إحدى مخطوطات الكتاب الخمس. وتتداخل عملية الترجمة المضنية للكتاب مع البحث الشاق عن مؤلفه وتاريخ تأليفه، ومصادره واستقراء شواهد عدة لغوية، وأسماء وشهرة خضروات ولحوم وأطعمة مصرية تدلل على الأصل المصري للكتاب.
وتستقرئ الباحثة وصفات الكتاب وتقارنها بغيره من كتب الطبخ، بينها كتاب الطبيخ لابن الوراق، الحافل على خلاف باقي كتب الطبخ بمصادر للتعريف بأطعمة العصر العباسي، وكتاب زهر الحديقة في الأطعمة الأنيقة للباحث المصري ابن مبارك شاه من القرن الخامس عشر ميلادي. و«الخبز الاسكندراني المكتنز باللب والمسام الكثيرة الذي يشوى بالفرن»، تذكره كتب الطبخ الرومانية في القرون الأولى للميلاد، ونعثر عليه لاحقاً بشكل متكرر في كتب الطبخ العربية، بما في ذلك كتاب كنز الفوائد في تنويع الموائد، الذي كتب في عصر المماليك في غضون القرن الرابع عشر ميلادي.
ومع توالي الخلافات والسلطنات أصبحت مصر «أم البلاد» ملاذ أقوام عدة من الترك والكرد وعرب شبه الجزيرة العربية، ومغاربة، وسودانيين، وفرس، وعراقيين لجأوا إليها بعد غزو المغول. و«هذا التنوع أغنى حتماً ذخيرة الطهي المحلي. وهكذا عثرنا في الكتاب على الوصفات المغربية، «المروازية»، و«الكسكس»، ومعها وصفات المطبخ البغدادي، الذي ازدهر وازداد مهارة خلال العصر العباسي. ووفّرت أرض فيضان النيل الخصبة ظروفاً ملائمة لزرع المحاصيل المهاجرة التي جلبها المسلمون، وبينها الباذنجان، والقلقاس، والرز، وقصب السكر، والفواكه الحمضية، وكثير غيرها. وأدهشت فرادة الوضع الزراعي كل من يزور مصر، وكانوا يعتبرون النيل ينبع من الجنة، وتدهشهم التربة المدهشة بفصولها الأربعة المنتجة. وعندما جاءها من بغداد الباحث الفارسي ناصر خسرو خلال العصر الفاطمي في القرن الحادي عشر كتب في كتابه سفرنامه عن محصولها الكبير من العسل والسكر، وكيف شهد في يوم واحد من شهر كانون الثاني/يناير الورد الأحمر، وزنابق الماء، والنرجس، والأترج، والبرتقال، والليمون، والعنب، والتفاح، والياسمين، والسفرجل، والرمان، والدراق، والبطيخ، والموز، والزيتون، وبلح الرطب، والقرع، والجزر، والشمندر. ويضيف خسرو «وكل من يتعجب كيف يمكن أن يوجد كل ذلك في الوقت نفسه، وبعضها محاصيل ربيعية وصيفية، وغيرها شتوية، ولا يمكنه تصديق ذلك، لكن لا أدون على الورق إلّا ما رأيته بعيني».
وتُطلعنا نوال نصر الله في تقديمها لكتاب كنز الموائد على أشهى وصفات مطبخ ذلك الزمان، ونوادره وحكايات الطعام، وأسواقه، ومطاعمه في القاهرة، ومهرجاناته العامة في مواسم رمضان، والأعياد، وتذكر أن تسوق الغذاء ومكوناته في مصر القرون الوسطى يستدعي زيارة أسواق مختلفة في المدينة، وخصوصاً القاهرة، حيث بلغت الأسواق درجة عالية من التخصص وتقسيم العمل، وتشهد على هذه الظاهرة أدلة تفتيش الأسواق «كتُب الحسبة». وجانب آخر يثير الدهشة في ثقافة الطعام المتطورة في مصر ظهور المعايير والتفتيش. وتكشف أدلة المفتشين المكتوبة آنذاك عن مهام «المحتسبين» الضخمة، وتعليمهم كيف يقومون بعملهم بالشكل الصحيح، وكيف يمكن العثور على الغشاشين والمحتالين. وكانت أدلة «المحتسبين» تشدد دائماً على التعليمات الصحية الشخصية وخصوصاً في المخابز، حيث تفرض على العجّانين حلاقة شعر أيديهم، وارتداء ملابس مشدودة الأكمام، وتغطية أفواههم وأنوفهم بعصابة لوقاية العجين من العطاس واللعاب والمخاط. وعليهم أيضاً ارتداء عصائب في رؤوسهم لتجنب سقوط قطرات العرق في العجين. وخلال النهار ينبغي وجود أشخاص قربهم يهشون الذباب عنهم.
ونتعرف على الأصول الرفيعة لتعليم الطبخ «لجوارٍ طباخات، تعلمّن أصول الطبخ في قصور الخلفاء الفاطميين، وبعضهن يعرف 80 طبخة من التقلية» حسب المقريزي، أبرز مؤرخي مصر في القرن الرابع عشر الميلادي. وندرك مستوى عيش المصريين في القرون الوسطى من وصفات الطعام «من الحلو والحامض والساذج والمقلي والمَشوي وأصناف عمل الحلوى وأعمال السمك وأصناف المخللات والمُخردلات، والمشروبات من سائر أصنافها والمهضمات، وأعمال الطيب، والصابون المطيب، والبخورات، وأدوية العرق، ثم اذكر اذِّخار الفواكه وخزنها إلى غير أوانها»، ويضاهي المؤلف المجهول مؤلفي كتب الطبخ الحديثة بذكر «وصايا يلزم الطبّاخ معرفتها» تراوح ما بين «اللباقة، وقص أظافره ولا يتركها تطول فتجمع الأوساخ»، وأنواع القدور الصالحة لكل طبخ، والحطب المستخدم في طبخه «كحطب الزيتون الجاف والسنديان»، وأنواع الملح والمطيبات والمتبّلات، وطرق إعداد وطبخ مختلف قطع اللحم، وما صلح منها لكل طبخ، و«افردْ لكل قدر مغرفة، وللبصل سكيناً لا تقطع بها شيئاً غيره»، و«اغسل يدك قبل الغرف وبخِّرها من رائحة البصل»
وفي بحوث نوال نصر الله يصبح تاريخ الطعام هو التاريخ الذي قال عنه الفيلسوف كارل ماركس «التاريخ نفسه جزء فعلي من التاريخ الطبيعي، ومن تطور الطبيعة إلى الإنسان. ومع الوقت سيتضمن علم الطبيعة علم الإنسان، كما يتضمن علم الإنسان العلم الطبيعي؛ سيكون هناك علم واحد»[7].
وهذا العلم هو الأنثروبولوجيا، وأنثروبولوجيا الطعام التي تتضمن جميع العلوم في بحوث نوال نصر الله تخترق العصور والحضارات، وتعثر على الحلقة المفقودة للحضارات المصرية منذ الفراعنة، كما عثرت في بحثها عن المطبخ العراقي على الحلقة المفقودة للحضارات العراقية منذ السومريين.
ونوال نصر الله في أفضل أحوالها في أغزر بحوثها العلمية؛ عندها نسمع صوتها، وتضحكنا ظرافتها البغدادية، تشرق بها حتى عناوينها، مثل في البداية لم تكن هناك مُسَقَّعَة، وعنوانها الثانوي الحالة الغريبة لتحولات الأطعمة. ويضاهي البحث بجماله الغريب وطعمه الحريف وتنوعه المدهش مادته الرئيسية «الباذنجان»، ووصفاته المختلفة، التي تبدأ بتقطيع الباذنجان مع اللحم وطبخه بطبق «الكسروله». وأسماء الوصفات المختلفة، حيث تُدعى «مسَقَّعة» في منطقة البحر المتوسط، والمشرق العربي، و«بورانية» في المغرب العربي وإيران. وتستخلص الباحثة الأصل العربي لوصفة «المسقعة» من «الصقيع»، وكان اليونانيون، الذين استخدموا اسم «المسقعة» في نهاية القرن التاسع عشر، يعتبرونها أكلتهم الوطنية، وينازعهم عليها الأتراك، وأول من ذكرها باسم «المسقعة» ورد في قصيدة للشاعر التركي إبراهيم ترسي مطلع القرن الثامن عشر.
وأصل كلمة «بورانية» يعود إلى العصر العباسي الذهبي في بغداد في القرن الثامن ميلادي، والاسم مستقى من «بوران» زوجة ابن اخت إبراهيم المهدي، شقيق الخليفة هارون الرشيد. وكان يطلق على الطبخة أيضاً «باذنجان محشي» وهو الاسم الذي يُستخدم حتى اليوم في بغداد، حيث يسمونها أيضاً «شيخ محشي»، ويسمونها أيضاً «تبسي» وهي صينية نحاسية، تُطبخ بها. وتختلف الأسماء تبعاً لمكوناتها، التي تخلو أحياناً من الباذنجان. ويسميها البغداديون حتى اليوم «مدفونة»، وهو مرادف لاسم «المغمومة» وتعني «محجبة» التي كان يطلقه عليها العباسون، وقال عنها إبراهيم المهدي، إحدى أشهر أشعاره:
«فرحانة لا أزال الدهر أطلبها من الطهاة فأعطى غاية الثمن
أذا أدبرت بقدر ثم عاد لها طوق من الخل والأبزار في فرنِ
واركبت ساف لحم فوق إليته وساف من بصل حلو ومن تمّنِ
وإن جعلت سوا باذنجها جزراً جاءتك في غاية التطييب والبننِ
فهذه عندكم مغمومة حزنت لكنها ما رأت يوماً من الحزنِ
فرحانة يفرح الجيعان إن بدرت في صفحة كمثال البدر في الدجن»[8]
وتكتشف نوال نصر الله في دراستها «الكليجة العراقية والبحث عن الهوية» أصول «الكليجة» المرتبطة بإلهة الحب السومرية «عشتار»، واسم «الكليجة» المقتبس من وحدة وزن عباسية، يتردد بلغات عدة، بالإيرانية «كلوجه»، وبالروسية «كوليج» وبالبلغارية «كولاج»، وبالأوزبكية «كاليجا». وتروي نوال كيف كانت أمها تحرصُ على إعداد «الكليجة بكميات كبيرة قبل العيد بأيام قليلة، وإلّا فالأطفال سيأتون على الكليجة قبل أن يأتي العيد. ولا عيد دون «الكليجة» بأشكالها وحشواتها المختلفة، كالتمر، ومُكسر الجوز، والسكر، والهيل، والقرفة، ويسميها العراقيون «دارسين». وعند شحة الحنطة وقت الحصار عقب حرب الخليج عام 1991 استخدم العراقيون الحنطة السوداء لصنعها. وشكا زوج عراقي «وهل يمكن لأي منا إقناع زوجاتنا بعدم صنع الكليجة في هذه الأيام الصعبة؟»[9].
وفي بحث يقع في نحو 9 آلاف كلمة عنوانه «عرب القرون الوسطى أكلوا أيضاً السندويتش» تُعبر نوال نصر الله عن خيبة أملها من كتاب التاريخ العالمي للسندويتش الذي أنكر مساهمة عرب القرون الوسطى، واعتبرها «غير ذات بال ثقافياً ولا علاقة لها بأشياء نسميها ساندويتش، وأن أصول لفائف الشرق الأوسط مختلفة عن السندويتش الأوروبي، وتفتقر إلى اسم واحد يوحدها». وتذكر النصراوي في بحثها المنشور في كتاب السفر عبر الزمن الصادر عن «جمعية الاستشراق الفنلدنية» أن اسم السندويتش يرتبط بلقب نبيل إنكليزي في القرن الثامن عشر طلب أن يعدوا له أكلة سريعة بين شريحتي خبز، فيما يمتد تاريخ السندويتش عبر آلاف السنين. و«تساوق استهلاك السندويتش مع صنع الخبز. والأمر كله يعود إلى الملاءمة، فكل أنواع الخبز، المسطحة، أو المنتفخة، المستوية، أو غير المستوية، الكبيرة أو الصغيرة، اللينة، أو الرقاقية، كانت تحت تصرف الآكلين عبر الشرق الأوسط القديم كله». وتورد مصادر عدة تبين أن الإغريق وسكان روما القدماء كانوا يتطلعون إلى سكان الشرق الأوسط بحثاً عن الإلهام، و«منهم علمنا أن السوريين والفينيقيين كانوا يُثمَّنون خصوصاً، وكان سكان روما يعرفون أن سكان الشرق يملكون تذوقاً رفيعاً ويملكون أيدي أكثر مهارة في عمل الخبز».
وتذكر نوال نصر الله أن الوثائق المحفوظة عن السندويتش العربي منذ العصر العباسي ضم أنواع المصادر من وصفات كتب الطبخ، وعن الأغذية والطب، وحتى قصائد الطعام ونوادره، وتورد وصفات عدة لصنع السندويتش الذي كان يُسمى «البزماورد»، و«الأوساط» من كتاب الطبيخ لابن سيار الوراق في القرن العاشر الذي احتوى على فصل خاص بالسندويتش، وكتاب الطبيخ للبغدادي من القرن الثالث عشر. وكان بعض أنواع السندويتش يحمل اسم الخليفة المأمون «تُقطّع دجاجة وتصفّ على الرقاق وتبسط تحت الدجاجة جوز مقشور وحماض الأترج ونعنع وطرخون وباذروج وملح وبدرح». ووصفة «وسط مشطور لابراهيم بن المهدي» وقصيدة له حول السندويتش:
«أطيب بوسط على الكانون صنعته ببهّ وبدهن الجوز مشطورُ
كأنما البن فيه عنبر صنعت فيها من المسك تلميع وتأثيرُ
فيه من الحبة السوداء حصّته والرازيانج فيه فهو مذرورُ
وخلطة الزيت فيه عند صنعته ففيه زينة غمر وتغميرُ
عليه من محّ بيضٍ فوقه جبن كأنه مطرف يعلوه منشور
كأنه رقم خز في تلونه وفي روايحه مسك وكافورُ
والطعم كالشهد في الأفواه لذته وخلطه من أفاوي العطر مشهور»
وتستخلص الباحثة من عدة مصادر ما تعتبره «الأهمية الثقافية والمطبخية للسندويتش العربي». وتذكر أنه كان «يُقدمُ كغذاء مهم، من صحون البوارد، ويقدمُ عادة قبل الوجبة الرئيسية الساخنة للسماح، حسب الاعتقاد الطبي آنذاك لهضمه بشكل ملائم في القسم الأسفل من المعدة، حيث يجري الهضم الأقوى. وكان يرمز للأناقة والترف. ويكنى بأسماء مثل «لقمة القاضي»، ولقمة الخليفة»، و«نرجس المائدة»، و«فخذ الست».
وفي عصر الخلافة الفاطمية في مصر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كان السندويتش متوافراً للجمهور خلال احتفالات رمضان. وكانت تُعرض في صينيات كبيرة يقتنيها الناس للأكل في البيت. وكانت هذه الوجبات السريعة تباع بأسعار رخيصة من حوانيت الطبخ في أسواق الطعام. ونعرف من كتاب الحسبة الخاص بمفتشي أسواق الطعام أن «بعض تلك الحوانيت متخصصة ببيع «المشرحات» وهي شرائح لحم خفيفة مشوية، وبعضها يبيع مشاوي اللحم المثروم»[10].
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 460.
الاقتباسات مذكورة مع مصادرها، وما لا يُذكر مصدره مراسلات مباشرة مع نوال نصر الله، أو من موقعها على الإنترنت:<http://www.iraqcookbook.com>
(**) محمد عارف: كاتب وباحث في العلوم والتكنولوجيا.
البريد الإلكتروني: maref21@yahoo.co.uk
[1]Richard Wrangham, Catching Fire: How Cooking Made Us Human (New York: Basic Books, 2009).
[2] Gregory G. Reck, «Narrative Anthropology,» Anthropology and Humanism, vol. 8, no. 1 (February 1983).
[3] Nawal Nasrallah, Delights from the Garden of Eden: A Cookbook and History of the Iraqi Cuisine (London: Equinox Publishing Ltd., 2003).
[4] محمد عارف، «فوحُ «العنبر» العراقي يوم البذور العالمي،» الاتحاد، 1/5/2014.
[5] Nawal Nasrallah, Annals of the Caliphs Kitchen: Ibn Sayyār al-Warrāq’s Tenth-Century Baghdadi Cookbook (Leiden: Brill, 2007).
[6] Harriet van Horne, «Cooking is Like Love: It Should Be Entered into with Abandon or Not at All,» Vogue Magazine (15 October 1956).
[7] Karl Marx, Writing of the Young Marx on Philosophy and Society, edited by L. D. Easton and K. H. Guddat (New York: Dodledy, 1976), p. 312.
[8] Nawal Nasrallah, «In the Beginning there was no Musakka: A Curious Case in the History of Culinary Metamorphoses,» Food, Culture and Society, vol. 13, no. 4 (2010).
[9] Nawal Nasrallah, «The Iraqi Cookie, Kleicha, and the Search for Identity,» Repast, vol. 24, no. 4 (Fall 2008).
[10] Nawal Nasrallah, «Mediaeval Arabs Ate Sandwiches, Too,» in: Travelling through Time (Helsinki: Finnish Oriental Society, 2013).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.