شخصت الأبصار إلى غزة ثم إلى نابلس في شهر آب/أغسطس الفائت، ولطالما احتضنت عيون الشرفاء كلَّ حالةِ مقاومةٍ متميزة، ولو كانت تحديًا للهيمنة الغربية، أو موقفًا حازمًا من الحركة الصهيونية العالمية، في أقصى أرجاء الأرض.
يتماهى شرفاء أمتنا مع كل حالة مواجهة فذة اليوم وبالأمس؛ في أمثلة البطولات الفردية البارزة، وفي معارك العرب ضد الغزاة؛ في محمد بن عبد الكريم الخطابي وعمر المختار وصالح العلي وعز الدين القسام وثورة العشرين في العراق، وفي تيسير الجعبري وإبراهيم النابلسي وأفواج شهداء فلسطين؛ في عملٍ فنيٍ ملتزم، وفي ملحمةٍ ميدانيةٍ يسطرها فتيان الحجارة أو فارسٌ فلسطينيٌ منفرد؛ في المقاومة العراقية وهي تنسف دبابات الاحتلال الأمريكي، وفي المقاومة اللبنانية وهي تتصدى للغزو الصهيوني في مارون الراس وبنت جبيل عام 2006؛ وفي ظاهرة الرياضيين العرب، شبانًا وشابات، ممن يتخلون، من دون أن يرف لهم جفن، عن حلم العمر بالفوز في بطولةٍ دولية، درءًا لخزي التطبيع مع العدو الصهيوني.
تكثر الأمثلة، ويبقى قاسمُها المشتركُ وقفةَ العز بالرغم من ميزان القوى. وهي وقفةٌ تمثل، بذاتها، نصرًا وطنيًا وقوميًا. فأولئك فتيةٌ لا يتصالحون مع ضمائرهم إلا حين يتصدّون للرياح الصفر مهما غلا الثمن الفردي. ويعنيهم طبعًا، ويعني شعبهم كثيرًا، أن ينتصروا في معاركهم، بيد أن وقفتهم نفسها رصيدٌ للمصلحة العامة، بمعزل عن النتائج الميدانية لمعركتهم في لحظتها، فرُبَّ ظَفَرٍ كاستشهاد عمر المختار في سلوق أو يوسف العظمة في ميسلون، وربَّ خيبةٍ كتبوُّء المناصب في ظل احتلال، والعبرة بالأثر في الوطن وقضايانا القومية، ومن يحسبها بهذا المقياس، لا بمقياسٍ فرديٍ أو انتهازي، يعرف أن البطولة، بذاتها، شرفٌ، وأن أمتنا العربية تعتنق بطلها في لحظة الشدة، منتصرًا ومهزومًا.
المقاومة كمصلحة استراتيجية عربية عليا
تعريف المقاومة، وطنيًا وقوميًا، هو مواجهة الغزو الخارجي، والسعي لإعاقته، وصولًا إلى إيقاف زخمه، ومنعه من الاستقرار حيث تمدد، ونرى بصورةٍ متزايدة أن مثل ذلك الغزو كثيرًا ما لا يتخذ أنماطًا عسكريةً تقليديةً، فقد يتخذ صورةَ حصارٍ ماليٍ واقتصادي، أو غزوٍ ثقافي، أو حملاتٍ إعلامية، أو صورةَ حربٍ هجينة من نمط حروب الجيل الرابع تستخدم فيها أدوات مركبة ومتعددة، منها الإرهاب والحرب الإلكترونية والبرمجة النفسية.
لذلك، فإن المقاومة لا تتخذ شكلًا عسكريًا فحسب، مع أنه عمودها الفقري، بل يفترض بها، إن أرادت أن تكون مؤثرة، أن ترتقي إلى مستوى التحدي وأن تطوِّر أدواتها وأن تنوِّعها بما يتلاءم مع تنوع أشكال الغزو الجديدة في القرن الحادي والعشرين، حتى على المستوى العسكري الذي دخلت على خطه الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة والصواريخ المضادة للصواريخ… إلخ. وليس المطلوب من قوى المقاومة هنا أن تضاهي الدول الكبرى في تصنيع التكنولوجيا العسكرية أو غيرها، بل أن تسعى لتجاوزها وتشتيتها وإيجاد ثغرٍ فيها تحيِّد أثرها في الميدان؛ حفر الأنفاق نموذجًا.
إلكترونيًا، يمكن تأسيس شبكات مقاومة هدفها التصدي للفيروسات والاختراقات والذباب الإلكتروني وما شابه، أو شبكات مقاومة لتجاوز دكتاتورية إدارات وسائل التواصل الاجتماعي، المتقنعة بتطبيق «مقاييس المجتمع»، بينما تسعى لهندسة اتجاهات رأي عام (Trends) تتساوق مع أجندتها الليبرالية المتصهينة.
لا داعي إلى الإشارة طبعًا إلى أننا أمة منفتحة تاريخيًا، لا منغلقة، وأننا لا نتعامل مع أي تفاعل خارجي بوصفه «اختراقًا» أو «غزوًا»، إنما يدور الحديث هنا بالضرورة عمّا تقوم به قوى معادية تاريخيًا تستهدف الأمة العربية منهجيًا في وعيها وهويتها وبوصلتها وتماسكها الاجتماعي كجزءٍ من استراتيجية الهيمنة والتفكيك وشرعنة الاحتلال الصهيوني.
الاستراتيجية الدفاعية تبقينا أسرى اللحظة الراهنة
تقودنا هذه النقطة مباشرة إلى أمرين مهمين:
أولًا، أن مقاومة قوى الهيمنة الخارجية وأدواتها ومشاريعها هي المصلحة العليا للأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية، وبالتالي فإن من يمارس المقاومة ويقدم الجهد والتضحيات والدم والمال في سبيلها يخدم الأمة العربية، سواء كانت عقيدته قومية عربية أم لا، وسواءٌ كان مسيّسًا أو مؤدلجًا أم لا. وما دام يناضل ضد أعداء الأمة ومشاريعهم وأدواتهم ومخططاتهم، وبمقدار ما يكون جهده الرئيسي موجهًا نحو تلك البوصلة، فهو يمارس موضوعيًا عملًا قوميًا حتى لو لم يكن خطابه أو وعيه السياسي كذلك.
يتبع أن وصم بعض قوى المقاومة بأنها مرتبطة بأجندات غير عربية هو جزء من مخطط عزل قوى المقاومة عن شرفاء الأمة العربية الذين يتعاطفون معها بحسِّهم القومي السليم.
يتبع أيضًا أن انجرار بعض المحسوبين على محور المقاومة إلى مهاجمة «العروبة» و«العرب» و«القومية العربية» برعونة، بذريعة ما تقترفه بعض الأنظمة العربية الرجعية المطبِّعة، معتقدين أنهم يسجلون بذلك نقاطًا لمصلحة أيديولوجيتهم، إنما يصب في جيب المعسكر المناهض للمقاومة إقليميًا ودوليًا، لأنه يؤكد مزاعمه أن المقاومة إنما هي «مشروع إيراني».
ثانيًا، لم يكن ثمة داعٍ إلى الحديث عن مقاومة لو لم تكن الأمة العربية في وضع دفاعي أصلًا، أي في حالة تلقّي الهجمات التي لا بد من احتوائها وصدّها. فالمقاومة بالتعريف استراتيجية دفاعية، وهي تقوم على خوض حروب مواقع لإعاقة تقدم العدو واستنزافه ورفع تكلفة عدوانه، والعمل خلف خطوطه بكل الوسائل الممكنة، ومنه العمل خلف خطوط العدو في الفضاء الافتراضي، مثلًا عندما نقوم بتشفير تعابيرنا المقاوِمة على موقع «فيسبوك» المسيطر عليه صهيونيًا لكي نمرّرها على صفحاتنا من دون التعرض للحذف أو الحظر أو التقييد.
تسعى الاستراتيجية الدفاعية، إذًا، لكسب الوقت، وتعديل ميزان القوى، ومنع العدو من تحقيق مكاسب جديدة، وتقويض مكاسبه القديمة وتجويفها، وهي بهذا المعنى ضرورةٌ حياتيةٌ للأمة العربية في حالة الضعف والتمزق والضياع التي تعتريها وفي ظل تكالب المفترسين عليها من كل حدبٍ وصوب.
إن المقاومة هي كريات الدم البيض التي يطلقها الجسد العربي غريزيًا للدفاع عن نفسه عند تعرضه لاختراقٍ أو لغزوٍ مستخدمًا كل الأدوات المتاحة، أي أن المقاومة انعكاسٌ لعدم تكافؤ ميزان القوى بين الأمة العربية وبين أعدائها، فلو كان ذلك الجسد قويًا منيعًا، لما كان عرضةً لكل ما يعترينا اليوم، بل لانتقلنا من الدفاع إلى الهجوم، أو لما كنا على الأقل هدفًا مغريًا للهجوم إلى هذا الحد. وإذا استخدمنا مثال «فيسبوك» وقوانينه التعسفية المفروضة علينا، نجد أن الصين مثلًا لديها شبكة تواصل بديلة اسمها «رن رن» (Renren)، وأن لديها محرك بحث بديلًا من «غوغل» اسمه «بايدو»، فهي ليست في حالة دفاعية غير متكافئة إزاء الهيمنة الغربية على عالم الإنترنت.
هذا يعني أن حقل رؤيتنا لا يجوز أن يظل مقيدًا باللحظة الراهنة وشروطها وموازين قواها المائلة ضدنا، التي تفرض علينا استراتيجيات دفاعية بالتعريف؛ فالبقاء في حالة دفاعية إلى الأبد يعني ترك زمام المبادرة الاستراتيجية في أيدي أعدائنا، ما يعني بقاءنا في حيّز رد الفعل استراتيجيًا مهما أبدعنا تكتيكيًا.
المشروع القومي مفتاح الانتقال من الدفاع إلى الهجوم
يجب أن نسأل إذًا: ما سبب الضعف المستشري الذي تركنا مطمعًا للطامعين على مدى قرون؟ لعل الاجتهادات في الإجابة عن السؤال تختلف باختلاف الخلفيات الفكرية لمن يتصدون له، لا بل ستختلف، إلى هذا الحد أو ذاك، ما بين القوميين أنفسهم، ولا سيَّما بعد تأثر بعضهم بالأطروحات الليبرالية المتغرّبة أو بأطروحات الإسلام السياسي، وكلها تراوح ما بين البعد من الغرب و«تحضُّره» و«ديمقراطيته» و«حرياته»، والبعد من التديُّن وعدم اتباع حذافير تعاليم الدين حرفيًا، بحسب هذا المرجع أو ذاك.
ينتمي كاتب هذه السطور إلى المدرسة التي ترى أن سبب ضعفنا كأمة عربية هو عدم وجود دولة وحدة عربية مركزية قوية. ويمكن أن نرى، لو استعرضنا تاريخنا كأمة، قبل الإسلام وبعده، أن تاريخ الحضارات في الوطن العربي بالذات، هو تاريخ الدول المركزية القوية، وأن تلك الدول كانت تنتج حضاراتٍ أكثر رقيًا كلما كانت أكثر مركزية وشمولًا للأصقاع العربية.
نجد، في المقابل، أن ضعف الدول المركزية كان يُنتج نزعاتٍ انفصالية وتجزئة، وكان يستدعي التدخل الأجنبي والاحتلالات، وأن ذلك بدوره كان ينتج تخلفًا حضاريًا، وأن قوى الهيمنة الخارجية، من السلاجقة إلى الفرنجة إلى العثمانيين إلى الاستعمار الأوروبي الحديث، كانت تتغذى على ضعفِنا وتفككِنا كحالة قومية عربية، وتعيد إنتاج التخلف وتعمُّقه مؤسسيًا في بلادنا.
التجزئة سبب ضعفنا، والضعف يغري الطامعين والغزاة، وكلاهما يعيد إنتاج تخلفنا الحضاري. ونلاحظ، في المقابل، أن الوحدة كانت رافعة نهوضنا دومًا، وما دامت الدول المركزية الناشئة عن الوحدة بيد قوى ذات مشروع عربي (محمد علي باشا الألباني الأصل نموذجًا)، فإننا كنا ننهض أكثر فأكثر، والعكس صحيح.
المهم أن الدولة العربية الواحدة المركزية القوية هي رافعة النهوض الحضاري في وطننا العربي كما يثبت قانون وجودنا التاريخي، سواء كان حكامها وثنيين (قبل الإسلام) أو مسلمين منفتحين أو متشددين أو رواد حداثة مثل محمد علي باشا أو قوميين عربًا أو حتى ماركسيين، فكما لا تهم أيديولوجية المقاوم ما دام يمارس عملًا مقاومًا، كذلك لا تهم أيديولوجية حكام دولة الوحدة ما داموا يعملون لتحقيق الوحدة ويحافظون عليها.
المشروع القومي في مرحلتنا التاريخية الراهنة هو بناء الأدوات وتكريس الوعي وتعبئة القوى التي تمكننا من تحقيق دولة الوحدة. ومن يحقق شروط قيام دولة الوحدة، فهو وحدوي موضوعيًا، حتى لو كان دولة القرامطة.
ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى إعادة إنتاج المشروع القومي، أي مشروع بناء أدوات تحقيق الوحدة، بكل وسيلة متاحة. ويفضَّل أن يأتي ذلك المشروع بزخم الضغط الشعبي العربي، فإن لم يكن ذلك متاحًا، فعلى النمط البسماركي إن لزم، أو الماوي، أو على نمط الفتح الإسلامي، الذي كان في الواقع حركة وحدة وتحرير ونهضة، لو قرأنا أثره الجغرافي – السياسي جيدًا، وعلينا أن نعيد قراءة تاريخ الإسلام قوميًا، وتلك إحدى مهمات المثقفين القوميين.
نقاوم بيد، ونبني المشروع القومي بيدٍ أخرى. فالمقاومة ليست هي المشروع القومي، ولا تحلّ محلّه، والعمل على مشروع قومي من دون الالتفات إلى ضرورات الواقع الراهن، لن يبقي فرصةً للتيار القومي ليبني عليه، والحديث عن بناء مشروع قومي من دون الالتزام بنهج المقاومة وممارستها على الأرض يعني التغاضي عن الخطر الماثل، ويعني عدم قراءة التناقضات كما هي على أرض الواقع، وهو أمر لا يليق بأي قومي جاد. والمقاوم الذي لا يملك أفقًا قوميًا عروبيًا، كما كان يمتلكه الخطابي وعز الدين القسام وغيرهم، معرّض للتجيير والانحراف، كما العروبي الذي لا يلتزم بنهج المقاومة معرضٌ للتجيير والانحراف.
في عالمٍ تتصارع فيه مشاريع دولية وإقليمية كبرى، بعضها صديق وبعضها معادٍ، من لا يمتلك مشروعًا قوميًا خاصًا به سيكون ملعبًا أو مجرد غنائم للآخرين، وكيف نطالب حلفاءنا أن يحترمونا إن لم نكن أندادًا؟ وكيف نصبح أندادًا من دون كتلة عربية وازنة؟ وكيف تصير وازنة إن لم تكن متحدة، وكيف تتحد من دون مشروع قومي؟!.
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المشروع_القومي_العربي #القومية_العربية #الهوية_العربية #المقاومة #العمليات_الفردية_ضد_الاحتلال #مناهضة_التطبيع #المقاومة_والقومية
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 523 في أيلول/سبتمبر 2022.
(**) إبراهيم علوش: أستاذ جامعي ومفكر قومي.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.