مقدمة

نحو ثمانية عقود مضت على قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، عرفت القضية الفلسطينية معها سلسلةً من النكسات ومسارًا من التراجعات كانت فرص تأسيس دولة فلسطينية معها على جزء من أرض فلسطين، إلى جانب دولة الكيان الصهيوني المحتل التي أُسست في العام التالي لقرار التقسيم، تتضاءل يومًا بعد يوم.

وبعد مرور عام على عملية طوفان الأقصى، وما أعقبها من حرب إبادة جماعية ضد غزة، يبدو أفق الكلام على حل الدولتين على أرض فلسطين أبعد من أي وقت مضى، على الرغم من الاهتزاز الذي أحدثَته عملية الطوفان على الساحة العالمية تجاه القضية الفلسطينية. لكن أسلوب الإبادة الجماعية الذي تخوض إسرائيل به حربَها ضد غزة، فضلًا عن ممارساتها في الضفّة الغربية، يُظهر بوضوح أن ما كانت إسرائيل تسعى إليه، عبر عملية التطبيع والقضم السياسي المتدحرج للقضية الفلسطينية المترافقة مع أعمال أمنية وتكتيكات المعارك بين الحروب، بهدف القضاء على أي فرصة لقيام دولة فلسطينية، لجأت إلى تطبيقه بالقوة المفرطة بواسطة الحرب التدميرية التي تخوضها في غزة والمنطقة.

والسؤال الأكبر الذي يُطرح في هذا السياق هو مستقبل القضية الفلسطينية بعد هذه الحرب، وهل أن ما يحدث في المنطقة سيعيد إنعاش الفرص أمام حل الدولتين أم سيُنهي هذه الفرص؟

1 – تآكل القضية الفلسطينية: من لاءات الخرطوم إلى التطبيع مع “إسرائيل”

لم تكن القضية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى بألف خير، والسياق التاريخي لمشروع حل هذه القضية على قاعدة حل الدولتين، على الأقل، وفق القرار الدولي 242 لعام 1967 (ثم القرار 338 الذي جاء ليؤكده عام 1973)، الذي مثّل سقف الشروط أو المطالب التي وضعها النظام الرسمي العربي لحل هذه القضية منذ قمة الخرطوم عام 1967، ما لبث أن أخذ يتآكل مع الوقت لمصلحة إسرائيل ومشروعها الهادف إلى ابتلاع الأراضي الفلسطينية كافة وما يحيط بها من أراضٍ عربية، إما بفعل الهزائم العسكرية التي تعرض الوطن العربي لها منذ هزيمة 1967، وإما بفعل التنازلات السياسية التي كانت بعض الأنظمة العربية تقدمها إلى إسرائيل مجانًا أو لحسابات قُطْرية ضيقة قصيرة النظر، بدءًا بهزيمة كامب دايفيد، التي تآكلت معها لاءات الخرطوم الثلاث وأدت إلى اختلال النظام الرسمي العربي وانكسار منظومة أمنه القومي انكسارًا لا يزال هذا النظام وأمنه القومي يعاني تداعياته حتى اليوم، مرورًا بسقطة (أو بنكسة) احتلال الكويت، وما أعقبها من حرب “تحرير” أدت إلى هزيمة النظام العربي ككل، وإلى مزيد من إضعاف القضية الفلسطينية، من خلال إخضاع المنطقة العربية للمشاريع الأمريكية وإدخالها في مسار مدريد واتفاق أوسلو، الذي فتح الطريق أمام منظمة التحرير الفلسطينية وعدد من الدول العربية  للاعتراف بالكيان الصهيوني، وهو ما مهّد الطريق بدوره أمام استعادة إسرائيل علاقاتها أو تعزيزها مع عدد من الدول الصديقة للقضية الفلسطينية في العالم.

وإذا كان مسار الأحداث وصولًا إلى مدريد وأوسلو قد فتح الباب أمام اعتراف عربي جزئي وخجول بالكيان الصهيوني في ظل رفض شعبي وحكومي عربي واسع، فإن أحداث الربيع العربي قد جاءت لتقض مضاجع هذا الرفض، سواءٌ بما سببته من حروب وتدمير لبعض البلدان والجيوش العربية التي كانت تهدد أمن إسرائيل، وهو ما ساهم في تهميش مكانة وثقل الدول العربية الكبرى التي تمتلك جيوشًا وبرامج تصنيع عسكري تشكل تهديدًا، ولو نسبيًا للكيان الصهيوني؛ أو بما أحدثته تلك الأحداث من تحوُّلات في الثقافة السياسية والرأي العام وفي ديناميات الجماعة في المجتمعات العربية، التي عملت الحروب الناعمة المرافقة لانتفاضات الربيع العربي على إعادة تشكيل سلّم أولويات تحسُّساتها وردود أفعالها وسلوكاتها بين القضايا الوطنية والقضايا الاجتماعية، أو حتى بين القضايا المركزية والقضايا الهامشية أو حتى الافتراضية.

وهكذا أدت عاصفة الربيع العربي، وما أحدثته من تصدُّعات في النظام العربي دولًا ومجتمعاتٍ ودورًا إقليميًا، إلى إضعاف مكانة القضية الفلسطينية في هذا النظام، ودفعت إسرائيل إلى مزيد من التمادي في تهويد الدولة الصهيونية وفي قضم الأراضي المحتلة عام 1967 ودمجها عمليًا وقانونيًا بنسيج الكيان الصهيوني.

كل ذلك أدى إلى اندفاع دول عربية باتت متحكِّمة في النظام الرسمي العربي بعد الربيع العربي باتجاه التطبيع مع إسرائيل من دون أي ربط لهذا التطبيع باستعادة الشعب الفلسطيني ولو جزءًا من حقوقه، أو حتى من دون ربطها بأبسط شروط قيام دولة فلسطينية على أراضي الـ 67 وفق القرارين 242 و338.

2 – اليمين الإسرائيلي: من الاحتلال إلى الاقتلاع

إذا كان هذا هو ما يحصل على الطرف العربي، فإن ما يحصل على الطرف الإسرائيلي لا يقل خطورة وتأثيرًا في قطع الطريق أمام حل الدولتين، بدءًا من حرب عام 67 التي احتلت إسرائيل خلالها ما تبقى من أراضٍ فلسطينية وأخرى عربية، مرورًا بحرب عام 1973 التي تم توظيفها ضد مصالح القضية الفلسطينية وحل الدولتين من خلال تجييرها لحساب مسار كامب دايفيد، وصولًا إلى مسار مدريد وأوسلو عامي 1991 و 1993، الذي استطاعت إسرائيل من خلاله انتزاع اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بها مقابل منحها مشروع سلطة كاريكاتورية على مساحة لا تتجاوز الأربعة بالمئة من مساحة الضفة الغربية في المنطقة (أ)، ثم اغتِيال إسحاق رابين عام 1995، الذي أسَّس عمليًا لمرحلة جديدة من نظام الحكم في الكيان الصهيوني بعدما أخذ “اليسار” يتقلص في المشهد السياسي الإسرائيلي مقابل تصاعد دور اليمين المتطرف الذي أخذت أحزابه السياسية تطغى على المشهد السياسي في تشكيلات السطلة وصنع القرار في إسرائيل. وقد أخذ اليمين المتطرف المتديِّن والعنصري، يتعامل مع جغرافية دولة إسرائيل وفق سرديات توراتية وتلمودية خرافية ترفض إسرائيل بموجبها التنازل عن أية أراضٍ محتلة وتدعو إلى التخلُّص مما تبقى من شعب فلسطيني، سواءٌ في أراضي الـ 48 أو حتى في أراضي الـ 67، كما تدعو إلى التوسع في أراضٍ عربية مجاورة، مستخدمة الميثولوجيا الدينية هذه لتعزيز مشروعها الاستعماري العنصري التوسُّعي، الذي تؤدي من خلاله دورًا وظيفيًا في مشروع الهيمنة الإمبريالية الغربية على المنطقة. وفي الوقت نفسه أخذت منذ إسقاط مشروع رابين تتزايد النزعة العنصرية لتهويد الدولة في الكيان الصهيوني تحت شعار “حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية” وصولًا إلى تكريس هذا المشروع رسميًا في قانون الدولة القومية للشعب اليهودي عام 2018.

وقد ترجم اليمين المتطرف هذا القانون بتكثيف عملية ضم أراضي الضفة الغربية إلى كيانها وبرفض الكلام على أي مشروع لقيام دولة فلسطينية، حتى ولو على 1 بالمئة من أرض فلسطين، معتمدةً بذلك نهجًا عنصريًا فاشيًّا اقتلاعيًا تجاه الشعب الفلسطيني، سواء عبر مصادرة المزيد من أراضيه في الضفة الغربية والقدس، أو من خلال تهديد أماكنه المقدسة وبخاصة المسجد الأقصى، أو من خلال زج الألوف من الفلسطينيين في السجون من دون تهم ولا محاكمات، أو من خلال تهويد القوانين وبرامج التعليم ونزع أي صفة أو سمة فلسطينية أو عربية في المكان الفلسطيني، أضف إلى ذلك الحصارَ الخانقَ الذي كانت إسرائيل تعتمده تجاه قطاع غزة، وهو أمرٌ عززت من تأثيره عملية تدمير الأنفاق التي قامت بها السلطات المصرية، بعدما كانت هذه الأنفاق  تربط غزة بسيناء وتوفر متنفسًا لشعب غزة يحد من قسوة الحصار الإسرائيلي عليه ويوفر له شروط استمرار الحياة في القطاع.

كل ذلك كان يحدث في ظل تصاعد الدعوة والسعي وسط اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من الأراضي الفلسطينية، إما بالقتل وإما بالترحيل، وقطع الطريق على أي إمكان لقيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 في المستقبل.

3 – الخيار البديل لحل الدولتين

في ظل هذا الاتجاه الانحداري المتراكم الذي كانت تشهده القضية الفلسطينية، محليًا وعربيًا ودوليًا، والذي أنهى أي فرصة لحل الدولتين، ولم يبق أمام الشعب الفلسطيني، ومحور المقاومة الذي يسانده، إلا خيار المقاومة المسلحة لاستعادة أرضه والدفاع عن حقوقه ولاستنهاض القضية الفلسطينية وللتعويض عن هذا التخلي العربي والدولي عن قضيته، جاءت طوفان الأقصى في هذا السياق، وهي نجحت حتى الآن، بغض النظر عن النتائج العسكرية التي ستؤول إليها الحرب غزة ولبنان وما يرافقهما من مواجهات عسكرية وأمنية مختلفة الوتائر على الجبهات المساندة لها في المنطقة، في إعادة فرض القضية الفلسطينية كقضية محورية على الصعيد العالمي، لكن من دون وجود أي رؤية جدية لحل القضية الفلسطينية، سواء لدى الطرف العربي والإسلامي المعني بهذه القضية، أو لدى المجتمع الدولي الصديق وغير الصديق لهذه القضية، من خارج صندوق حل الدولتين المنتهية صلاحيته.

لذلك تؤكد تطورات الأحداث واتساع الحرب في المنطقة إلى خارج حدود فلسطين، أن الرهان على حل الدولتين هو رهان وهمي لن يجني الفلسطينيون والعرب منه سوى الخسائر والهزائم، فالواقع السياسي والسكاني والعمراني واللوجستي والأمني الذي خلقته إسرائيل في أراضي الـ 67 في ظل مناخ عقائدي وسياسي وعسكري وديني عنصري فاشي يحكم هذا الكيان، لم يعد يوفر أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وربما يكون الحل الوحيد الممكن، لكن على المدى المتوسط أو البعيد، للقضية الفلسطينية هو استمرار الصراع الشامل مع هذا الكيان فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا من أجل إسقاط هذا الكيان العنصري الإرهابي وإقامة الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة على كامل أرض فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، واستعادة الشعب الفلسطيني كامل حقوقه في العودة إلى أرضه واسترجاع أملاكه المغتصبة واستعادة تواصله الجغرافي والاقتصادي والسياسي والثقافي مع محيطه الطبيعي العربي ومع العالم.

وتوجد اليوم مؤشرات كثيرة تُظهر أن الظرف الدولي، وبخاصة على مستوى الرأي العام، بات مهيَّأً للانتقال إلى هذا الخيار؛ فالرأي العام العالمي ينحو أكثر فأكثر باتجاه رفض التعايش مع كيان يقوم على التمييز العنصري والفاشية الأكثر دموية في التاريخ. كما أن طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة والمنطقة تخلق واقعًا جديدًا على مستوى العالم يؤسس لمناخ شعبي، ورسمي إلى حد ما، يدرك خطورة الكيان الصهيوني، لا على الشعب الفلسطيني فحسب، بل على الحضارة الإنسانية برمتها، فكلما زاد هذا الكيان جبروتا وقوة ووحشية ودموية زاد قلق العالم من خطورته التي لا تعرف حدودًا للإجرام المنبعث من مخزونه الثقافي ومن دوره الوظيفي في المشروع الإمبريالي الأمريكي والغربي الذي لا يتردد في خوض الحروب وإشعال العالم بهدف الحفاظ على سيطرته وهيمنته عليه.

ويبقى الرهان الأول في هذا الصراع الوجودي على مراكمة عناصر القوة لدى قوى المقاومة للدفاع عن أرضها وشعبها ولو طال الزمن وكبرت التضحيات.

كتب ذات صلة:

القضية الفلسطينية والمشكلة الإسرائيلية: رؤية جديدة

مشاريع الطاقة الإسرائيلية في شرق المتوسط وتحديات الأمن القومي العربي

صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش