مقدمة:
قد يكون العنوان غريباً، وربما مستهجناً بعض الشيء، لكن واقع الحال يتطلب، ليس فقط عملية ترميم للعقل المعماري العربي الإسلامي، بل عملية جراحية تستأصل الورم السرطاني المنتشر في هذا العقل والمسيطر عليه؛ المتمثل بسطوة العمارة الغربية، عملياً، ونظرياً، وتربوياً، وتعليمياً، عليه. فلا وجود للفكر المعماري العربي الإسلامي الأصيل في العقل المعماري العربي الإسلامي، إلا استثناءات قليلة جداً غير فاعلة، ومقتصرة على عدد محدود من المعماريين العرب، لا يتجاوز أصابع اليدين. أما باقي الاستثناءات القليلة فمعلوماتهم عن العمارة الإسلامية، تَحَصَّلَتْ بمفاهيم الاستشراق القائمة على التحليل الشكلي للأعمال المعمارية، وتصنيف العمارة الإسلامية إلى طرز، طبقاً لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على التحقيب التاريخي؛ خلافاً لفلسفة التاريخ الإسلامي[1] القائمة على: التواصل التاريخي، والدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة. كما أن مفاهيم الاستشراق تُخْضع العمارة الإسلامية لتأثير كل من العمارة البيزنطية والعمارة الفارسية؛ إضافة إلى تغييبها للجسم النظري للعمارة الإسلامية؛ أي تغييبها للفكر المعماري[2] العربي الإسلامي الشمولي، والمتنوع، والمتكامل؛ والأكثر غنىً وثَراءً من أي فكر معماري آخر، متقدم عليه، أو معاصر له، أو متأخر عنه. أي أنه أغنى وأثرى من الفكر المعماري الغربي المتمثل بالعمارة الحديثة، وعمارة ما بعد الحداثة، ولاعمارة نزعة التفكيك[3]، التي تحاول القضاء على كل ما هو متواضع ومتفق عليه. والفكر المعماري العربي الإسلامي أرقى مما يسمى «العمارة الخضراء»، لأنه أُسِّسَ على نظريات التصميم البيئي[4] التي وضعها الطبيب أبو زيد البلخي (236 – 322هـ/934 – 850م). كما شمل أقدم وأعمق النظريات والمفاهيم للحفاظ المعماري في العالم[5]، والمتقدمة زمنياً ومعرفياً على ميثاق اليونسكو، والمواثيق الدولية الأخرى، التي لم تُعْرَفْ إلا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ ولم تأخذ طريقها إلى المَأْسَسَةِ إلا في ستينيات القرن الماضي؛ خلافاً لمؤسسة الوقف التي ولد فيها الحفاظ المعماري العربي الإسلامي، والتي تمت مأسستها على يد الإمام الشافعي (ت 204هـ/819م).
هذا التمايز غيض من فيض، سردْته كمدخلٍ ومقدمةٍ لتبرير حاجة العقل المعماري العربي الإسلامي إلى الترميم. فالترميم المنشود ليس إلا محاولة لاستقلال العقل المعماري العربي الإسلامي عن العقل المعماري الغربي، من خلال إعادة تأهيل العقل المعماري العربي بالفكر المعماري العربي الإسلامي؛ بدلاً من الفكر المعماري الغربي، الذي استوطن واستقر في العقل المعماري العربي الإسلامي، وشَكَّلَ وعي المعماريين العرب والمسلمين، طوال القرنين الماضيين وما زال يشكله حتى وقتنا الحاضر.
أولاً: الأهداف والمنهجية
إن الهدف من هذه الدراسة هو ترميم مكوِّنات العقل المعماري العربي الإسلامي؛ أي استبدال المكون الثقافي المعماري الغربي السائد في جامعاتنا، وفي ممارساتنا العملية، بالمكوِّن الثقافي العربي الإسلامي. فالترميم هنا يتم بتقانات[6]: التجديد، والإضافة، والهدم وإعادة البناء، وذلك لإحداث عملية تمكين ثقافي عربي إسلامي في العقل المعماري العربي الإسلامي، والوجدان المعماري العربي الجمعي؛ لتحريرهما من سطوة وسيطرة وهيمنة الثقافة الغربية، ولاستعادة حضورنا المعماري والحضاري في العالم. ولتحقيق ذلك يتوجب أن نتخلص من حضور الثقافة المعمارية الغربية في النسيجين المعماري والعمراني في المدن العربية؛ وفي المناهج الدراسية بكليات العمارة. وهذا بدوره يتطلب أن نوضح ما هو المقصود بالعقل، وأن نحدد مكان العقل المعماري العربي الإسلامي فيه. ثم نبين كيفية استبداله بالعقل المعماري الغربي، ثم نعرض لعملية الترميم، ونبيِّن مسارها وكيفية توظيفها في النسيجين المعماري والعمراني للمدن العربية، وفي المناهج الدراسية بكليات العمارة، وسأبدأ بمفهوم العقل.
العقل في اللغة[7] الحبس والمنع، وسمِّي عقل الإنسان عقلاً لأنه يعقله، أي يحجزه ويمنعه من الوقوع في التهلكة؛ والعقل هو الغريزة المدرَكة التي ميَّز الله بها الإنسان عن غيره من المخلوقات. والعقل هو العمل بمقتضى العلم، ويدل عليه نفي الكفار للعقل لعدم قدرتهم على الإدراك المعرفي به، أي بالعقل، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[8]. وأيضاً في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[9]. وفي قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[10].
واللافت للنظر أن جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم عن العقل تفيد أن العقل أداة للعلم، أي للإدراك المعرفي بحقيقة الأمور، سواء المتعلق منها بالإيمان، أو بالظواهر الطبيعية من مخلوقات الله كتصريف الرياح والسحاب، وتسخير النجوم والشمس والقمر… إلخ.
والعقل هو المعرفة والبصيرة، وهو مجموعة من القابليات الإدراكية التي تمكِّن الوعي والتفكير والذاكرة. والعقل هو النتاج الفكري المحكوم بالمبادئ والقواعد الذهنية السائدة في فترة زمنية محددة، قد تستمر وتتواصل، أو تنحسر وتُحَنَّط ومن ثُمَ تُسْتَبْدَل. استناداً إلى ما سبق فإن منهجنا في هذه الدراسة سيقوم على توظيف العقل كأداة إدراكية معرفية، وكمُتَحَصَّلٍ معرفي، أو كمنتج فكري، أي كفكر أو كمنظومة معرفية ذات بناء فكري.
والسؤال المطروح هنا وقبل الخوض في عملية الترميم هو: أين يقع العقل المعماري العربي الإسلامي (كجزء من العقل العربي الإسلامي الشامل) ضمن مفاهيم وتعريفات العقل السابقة؟ وهل هو مُكْتَمَلٌ أم غير مُكْتَمَل؟ حاضرٌ أم مُغَيَّب؟ فاعلٌ أم مُحَنَّط؟ منتجٌ (أصيل) أم مُستَوْرَد؟ وما هو العقل المعماري السائد في عالمنا العربي حالياً؟
يقع العقل المعماري العربي الإسلامي، في رأيي، ضمن المفهوم القرآني للعقل، أي هو أداة إدراكية، ومُتَحَصَّل معرفي فكري تراكمي مكتمل التكوين[11]. وأعني بالمكتمل أن هذا العقل شمل جميع مناحي المعرفة المعمارية وعالجها بعمق فكري غير مسبوق في تاريخ العمارة، بل في تاريخ الإنسانية. ففيه وُجدَت أحكام البنيان ومنهجيات التصميم[12]، والمقياس الإنساني، وبيانات التصميم، وتقانة رسم المنظور، ونظريات التصميم البيئي، وحقوق الارتفاق، والمفاهيم الوظيفية، ومفاهيم المتانة، والجمال، والاقتصاد، ونظريات الإدراك، وطُبقت فيه قواعد السلوك الاجتماعي كالخصوصية والوقاية، والمتطلبات النفسية للمستعملين كنفي الضرر بجميع أشكاله ومسبباته؛ ووُظفت فيه العلوم الهندسية والحساب، والمساحة؛ وأُسِسَت فيه أول منظومة حفاظ معماري في العالم كما بيَّنت سابقاً؛ إضافة إلى نظريات التخطيط العمراني والعمران الشجري. وبالجملة فإن العقل المعماري العربي الإسلامي هو الأرقى في العالم، لأنه مورس منذ بدايته بأرقى منهجيات التصميم المعماري، وهي منهجية الأحكام.
هذا المُتَحَصَّل المعرفي، أي العقل المعماري العربي الإسلامي، الذي حُدِدَت أطره العامة في القرآن الكريم، وتشكلت في المصادر الأدبية والعلمية والجغرافية، والتاريخية؛ واكتملت في المصادر المعمارية، هو عقل مُغَيَّب ومُحَنَّط وغير فاعل، على الرغم من أنه إنتاج أصيل في الحضارة العربية الإسلامية. وقد تم استبداله عملياً ونظرياً بعقل معماري مستورد هو العقل المعماري الغربي؛ الذي بدأ يتسرب عملياً إلينا مع حملة نابليون على مصر (1798 – 1801م)؛ ثم في أعمال رئيس بلدية باريس البارون هوزمان (1809 – 1891م)، الذي عهد إليه الخديوي إسماعيل (1830 – 1895م) تخطيط وسط القاهرة الحالي، فنقل تجربته في تخطيط مدينة باريس، حيث قام بهدم معظم مبانيها، باستثناء المباني التاريخية والدينية، وأعاد تخطيطها مركِّزاً على توسعة الشوارع لأسباب أمنية. إلا أنه لم يهدم القاهرة كما فعل في باريس، بل خطط التوسعات الغربية للقاهرة المعروفة الآن بوسط القاهرة على النمط الباريسي محدداً ارتفاع المباني وطرازها. ثم أعقبه على تخطيط القاهرة المهندس المصري علي باشا مبارك (1824 – 1893م)، الذي تعلم في باريس، وتأثر بالعمارة الأوروبية[13]، ففتح الباب على مصراعيه للمعماريين الأوروبيين وبخاصة الطليان، والفرنسيون، والمهندسون المصريون (الذين تلقوا تعليمهم في باريس، حيث اصطحب نابليون معه 200 طالب مصري للدراسة في باريس في مختلف التخصصات. ثم أرسل محمد علي (1805 – 1848م) الطلاب المصريين للدراسة في باريس)، حيث عملوا جميعاً على تغيير النسيجين المعماري والعمراني والمشهد الثقافي، والتربوي، والتعليمي، إلى حدٍ كبير، لمدينة القاهرة (ولباقي المدن المصرية). فتغيرت شخصيتها البصرية، وهويتها المعمارية، لتصبح أوروبية بدلاً من شخصيتها وهويتها المعمارية العربية الإسلامية. ثم توالى تغيير النسيجين المعماري والعمراني، ومن ثم الشخصية البصرية والهوية المعمارية، لباقي المدن العربية كدمشق، وبيروت، والجزائر، وتونس، حتى شمل جميع المدن العربية.
ثم تكرس عملياً استبدال العقل المعماري العربي الإسلامي بالعقل المعماري الغربي بتأسيس البلديات في المدن العربية، الذي بدأ بالقدس سنة 1863م؛ الأمر الذي ترتب عليه تغيير أحكام البنيان الإسلامية، وقانون البناء العثماني المنبثق من أحكام البنيان الإسلامية، بأنظمة وقوانين البناء الأوروبية. الأمر الذي أدى بدوره إلى شرعنة عملية الاستبدال، ومن ثم مأسسة العقل المعماري الغربي عملياً في الوجدان المعماري العربي؛ ليصبح واقعاً معاشاً، ومسلّماً به، ومسكوتاً عنه، وخارج نطاق التفكير والمساءلة. أي أصبح التسليم بتغيير العقل المعماري العربي الإسلامي أمراً واقعاً.
تكرَّس هذا الواقع نظرياً في المناهج الدراسية المعمارية، إذ تأسس أول قسم للعمارة سنة 1858م في مدرسة المهندس خانة بالقاهرة، التي تأسست سنة 1816م، وكان المدرسون بها من الفرنسيين. ثم أعقبها تأسيس كلية الفنون الجميلة بالقاهرة أيضاً سنة 1908م، كفرع لكلية الفنون الجميلة بباريس (Ecole des Beaux Arts). ثم جامعة فؤاد الأول سنة 1908 وهي جامعة القاهرة حالياً. ثم أعقبها تأسيس معهد ليوناردو دافنشي (Leonardo da Vinci) الإيطالي بالقاهرة سنة 1928م. ثم توالى إنشاء كليات العمارة في الجامعات المصرية وفي جامعات الوطن العربي، حتى بلغ عددها في الجامعات الأردنية حالياً 17 كلية. وجميع هذه الكليات في الوطن العربي ومنذ سنة 1858 وحتى الآن، تتبنى المناهج المعمارية الغربية التي كرست العقل المعماري الغربي وغيبت العقل المعماري العربي الإسلامي؛ ولم تُبقِ له حضوراً إلا في مادة تاريخ العمارة، التي تدرَّس طبقاً لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على: التحقيب التاريخي؛ وبمنهجية الاستشراق القائمة على التحليل الشكلي كما بينت سابقاً. وهذا يعني أن العقل المعماري الغربي تَمَأسَسَ في الوجدان المعماري العربي على مدى قرنين من الزمان، عملياً، ونظرياً، وتربوياً، وتعليمياً. فالمناهج أو الخطط الدراسية المعمارية الغربية تخلو شكلاً ومضموناً، في الأعم الأغلب، من مادة العمارة الإسلامية، باستثناء مادة تاريخ العمارة. أي أنها حُنِّطتْ ولم تعد فاعلة، بعلمٍ ورغبة وإرادة من أعضاء هيئات التدريس في الوطن العربي. وهذا يعود إلى طبيعة تأهيلهم الأكاديمي بالعقل المعماري الغربي، وإلى فقر ثقافتهم العربية الإسلامية، وضعف انتمائهم الحضاري. وهذا يستدعي عملية ترميم شاملة: عملياً، ونظرياً، وتربوياً، وتعليمياً، كما سأبين في ما يلي من عرض وتحليل.
ثانياً: ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي
لقد حددت ثلاثة تقانات لترميم العقل المعماري العربي الإسلامي وهي: التجديد، والإضافة، والهدم وإعادة البناء. أما التقانتان الأولى والثانية فهما خاصتان بالترميم العملي، أي بترميم النسيجين المعماري والعمراني في المدن العربية.
1 – تقانة التجديد
من المعلوم أنه يتعذر هدم مفردات (مباني) هذين النسيجين واستبدالهما بمفردات عربية إسلامية. ولكن يمكن تجديد عناصرها المعمارية كواجهات المباني، والمداخل والأرصفة والنوافير وعناصر العمران الشجري بعناصر معمارية عربية إسلامية؛ خاصة أننا نشهد، في عمان، عملية تغيير طوعية من بعض ملاك العقارات لواجهات أبنيتهم بواجهات معدنية زادت وفاقمت عملية استغراب الشخصية البصرية والهوية المعمارية لمدينة عمان. إن تجديد العناصر المعمارية الظاهرة بعناصر معمارية إسلامية يعمل على استعادة الهوية المعمارية العربية الإسلامية في مدننا العربية والإسلامية.
2 – تقانة الإضافة
إن إضافة عناصر معمارية عربية إسلامية إلى مفردات النسيجين المعماري والعمراني تعمل على تغيير الشخصية البصرية لهذه المفردات، وتسهم في استعادة الهوية المعمارية العربية الإسلامية لها، ومن ثم للمدن العربية. وهذا بدوره يعمل على تغيير معالم البيئة الحاضنة لتصبح عربية إسلامية بدلاً من استغرابها الحالي. واستعمال هاتين التقانتين يتطلب تغيير الأنظمة والقوانين المعمول بها حالياً بالمدن العربية، واستبدالهما بأحكام البنيان الإسلامية مع الأخذ بعين الاعتبار مستجدات الحياة وتطورها. كما يتطلب إعداداً ثقافياً، أي إعادة تأهيل لمن سيسند إليهم عملية الترميم من معماريين، ومهندسين، ورسامين، وفنانين، وإداريين، وفنيين. إضافة إلى إعداد المجتمع ليس لقبول عملية الترميم فحسب، بل للمساهمة فيها.
كما يتطلب إعداد خطة عمل محكمة وشاملة تسهم فيها: البلديات، والنقابات، ووزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، وأعضاء هيئة التدريس والطلاب في الجامعات، والمؤسسات الإعلامية.
3 – تقانة الهدم وإعادة البناء
هذه التقانة خاصة بالجانب النظري، والتربوي، والتعليمي، إذ لا بد من هدم مكوِّنات المناهج والخطط الدراسية المعمارية، لتحرير العقل المعماري العربي الإسلامي من الحضور الغربي فيه. وإعادة بنائه بنظريات ومفاهيم العمارة الإسلامية التي أشرت إلى بعضها سابقاً.
إذاً هي عملية هدم واجتثاث للعقل المعماري الغربي السائد والمسيطر تربوياً في المناهج والخطط الدراسية، وفي الوجدان المعماري الجمعي العربي؛ لتسهيل عملية إعادة بناء العقل المعماري العربي الإسلامي. ولقد عرضت لعملية التغير هذه في دراسة سابقة[14]، وبمرجعية عربية إسلامية، بينت فيها بالتفصيل: البيئة الثقافية التي ينشأ فيها المعماري، والبيئة التعليمية التي يتم فيها تأهيله مهنياً وتشكيله ثقافياً. وعرضت لآلية للتعليم الجامعي. ولتأهيل أعضاء هيئة التدريس ولثقافاتهم. وبينت ماهية التأهيل المهني والثقافي ودورهما في تحديد دور المعماري في المجتمع، وتشكيل هويته المعمارية وشخصيته الحضارية، ونتاجه المعماري، التي تشكل مجتمعة هويتنا المعمارية. كما بينت في الدراسة عجز أعضاء هيئة التدريس عن إحداث التغيير اللازم، وتحرير العقل المعماري العربي الإسلامي من سطوة وسيطرة العقل المعماري الغربي. وعزيت ذلك إلى استحواذ منهجية المستشرقين التاريخية على عقولهم؛ وإلى عدم قدرتهم على التحرر من سيطرتها؛ وإلى عدم رغبتهم بالاعتراف بجهود غيرهم في تأصيل العقل المعماري العربي الإسلامي؛ وإلى عجزهم عن إحداث تغيير جذري في المناهج الدراسية، في حالة توظيف العقل المعماري العربي الإسلامي. وبينت أن جميع هذه المعوقات يمكن حلها بتطبيق آلية التعليم التي عرضت لها في الدراسة السابقة. كما بينت ضرورة أن تكون إدارات الجامعات ملتزمة وقادرة على إعادة تأهيل أعضاء هيئات التدريس.
وأضيف هنا أن إعادة تأهيل أعضاء هيئة التدريس كجزء من عملية الترميم يمكن أن يتم بتوجيه البحث العلمي إلى مواضيع العمارة الإسلامية. وبتكثيف عقد المؤتمرات عن العمارة الإسلامية، وإلزام أعضاء هيئة التدريس بالمشاركة بها. وباستضافة المختصين بالعمارة الإسلامية، على قلتهم، لإلقاء محاضرات وتنظيم حلقات نقاشية بحضور الطلاب. كما يمكن تنظيم دورات تأهيلية لأعضاء هيئة التدريس لإعادة تشكيل وعيهم بالمكون الفكري المعماري للعقل المعماري العربي الإسلامي.
إن إعادة التأهيل كجزء من عملية الترميم أصبحت ضرورة ملحة، وبخاصة أن بعض أعضاء هيئة التدريس لا يعرفون تخصصهم الأكاديمي! كما أن بعضهم لا يعرفون ماهية المواد التي يُدَرِّسُونَها. فالرسم المعماري يدرَّس كرسم هندسي. كما أنهم لا يعرفون أنواع الخطوط المستعملة في الرسم المعماري، فسماكة الخطوط المستعملة في الواجهات، هي نفسها المستعملة في القطاعات، وفي التفاصيل المعمارية، والأبواب، والشبابيك؟ ومبادئ التصميم المعماري تختزل في تنظيم الفتحات في الواجهات، أو في إحداث التوازن في الكتل المكونة للعمل المعماري، أما باقي المبادئ فلا وجود لها. ويصبح إعادة التأهيل أكثر إلحاحاً في مواد تاريخ العمارة، ونظريات العمارة، والتصميم المعماري. فتاريخ العمارة يدرس بمنهجية المستشرقين القائمة على التحليل الشكلي، أي كتاريخ أشكال، وليس كتاريخ أفكار. وبمنهجية التحقيب التاريخي، طبقاً لفلسفة التاريخ الغربي التي تقسم التاريخ إلى حقب، وتجعل لكل حقبة تاريخية طرازاً معمارياً؛ خلافاً لفلسفة التاريخ الإسلامي[15] القائمة على التواصل التاريخي والدروس والعبر، والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة. واللافت للنظر هنا أن هذه العناصر الأربعة مرتبطة بمنهجيات التصميم المعماري، إضافة إلى أن تدريس تاريخ العمارة، كتاريخ فكر، مرتبط بمادة نظريات العمارة التي تشكل عصب مادة التصميم المعماري، التي بدورها تشكل العمود الفقري للتأهيل المهني لطلاب العمارة ليصبحوا مهندسين معماريين.
هذه المواد الثلاث تشكل المكون الرئيسي للعقل المعماري الغربي المسيطر والمهيمن في المناهج الدراسية المعمارية، وفي الوجدان المعماري الجمعي العربي. ونتاجها، وتحديداً التصميم المعماري، هو الذي يشكل الشخصية البصرية، ومن ثم الهوية المعمارية لمدننا العربية، فإعادة التأهيل هنا ضرورة وطنية وقومية، لأن الهوية المعمارية جزء من الهوية الثقافية والمكوِّن الرئيسي فيها؛ والهوية الثقافية هي المعبِّرة عن الهوية الوطنية والقومية لنا كعرب ومسلمين.
أما عملية إعادة التأهيل في مادة تاريخ العمارة فيجب ابتداءً أن تعمل على تصحيح المفاهيم التاريخية، كالمفهوم الغربي لنشأة العمارة، فهو مفهوم خاطئ لأنه يعتبر أن أصل العمارة: «الكوخ البدائي، وخيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم». إن فرض حضور يهودي في نشأة العمارة ممثلاً بخيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم، مفهوم مُخْتَلَق. فالخيمة لا تمثل عمارة أصلاً، والهيكل المزعوم قام ببنائه، كما يزعم التناخ (العهد القديم)، مهندس معماري فينيقي اسمه حيرام، من مدينة صور في لبنان، وتاريخ بنائه المزعوم يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، (ولقد فندت هذا الزعم في دراسة بعنوان: الهوية المعمارية لمدينة القدس/قبة الصخرة أم الهيكل المزعوم؟). بينما عمارة حضارات ما بين النهرين السامية العربية تعود إلى القرن 40 قبل الميلاد؛ كما أن عمارة الحضارة المصرية القديمة تعود إلى القرن 30 قبل الميلاد؛ والعمارة اليونانية نفسها لا يتجاوز حضورها في التاريخ القرن 5 قبل الميلاد. فلا يجوز تزييف وعي الطلاب بهذه المعلومات الملفقة، كما لا يستقيم في العقل السليم أن يردد أعضاء هيئة التدريس هذه المعلومات دون مساءلة ونقد.
كما أن هناك حضوراً مؤكداً لكل من عمارة حضارات ما بين النهرين والعمارة المصرية القديمة في العمارة العربية الإسلامية، ليس فقط على مستوى الشكل وتواصل وجود بعض الزخارف المعمارية لهذه الحضارات في مفردات العمارة الإسلامية، ولكن في النظريات الهندسية التي ابتدعها البابليون كنظرية المثلث القائم الزاوية وغيرها[16]؛ وفي شريعة حمورابي التي نرى حضوراً لها في أحكام البنيان الإسلامية. وكذلك في المقياس الإنساني الذي ابتدعته الحضارة المصرية القديمة أي قبل الروماني فتروفيوس (القرن 1ق.م.) بثلاثين قرناً الذي نقله عن اليونان الذين نقلوه بدورهم عن المصريين القدماء. وعرض له إخوان الصفا (القرن 4هـ) وعبد اللطيف البغدادي (575 – 629هـ/1112 – 1231م) أي قبل الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452 – 1519م) بثلاثة قرون.
كما يجب التركيز على حضور العمارة العربية للعرب البائدة التي وصلت إلينا من خلال الآثار الباقية في مدائن صالح وغيرها، ومما سجل في الشعر الجاهلي؛ وكذلك عمارة اليمن التي وثقها الهمذاني في الجزء 8 من كتابه الموسوم بـ الإكليل.
فإظهار التواصل بيننا كعرب ومسلمين وبين أسلافنا من الساميين العرب، والمصريين القدماء، والعرب البائدة، والعرب العاربة في اليمن؛ حقيقة تاريخية وثقافية وعلمية مُغَيَّبَة، وهي أكبر من أن تتسع لها هذه الدراسة، وقد ذكرت ما سبق على سبيل المثال لا الحصر. فإعادة التأهيل تستوجب استحضارها وتداولها معرفياً، أي توظيفها في المنهج الدراسي. فنهدم بهذا التوظيف عنصراً من مكونات العقل المعماري الغربي، ونبني مدماكاً أو مداميك في العقل المعماري العربي الإسلامي عند أعضاء هيئة التدريس، وعند طلاب العمارة، يعمل كمحفزٍ معرفي ثقافي، وتربوي تعليمي.
والأمر ينسحب على نظريات العمارة، فبعد تكريس حضور العمارة الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) «ذات المكوِّن اليهودي المسيحي»، كما تزعم المصادر الغربية، في المنهج الدراسي المعماري، يبدأ تكريس حضور نظريات العمارة الحديثة بمدارسها المختلفة، ثم ما بعد الحداثية، ثم لاعمارة نزعة التفكيك اليهودية التقويضية التدميرية الهدمية. واللافت للنظر هنا أن التركيز في تدريس هذه المواد يتم بالوسائل البصرية وليس بالمضامين الفكرية، فيتم عرض شرائح لأعمال بعض المعماريين الأوروبيين لتكون أنموذجاً للطلاب لتقليدها في مادة التصميم المعماري. وهذا تكريس للتبعية الثقافية، وتعزيز لحضور العقل المعماري الغربي في الوجدان المعماري العربي والإسلامي؟ وإقصاء للعقل المعماري العربي الإسلامي، ويعود السبب في عملية الإقصاء لعدم معرفة أعضاء هيئة التدريس لمكونات الأخير النظرية الفكرية، والعملية التطبيقية، الأقدم زمنياً والأعمق معرفياً.
ولنعرض، على سبيل المثال لا الحصر، لمفهوم الوظيفية في العمارة الحديثة، الذي لم يعرف في الثقافة الغربية[17] إلا في منتصف القرن 19 الميلادي، ولم يُتداول معمارياً إلا في عشرينيات القرن الماضي، على الرغم من ذكر المعماري الروماني فتروفيوس لها القرن الأول الميلادي. بينما يعود حضورها في الثقافة العربية وتداولها معمارياً إلى العصر الجاهلي، ونجد ذلك في شعر حكيم العرب الأفوه الأودي:
والبيتُ لا يُبتَنى إلا له عَمَدٌ
ولا عِمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فإن تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ
وساكِنٌ بلغوا الأمرَ الذي كادوا
كما عرض لها ابن قتيبة (ت 276هـ/889م)[18] في عيون الأخبار:
«قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختطَّ داره ليبنيها: هي قميصك فإن شئت وسِّعه وإن شئت فضَيِّقه».
كما عرض لها ابن منظور (ت 711هـ/1311م)[19] في لسان العرب:
«مثل من وضع اللفظ المفرد مثل من بنى صرحاً لينعم فيه ويقصد، فقدر [صمم] من قبل البناء كل ما لزم من المداخل والمخارج، والمرافق والمدارج، ومنافذ النور والهواء والمناظر المطلة على المنارة الفيحاء، وهكذا أتم بناءه كما قدره وشاءه، ومثل من عمد إلى النحت والتلفيق، مثل من بنى من غير تقدير ولا تنسيق، فلم يفطن إلى ما لزم لمبناه إلا بعد أن سكنه، وشعر بأنه لا يصيب فيه سكنه، فتدارك ما فرط منه تدارك من لهوج فعجز، فجاء بناءه سداداً من عوز».
والأمثلة على مفهوم الوظيفية كثيرة، ولكن كما ذكرت فليس الغرض هنا الحصر بل التنويه والتذكير، فلماذا إذاً لا تكون المرجعية عربية؟ هل هو عدم المعرفة؟ أم التنكر للعمارة العربية الإسلامية؟ أم الاستسلام الثقافي؟ أم لهذه الأسباب جميعاً؟
وما ينسحب على الوظيفة ينسحب على كل مكونات نظريات العمارة التي ذكرت بعضها في بداية هذه الدراسة، فنظريات العمارة الإسلامية أقدم زمنياً، وأعمق معرفياً، من نظريات العمارة الغربية. وتأتي الطامة الكبرى في تدريس نظريات العمارة من تدريس لاعَمارة نزعة التفكيك اليهودية التقويضية التدميرية الهدمية كآخر صرعة في العمارة. وتتعزز هذه الطامة بتقليدها، وإنتاج أشكالها (غير المنتظمة التكوين، والمبعثرة العناصر، والفاقدة لوظيفتها ودلالتها الشكلية والجمالية، والمقوضة للبنى والتراكيب المعمارية، المتواضع والمتفق عليها في كل الحضارات، والمعبرة عن عدمية مطلقة)، في مادة التصميم المعماري. وعلى الرغم من عرضي لجذورها الدينية التلمودية القبالية اليهودية، ولأغراضها ومراميها التقويضية التدميرية الهدمية، والمرتبط انتظام تكوينها بنزول الهيكل المزعوم، في دراسة معمقة وموثقة توثيقاً علمياً دقيقاً[20]، ونشرتها في مجلات علمية رصينة، وفي مجلة المهندس الأردني، وعلى الشابكة، وعرضت لها في محاضرات؛ إلا أنّها ما زالت تدرَّس في الجامعات العربية في مادتي نظريات العمارة والتصميم المعماري، وتمارَس عملياً.
وهذا يوضح أنه لا يوجد ما يقلق وعي أعضاء هيئة التدريس، ولا المعماريين العرب، الحضور اليهودي في العقل المعماري الغربي السائد والفاعل في الوجدان المعماري الجمعي العربي الإسلامي. واللافت للنظر أنه منذ نشأة أول قسم عمارة سنة 1858م في القاهرة وحتى يومنا الحاضر لم توظف مفاهيم ومنهجيات التصميم المعماري العربي الإسلامي في تصميم وإنتاج العمارة العربية الإسلامية، علماً أنها ومنذ نشأتها مورست بأرقى منهجيات التصميم المعماري وهي منهجية الأحكام، كما بينت سابقاً؟
فالتصميم المعماري الذي نشأ وأُعِدَّ عليه العقل المعماري العربي تدرَّج منذ سنة 1858م وحتى الآن من: العمارة الكلاسيكية الأوروبية، فالعمارة الحديثة بمدارسها المختلفة، فعمارة ما بعد الحداثة، ولاعَمارة نزعة التفكيك؛ وحالياً يروج لما يسمَّى العمارة الخضراء، التي ليس لها من اسمها نصيب، وهي ليست أكثر من ترويج للمنتجات الصناعية لبعض شركات مواد البناء. فالتصميم البيئي الحقيقي، أو الأخضر كما يدعى حالياً، يتم بتوظيف نظريات ومفاهيم التصميم البيئي العربية الإسلامية التي استنها الطبيب أبو زيد البلخي (236 – 322هـ/850 – 934م).
وسأكتفي بهذا القدر في عرضي لمواد المنهج الدراسي المعماري، لأخلص إلى حاجة العقل المعماري العربي إلى عملية ترميم شاملة وبتقانة الهدم وإعادة البناء. وهنا يأتي دور وزارة التعليم العالي والجامعات في إحداث وقيادة عملية الترميم. علماً أن تجربتي الشخصية في التدريس تؤكد أن عملية الترميم تحتاج إلى ثورة في العقل التربوي والتعليمي العربي، وهذا بدوره يحتاج إلى معجزة، لأن العقل المعماري العربي الإسلامي هو جزء من العقل التربوي والتعليمي والثقافي الشامل المستغرَب شكلاً وموضوعاً.
ولأدلل على ذلك سأذكر واقعة حصلت بيني وبين رئيس الجامعة التي كنت أدرَّس فيها. عندما التحقت بالجامعة عهد لي تدريس مواد: الرسم المعماري لطلاب السنة الأولى، والتصميم المعماري لطلاب السنة الثالثة، وفيما بعد للسنة الرابعة، والتصميمات التنفيذية، والعمارة الإسلامية. وكان مستوى الطلاب في التصميم ضعيفاً جداً جداً، فهم لا يعرفون من مبادئ التصميم شيئاً، وأن التصميم هو فن تطويع البيئة للاستعمال، أي أنهم لا يعرفون الوظيفية، ولا مفاهيم التصميم البيئي، ولا يعرفون شيئاً عن الهيكل الإنشائي، ولا قواعد الرسم المعماري؛ وكل ما يعرفونه في التصميم هو إنتاج الأشكال غير المنتظمة، المبعثرة العناصر، وغير المكتملة التكوين، أي إنتاج أشكال معمارية عدمية على شاكلة لاعَمارة نزعة التفكيك. وكانت النتيجة عدم قدرة الطلاب على إنتاج تصميم انتفاعي تتوافر فيه أبسط مبادئ التصميم المعماري، بسبب ضعف تأسيسهم، وبسبب التبعية الثقافية. وكانت درجات نصفهم تقريباً بين (50 و55) والباقي بين (60 و65). فاشتكى بعضهم إلى رئيس الجامعة وادعوا أنني أطالبهم «بتصميم عمارة إسلامية»، وعندما قابلت رئيس الجامعة أوضحت له أنني لم أطالبهم بعمارة إسلامية إطلاقاً لعدم معرفتهم بمكونها الفكري والفني والعملي؛ وكل ما طالبتهم به هو توظيف مبادئ التصميم المعماري، المتواضع عليها في كل الحضارات باستثناء لاعمارة نزعة التفكيك، كالوظيفية والهيكل الإنشائي ونظريات التصميم البيئي؛ فاحتد رئيس الجامعة ونفى وجود عمارة إسلامية!؟ فقابلته بنفس الحدة بوجود عمارة إسلامية، وأنها أعم وأشمل عمارة في العالم في تنوع مباحثها ومواضيعها، وأعمق عمارة في فكرها، وأرقى عمارة في ممارستها، مع تأكيدي بعدم مطالبتهم بها لجهلهم بمكوناتها، فتراجع وقال لا تفهمني خطأ.
أما مادة العمارة الإسلامية فقد درستها كنظريات عمارة لطلاب السنة الرابعة، الذين اعتقدوا أنها استكمال لمادة تاريخ العمارة التي درسوها سابقاً، على الرغم من طرحي وصفاً مفصلاً لمحتوى المادة، ألحقته بالمنهج الدراسي قبل التسجيل، وتفاعل الطلاب إيجابياً مع المادة في بداية الأمر؛ وعندما طالبتهم بعمل نموذج لوحدة القياس العربية وهي الذراع، الذي أقره عمر بن الخطاب وختمه بالرصاص من الجانبين لذرع سواد العراق، رفضوا عمل التمرين، وتقدموا بشكوى لرئيس الجامعة. وعبثاً حاولت إقناع رئيس الجامعة بقيمة التمرين المعرفية والتربوية، كأول وحدة قياس تختم بالرصاص في تاريخ الحضارات. أي قبل وحدة القياس الفرنسية وهي المتر، المحفوظ بمتحف اللوفر بباريس؛ وقبل وحدة القياس البريطانية وهي الياردة، المحفوظة بالمتحف البريطاني في لندن. هذا في ما يتعلق بقيمتها المعرفية، أما قيمتها التربوية فتتجلى في توعية الطلاب بأنهم ينتسبون إلى حضارة راقية لها منجزاتها العلمية المتقدمة زمنياً ومعرفياً على الحضارة الغربية التي ينشؤون عليها، ولا يعرفون غيرها. كما بيَّنت لرئيس الجامعة أن عمل التمرين سَبَقٌ معرفي للجامعة، وعملية تمكين ثقافي للطلاب، لكن هذه الأمور لا تعنيه، ولم تقلق أو تستفز وعيه الثقافي، ولا التربوي، ولا التعليمي؛ وأن كل ما يعنيه هو إرضاء الطلاب والاحتفاظ بهم بالجامعة وعدم تحويلهم إلى جامعة أخرى.
فأوعز إلي عميد الكلية أن يُطَمْئن الطلاب، وأن يُعْلِمَهُم بأن درجة الصفر التي وضعتها لهم لامتناعهم عن تقديم التمرين سَتُلغى. وسيتم احتساب درجة الامتحان النهائي من 70 بدلاً من 50، خلافاً لما هو محدد بوصف المادة. كما أوعز للعميد بأن يشكل لجنة لإقناعي بضرورة إلغاء الصفر واحتساب درجة الامتحان النهائي من 70، ولكنني رفضت؛ فما كان من رئيس الجامعة إلا أن ألغى الامتحان النهائي وأسقط المادة عن الطلاب، دون أن يرد لهم رسوم تسجيلها!؟
والمأساة أن الطلاب لم يُسْتَفَزّوا عندما طلب مدرِّس مادة تاريخ العمارة في الجامعة نفسها منهم عمل مجسم للهيكل المزعوم وعندما واجهت رئيس الجامعة بهذه الحقيقة، لم يُسَتَفزْ كما استفزَّته العمارة الإسلامية التي أنكر وجودها! ولم يُقلق وعيه الحضور اليهودي في المنهج الدراسي وتطبيقاته العملية! وكان رد فعله أن اكتفى بالقول بأنه غير مرتاح لعمل مجسم للهيكل المزعوم! فهل يستقيم بالعقل السليم أن يسمح رئيس الجامعة بالتمكين الثقافي لعمارة مزعومة، ولعدوِّنا الأول والتاريخي، وأن يمنع حدوث هذا التمكين لعمارة الثقافة الإسلامية التي ينتسب إليها وينكر وجودها!
إن سلوك رئيس الجامعة يثير تساؤلات عديدة وسأكتفي بالآتي: ألسنا بحاجة إلى إعادة النظر بالقيادات التربوية؟ أما آن لنا أن نتخلص من عقدة الإحساس بالدونية أمام الغرب؟ أما آن لنا أن نحترم ثقافتنا، ونستعيد وعينا المستلب، ونستحضر منجزاتنا العلمية والثقافية، ونوظفها في مناهجنا الدراسية وحياتنا اليومية؟ وأخيراً، ألسنا بحاجة إلى عملية ترميم شاملة للعقل العربي التربوي، والتعليمي، والثقافي، قبل أن نبدأ بترميم العقل المعماري العربي الإسلامي!؟
وأجيب إن إعادة التأهيل للقيادات التربوية والتعليمية، أصبح أكثر إلحاحاً من تأهيل أعضاء هيئة التدريس، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولعمل ذلك، هل نحتاج إلى قرار سياسي؟ أم نحتاج إلى وزير تعليم عالٍ فدائي، يمثل المبادئ والقيم التربوية والتعليمية وليس المصالح؟ أمْ نحتاج إلى رأي عام ضاغط ومُطالب بعملية ترميم شاملة للثقافة السائدة في مجتمعنا يقوده الإعلام؟ وإن كنا لا نعدم أصواتاً إعلامية تتلمس المشكلة، وتدعو إلى التمكين الثقافي العربي في الصحافة المحلية. وأجزم أنه لن تكون لنا شخصية وطنية وهوية ثقافية إذا لم نبادر إلى عملية ترميم شاملة لمكونات العقل العربي، بما فيها: دين الأمة، ولغتها، وآدابها، وتاريخها.
أما باقي التساؤلات فأترك الإجابة عنها للتربويين والمثقفين، الذين يمكن أن يُقلق وعيهم أوضاعنا التربوية والتعليمية والثقافية. وأما ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي فعليه انتظار المعجزة؛ وهي حدوث ثورة في العقل التربوي والتعليمي العربي، أو تعيين الوزير الفدائي، أو صدور القرار السياسي. ونحن بالانتظار نحمل معاول الهدم ونُعِدُ أدوات وَعُدَدَ البناء، مستذكرين قول الشاعر فخري البارودي:
لنا مدنية سلفت
سنحييها وإن دثرت
ولو في وجهنا وقفت
دهاة الإنس والجان
خاتمة
خصصت هذه الدراسة لموضوع ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي، لتخليصه من نفوذ الفكر المعماري الغربي، الذي ألغى حضور الأول شكلاً وموضوعاً، فعرضت الدراسة لتميز العمارة الإسلامية عن العمارة الغربية، وحددت هدفها وهو استبدال العقل المعماري الغربي السائد في جامعاتنا وممارساتنا بالعقل المعماري العربي الإسلامي المغيَّب والمحنَّط لاستعادة حضورنا المعماري بين الحضارات العالمية. ثم عرضت الدراسة لمفهوم العقل، وبينت موقع العقل العربي الإسلامي فيه كما جاء بالمفهوم القرآني للعقل كأداة إدراكية وكمتحصل معرفي ومنتج فكري وبينت أن العقل المعماري العربي الإسلامي هو عقل شمولي ومكتمل، وأنه الأرقى في العالم. ثم عرضت الدراسة للكيفية التي تسرَّب فيها العقل المعماري الغربي إلى العمارة العربية الإسلامية عملياً ونظرياً. ثم عرضت لكيفية ترميم العقل المعماري العربي عملياً ونظرياً وتربوياً وتعليمياً. فاقترحت تقانتَي ترميم هما: التجديد والإضافة للجانب العملي؛ وتقانة الهدم وإعادة البناء للجانب النظري التربوي والتعليمي. وبينت الدراسة آلية عمل كل منها. وركزت على هدم المنهج الدراسي الغربي وإعادة بناء منهج دراسي عربي. كما عرضت الدراسة لإعادة تأهيل أعضاء هيئة التدريس وتثقيفهم بمكونات العقل المعماري العربي الإسلامي واقترحت الدراسة عدة طرق لإعادة التأهيل.
ثم عرضت الدراسة للمواد التي تشكل مكوِّن العقل المعماري العربي الإسلامي، والعمود الفقري للمنهج الدراسي. وطالبت الدراسة بالتخلص من المفاهيم والمنهجيات الغربية التي تدرَّس بها هذه المواد. كما بينت ضرورة توظيف فلسفة التاريخ الإسلامي في التدريس، وعرضت لبعض محتوى هذه المواد من مفاهيم معمارية، فبينت أن أسبقيتها التاريخية وعمقها المعرفي العربي الإسلامي. ثم بينت سبب عزوف أعضاء هيئة التدريس عن توظيف هذه المواد في المنهج الدراسي، وهو تأهيلهم الأكاديمي الغربي الذي طوَّع وعيهم منذ تأسيس أول كلية عمارة سنة 1858م وحتى الآن، وجعله لا يقلق ولا يكترث للوجود اليهودي في المنهج الدراسي، ثم عرضت لتجربتي في التدريس وبينت حالة الاستغراب التي تعيشها إدارة الجامعة، ونوعية الطلاب، وطبيعة تأهيلهم الأكاديمي، وانعكاسه على سلوكهم. ثم طرحت مجموعة تساؤلات، وخلصت إلى أن ترميم العقل المعماري العربي الإسلامي مرتبط بترميم العقل العربي الإسلامي الشامل وأنه يحتاج إلى معجزة لحدوثه وهي لن تتم إلا بقرار سياسي، أو بتعيين وزير تعليم عالٍ فدائي، أو بجعل عملية الترميم الثقافي قضية رأي عام يقودها الإعلام.
قد يهمكم أيضاً العمارة العربية – الإسلامية: التفسير التاريخي
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العمارة_العربية #فن_العمارة #العمارة_الإسلامية #علم_العمارة #علم_الهندسة
#العقل_المعماري_العربي ##التاريخ_الإسلامي #المفاهيم_المعمارية #الثقافة_الإسلامية #دراسات
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 441 في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
(**) بديع العابد: معماري استشاري، ورئيس الجمعية الأردنية لتاريخ العلوم، عمّان – الأردن.
البريد الإلكتروني: badi@go.com.jo
[1] انظر: بديع العابد، «الفكر المعماري العربي الإسلامي: التفسير التاريخي،» كان التاريخية (عمّان)، العدد 16 (2012)، ص 22 – 39، <http://www.kanhistorique.org/authors/badi_alabed>.
[2] انظر: بديع العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية – التشكيل – التكوين،» كان التاريخية، العدد 14 (كانون الأول/ديسمبر 2011)، ص 61 – 86، <http://www.kanhistorique.org/Archive/2011/Issue14/Architectural>، و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية،» ورقة قدمت إلى: التأليف والترجمة في الحضارة العربية الإسلامية: بحوث وأوراق عمل ندوة التأليف والترجمة في الحضارة العربية الإسلامية، عمّان، 5 نوفمبر 2012، تحرير بديع العابد وأشرف صالح (الكويت: دار ناشري للنشر الإلكتروني، 2013)،
<http://www.nashiri.net/ebooks/doc_download/348-.html>.
[3] سمّيتها بلا عمارة لأنها نزعة تقويضية تدميرية هدمية، والتقويضية التدميرية الهدمية كآخر صرعة في العمارة. وتتعزّز هذه الطامة بتقليدها، وإنتاج أشكالها، في مادة التصميم المعماري لأنها تدعو إلى إنتاج عمارة أشكالها غير منتظمة التكوين، ومبعثرة العناصر، وفاقدة لوظيفتها ودلالتها الشكلية والجمالية، كما تدعو إلى تقويض البنى والتراكيب المعمارية المتواضعة والمتّفق عليها في كل الحضارات، وتعبّر عن عدمية مطلقة في التصميم المعماري. انظر: بديع العابد، «نزعة التفكيك في العمارة وجذورها التلمودية والقبالية اليهودية،» المنتدى (منتدى الفكر العربي – عمّان)، العدد 250 (2011)، ص 97 – 132.
[4] انظر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية – التشكيل – التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية».
[5] انظر: بديع العابد، الحفاظ المعماري في الحضارة العربية الإسلامية (الرباط: منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والتعليم والثقافة (الإيسيسكو)، 2010).
[6] انظر: المصدر نفسه، ص 73 – 94.
[7] انظر: أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، 15 ج (بيروت: دار صادر، 1374 – 1376هـ/1955 – 1956م)، ج 11، مدخل عقل، ص 458 – 466.
[8] القرآن الكريم، «سورة الملك،» الآية 10.
[9] المصدر نفسه، «سورة العنكبوت،» الآية 43.
[10] المصدر نفسه، «سورة النور،» الآية 24.
[11] انظر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية – التشكيل – التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية».
[12] انظر: المصدران نفسهما على التوالي، وبديع العابد، «ثقافة المعماري،» المنتدى (منتدى الفكر العربي – عمّان)، العدد 257 (2013)، ص 87 – 118.
[13] انظر: علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، 7 ج (القاهرة: الهيئ
[14] انظر: العابد، «ثقافة المعماري».
[15] انظر: العابد، «الفكر المعماري العربي الإسلامي: التفسير التاريخي».
[16] انظر: العابد: «الفكر المعماري العربي الإسلامي: البداية – التشكيل – التكوين،» و«التأليف وأصالة العمارة العربية الإسلامية».
[17] انظر: عرفان سامي، نظرية الوظيفة في العمارة (القاهرة: دار المعارف، 1966)، ص 42 – 46.
[18] انظر: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عيون الأخبار، 4 ج (بيروت: دار الكتاب العربي، [د. ت.])، ج 1، ص 311.
[19] انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج 1 – 5.
[20] انظر: العابد، «نزعة التفكيك في العمارة وجذورها التلمودية والقبالية اليهودية».
بديع العابد
معماري استشاري، ورئيس الجمعية الأردنية لتاريخ العلوم. وعميد سابق لكلية الهندسة، عمّان- الأردن.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.